الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القضاء والحكم في السنة
سبق أن ذكرنا قول الزهري - عند الكلام في معنى القضاء في اللغة، وأنه على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أحكم عمله، أو أتم، أو ختم، أو أدى أداء أو أوجب، أو أعلم، أو أنفذ، أو أمضى، قال وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الحديث.
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «اقض فإن اجتهدت فأصبت فلك عشرة أجور، فإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد (1)» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إني أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه وحي (2)» ، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حينما أراد أن يبعثه قاضيا:«كيف تقضي إذا عرض لك قضاء (3)» ، وقوله صلى الله عليه وسلم للخصمين اللذين ترافعا إليه:«والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله (4)» .
أما الأحاديث التي فيها لفظ الحكم، فمن ذلك ما روي عن شريح بن هانئ عن أبيه هانئ أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهم يكنون هانئا (أبا الحكم) فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:«إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم (5)» الحديث (6)، وما روي من حديث ابن
(1) ابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 180).
(2)
النووي على صحيح مسلم (12/ 5 - 6).
(3)
رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، وابن عدي، والطبراني، والبيهقي. تلخيص الحبير (4/ 83).
(4)
أخرجه البخاري (8/ 207 - 208)، ومسلم (5/ 221)، والترمذي (2/ 443)، والنسائي (8/ 240)، وأبو داود (4/ 153) وابن ماجة (3/ 152) والإمام مالك في الموطأ (2/ 167)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 134).
(5)
سنن النسائي آداب القضاة (5387)، سنن أبو داود الأدب (4955).
(6)
أخرجه النسائي في سننه (8/ 226).
مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة (1)» .
وحديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المقسطون على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وما ملوا (2)» . إلى غير ذلك من الأحاديث.
ومن تحليل هذه النصوص، وتفسيرها نتوصل إلى الحقائق الآتية:
أولا - أنه لا يجوز التحاكم في كل المنازعات والقضايا إلا إلى شريعة الإسلام {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) الآية، أي فردوه إلى كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله فإلى سنة رسول الله، فإن لم تجدوه فإلى الاجتهاد، كما في حديث معاذ رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم واليا وقاضيا لليمن. فالقرآن هو الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه في الأحكام، وبعده سنة رسول الله، ثم ما يئول إليهما من إجماع أو قياس.
وهذه هي القاعدة الأولى التي أقرتها الشريعة الإسلامية في التنظيم القضائي في الإسلام، وما سواها فهو باطل وطاغوت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (4)، ولقد سار كبار المجتهدين على هذا الأساس في فهم الشريعة الإسلامية، ومقاصدها السامية، واستدلوا بنصوص
(1) مسند الإمام أحمد (1/ 430).
(2)
أخرجه مسلم في باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (6/ 7)، والنسائي في كتاب آداب القضاة، فضل الحاكم العادل في حكمه (1/ 221).
(3)
سورة النساء الآية 59
(4)
سورة النساء الآية 60
الكتاب، والسنة، وإجماع العلماء في اجتهاداتهم، وتنزيل النوازل والقضايا عليها، ولما كانت النصوص متناهية، والحوادث متجددة، استدلوا بالقياس فيما ليس فيه نص، وقاموا بالتخريج على القواعد العامة المستفادة من مجموع النصوص في جميع الأحوال، وغير ذلك من الأدلة التي لا تخرج في حقيقتها، ولا تتعارض مع جوهر الشريعة الإسلامية ونصوصها، ومقاصدها التي تدل عليها التعليلات المنصوصة.
كل حركة اجتهادية، أو تقنينية من أي مجتهد أو مقنن في أي عصر أو زمان يجب أن لا تخرج عن دائرة الكتاب والسنة، وأن لا تعارض نصا من نصوصها، أو أصلا من أصولها، وإلا كان اجتهادا فاسدا، وعملا مردودا باطلا.
ثانيا: أن التحاكم أمر مرتبط بالإيمان بما أنزل الله، وهو أمر كما يشمل الخصوم يشمل الحكام والقضاة أيضا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) و {هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2)، فليس في الإسلام قضاء ديني يخضع لأحكام الشريعة، وقضاء آخر مدني أو زمني يخضع لأحكام وضعية مخالفة، كما هو عند أصحاب الديانات الأخرى، وقلدهم في ذلك بعض أبناء هذا الزمن ممن ينتسبون للإسلام، بل كل القضاء في كافة الأمور والأحوال يجب أن يستند إلى الحكم الشرعي المبلغ من عند الله على لسان رسوله محمد بن عبد الله وأن الاحتكام إلى خلافه مناف لعقيدة الإيمان، بل قد يكون مخرجا لصاحبه عن دائرة الإسلام، إذ لا يتفق مع صحة الإيمان أن يرى مؤمن أن ما فكر فيه بشر مثله أحكم وأصلح مما قضى به رب العالمين {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3).
(1) سورة المائدة الآية 44
(2)
سورة المائدة الآية 47
(3)
سورة المائدة الآية 50