الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النخلة كالمسلم:
أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي"؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال:"هي النخلة".
بلاغة التصوير الأدبي في ضرب المثل: جاء الحديث الشريف على سبيل ضرب المثل من الواقع الذي يعيش فيه الإنسان؛ فقد جمع في المثل بين النخلة وما يتعلق بها من الثمار والجريد والليف، والساق ودوامِ الخضرةِ طوال العام، والإيواء إلى ظلها وقاية من الحر وحلاوة الثمر، وتستريح الأذنُ إلى حفيف السعفِ والجريد وغيرها مما هو مألوفٌ، وبين المسلم وما يصدر عنه من الطاعات وعمل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلاهما يُشبِه الآخر في دوام الانتفاع وعمومه.
لكن الشأن في ضرب الأمثال أن يكون المشبهُ به هو المحس في الواقع كالشجرة هنا، ويكون المشبهُ هو المسلم، حتى تتجسم المعاني المجردةُ في صورة محسوسةٍ تدرك بجميع الحواس، وهي شجرةُ النخيل، فهي هنا تقديرًا في موقع المشبه هنا؛ لأنها أقربُ إلى الفهم من المعاني المجردة في المسلم وهو المشبه.
لكن روعة البلاغة في الحديث الشريف أنْ جاء التشبيهُ التمثيلي مقلوبًا، فكان المشبهُ هو النخلةُ المحسوسةُ، والمشبهُ به هو المسلمُ، للدلالة على أن المسلم أبلغُ في صفاته المعنوية والخلقية من النخلة المحسوسة للتصريح بأن المسلم أعزُّ عند الله وعند الناس، وأن النخلة مع أنها شبيهةٌ به في جميع منافعها إلا أن منافع المسلم أكثر منها؛ لاستكثاره من الخير والعمل الصالح والتمسك بالفضائل، والتحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن القبيح والصفات الذميمة، علاوة على تميزه عن الخلائق بالعقل والتكليف.
بلاغة التصوير الأدبي في العرض القصصي بأسلوب الحوار: حينما عرض النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة رضي الله عنهم سؤالًا عن شجرةٍ لا يسقط
ورقها، وذكر لهم بعض خصائصها التي تلتقي فيها صفات المسلم، لكي يحرك العقل والمشاعر، وينمي الذكاء في النفس، ويتنافس المتلقي مع غيره في المهارات العقلية، لتعميق التجارب الإنسانية في الحياة، والكشف عن أعماق الخبرة والحنكة في فهم أسرار الواقع، مما دعا كل المستمعين أن يتسابقوا في عرض خبراتهم في الحياة، وإظهار ذكائهم وقدراتهم العقلية والفكرية، فانطلق كل واحد يفسرها حسب خبرته وتجاربه الفكرية والعلمية والواقعية في الحياة، ويذكر نوعًا من الأشجار الكثيرة التي انتشرت في البوادي، وتنوعت أشكالها وأنواعها في الصحراء والوديان وعلى الجبال، لكن هذه الإجابات المتنوعة ابتعدت عن المطلوب، ولم تتفق مع صفات الشجرة المطلوبة، التي رمز إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض صفاتها، حتى يحرك الأذهان وينمي الذكاء ويعمق التفكير، وابتعدوا جميعًا عن النخلة ورسول الله يتلقى الإجابات بصدر واسع وقلب مفتوح، ما عدا الراوي عبد الله بن عمر الذي خطر في باله وهداه تفكيره وذكاؤه وعمقُ تجربته هنا إلى أنها النخلةُ، فكاد أن ينطق ويعلن عما دار في عقله وخلده، ليسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإجابة الصحيحة، لكن حياءه منعه من أن يعلن ذلك، وحوله كبار الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم شيخ الإسلام أبو بكر الصديق، وأعدل أهل الأرض بعد رسول الله الكريم والده عمر بن الخطاب وغيرهما رضي الله عنهم هيبة منهم وتوقيرًا لهم، وخاصة وفي كل مرة يطرح هذا السؤال بصفات أخرى، ويتلقى الإجابة غير الصحيحة، ثم يزيدهم بعض الصفات لها، حتى تكون أكثر وضوحًا كما ورد في رواية:"إنها لا ينقطع ثمرها ولا يُعدم نيله ولا يبطل قطعها"، وفي رواية ثانية:"لا يسقط لها أبلمة - أي: خوصة - كما لا يسقط لمسلم دعوة"، وفي رواية رابعة:
"إن من الشجر ما بركته كبركة المسلم" فعجزوا، حتى قالوا: حدثنا عنها يا رسول الله، فقال مجيبًا عن السؤال بعد هذا الحوار القصصيَّ الشيق، الذي اشتركت فيه الشخصيات القصصية المختلفة، قال صلى الله عليه وسلم:"إنها النخلة"، لأنها كالمسلم ينتفع بجميع أجزائها المتنوعة كالثمرة والجريدة والليف والخوص والعرجون حتى النوى في علف الدواب، والظلال، لأن المسلم كله خير، كما ورد في الحديث الشريف:"المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير".
القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف:
1-
الترغيب في اختبار الذكاء والتفكير، وتحريك العقل بالألغاز لظهور الشخصية وإبداء الرأي.
2-
تقريب المعاني إلى العقل بالتصوير وضرب الأمثال.
3-
الترغيب في الحياء، وتوقير الكبير، ومجالسة الكبار وأهل العلم والمنازل السامية.
4-
النخلة أفضل أنواع الشجر لقلة تكاليفها، وعموم منافعها، وطيب ثمرتها.
5-
المسلم متعدد المنافع كثير الفضائل، لا يقتصر خيره على نفسه، وإنما يتعداه إلى غيره من المسلمين، وإلى كل ما خلق الله عز وجل.
6-
بالإضافة إلى ما ذكرته في التصوير النبوي في الحديث الشريف.