الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التأمين. ي- المؤمن لا يقدم على عملية التأمين إقداما عشوائيا وإنما يعقد التأمين بعد إجرائه الدراسات الإحصائية التي تعطيه نتائج تقريبية في ربح الصفقة.
ك- لا يصح التأمين على خطر ليس للمؤمن له مصلحة في عدم وقوعه، ولا التأمين على خطر قد وقع أو مستحيل الوقوع، ولا التأمين على أخطار ما يكون احترافه مخلا بالنظام العام والآداب.
الخلاصة:
وجملة القول أن الكلام في التأمين ينحصر في مقامين، بيان حقيقة التأمين وما يتعلق بها، وبيان حكمه.
أما المقام الأول فيتضمن ما يأتي: -
أ- التأمين لغة: بعث الأمن والطمأنينة في النفس، والأمن ضد الخوف، واصطلاحا: يعرف على أنه تصرف بين المؤمن والمستأمن بأنه عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال، أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين في العقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن.
ويعرف باعتباره فكرة لها أثر اقتصادي واجتماعي بأنه نظام تقوم به هيئة منظمة على أساس المعاوضة أو التعاون، وتديره بصورة فنية قائمة على أسس ونظريات وقواعد إحصائية، فتوزع بمقتضاه الحوادث والأخطار، وترمم به الأضرار.
2 -
فكرة التأمين من حيث هو نشأت قبل الميلاد بزمن، وأخذت على مر الأيام أشكالا عدة وصورا متنوعة تختلف كثيرا عن التأمين في العصر الحاضر، فمثلا ظهر في إلقاء بعض حمولة سفينة ليخف
عبؤها وتسلم مع باقي حمولتها، ثم ظهر في إلزام الحكومة الرومانية تجار الأسلحة بإرسال ما لديهم من أسلحة إلى القوات بحرا على أن يضمنوا لهم ما تلف منها بحرا أو بيد العدو، وما زال التأمين يظهر في أشكال حتى انتهى إلى أنواعه وصوره الحاضرة، ويذكر أن أقدمها التأمين البحري، وقد وضعت النظم حسب مقتضيات البلاد التي انتشر فيها، ولم يدخل في البلاد الإسلامية إلا في وقت متأخر بدليل أنه لم يكتب في حكمه أحد من علماء المسلمين المتقدمين ويقال: إن أول من كتب فيه ابن عابدين من فقهاء الحنفية.
3 -
للتأمين عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة: -
أ- فينقسم من حيث شكله والغرض منه إلى: -
تأمين تعاوني - تبادلي- وهو أن يشترك جماعة بمبالغ تخصص لتعويض من يصيبه الضرر منهم، وإن عجزت الأقساط عن التعويض دفع الأعضاء أقساطا إضافية لتغطية العجز، وإن زادت فللأعضاء حق استرداد الزيادة، ويقوم على إدارتها جماعة من المشتركين والغرض من هذا النوع التعاون في تحمل الخسائر لا الربح. وإلى تأمين تجاري- تأمين بقسط ثابت- وقد سبق تعريفه في فقرة- 1 - والغرض منه أصالة الربح، وتختص به شركة التأمين التي تقوم بإدارته مستقلة عن الأعضاء المشتركين.
ب- وينقسم من حيث موضوعه إلى تأمين تجاري، ويشمل التأمين البحري والنهري والتأمين الجوي والتأمين البري، وإلى تأمين على الأشخاص، ويقوم المؤمن بتعويض المؤمن له أو وارثه عن الضرر الذي أصابه في جسمه سواء كان موتا أم عاهة أم مرضا أم شيخوخة. وإلى تأمين من الأضرار ويتناول التأمين من المسئولية
بضمان المؤمن كل ما يرجع فيه على المؤمن له من الأضرار التي أصاب بها غيره كحوادث السيارات والعمل. . كما يتناول التأمين على الأموال بتعويض المؤمن له عن الخسارة التي تصيبه في ماله. من سرقة أو حريق أو موت حيوان أو تلف زرع أو سيارة ونحو ذلك.
4 -
للتأمين وظائف: -
منها أنه من عوامل إنماء الصناعة والتجارة بضمانه لرءوس أموالهما وتعويض التجار والصناع عما يصيبهم فيما يصدرون ويستوردون. . الخ، ومنها أنه أحد العوامل في إقامة البنوك والمصارف التي لها خدماتها في المرافق الكثيرة للحكومات والأمم. . ومنها أنه يساعد على تكوين رءوس الأموال للشركة والمستأمنين ولتكوين رءوس الأموال أثر بالغ في نماء الاقتصاد وسد الحاجات، وقد أجمل بعض من كتب في التأمين وظائفه في الأمان والائتمان وتكوين رءوس الأموال. .
5 -
أسس التأمين الفني:
يقوم التأمين الفني على ثلاثة أمور: -
أ- التعاون بين المستأمنين تحت إشراف المؤمن وتنظيمه، وهذا يحقق أمرين: -
أولا- تجزئة المخاطر بتوزيع نتائجها على عدد كثير من المستأمنين حيث تدفع مما تحصل من الأقساط التي دفعوها دون شعور منهم بعبء ثقيل.
ثانيا- كفالة الأمان للمؤمن بتوفر عدد كثير من المشتركين، وللمستأمن لثقته بقدرة الشركة على الوفاء بعد تكوين الرصيد.
ب- المقاصة بين المخاطر بتنظيم توزيعها بين المستأمنين توزيعا عادلا، ويتوقف ذلك على المتشابه بين المخاطر وأن تكون عددا كثيرا لا نادرا، وأن لا تقع في زمن واحد، وأن تتحد في موضوعها وقيمتها.
ب- جدول الإحصاء:
تعتبر قواعد الإحصاء أساسا لقبول التأمين وتقدير قسطه وتقدير مبلغ التأمين وغير هذا مما يتوقف على الإحصاء.
6 -
أركان التأمين وعناصره: -
يرى جماعة ممن كتب في التأمين الفرق بين عناصر التأمين وأركانه، فجعلوا أركانه ثلاثة: التراضي بين المتعاقدين، ومحل التأمين، والسبب الباعث للمتعاقدين على إبرام عقد التأمين، وعند الشرح يفسرون محل التأمين بالخطر أو بثلاثة أمور: الخطر، والقسط، ومبلغ التأمين، ويفسرون السبب بالمصلحة التأمينية، وهؤلاء يرون أن عناصر التأمين هي: الخطر، والقسط، ومبلغ التأمين، والمصلحة التأمينية. ويرى جماعة آخرون منهم أن أركان التأمين وعناصره شيء واحد وهي: الخطر المؤمن منه، والأقساط التي يدفعهما المستأمن ومبلغ التأمين، والمصلحة التأمينية. . وبالمقارنة يتبين ما بين الرأيين من تداخل، والثاني منهما هو الظاهر.
7 -
خصائص عقد التأمين: -
لعقد التأمين خصائص هي: -
أولا: أنه من عقود التراضي فيعتبر فيه الإيجاب والقبول، ويخضع للقواعد العامة التي تحكم سائر العقود الرضائية.
ثانيا: أنه عقد احتمالي، لأن كلا من المتعاقدين لا يعرف وقت العقد مدى كسبه أو خسارته حيث إنه تابع لأمر غير محقق الحصول أو غير معروف وقت حصوله ولذا قيل إنه من عقود الغرر، وإن نظم المؤمن عملياته وبناها على الإحصاء.
ثالثا: أنه عقد مستمر لاستمرار المستأمن في سداد الأقساط واستمرار عهدة المؤمن إلى السداد.
رابعا: أنه عقد إذعان، لإذعان المستأمن إلى قبول الشروط التي وضعها المؤمن دون مناقشة أو تعديل، ولذا حمى المسئولون المستأمن في تنظيم عقد التأمين فأبطلوا الشروط التعسفية، وفسروا ما كان غامضا في العقد لمصلحة المستأمن.
خامسا: أنه عقد معاوضة، لالتزام المؤمن بمبلغ التأمين مقابل الأقساط التي يدفعها المستأمن.
سادسا: أنه عقد ملزم للمتعاقدين، حيث ينشأ عنه التزامات متقابلة لكل منهما.
سابعا: أنه من العقود المسماة التي تخضع للأحكام والقواعد المقررة في قانون المحاكم بخلاف العقود غير المسماة في القانون المحلي، فإنها تخضع للنظرية العامة للالتزام وللشروط التي اتفق عليها الطرفان.
ثامنا: أنه من عقود حسن النية، لإذعان المستأمن للشروط دون مناقشة ولعدم معرفة المؤمن بحال المستأمن تفصيلا، ولذا يجب ألا يخفي كل من الطرفين عن الآخر شيئا من الأمور الجوهرية.
تاسعا: أنه عقد تجاري يقصد المؤمن به الربح، وأما بالنسبة للمستأمن فهو تجاري إن تعلق بشئون تجارته.
عاشرا: أنه عقد يؤخذ فيه بالسبب القريب في التسبب كتلف أمتعة من إلقائها حين الحريق أو تهدم بنيان من إطفاء الحريق بالماء، ولا يؤخذ فيه بالسبب البعيد كالزلازل والبراكين. . .
8 -
حلول المؤمن لحل المستأمن: -
يحل المؤمن محل المستأمن بما دفع من تعويض عن الحريق ونحوه في الدعاوى التي للمستأمن قبل من تسبب في ضرره، ويكون ذلك في حدود المبلغ الذي دفعه المؤمن للمستأمن ما لم يكن من أحدث الضرر قريبا للمستأمن أو صهرا له يعيش معه أو يكون تابعا للمستأمن مسئولا عنه، وإذا تعذر الحلول بتنازل المستأمن عن مطالبة المتسبب برئت ذمة المؤمن من مسئولية التأمين براءة تامة أو جزئية حسب الأحوال.
9 -
وثيقة التأمين- أو بوليصة التأمين: -
هي عقد بين المؤمن والمستأمن يبرم بعد اتخاذ إجراءات بينهما من المؤمن لمصلحته لإثبات حق كل منهما، وتشتمل على ما يلي: -
أ- أسماء المتعاقدين ومحل إقامتها واسم المستفيد إن كان معينا.
ب- وصف محل التأمين وصفا كاملا يتضمن بيان نوعه وجنسه ومحل خزنه إن كان مالا ومحل ونوع عمله إن كان شخصا.
ج- وصف الخطر المؤمن منه وصفا دقيقا تنتفي معه الجهالة.
د- مقدار سعر التأمين الذي يمكن أن يحتسب قسط التأمين على ضوئه.
هـ- مقدار القسط الدوري وتعيين وقته، وطريق سداده.
وبيان مدة العقد وتحديد نفاذه بذكر تأريخ ابتدائه وتاريخ انتهائه.
ز- المبلغ المؤمن به، ويسمى رأسمال بوليصة التأمين.
ح- الشروط الخاصة بالعقد المتعلقة بمصالح طرفيه.
ط- توقيع طرفي العقد- المؤمن والمؤمن له وتأريخ التوقيع.
ولوثائق التأمين تقسيمات عدة باعتبارات مختلفة: -
أ- فتنقسم باعتبار مدة سريان العقد إلى وثيقة سنوية، وإلى وثيقة لفترة قصيرة- أي دون السنة- وإلى وثيقة لفترة طويلة- أيما أطول من سنة- وإلى وثيقة سفرية، وهي التي يتوقف أمد نفاذها على المدة التي يكمل فيها النقل، ولقصر المدة وطولها تأثير في إضافة زيادة إلى القسط وعدم الإضافة، وفي تعجيل دفع كامل القسط وعدم تعجيله.
ب- وتنقسم من حيث نطاق ضمان العقد إلى وثيقة اعتيادية، وهي التي تضمن شيئا معينا من خطر معين، وهي أكثر الوثائق شيوعا، وإلى وثيقة عائمة، وهي التي تضمن شروطا عامة لتغطية شحنات متعددة لمدة غير محدودة بمبلغ تأمين إجمالي وبموجبها يلتزم المستأمن بدفع قسط التأمين بنسبة المبلغ الإجمالي مقدما ويكون قابلا للتسوية عند انتهاء عمليات الشحن، وإلى وثيقة عامة، وهي التي تصدر بالتأمين من أخطار متعددة يخشى حدوثها على أموال مختلفة، ولذا يستوفى بموجبها قسط تأمين إجمالي يشمل كافة الأخطار المؤمن منها.
ج- وتنقسم من حيث قيمة التأمين إلى وثيقة محدودة، وهي التي حددت فيها قيمة التأمين بالنسبة لقيمة محل التأمين وقت العقد،
وإلى وثيقة غير محدودة، وهي التي لم يجر فيها تحديد قيمة التأمين بالنسبة لقيمة المحل، فإن زادت قيمة محل التأمين على مبلغ التأمين فليس للمستأمن حق المطالبة بمقابل هذه الزيادة عند تحقق الخطر، وإن نقصت قيمة المحل عن مبلغ التأمين كان للمستأمن المطالبة برد نسبة معينة من قسط التأمين تحسب على أساس الفرق بين مبلغ التأمين وقيمة محل التأمين.
10 -
المشاركة في التأمين: -
قد يؤمن شخص على شيء معين ضد خطر معين عند عدد من شركات التأمين، وتتجاوز جملة مبالغ التأمين القيمة الحقيقية لمحل التأمين، فيكون لمجموع شركات التأمين حق توزيع الخسارة بينهم حال الخطر على محل التأمين، كل منهم بنسبة مبلغ التأمين الذي التزم به، منعا للمؤمن له من أن يتخذ التأمين طريقا تجاريا للربح، كما أن للمؤمن له الحق في مطالبتهم بإعادة نسبة من قسط التأمين حسب نظام معروف يحكم بينهم في ذلك.
ويشترط لتطبيق مبدأ المشاركة في التأمين ما يأتي: -
أ- أن يقوم نفس الشخص بالتأمين على محل معين لدى مؤمنين عدة.
ب- أن تشترك وثائق التأمين في تغطية نفس الأخطار.
ج- أن تحمي هذه الوثائق مصلحة تأمينية معينة.
د- أن تكون مبالغ التأمين في هذه الوثائق زائدة عن قيمة المحل.
هـ- أن تكون هذه الوثائق سارية المفعول وقت تحقق الخطر.
11 -
التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:
قد تختلف الأخطار التي جمعها المؤمن في طبيعتها وقيمتها فتعرضه لشدة الخطر، ولذا يحتاج إلى تنسيقها ليخفف عن نفسه، فيلجأ إلى التأمين الاقتراني أو إعادة التأمين، ويتبين الفرق بينهما مما يأتي: -
أ- التأمين الاقتراني أن يحتفظ المؤمن لنفسه بجملة من التأمينات المتناسقة في حدود قدرته ويعرض ما بقي على مؤمنين آخرين، وعند تحقق الخطر يقوم كل من المؤمنين بما التزم به في حدود حصته مرتبطا بالمؤمن له مستقلا عن غيره من المؤمنين.
ب- إعادة التأمين هي عقد يبرم بين هيئتين من هيئات التأمين تسمى الأولى معطية، والثانية معيدة، فتحيل الأولى بمقتضى العقد حصصا من الأخطار التي لديها إلى الثانية التي تتعهد بقبولها حسب شروط العقد، وتعتبر إعادة التأمين توثيقا للتأمين الأول، وكفالة له فقط.
ونظرا لعدم التضامن بين المؤمنين في التأمين الاقتراني واختلاف إدارات شركات التأمين في نشاطها ووفائها، وتأخر دفع التعويض للمؤمن له نتيجة لذلك، ونظرا إلى زيادة الثقة في إعادة التأمين وتعجيل دفع التعويض لوحدة المسئول أمام المؤمن له وهو المؤمن الأول رغب المستأمنون في الشركات التي تلجأ في التنسيق إلى إعادة التأمين دون التي تلجأ إلى التأمين الاقتراني.
12 -
نظريات التأمين:
تتنوع نظريات التأمين تبعا للأسس التي بنيت عليها: اقتصادية، أو فقهية، أو فنية.
أ- فللتأمين نظريتان من الناحية الاقتصادية، إحداهما التأمين للحاجة، والباعث على ذلك حاجة الإنسان إلى إشباع رغبته من متطلبات الحياة أو إزالة ضرورته الواقعة أو المتوقعة. والثانية التأمين للأمن، والباعث عليه خوف وقوع خطر على نفسه أو أملاكه فيؤمن ليطمئن قلبه.
ب- وللتأمين من الناحية المدنية وقد تسمى الفقهية نظريتان: الأولى: التأمين عن الضرر والباعث عليه الرغبة في الحصول على التعويض عن الضرر الذي يصيبه عند وقوعه، والثانية التأمين في مقابل، بناء على أن التأمين عقد مبادلة بين الأقساط الدورية ومبلغ التأمين. ب- وللتأمين من الناحية الفنية نظريتان: الأولى: المقاصة المنظمة لتوزيع الأخطار على المستأمنين على ضوء أسس فنية، والثانية: نظرية المقاولة فنيا، بناء على أن كلا من مؤسسي شركات التأمين محترف، فكل مؤسسي شركة يديرون مقاولة على نظم معروفة، ويقومون بمقاصة على قواعد معلومة لديهم. .
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
الثاني: ذكر اختلاف الباحثين في حكمه وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة: -
اختلف الباحثون من الفقهاء في حكم عقد التأمين التجاري فمنهم من منعه مطلقا ومنهم من أجازه مطلقا، ومنهم من فصل في ذلك، وفيما يلي ذكر ما قيل في ذلك من الأدلة والمناقشة:
ذكر كلام المانعين:
أ- قال الباجي: ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته. روى ابن المواز عن أشهب: لا أحب ذلك، ولا أفسخه إن وقع، وقال أصبغ: هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ، وقال ابن القاسم عن مالك: لا يجوز إذا قال: لا ينفق عليه حياته (1).
2 -
قال ابن عابدين: وسئلت، في رمضان سنة أربعين ومائتين وألف عما إذا جرت العادة بين التجار أنهم يستأجرون مركبا من مراكب أهل الحرب لحمل بضائعهم وتجاراتهم، ويدفعون للمراكبي الحربي الأجرة المشروطة، وتارة يدفعون له مبلغا زائدا على الأجرة لحفظ البضائع بشرط ضمان ما يأخذه أهل الحرب منها، وأنه إن أخذوا منه شيئا فهو ضامن لصاحبها جميع قيمة ذلك، فاستأجر رجل من التجار رجلا حربيا، كذلك ودفع له مبلغا تراضيا عليه على أنه إن أخذ أهل الحرب منه شيئا من تلك البضاعة يكون ضامنا لجميع ما يأخذونه، فسافر بمركبه فأخذه منه بعض القطاع في البحر من أهل الحرب، فهل يلزمه ضمان ما التزم حفظه وضمانه بالعوض أم لا. فأجبت: الذي يظهر من كلامهم عدم لزوم الضمان لأن ذلك المراكبي أجير مشترك والخلاف في ضمان الأجير المشترك بينهم، والمذهب أنه لا يضمن ما هلك في يده وإن شرط عليه الضمان فيما في يده كما في التنوير، ثم إذا هلك ما بيده بلا صنع منه ولا يمكنه دفعه والاحتراز عنه كالحرق والغرق وخروج قطاع الطريق والمكابرين لا يضمن بالاتفاق، لكنه في مسألتنا لما أخذ أجرة
(1) المنتقي ج 5 ص 41.
على الحفظ بشرط الضمان صار بمنزلة المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة، فإنها إذا هلكت يضمن والفرق بينه وبين الأجير المشترك أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل، والحفظ واجب عليه تبعا، أما المودع بأجرة فإن الحفظ واجب عليه مقصودا ببدل، فلذا ضمن كما صرح بذلك الإمام فخر الدين الزيلعي في باب ضمان الأجير، وهنا لما أخذ البدل بمقابلة الحفظ الذي كان واجبا عليه تبعا صار الحفظ واجبا عليه قصدا بالبدل فيضمن، لكن يبقى النظر في أنه هل يضمن مطلقا أو فيما يمكن الاحتراز عنه والذي يظهر الثاني؛ لاتفاقهم في الأجير المشترك على عدم ضمانه فيما لا يمكن الاحتراز عنه، فالظاهر أن المودع بأجر كذلك؛ لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه، وقد صرحوا بأن إغارة القطاع المكابرين مما لا يمكن الاحتراز عنه، فلا يضمن في صورتها حيث كان أخذ البضاعة من القطاع المكابرين الذي لا يمكن مدافعتهم، لكن ذكر في التنوير قبيل باب كفالة الرجلين- قال لآخر: اسلك هذا الطريق؛ فإنه آمن، فسلك وأخذ ماله، لم يضمن، ولو قال إن كان مخوفا وأخذ فأنا ضامن، ضمن، وعلله في الدر المختار عن الدرر بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا- انتهى. أي بخلاف المسألة الأولى فإنه لا يضمن لأنه لم يصرح بقوله: فأنا ضامن، وهذا إذا كان المال مع صاحبه، وفي صورتنا المال مع الأجير، وقد ضمن للمستأجر صفة السلامة نصا فيقتضي ضمانه بالأولى، وإن لم يمكن الاحتراز لكن الظاهر أن مسألة التغرير المذكورة مشروطة بما إذا كان الضامن عالما بخطر الطريق ليتحقق كونه غارا وإلا فلا تغرير، وسياق المسألة في (جامع الفصولين) في فصل الضمانات يدل على ما قلنا، فإنه نقل عن فتاوي ظهير الدين. قال له اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلك فأخذه اللصوص -
لا يضمن، ولو قال لو مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن والمسألة بحالها ضمن، فصار الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعارضة أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور، فصار كقول الطحان لرب البر اجعله في الدلو فجعله فيه فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالما به يضمن إذ غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة انتهى. وحاصله أن الغار يضمن إذا صرح بالضمان أو كان التغرير في ضمن عقد المعاوضة وإن لم يصرح بالضمان كما في مسألة الطحان، وقد صرح فيها بكون الطحان عالما بالنقب، وما ذاك إلا ليتحقق كونه غارا كما يشير إليه تسميته بذلك لأن من لا علم له بذلك لا يسمى غارا، فلو لم يكن العلم شرطا في الضمان لكان حقه أن يعبر عنه بالآمر لا بالغار، ويؤيد ذلك أيضا أنه في (جامع الفصولين) نقل بعد ذلك عن المحيط أن ما ذكره من الجواب في قوله: فإن أخذ مالك فأنا ضامن، مخالف لما ذكره القدوري: إن ما قال لغيره من غصبك من الناس أو من بايعت من الناس فأنا ضامن لذلك فهو باطل. انتهى. فأجاب عنه في (نور العين) بقوله: يقول الحقير لا مخالفة أصلا، والقياس مع الفارق؛ لأن عدم الضمان في مسألة القدوري من جهة عدم التغرير فيها بخلاف ما نحن فيه فافترقا، والعجب من غفلة مثل صاحب المحيط مع ما له من فضل وذكاء، البحر المحيط انتهى. فقد أفاد أنه لا بد من التغرير، وذلك بكونه عالما بخطر الطريق كما قلناه، ففي مسألتنا إن كان صاحب المركب غر المستأجر بأن كان عالما بالخطر يكون ضامنا وإلا فلا، هذا ما ظهر لي والله تعالى أعلم. لكن ينبغي تقييد المسألة بما إذا كان صاحب المال غير عالم بخطر الطريق؛ لأنه إذا كان عالما لا يكون مغرورا، لما في القاموس غره غرا وغرورا وغرة بالكسر فهو مغرور
وغرير خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر، هو وفي المغرب الغرة بالكسر الغفلة ومنه أتاهم الجيش وهم غارون أي غافلون، وفي الحديث نهى عن بيع الغرور والخطر الذي لا يدرى أيكون أم لا، كبيع السمك في الماء والطير في الهواء، فقد ظهر أن العالم بما قصد غيره أن يغره به لا يكون مغرورا، أرأيت صاحب البر لو كان عالما بنقب الدلو وأمره الطحان بوضعه فيه هل يكون مغرورا بل هو مفرط مضيع لماله لا أثر لقول الطحان معه، ففي مسألتنا لا بد أن يكون الأجير عالما بخطر الطريق والمستأجر غير عالم به فيضمن، وإن كان الأجير غير عالم أو المستأجر عالما فلا ضمان على الأجير لعدم تحقق التغرير، والله تعالى أعلم (1).
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين- رسالة الأجوبة المحققة في أسئلة متفرقة 2 - 176، 179.
3 -
وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي: ورد علينا خطاب من بعض العلماء المقيمين بالأناضول بالروملي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية، إلى أن قال: " ورد خطابكم تذكرون به أن المسلم يضع ماله تحت ضمانة أهل قومبائية السوكرتاه أصحابها مسلمون وذميون أو مستأمنون، ويدفع لهم نظير ذلك مبلغا من الدراهم حتى إذا هلك ماله الذي وضعه تحت ضمانهم يضمنونه له بمبلغ مقرر بينهم من الدراهم، وتستفهمون عما إذا كان له شرعا أن يضمنهم ماله المذكور إذا هلك بحرق ونحوه أم لا يكون له ذلك، وعما إذا كان يحل له ما أخذه من الدراهم إذا ضمنوا له ما هلك من ماله أم لا يحل له ذلك، وعما إذا كان يشترط في حل ما يأخذه من الدراهم بدلا من ماله الهالك أن يكون كل من العقد وأخذ الدراهم المذكورة في غير دار الإسلام، فإذا هلك الموضوع تحت الضمان
كان لصاحبه أن يأخذ الدراهم المقررة بدلا من ماله الهالك، ويتسلمها في دار الإسلام من وكيلهم الذمي أو المستأمن فيها، وعما إذا كان يحل لأحد الشركاء أن يعقد ذلك بغير دار الإسلام، وأن يأخذ بدل ماله الهالك أيضا في غير دار الإسلام، ثم يعود بما أخذه إلى دار الإسلام أو يبعث به إلى شريكه أو وكيله بها أم لا يحل له ذلك أيضا. وقلتم إن ذلك مما عمت به البلوى في الديار التي أنتم بها الآن، وأنكم راجعتم ما لديكم من كتب المذهب، فلم تقفوا على شيء تطمئنون به في حكم ذلك.
وأجاب: أن المقرر شرعا أن ضمان الأموال إما أن يكون بطريق الكفالة أو بطريق التعدي والإتلاف.
أما الضمان بطريق عقد الكفالة فليس متحققا هنا قطعا لأن شرطه أن يكون المكفول به دينا صحيحا لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء أو عينا مضمونة بنفسها بأن يجب على المكفول عنه تسمليمها بعينها للمكفول له، فإن هلكت ضمن له مثلها في المثليات وقيمتها في القيميات، وذلك كالمغصوب والمبيع بيعا فاسدا. ثم أورد أمثلة أخرى ثم قال: وعلى ذلك لا بد من كفيل يجب عليه الضمان، ومن مكفول له يجب تسليمه للمكفول له، وبدون ذلك لا يتحقق عقد الكفالة، ولا شبهة أنها لا تنطبق على العقد المذكور، فإن المال الذي جعله صاحبه تحت ضمان أهل القومبانية لم يخرج عن يده ولا يجب عليه تسليمه لأحد غيره، فلم يكن دينا عليه أداؤه ولا عينا مضمونة عليه بنفسها يجب عليه تسليم عينها قائمة أو مثلها أو قيمتها هالكة، فأهل القومبانية لو ضمنوا يضمنون مالا للمالك وهو لم يزل تحت يده يتصرف فيه كيف يشاء، فلا يكون شرعا من ضمان الكفالة.
وقال: في الضمان بالتعدي أو الإتلاف (فهذا الضمان إنما يكون على المتعدي كالغاصب إذا هلك مغصوبه أو على المتلف كالشريك الموسر إذا أعتق نصيبه في عبد مشترك وأتلف بالعتق نصيب الشريك الآخر، وأهل القومبانية لم يتعد واحد منهم على ذلك المال ولم يتلفه ولم يتعرض له بأدنى ضرر بل إن المال هلك بالقضاء والقدر، ولو فرض وجود متعد أو متلف فالضمان عليه دون غيره، فلا وجه حينئذ لضمان أهل القومبانية من هذا الطريق أيضا).
إذا علم ما تقدم كان هذا العقد هو عبارة عن أن الإنسان يلتزم بدفع مقدار معين من الدراهم لأهل تلك القومبانية في نظير التزامهم أن يدفعوا له في حياته أو لورثته بعد موته مقدارا معينا من الدراهم إذا هلك ذلك الإنسان نفسه، وهو ما يسمونه سوكرتاه الحياة والنفس، أو إذا أهلك المال الذي وضعه تحت ضمانهم وهو ما يسمونه سكرتاه الأموال، مع كون المال المذكور باقيا تحت يد مالكه وفي تصرفه ولم يدخل تحت يد أحد من أهل القومبانية بوجه من الوجوه، فيكون هذا العقد عقد التزام لما لا يلزم شرعا - إلى أن قال- " والعقد المذكور لا يصح أن يكون سببا شرعيا لوجوب الضمان، ولا يجوز أن يكون عقد المضاربة كما فهمه بعض العصريين؛ لأن عقد المضاربة يلزم فيه أن يكون المال من جانب المضارب والربح على ما شرطا والعقد المذكور ليس كذلك؛ لأن أهل القومبانية يأخذون المال على أن يكون لهم يعملون فيه لأنفسهم فيكون عقدا فاسدا شرعا، وذلك لأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع، فهو قمار معنى ".
وقد صرح في شرح السير الكبير (بأن حكم الحربي المستأمن في دار الإسلام حكم أهل الذمة، قال: " وعلى هذا
لا يحل أخذ ماله بعقد فاسد، كما لا يحل أخذ مال الذمي به، وقد صرحوا في معتبرات المذهب بأن المسلم المستأمن في غير دار الإسلام يحل له أن يأخذ مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار؛ لأن المحرم هو الغدر والخيانة، فما أخذه برضاهم وليس فيه غدر ولا خيانة يكون حلالا على أي وجه أخذه، وقد صرحوا أيضا بأن دار الإسلام محل إجراء الأحكام الشرعية دون غير دار الإسلام، وأنه لا يحل لمسلم في دار الإسلام أن يعقد مع المستأمن الذي فيها وليس منها إلا ما يحل من القعود مع المسلمين.
ثم قال: وعلى ذلك إما أن تكون مباشرة العقد في دار الإسلام وأخذ بدل الهالك فيها أيضا، ففي هذه الصورة لا يحل لمسلم أخذ ذلك البدل ولا يطيب له، بل إن قبضه ملكه ملكا خبيثا، وأما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام وأخذ بدل الهالك في غيرها أيضا، ففي هذه الصورة يحل له ما أخذه من البدل ويطيب له؛ لأنه إنما أخذه برضاهم في دارهم بدون غدر ولا خيانة، وإما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام، ولكن أخذ بدل المال الهالك في دار الإسلام ففي هذه الصورة لا يحل أخذ ذلك البدل لما علمت أنه لا يحل لمسلم أن يأخذ في دار المسلم من مال المستأمن فيها وليس منها إلا ما يلزم ذلك المستأمن شرعا وهذا المال لم يلزمه شرعا، وإما أن تكون مباشرة العقد بدار الإسلام ولكن أخذ بدل المال الهالك كان بغيرها، وفي هذه الصورة يحرم مباشرة العقد والإقدام عليه في دار الإسلام؛ لأن العقود الفاسدة منهي عن مباشرتها شرعا، ولكن مع ذلك يحل أخذ بدل المال الهالك متى كان الأخذ بغير دار الإسلام وبرضاهم.
فالحاصل أن المدار في حل أخذ بدل المال الهالك منهم على أن يكون ما أخذ من مالهم
وفي بلادهم وبرضاهم لا يضر في ذلك كون الأخذ مبنيا على سبب فاسد شرعا.
4 -
لقد ورد سؤال إلى الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله عن التأمين، هذا نصه: رجل يضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان "السيكورتاه " على مبلغ معين من المال، وقدر الله واحترق ذلك المحل، فهل يجوز له شرعا مطالبة شركات الضمان بهذا المبلغ ويكون حلالا أم لا؟ وهل كل أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا؟.
فأجاب بقوله: كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة في الإسلام؛ فلم يرد بها نص من الشارع، ولم يقرها بالاجتهاد إمام عادل، وإنما هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر ومن التزمها في غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون ما ثبت عليه، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي يلتزمونها، ولكن عليه أن يحاسب نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه (1).
5 -
وأجاب أيضا عن التأمين على الحياة فقال: لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده والمشهور أن هذه العقود التي تشبه الميسر "القمار" في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان لا يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه، وإنما يرجو بذلك
(1). فتاوى المنار 4 - 1640، 1641.
أن تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة، وجمهور الفقهاء يصرحون بأن مثل هذا العقد باطل ومحرم لما فيه من إضاعة المال الواجب حفظه وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة، وليس كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينا، فإنهم قد يشترطون شروطا اجتهادية لا يحكم قاضيهم ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد، وإن لم يكن في ترك الشروط منها مخالفة لأمر الله ورسوله، وقد صرح بعض الفقهاء بحل جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة للكتاب والسنة الصحيحة وهذا هو الصواب (1).
(1) فتاوى المنار 3 - 964
6 -
وقال إبراهيم الجبالي: وأما شركات التأمين على الأموال والأرواح فقد تغلغل الميل إليها في نفوس الكثير من الناس خصوصا من المستنيرين إلى حد يصعب معه اقتلاعه من عقولهم، وأقوى حجة لهم في تبريرها أن يقول لك أحدهم: إني أدفع القليل ليطمئن قلبي على الكثير، فأنا رابح الطمأنينة حال السلامة والعوض إذا ما طرأ ما أخشاه، والشركة رابحة المال الذي تأخذه مني ومن سواي؛ فكلا الطرفين مستفيد.
ونقول له: أليس أمرك دائرا بين أن تدفع بلا مقابل وذاك إذا قدرت لك بسلامة المال أو تأخذ ما لا حق لك فيه وترزأ غيرك ممن دفع وهو لم يجن عليك فيما إذا عطب مالك؟ أو ليس الأمر على كلا التقديرين أن هناك دفعا وغرما من أحد الجانبين بدون مقابل من الجانب الآخر؟ فإنه لا قيمة لما دفعه المؤمن بالنسبة لما يأخذه على فرض عطبه، كما أن طمأنينته عليه التي زعم أنه استفادها في حالة سلامة ماله لا دخل لشركة التأمين فيما إذا
لم تكن حارسة عليه، ولا تستطيع أن تقف في وجه المقادير وتصاريف الزمان.
وأما التأمين على الحياة فهو أبعد عن العقل السليم وأوجب للدهشة والاستغراب، فما كانت الشركة لتطيل له عمرا، وما كانت لتبعد عنه قدرا، ولكنها التعللات بالأماني، وما أشبهها بشئون الدجالين والمشعوذين، سيقول لك قائلهم نفس المقالة الأولى أو قريبا منها، سيقول: إني متى دفعت ولو قسطا واحدا فإذا فاجأتني المنية استحق ورثتي ما أمنت به على حياتي فكان لهم بذلك عزاء وسلوة عن فقدي، وإذا بقيت المدة المضروبة لي استرجعت كل ما دفعت بأرباحه، فأنا مستفيد على كلتا الحالتين، وللشركة فائدتها أيضا، وهي التصرف في تلك الأموال مما يجتمع لها مني ومن غيري، فيتكون لها رأس مال عظيم تستغله فيما ترى من المشروعات التجارية، ومفاجآت العطب قليلة، فغرمها نادر لا يؤثر فيها؛ لأن كل امرئ حريص على حياته وماله محافظ عليهما جهد استطاعته، فكل واحد يعمل لمصلحتها من حيث يعمل لمصلحة نفسه، فكلا الطرفين مستفيد.
ونقول له: ليكن كل ما تقول، فما خرجت عن أنها معاملة فيها غرم أحد الطرفين حتما بلا مقابل، وما كانت العدالة إلا في المعاوضة، وأن يكون من كل طرف عوض يعادل ما استفاده، وأن يكون بين العوضين مناسبة تحقق المعادلة ولو التقريبية حتى تستقيم روح العدالة، فأما وأحد الطرفين غارم حتما بلا غنم، أو غانم حتما بلا غرم فلا عدالة، بل هي المقامرة والميسر، غير أنه لبس ثوبا لماعا وجاء من قوم أوليناهم ثقتنا العمياء، وأخذنا منهم كل ما قالوه بالتقليد الأعمى، وما منشأ ذلك إلا أن جماعة منهم بهروا الناس بقوة استخدامهم للمادة واستنباطهم لقوى
الطبيعة مما لا نغمطهم حقهم فيه، فكان لمجموعهم في النفوس عزة الغلبة، فأسلم الناس القياد لهم شأن كل غالب مع كل مغلوب، وإلا فمتى وزنت تلك التصرفات بميزان العقل السليم والنقد النزيه وجدت ضررها أكبر من نفعها، وهكذا شأن أغلب المضار المنهي عنها لمصلحة المجتمع تجد ضررها أكبر من نفعها، فلا تكاد ترى شيئا تمخض للضرر بدون وجه نفع، وتمخض للنفع بدون وجه ضرر، حتى إن الخمر والميسر وهما ما هما في الضرر لم يخلوا عن نفع ما، ولكنه ضئيل إذا قيس بكبير ضررهما كما قال جل شأنه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) وشأن التشريع الصحيح أن يعتمد على الموازنة بين النفع والضرر فما غلب نفعه أحله وما غلب ضرره حرمه، والله عليم حكيم (2).
7 -
وقال الشيخ عبد الرحمن تاج بعد عرضه لصورة التأمين: إن عقود التأمين على الصورة التي قدمناها ليس لها مسوغ من الوجهة الشرعية الإسلامية حتى في الحالة التي لا يشترط فيها على الشركة - أي عقد التأمين على الحياة - دفع فوائد ربوية مع أصل مبلغ التأمين المتفق عليه لصاحب العقد على فرض بقائه حيا إلى نهاية المدة المعينة، فإن العقد ذاته فاسد مشتمل على شروط فاسدة وعلى طريقة يستباح بها أكل أموال الناس بالباطل، ومثل ذلك يقال في حكم التأمين على الأموال (3).
(1) سورة البقرة الآية 219
(2)
مجلة الأزهر 1/ 367 وما بعدها.
(3)
من بحث له طبع بمجمع البحوث الإسلامية للمؤتمر السابع.