المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ القرآن كلام الله - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ١٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ النشأة التاريخية لفكرة التأمين:

- ‌ أقسام التأمين:

- ‌ وظائف التأمين:

- ‌ أسس التأمين الفني:

- ‌‌‌ أركان التأمينوعناصره:

- ‌ أركان التأمين

- ‌ عناصر عقد التأمين أو أركانه:

- ‌ خصائص عقد التأمين:

- ‌ حق الحلول:

- ‌ مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر:

- ‌ وثيقة التأمين أو ما يسمى ببوليصة التأمين:

- ‌ أنواع وثيقة التأمين:

- ‌ المشاركة في التأمين:

- ‌ التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:

- ‌ تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها:

- ‌الخلاصة:

- ‌أدلة المانعين مطلقا:

- ‌ قالوا: عقود التأمين من القمار والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:

- ‌ قالوا التأمين يتضمن ربا النساء والفضل وكل منهما ممنوع

- ‌ قالوا: التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا

- ‌قالوا: التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع

- ‌الرأي الثاني الجواز مطلقا:

- ‌ثانيا- أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة

- ‌ من يسمح بدخول المجلات التي فيها صور ومقالات محرمة شرعا إلى بيته وإلى أهله

- ‌ حضور المرأة حفلات الزواج وأعياد الميلاد

- ‌ أكل الحلزون والتمساح

- ‌ حان وقت الصلاة والإنسان مسافر ولا ماء معه للوضوء

- ‌ وسم أذن الدابة أو خرقها أو قرضها جزئيا أو كليا

- ‌ استعمال المسبحة بعد الصلاة

- ‌ الاستعانة بالأنبياء والأولياء

- ‌ جامع زوجته وهي ما زالت في الحيض

- ‌شعري أبيض وأريد صبغ لحيتي قاصدا كسب الرزق

- ‌ الحاجز بين الرجال والنساء في المسجد

- ‌ إمامة العبد وولد الزنا في الصلاة

- ‌ القنفذ هل أكله حلال أم حرام

- ‌ يأخذ زوجته إلى طبيب مسلم أو كافر ليعالجها

- ‌ مواظبة السلام ومصافحة الإمام والجالس على اليمين والشمال دبر كل صلاة

- ‌ قراءة القرآن في المسجد جماعة

- ‌ قراءة القرآن جماعة بصوت واحد بعد كل من صلاة الصبح والمغرب

- ‌ بعض أئمة المساجد وغيرهم يصبغون لحاهم بالصبغ الأسود هل هذا جائز أم حرام

- ‌ المسافة التي يمكن أن يقصر فيها المسافر الصلاة المكتوبة

- ‌ تأثير الجن على الإنس أو الإنس على الجن

- ‌ قراءة سورة قصيرة أو ما تيسر من القرآن الكريم بعد الفاتحة بركعتي السنة الراتبة

- ‌ صلاة مسافر خلف إمام مقيم

- ‌ الصلاة خلف إمام يعتقد في صاحب قبر صالح

- ‌ وضع الصورة الشمسية في الجيب أثناء الصلاة

- ‌ صناعة الخل في بعض البلدان يدخل فيها النبيذ أو البيرة

- ‌ يحلق الخدين المسمين بالعارضين ويترك اللحية

- ‌ أداء صلاة الجمعة بمدينة واحدة في مسجدين

- ‌ الاستعانة بقبور الأولياء أو النذر لهم أو اتخاذهم وسطاء عند الله

- ‌ تنتقل من بلد زوجها إلى بلد وليها لتقضي مدة الحداد عنده

- ‌أسئلة في أحكام الحج

- ‌القضاء والحكم بشريعة الإسلامبين توحيد المشرع ومتابعة المبلغ

- ‌القضاء والحكم في اللغة:

- ‌القضاء والحكم في القرآن

- ‌لفظ الحكم في القرآن:

- ‌القضاء والحكم في السنة

- ‌القضاء بالشريعة بين التوحيد والمتابعة:

- ‌مولده ونشأته:

- ‌شيوخه وتلاميذه:

- ‌آثاره العلمية:

- ‌فضله وعلمه:

- ‌وفاته:

- ‌التعريف بالكتاب المحقق

- ‌اسمه وتوثيق نسبته للمؤلف:

- ‌وصف النسخة الخطية:

- ‌من هو الناسخ:

- ‌موضوع الكتاب وأهميته:

- ‌منهج التحقيق:

- ‌ القرآن كلام الله

- ‌نفقة المرأة الواجبة على نفسهافي الفقه الإسلامي

- ‌إنفاق الإنسان على نفسه

- ‌الأصل في الإنفاق على المرأة

- ‌ نفقة المرأة غير المتزوجة:

- ‌ نفقة الزوجات:

- ‌الحالات التي يتحقق بها إلزام المرأة بالإنفاق على نفسها

- ‌المرأة باعتبار لزوم النفقة

- ‌ كونها غير زوجة:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ القرآن كلام الله

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العالم إمام المسلمين موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي - رحمه الله تعالى ورضي عنه -: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وآله أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.

مذهب أهل السنة والجماعة، والذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من أئمة الإسلام: أن‌

‌ القرآن كلام الله

القديم، وحبله المتين، وكتابه المبين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان عربي مبين؛ وهو سور، وآيات، وحروف، وكلمات. منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات لمن قرأه فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات، نزله الله تنزيلا، ورتله ترتيلا، وسماه قولا ثقيلا، وعد على تلاوته أجرا عظيما، فقال عز من قائل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} (1)، وشهد الله وملائكته بإنزاله على رسوله، وحض على [تدبره](2) وترتيله، وأخبرنا بأحكامه وتفصيله، ونص على تشريفه وتفضيله، وعجز الخلق عن الإتيان بمثله، أو تبديله. وقال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (3)، وقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (4).

(1) سورة الإنسان الآية 23

(2)

في الأصل (تدبير) والأولى ما ذكرناه.

(3)

سورة الإسراء الآية 88

(4)

سورة النساء الآية 82

ص: 211

وقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (1).

وهو هذا الكتاب العربي الذي هو مائة وأربع عشرة سورة، أولها الفاتحة، وآخرها المعوذتان (2)، مكتوب في المصاحف، متلو في المحاريب، مسموع بالآذان، متلو بالألسن له أول وآخر، وأجزاء، وأبعاض.

والدليل:

أن هذا هو القرآن، الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب: فمن وجوه:

أحدها: أن الله- سبحانه- تحدى الخلق بالإتيان بمثله، فقال سبحانه:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (3)، وقال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} (4){فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (5)، وقال سبحانه:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (6)، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} (7).

(1) سورة النساء الآية 166

(2)

لو قيل: آخره (الجنة والناس) لكان أدق.

(3)

سورة الإسراء الآية 88

(4)

سورة الطور الآية 33

(5)

سورة الطور الآية 34

(6)

سورة البقرة الآية 23

(7)

سورة يونس الآية 37

ص: 212

وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (1)، وقال:{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (2).

والتحدي إنما وقع بالإتيان بمثل هذا الكتاب بغير إشكال، لأن ما في النفس لا يدرى ما هو، ولا يسمى سورا، ولا حديثا، فلا يجوز أن يقول: فأتوا بحديث مثل ما في [نفس](3)" الباري ". ولأن المشركين إنما زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن وتقوله، فرد الله عليهم دعواهم بتحديهم بالإتيان بمثل ما زعموا أنه مفترى ومتقول دون غيره، وهذا واضح لا شك فيه.

الثاني: أنهم سموه شعرا، فقال الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (4).

ومن المعلوم أنهم عنوا هذا النظم؛ لأن الشعر كلام موزون، فلا يسمى به معنى، ولا ما ليس بكلام، فسماه الله- تبارك وتعالى ذكرا، وقرآنا مبينا، فلم [يبق](5)[شك](6)، لذي لب في أن القرآن هو هذا النظم دون غيره، وكذلك سموه مفترى. فقال الله تعالى:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} (7)،

(1) سورة يونس الآية 38

(2)

سورة هود الآية 13

(3)

في الأصل " في النفس " بالتعريف والصواب ما أثبتناه.

(4)

سورة يس الآية 69

(5)

في الأصل (يبقى) بالألف المقصورة، والصواب حذفها بالجزم.

(6)

في الأصل غير واضحة، ولعل ما أثبتناه يستقيم به المعنى.

(7)

سورة يونس الآية 37

ص: 213

ومن المعلوم البين: أن هذا كله لا يتعلق إلا بهذا الكتاب دون ما في النفس، فإن الكفار ما اعتقدوا في نفس الباري شيئا يريدون تبديله، أو يزعمون أنهم يقولون مثله، ولا ينهون عن سماعه، ولا التمسوا تبديله على غير النبي صلى الله عليه وسلم مع إشارتهم إلى [حاضر](1).

الرابع: أن الله سمى القرآن عربيا، فقال:{قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (2)، أي غير مخلوق، وقال:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (3)، وقال:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (4)، وقال:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (5)، وسماه حديثا بقوله:{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} (6)، وقال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (7)، وقال:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} (8)، وقال:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (9)، وإنما يتعلق هذا الوصف باللفظ دون المعنى.

الخامس: أن الله تعالى- أشار إليه إشارات [الحاضر] بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (10){إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ} (11)،

(1) في الأصل (حاظر) بالطاء المعجمة، والصواب ما ذكرناه

(2)

سورة الزمر الآية 28

(3)

سورة الزخرف الآية 3

(4)

سورة الشعراء الآية 195

(5)

سورة فصلت الآية 44

(6)

سورة القلم الآية 44

(7)

سورة الزمر الآية 23

(8)

سورة الطور الآية 34

(9)

سورة النساء الآية 87

(10)

سورة الإسراء الآية 9

(11)

سورة النمل الآية 76

ص: 215

[وقال]: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} (1)، [وقال]:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} (2). والحاضر عندنا هو هذا الكتاب العربي.

السادس: أن الله- تعالى- أخبر بتنزيله، وشهد بإنزاله على رسوله، فقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} (3)، وقال سبحانه:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (4).

وقال سبحانه: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (5)، والمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هذا الكتاب دون ما في النفس.

السابع: أن الله- تعالى- أمر بترتيله، ونهى عن العجلة وتحريك اللسان به متعجلا، فقال سبحانه:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (6)، وقال:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (7)، وقال:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (8). ولا يتعلق هذا بما في النفس البتة، وإنما يتعلق بهذا الكتاب.

(1) سورة الإسراء الآية 89

(2)

سورة يوسف الآية 3

(3)

سورة الإنسان الآية 23

(4)

سورة الإسراء الآية 106

(5)

سورة النساء الآية 166

(6)

سورة المزمل الآية 4

(7)

سورة طه الآية 114

(8)

سورة القيامة الآية 16

ص: 216

الثامن: أن الله- تعالى- أمر بقراءته، والاستماع له، والإنصات إليه، وأخبر أنه يسمع [ويتلى](1)، فقال:{حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (2)، وقال تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (3)، وقال:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (4). وهذا من صفات الوجود عندنا، لا من صفة ما في النفس الذي لا يظهر [للحس](5) ولا يدرى ما هو.

التاسع: أن الله- تعالى- أخبر أن منه سورا وآيات وكلمات، فقال تعالى:{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} (6)، وقال:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} (7).

وقال: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (8)، وقال:{تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} (9)، وقال:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (10)، وقال:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (11)، وقال {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (12)،

(1) كتبت (يتلا) هكذا، والصواب ما أثبت.

(2)

سورة التوبة الآية 6

(3)

سورة المزمل الآية 20

(4)

سورة الأعراف الآية 204

(5)

في الأصل (الحس) بلام واحدة، والصواب ما ذكرناه.

(6)

سورة النور الآية 1

(7)

سورة التوبة الآية 124

(8)

سورة يونس الآية 38

(9)

سورة النمل الآية 1

(10)

سورة آل عمران الآية 7

(11)

سورة العنكبوت الآية 49

(12)

سورة يونس الآية 15

ص: 217

وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1)، وقال:{وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} (2)، وقال:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (3)، وقال:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (4).

العاشر: أن القرآن كتاب الله العربي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب الله سور، وآيات، وحروف، وكلمات بغير خلاف.

والدليل: على أن كتاب الله هو القرآن، قول الله تعالى:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (5){إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (6).

وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (7){قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} (8)، فسموا القرآن الكتاب. وقال في موضع آخر:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (9).

وأجمع المسلمون على أن كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن.

(1) سورة الكهف الآية 109

(2)

سورة الرعد الآية 36

(3)

سورة المزمل الآية 20

(4)

سورة المزمل الآية 20

(5)

سورة يوسف الآية 1

(6)

سورة يوسف الآية 2

(7)

سورة الأحقاف الآية 29

(8)

سورة الأحقاف الآية 30

(9)

سورة الجن الآية 1

ص: 218

فهذه عشرة أوجه دالة على ما ذكرنا، ولولا كراهة التطويل لزدت عليها، لكن من لا يكتفي بهذه وينتفع بها، لم ينتفع بالزيادة عليها.

ص: 219

وأما السنة: فمن وجهين:

أحدها: قول النبي صلى الله عليه وسلم.

والثاني: سكوته.

أما قوله فكثير، فنقتصر على ما يكفي:

منها: ما روى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هذا القرآن مأدبة الله تعالى، فتعلموا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة [لمن] تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ [فيستعتب](2)، ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ألا إني لا

(1) نقله ابن كثير عنه في كتابه "فضائل القرآن ". أما كتاب أبي عبيدة فلم أطلع عليه. وأخرجه الدارمي عن ابن مسعود، وذكره ابن الأثير في جامعه عن ابن عمر، وعزاه إلى رزين، وذكره ابن كثير في "فضائل القرآن" وقال فيه: غريب من هذا الوجه. وضعفه لضعف أبي إسحاق الهجري، وقال: إن له شاهدا من وجه آخر. انظر: جامع الأصول (8/ 463)، وسنن الدارمي (2/ 435)، ومجمع الزوائد (7/ 164)، وفضائل القرآن (ص16). ووهم أبو بكر الهيثمي فذكر اسم أبي إسحاق الهجري: مسلم بن إبراهيم، والصواب: أنه إبراهيم بن مسلم. قلت: يريد بالشاهد حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب عند الترمذي ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم. . . الحديث، وهو ضعيف لضعف الحارث الأعور. قال فيه الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مجهول. وفي الحارث مقال أ. هـ، والصحيح أنه موقوف على ابن مسعود. جامع الترمذي (5/ 152)، تهذيب التهذيب (2/ 145).

(2)

ساقطة من الأصل. (1)

ص: 219

أقول: الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر» رواه أبو عبيد في فضائل القرآن.

فأشار إلى [حاضر] وأمر بتلاوته، وأخبر أنه حروف، وقال:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1)» وقال: «إن الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع

(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027)، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907)، سنن أبو داود الصلاة (1452)، سنن ابن ماجه المقدمة (211)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 69)، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338).

ص: 220

(1) ذكره البخاري في صحيحه في كتاب "التوحيد"- باب الماهر في القرآن مع السفرة الكرام وفيه تتمة وهي "وزينوا بالقرآن أصواتكم ". فتح الباري (13/ 518)، ورواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب "صلاة المسافرين"- باب فضل الماهر في القرآن والذي ينتفع فيه صحيح مسلم (1/ 549)، ورواه ابن ماجة- باب ثواب القرآن ورواه بلفظ ". . . والذي يقرأه وينتفع فيه وهو عليه شاق فله أجران ". سنن ابن ماجة (2/ 1242) تحقيق: عبد الباقي.

(2)

(1) يشتد عليه فله أجران

(3)

لم أجده كاملا بهذا اللفظ ونصه عند أبي داود: " الحمد لله، كتاب الله واحد وفيكم الأحمر، وفيكم الأسود. اقرأه قبل أن يقرأه أقوام يتبعونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله " أ. هـ. عون المعبود (3/ 59). والبغوي في شرح السنة عن جابر بن عبد الله (3/ 88)، والإمام أحمد في المسند بطريقين: عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله (3/ 146، 397). والحديث حسن. وعبد الله بن لهيعة يكتب حديثه للمتابعة؛ لا سيما بعد احتراق كتبه وقبل ذلك إذا صرح بالسماع عمن روى عنه، ولم يصرح في هذا الحديث بسماعه عن بكر بن سوادة، وله شاهد من حديث جابر في مسند أحمد (2/ 397).

(4)

لفظ أبي داود [وفيكم] و [اقرأه] بصيغة الإفراد. (3)

ص: 221

وفي لفظ: «يقيمون حروفه إقامة السهم» . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه طرأ علي حزب من القرآن، فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه (1)» . قال أوس الثقفي: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل ما بين قاف إلى أسفل.

«وقال لأبي (2): يا أبا المنذر، أي آية في القرآن أعظم؟

(1) أخرجه أبو داود في سننه "عون المعبود"(2/ 269)، وابن ماجة في سننه (1/ 427) تحقيق: عبد الباقي: والإمام أحمد في مسنده (4/ 9، 343)، والحديث ضعيف لضعف عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى. انظر: الجرح والتعديل (5/ 96). وميزان الاعتدال (2/ 452).

(2)

سنن أبو داود الحروف والقراءات (4003).

ص: 222

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

سنن الترمذي فضائل القرآن (2891)، سنن أبو داود الصلاة (1400)، سنن ابن ماجه الأدب (3786).

(3)

سورة الملك الآية 1 (2){تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}

(4)

متفق عليه. رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، ورواه مسلم عن أبي الدرداء لفظ مسلم، " أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن ". انظر: صحيح البخاري (6/ 179)، ومسلم (1/ 556).

(5)

سورة الإخلاص الآية 1 (4){قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

ص: 223

وقال: «تعدل ربع القرآن، وإذا زلزلت تعدل نصف القرآن (2)» .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعربوا القرآن (3)» .

وقال: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم (4)» .

وقال: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، ومن

(1) أخرجه الترمذي بطريقين: عن أنس بن مالك وعن ابن عباس. قال في الأول: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ: الحسن بن سلم. وقال في الثاني: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث اليمان بن المغيرة. وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس. انظر: جامع الترمذي (5/ 165)، والمستدرك (1/ 566). قلت: الحسن بن سلم هو ابن صالح العجلي شيخ مجهول يروي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، حققه ابن حبان. انظر: المغني للذهبي (1/ 160)، وتهذيب التهذيب (2/ 280)، وتهذيب الكمال (6/ 166). واليمان بن المغيرة ضعيف. قال فيه ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، يروي المناكير التي لا أصل لها فاستحق الترك. انظر: تهذيب التهذيب (11/ 406). فالحديث ضعيف لضعف اليمان بن المغيرة؛ وجهالة الحسن بن سلم.

(2)

سورة الكافرون الآية 1 (1){قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}

(3)

متفق عليه. انظر: صحيح مسلم (7/ 1490)، وانظر: البخاري (4/ 15).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بطرق عن ابن مسعود كلها ضعيفة، وكذلك أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى الطبراني وفي سنده ضعف. انظر: المصنف (10/ 456)، ومجمع الزوائد (7/ 163)، وفيض القدير (1/ 558). والصواب: وقفه على ابن مسعود كما سيأتي. وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي هريرة مرفوعا، وعن ابن مسعود موقوفا بلفظ:" أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ". وفيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري. ورواه الطبراني- أيضا- من طرق، فيها ليث بن أبي سليم. أما عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري فضعيف في الحديث، كان يقلب الأخبار ويهم في الآثار. قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء. وكذلك ليث بن أبي سليم ضعيف لا يحتج به اختلط بآخره. انظر: التاريخ الكبير (5/ 105)، (2/ 429)، والمجروحين (2/ 9، 231): والضعفاء للعقيلي (2/ 258). وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه للطبراني، وفيه نهشل بن سعيد. قال فيه ابن معين والدارقطني ضعيف. وقال النسائي: متروك الحديث، وضعفه البخاري. فالحديث بهذا الإسناد ضعيف. انظر: مجمع الزوائد (7/ 163)، والضعفاء والمتروكين للدارقطني (ص 382). وأخرجه الدارمي في سننه، وابن أبي شيبة بعدة طرق كلها ضعيفة عن عبد الله بن مسعود موقوفا ومرفوعا بألفاظ مختلفة. غير أن ليس فيها (أعربوا). وأخرجه الترمذي في جامعه عن ابن مسعود بلفظ:" من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، الحسنة بعشر أمثالها ". وقال: حديث حسن صحيح. انظر: المصنف (10/ 461)، وجامع الترمذي (5/ 175)، وسنن الدارمي (2/ 429).

ص: 224

(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910)، سنن الدارمي فضائل القرآن (3308).

(2)

هكذا في الأصل (ألف) دون تعريف، وجاءت الأحرف الثلاثة معرفة، كما في مجمع الزوائد (7/ 163)، وجاءت منكرة كما في مصنف ابن أبي شيبة (10/ 462) وذكره الذهبي في التلخيص وصححه (1/ 555) انظر: جامع الترمذي (5/ 175).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 225

وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من قرأ حرفا من كتاب الله- عز وجل زوجه الله- تبارك وتعالى زوجتين من الحور العين (1)» .

فهذه الأخبار وما شابهها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد بالقرآن سوى هذا الكتاب المنزل عليه، الذي يعرفه المسلمون قرآنا، ولم يرد به ما تقول هذه الطائفة إنه معنى في نفس الباري. لا يظهر للحس، ولا ينزل، ولا له آخر، ولا أول، ولا يدري ما هو ولا هو سور، ولا آيات، ولا حروف، ولا كلمات، ولولا التطويل لذكرت هذه الأحاديث بأسانيدها، وبينت في كل خبر وجه الاحتجاج منه: لكن تركت ذلك لظهوره تخفيفا.

(1) لم أجده بهذا اللفظ فيما اطلعت عليه. أما معناه فصحيح، وقد مر في ألفاظ كثيرة.

ص: 226

وأما الحجة في سكوت (1) النبي صلى الله عليه وسلم فمن وجهين:

أحدها: أنه لو كان القرآن ما قالوا؛ لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم

(1) وهو الوجه الثاني من السنة كما ذكر المصنف.

ص: 226

بيانه وتعريفه، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه - بالاتفاق- وما أشد حاجة [الأمة](1) إلى معرفة القرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم، قال "أهل التفسير" في قول الله- عز وجل:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} (2) أي: شرفكم.

وقال بعضهم في قوله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} (3). هو: القرآن فإن كل الأمة لم تسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف لا [يحتاج](4) المسلمون إلى معرفة القرآن الذي شرفهم الله به، وجعله بشيرا، ونذيرا، ومناديا لهم، وداعيا إلى الهدى، وحجة، ونورا، وبرهانا وشفاء، ورحمة، ومعجزا لنبيهم- عليه السلام، (ومعرفا) (5) للأحكام: من الحلال والحرام، والصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وسائر الأحكام، والذي جعل الله الأجر في تلاوته واستماعه، وكتابته، وحفظه، وأمرنا بتعظيمه، وتوقيره، ورفعه، ونهانا عن مسه محدثين، وعن السفر به إلى بلاد أرض العدو، وعن قراءته في حال الجنابة، وجعله شرطا للصلاة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه، والإنذار به، فهذا مما لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يهمل بيانه، ولا يكتمه عن أمته، سيما وقد أمره الله بالتبليغ، وفرضه عليه، وتوعده على تركه

(1) في الأصل (الأئمة) والصواب ما ذكرناه.

(2)

سورة الأنبياء الآية 10

(3)

سورة آل عمران الآية 193

(4)

في الأصل (تحتاج) بالتاء، والصواب بالياء.

(5)

في الأصل (ومعرف) والصواب بالنصب.

ص: 227

أمته؛ سيما وقد أمره الله بالتبليغ، وفرضه عليه، وتوعده على تركه، فقال:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1)، وقال:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (2)، وقال مخبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3)، أي: ومن بلغه القرآن.

ومع شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وحرصه عليهم، وعزة عنتهم عليه، فهل يجوز أن يتوهم المتوهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم عن أمته بيان القرآن، وعصى أمر ربه، ولم يبلغ رسالته، وغش أمته، وتركهم يعتقدون الباطل، ويضلون عن الحق، ويضيعون عن الصواب، مع علمه بضلالهم، وإمكانه من هدايتهم بكلمة واحدة، فلا يقول في ذلك حرفا، ولا شيئا مما لا يسوغ لمسلم أن يعتقده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم في خطبته في حجة الوداع:«ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. فرفع أصبعه إلى السماء وقال: اللهم فاشهد (4)» .

ويقتضي قول هذه الطائفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما بلغ، وأنه [كاذب](5) في دعواه التبليغ، وأصحابه كاذبون في شهادتهم له، وأن كل مسلم شهد للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة، والنصح لأمته، فهو كاذب في شهادته.

(1) سورة المائدة الآية 67

(2)

سورة الحجر الآية 94

(3)

سورة الأنعام الآية 19

(4)

متفق عليه. انظر: صحيح البخاري (3/ 191)، وصحيح مسلم (2/ 886).

(5)

بياض في الأصل، وما أثبتناه يتضح به المعنى.

ص: 228

فليت شعري أيزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك بيان هذا الأمر قصدا لإضلال أمته وإغوائهم، أو غفلة منه، وأن [أستاذهم قصد](1) لما غفل عنه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، والسادة من صحابته وتابعيهم، والأئمة من بعدهم، فبين الصواب، وأتم تبليغ الرسالة، [وقصد](2) لما لا يعلمه الله- تعالى- وخفي عن رسوله، وأمته. أن من رضي لنفسه [](3) هذا، لأهمل أن لا يكلم أصلا (4).

الوجه الثاني، من الثاني: لو قدرنا أنه ساغ للنبي صلى الله عليه وسلم السكوت عن بيان القرآن، فكيف ساغ له إيهام أمته؟ أن القرآن غير ما هو قرآن، بما تلاه من الآيات [التي](5) ذكرناها، والأخبار التي رويناها ليضل أمته بذلك عن الصواب، ويعتقدوا غير الحق، ويصيروا حشوية مجسمين- كما يعتقد فينا خصومنا- ولو كان ذاك، لكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المضل لأمته، والمغوي لهم، والداعي لهم إلى صراط الجحيم، والمانع لهم من الصراط المستقيم.

(1) الجملة غير واضحة في الأصل لوجود بياض، وما أثبتناه ينتظم به السياق.

(2)

غير واضحة في الأصل، ولعل ما أثبتناه يظهر به المعنى.

(3)

في الأصل جملة (يؤدي إلى)، ولا معنى لها في السياق، حيث يتم المعنى بدونها.

(4)

أي أنه غير عاقل، فلا تحوز مجادلته. ولا مخاطبته.

(5)

في الأصل (الذي) بدل (التي).

ص: 229

واعتقاد هذا كفر بالله العظيم، وخروج عن دائرة المسلمين.

فهذه دلالة قاطعة في أن القرآن هو ما يعتقده المسلمون قرآنا لا غير.

ص: 230

وأما الإجماع: فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يعتقدون أن القرآن سوى هذا الذي نعتقده قرآنا.

دلت على ذلك: أقوالهم، وأحوالهم، فإنهم: سموا حروفه وآياته وكلماته وأحزابه، وذكروا قرآنه، واستماعه على نحو ما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: "إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه ".

ص: 230

وسئل علي عن الجنب، هل يقرأ القرآن؟ قال:"ولا حرفا"(1)، وروي عنه أنه قال:"من كفر بحرف من القرآن، فقد كفر به كله ".

وقال علي رضي الله عنه: "تعلموا البقرة، فإن بكل حرف منه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. ولا أقول: الم حسنة، ولكن ألف حسنة، ولام حسنة، وميم حسنة".

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما من مؤمن يقرأ حرفا من القرآن، ولو شئت لقلت اسما تاما، ولكن حرفا، إلا كتب الله- تعالى- له بكل حرف عشر حسنات، أما إن الحرف ليس بالآية، والكلمة، ولكن ألم ثلاثون حسنة". وفي رواية قال: "أما إني لست ممن يزعم أن بكل آية عشر حسنات، ولكن أزعم أن بكل حرف من حروف

(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 102).

ص: 231

المعجم عشر حسنات".

وروي عنه أنه قال: "إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، اتلوه فإن الله يأجركم بكل حرف منه عشر حسنات، لم أقل لك: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ".

وقال ابن مسعود: "أنتم اليوم في زمن كثير فقهاؤه، وقليل قراؤه، وتحفظون حدود القرآن، وتضيعون حروفه، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه، يحفظون حروفه ويضيعون حدوده" ذكره مالك بن أنس في الموطأ.

وقال ابن مسعود: "من حلف بالقرآن فعليه بكل آية كفارة" وروي عنه: بكل حرف.

ص: 232

وقال عبد الله بن عمر: "إذا خرج أحدكم لحاجته، ثم رجع إلى أهله، فليأت المصحف، فيفتحه ويقرأ سورة، أو قال: سورا، فإن الله يكتب له بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر ".

وروى عوف بن مالك، وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من قرأ حرفا من كتاب الله كتب الله له به حسنة (1)» .

وقال فضالة بن عبيد: "خذ على هذا المصحف، ولا ترد على ألف، ولا واو إلا آية كاملة ".

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا إعراب القرآن،

(1) سبق تخريجه قريبا. عن ابن مسعود.

ص: 233

كما تتعلمون حفظه" وقال: "جردوا القرآن".

وقال زيد بن ثابت: "أرسل إلي أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة، وإذا عنده عمر، فقال لي: إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله-صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه ". قال: " فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي من ذلك، فقلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله-صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. قال: فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع، والعسب (1)، واللخاف (2)، وصدور الرجال "(3).

(1) العسب: جمع عسيب وهو جريد النخل إذا جرد من خوصه.

(2)

اللخاف: جمع "لخفة" وهي الحجارة البيضاء العريضة الرقيقة. انظر: لسان العرب- مادة "لخف ".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه. انظر: (6/ 98).

ص: 234

فهذا وأشباهه مما لا سبيل إلى إحصائه دليل على أن القوم ما اعتقدوا قرآنا، سوى هذا الذي هو حروف منظومة، وآيات معلومة، وكذلك من بعدهم من أهل الإسلام، وكلامهم في هذا كثير، وما علمت أحدا من أهل الإسلام جحد كون هذا قرآنا: سوى هذه الطائفة، ثم أجمعوا مع المسلمين على أنهم متى تلوا آية، قالوا: قد قال الله كذا، وقول الله هو كلامه.

وأجمع (1) المسلمون على أن القرآن يقرأ، ويسمع، ويكتب، ويحفظ، وهذه الصفات [لا نؤلها](2) بما لم ينزل إلينا ما لا يدري ما هو، وأجمعوا على أن القرآن: أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأنه معجز للنبي-صلى الله عليه وسلم الذي يتحدى الله الخالق بالإتيان بمثله، وعجزوا عنه.

وأجمعوا: على أن في القرآن ناسخا، ومنسوخا، ولا يتعلق ذلك إلا بهذا النظم.

وأجمعوا: على أن القرآن الذي يشترط قراءته في الصلاة، ويمنع الجنب من قراءته، والمحدث من مسه، ويمنع من السفر به إلى أرض العدو، [هو هذا](3) دون غيره.

وأجمعوا: على أن الوقوف الموقوفة على قراء القرآن أو على كتبته، أو على حافظيه يصرف إلى من قرأ هذا، وكتبه وحفظه.

وأجمعوا: على أن تفسير هذا الكتاب يسمى: تفسير القرآن، وأن قارئه يسمى: قارئ القرآن، وأن من يقريه يسمى: مقرئ القرآن، وأن

(1) أي من جاءوا بعد القرون الثلاثة كما أجمع عليه أولئك من قبلهم.

(2)

في الأصل "لا تعلو لها" ولا معنى لها، ولعل الصواب ما ذكرناه.

(3)

في الأصل "هذا" ولعل الصواب ما ذكرناه ليتم المعنى، وتكون الجملة خبرا لـ "أن".

ص: 235

سوره تسمى: سور القرآن، وآياته تسمى: آيات القرآن، وحروفه تسمى: حروف القرآن، ولو قال إنسان: سورة البقرة ما هي من القرآن، لكان عند المسلمين جاحدا لبعض القرآن.

وما اختلف الصحابة في شيء من سور القرآن- فيما علمت- إلا في المعوذتين، فإن بعضهم لم يكتبها في مصحف (1) وأجمعوا على ما عداهما.

وأجمعوا: على أن من جحد سورة من القرآن، أو آية، أو كلمة، أو حرفا متفقا عليه أنه كافر.

قال أبو نصر [السجزي]: هذا حجة قاطعة أنه حروف.

وأجمعوا: - فيما علمت- على أن حالفا لو حلف ليقرأن القرآن، أو ليكتبن القرآن، أو ليحفظنه أو ليسمعنه [لحنث بترك](2)

(1) هكذا في الأصل ولعل الصواب (مصحفه).

(2)

هذه الجملة ساقطة في الأصل ولا يستقيم المعنى بدونها.

ص: 236

كل قراءة هذا، وكتابته، وحفظه، وسماعه، ولو حلف أنه: لا يقرأ القرآن، أو لا يكتبه، أو لا يحفظه، أو لا يسمعه، لحنث بقراءة هذا، وكتابته، وحفظه، وسماعه، ولو حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن في الصلاة لم يحنث، ولما اختلف أهل الحق والمعتزلة في القرآن، هل هو مخلوق أو لا؟، ما اختلفوا إلا في هذا الكتاب.

ص: 237

[فصل]

واتفق الجميع على أنه قرآن، واختلفوا في قدمه وخلقه، ومن صورة الاختلاف (1) الاتفاق على محله، فحصل الإجماع من أمة محمد-صلى الله عليه وسلم على أن هذا الكتاب: هو القرآن المنزل، وثبت بالأدلة القاطعة [. . . .](2) أن هذا قرآن، فلا يلتفت إلى من خالف ذلك، وإذا ثبت أنه قرآن، فهو سور وآيات، وكلمات، وحروف بغير إشكال، وإنكار ذلك جحد للعيان، ونوع من السفسطة والهذيان، ومن العجب أن الله- تعالى- سمى هذا الكتاب: قرآنا، وسماه النبي-صلى الله عليه وسلم قرآنا، وسمته أمته: قرآنا، وسمته الجن: قرآنا {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (3) وسمته المعتزلة: قرآنا، فجاءت هذه الطائفة بمخالفة رب العالمين، وخلقه أجمعين.

(1) أي: ويفهم من اختلافهم في وصفه هل هو قديم أو حادث؟ اتفاقهم على أصله أنه قرآن.

(2)

بياض في الأصل.

(3)

سورة الجن الآية 1

ص: 237

وقالت: ما هذا بقرآن قصدا للرد على المعتزلة قولهم: القرآن مخلوق، فجاءت بطامة، إذ من لوازمها: كون القرآن مخلوقا، فإن المعتزلة لم يعنوا بالقرآن المخلوق سوى هذا الكتاب، وهذه الطائفة تقول: هو، وليس بقرآن، فليتها صرحت بقول المعتزلة، ووقفت عليه، ولم تفرد هذه الزيادة التي لم يقلها قبلها أحد، ثم إنهم مع جحدهم كون هذا [قرآنا](1) لا يتجاسرون على إظهار مقالتهم بسلاطين المسلمين، ولا لعامتهم، وإنما يظهرون لهم إنكار الحروف، لكون لفظها لم يرد في نص الكتاب، وهذا إنما يلبس [على]، (2) عامي غمر ما له من فطنة، فيعلم يقينا أن السورة آيات، والآيات كلمات، والكلمات حروف، ولا شك في ذلك، ثم قد صرح النبي-صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والتابعون، ومن بعدهم بالحروف، وعد الناس حروف القرآن في الأمصار، ولم ينكر هذا منكر قبل هذه الطائفة، وما أنكرت هذه الطائفة الحروف على الخصوص، إنما أنكرت هذه الطائفة (3) القرآن كله وجحدته، ثم إن الله- تعالى- قد أزاح العلة [بتلك](4) الحروف المقطعة في أوائل السور، فافتتح تسعا وعشرين سورة بالحروف المقطعة قطعا للعذر، ونفيا للإشكال، حتى أني سمعت بعض أهل العلم يقول: إن من جحد سورة البقرة من القرآن فهو كافر بالإجماع، ومن أقر أنها من القرآن فقد أقر بالحروف، يعني:

(1) في الأصل: قرآن بالرفع والصواب النصب.

(2)

ساقطة من الأصل.

(3)

الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة.

(4)

في الأصل (بذلك).

ص: 238

أن في أولها: ألم، وهي حروف، وزعم بعض متحذلقي هذه الطائفة أن: ألم، ليست حروفا، وإنما هي أسماء للحروف، فخالفوا النبي-صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والأمة، فإنهم يسمون هذه حروفا، ثم لا ينفعه هذا، فإن أسماء الحروف: حروف، فالألف ثلاثة أحرف، واللام ثلاثة أحرف والميم ثلاثة أحرف، إنما هي تسعة، (1) فتحذلق (2) فزلق كما قيل.

هكذا كل أخي حذلقة

ما مشى في مس إلا زلق

ثم أي شيء يفيده ستر (3) واحد إلى كون: ألم حروفا مع تسليمه، ما بعدها إلى آخر السورة حروف، فإن ذلك ثلاثة أحرف، والكتاب خمسة أحرف، وكذلك ما بعدها، فلو صح ما قالوا لم يفده قليلا ولا كثيرا على أن القوم ما نزاعهم في أن هذا القرآن حروف، وهذا شيء لا يمكن جحده، إنما جحدوه بالكلية، فقالوا ما هذا قرآنا أصلا. فإن سلم المتحذلق أن هذا قرآن، ولكن قال: لا أسميه حروفا كان [موافقا](4) في المعنى، مخالفا في التسمية، فلا فائدة في النزاع فيه.

وقال (5) بعضهم: هذا الكتاب قرآن لكنه مخلوق، والقرآن القديم في نفس الباري، فوافق المعتزلة في أن القرآن مخلوق. وادعى دعوى فرق

(1) يقال: تحذلق الرجل إذا ادعى أكثر مما عنده.

(2)

في الأصل (فتحلق) ولا معنى لها.

(3)

أي: ماذا يستفيد من نفى أحد حروف (ألم) الثلاثة مع تسليمه أنها وما بعدها حروف.

(4)

في الأصل: (موقوفا) والصواب ما ذكرناه.

(5)

أي: بعض الأشاعرة.

ص: 239

بها الإجماع، وخالف بها المسلمين، فإننا لم نسمع أن [أحدا](1) من الأمة قال هذه المقالة قبل هذا [القائل](2) وليس له عليها دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صحابي، ولا إمام مرضي، والعقل لا يقتضي وجود قرآن، ولا تسمية، إنما يعلم ذلك بالنقل الصحيح القاطع. وليس مع هذا المدعي سوى مجرد الدعوى لا يثبت بها شيء، ثم إنه لو قدر أنه ذكر دليلا [لكان](3) مخالفا للإجماع، فإن الأمة مجمعة على أنه ليس لنا إلا قرآن واحد. فمنهم من قال: هو كلام الله القديم، ومنهم من قال: هو مخلوق. فما خالف الإجماع فهو باطل. ثم كيف يتصور لهذا الأحمق أن النبي صلى الله عليه وسلم[غفل](4) عن ذكر هذا لأمته مع حاجتهم إلى بيانه، وعصى ربه في ترك تبليغ رسالته وغش أمته بكتمان ذلك عنهم، وغفل عنه خلفاؤه ومن بعدهم حتى جاء فتنة لهذا واستدرك على النبي-صلى الله عليه وسلم غفلته وكشف عز الأمة فيهم وهداهم عن الضلالة التي [أضلهم](5) رسولهم أن هذا المصحف عظيم.

وعلى كل حال فقد سلم أن القرآن الذي بينته أنه قرآن بالكتاب والسنة والإجماع [و](6) هو سور وآيات وكلمات وحروف: وهذا هو الذي ادعيناه، وقد ثبت لنا ذلك، فلا يضرنا دعواه غير ذلك، فليدع ما شاء.

(1) في الأصل (أحد) بالرفع والصواب النصب.

(2)

في الأصل (المقايل)، ولعل الصواب ما أثبت أعلاه.

(3)

في الأصل (لكن) والصواب ما أثبتناه.

(4)

ساقطة في الأصل، ولا يستقيم السياق إلا بها، وقد دل عليها ما بعدها.

(5)

في الأصل (أظلهم) بالطاء المعجمة، والصواب (أضلهم) بالصاد المعجمة.

(6)

ساقطة من الأصل.

ص: 240

[فصل]

فإن قال القائل: لا يصح قولكم: إن القرآن حروف لوجوه:

أحدها: أن الحروف لا تخرج إلا من مخارج وأدوات، ولا يجوز إضافة ذلك إلى الله- تعالى- لأنه تجسيم، والله سبحانه يتعالى عن ذلك.

والثاني: أن الحروف تتعدد، والقديم لا يتعدد.

والثالث: أنها تتعاقب [فتسبق] الباء السين، والسين الميم، وكل مسبوق مخلوق.

الرابع: أن كلام الله شيء واحد، ليس له أول ولا آخر، ولا بعض، والحروف مختلفة متغايرة، لها أجزاء وأبعاض.

فالجواب من وجوه: (1).

(1) الصحيح أنهما وجهان: أحدهما: إجمالي، والثاني: تفصيلي يبدأ من قول المصنف الثالث.

ص: 241

أحدها: أنه ثبت أن القرآن هو هذا الكتاب الذي هو حروف.

أدلة (1) قاطعة يقينية، فكل [ما خالف](2) يعلم كونه باطلا، فإن ما خالف اليقين فبطلانه يقين، وما بعد الحق إلا الضلال.

(1) كذا في الأصل، ولو قيل (بأدلة) لكان أظهر.

(2)

في الأصل (وكلما خلف) ولعل الصواب ما أثبت بقرينة ما بعده.

ص: 242

الثاني: أن هذا الذي ذكروه من فن الكلام، وهو مجمع على ذمه وإنكاره، وأنه ليس بحجة ولا دليل. والدليل على الإجماع قول العلماء: قال ابن عبد البر: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء.

وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن [خويز منداد] البصري المالكي: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل البدع والأهواء: أشعريا كان أو غير [أشعري](1)، ولا تقبل لهم شهادة في الإسلام، ويهجرون ويؤدبون على [بدعتهم](2).

(1) في الأصل (شعري) بدون همزة، والصواب ما أثبت.

(2)

في الأصل (بدعته) بالإفراد والصواب الجمع. (ويهجروا ويؤدبوا).

ص: 242

وقال الشافعي - رحمة الله عليه-: لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه، ما عدا (1) الشرك، خير من أن ينظر في الكلام.

وقال: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفر من الأسد.

وقال: من أبدر (2) في الكلام لم يفلح.

وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل [وينادى عليهم](3) هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام.

وقال [أحد علماء شاش]:

كل العلوم سوى القرآن مشغلة

إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كان فيه قال: حدثنا

وما سوى ذاك وسواس الشياطين

(1) في الأصل (ما عاد) والصواب ما أثبت.

(2)

أي: بادر إليه وقدمه على غيره من العلوم لأنه أهم عنده من غيره.

(3)

سقطت من الأصل. انظر: كتاب شرف أصحاب الحديث (ص 79).

ص: 243

وقال الإمام أحمد بن حنبل - رحمة الله عليه-: لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل.

وقال أبو يوسف - رحمة الله عليه-: من طلب العلم بالكلام تزندق.

ص: 244

وقال محمد بن شجاع الثلجي: سمعت الحسن بن زياد اللؤلؤي وقال له رجل في زفر بن الهذيل: كان ينظر في الكلام، فقال: سبحان الله، ما أحمقك، ما أدركت مشيختنا: زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا، فأخذنا عنهم غير الفقه والاقتداء بمن [يقدمهم](1).

وقال جعفر الخواص: سمعت الجنيد بن محمد يقول: من كان سبيله [ومذهبه](2) الكلام لا يفلح.

(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب (تقدمهم) بالتاء بدل الياء.

(2)

كذا في الأصل، ولعل الصواب (منهجه) بدل مذهبه.

ص: 245

ولو تقصينا ذم العلماء الكلام لطال، لكن ذكرنا الأئمة الأربعة، [فإن] أكثر أهل الإسلام- فيما علمنا- منتسبون إليهم، وراجعون إلى مذهبهم، وهذا حال الكلام عندهم، فكيف [يحتج](1) به أو يرجع إليه؟ سيما وقد عارض الكتاب والسنة والإجماع، وإن من يترك هذه الأصول الثلاثة لأجل شيء من الكلام الذي هذا حاله [لعصي](2) الرأي مسلوب التوفيق.

الثالث: أن نفرد كل وجه بجواب:

(1) في الأصل (يجتمع) ولعل الصواب ما أثبت.

(2)

في الأصل غير واضحة، ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 246

أما قولهم: إن الحروف إنما تكون [من مخارج]، قلنا: من أين علمتم هذا؟ فإن قالوا: لأنها في حقنا كذلك، فكذلك في حق الله- تعالى- قياسا له علينا.

قلنا: هذا خطأ واضح، فإن الله- تعالى- لا يقاس على خلقه، ولا يشبه بهم، ولا تشبه صفته بصفاتهم، فمن فعل ذلك كان مشبها ضالا.

الثاني: أن هذا باطل، فإن الله تعالى [قال]:{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} (1). وقال: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2){وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (3).

(1) سورة يس الآية 65

(2)

سورة فصلت الآية 20

(3)

سورة فصلت الآية 21

ص: 246

(1) سورة فصلت الآية 11

(2)

الحديث صحيح. أخرجه مسلم بلفظ: " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ". "صحيح مسلم (4/ 1782) ". أما تسبيح الحصى بين يديه: فقد أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، والسيوطي في الخصائص (2/ 74) ولم يصح لضعف محمد بن يونس الكديمي وهو متروك، بل اتهم بالوضع. انظر: ميزان الاعتدال (4/ 74)، والمجروحين (2/ 312).

(3)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده بطريقين عن أبي هريرة وأنس بن مالك انظر: المسند (3/ 218)، (2/ 451). قال الشيخ الساعاتي في الفتح الرباني في تخريجه: لم أقف عليه لغير الإمام أحمد. انظر: الفتح الرباني (21/ 124). كما قال ابن كثير في تاريخه: تفرد به الإمام أحمد وإسناده حسن. انظر: البداية والنهاية (4/ 233). قلت: عجبا للشيخ الساعاتي، لم يشر كعادته أنه في الصحيحين، أو في أحدهما، أو في أحد السنن، والحديث متفق عليه. فقد رواه البخاري عن أبي هريرة، ومسلم عن أنس. وأخرجه أبو داود في سننه بعدة طرق، وكذلك الإمام الدارمي في مسنده. وعجبت- أيضا- أن صاحب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لم يذكر من خرجه سوى الإمام أحمد والدارمي. انظر: صحيح البخاري (3/ 141) وصحيح مسلم (4/ 1721)، ومختصر سنن أبي داود (6/ 307) والدارمي (1/ 32).

(4)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. وأخرجه الحاكم في المستدرك على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. انظر: المسند (2/ 306)، (3/ 89)، والمستدرك (4/ 467).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه في باب علامات النبوة (4/ 171).

ص: 247

ولا خلاف أن الله- تعالى- قادر على إنطاق الحجر الأصم بغير مخارج ولا أدوات.

الثالث: أن يلزمهم أن يقولوا في سائر صفات الله- تعالى- حدقة، والسمع لا يكون إلا من انخراق، فإن طردوا ذلك في الصفحات كلها حدقة، والسمع لا يكون إلا من انخراق، فإن طردوا ذلك في الصفات كلها صاروا مجسمين كافرين، وإن نفوا هذه الصفات صاروا معطلين، وإن أثبتوها من غير أدوات لزمهم إثبات هذه الصفة- أيضا-، وإلا فما الفرق؟!. [وأما](1) التعاقب فإنما يلزم في حق من يتكلم بالمخارج والأدوات، وقد أبطلنا هذا.

وأما قولهم: إنها (2) متعددة، فإن أسماء الله متعددة، فإن لله- تعالى - تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة. قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3).

وهي قديمة: نص الشافعي - رحمة الله عليه- على أن أسماء الله- تعالى- غير مخلوقة.

وقال أحمد: من قال أسماء الله مخلوقة فهو كافر.

وصفات الله متعددة وهي قديمة، وكتب الله متعددة: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وهي غير مخلوقة.

فإن قالوا: هي مخلوقة؛ فقد قالوا بخلق القرآن. وقد [أجمعنا](4) على أنه غير مخلوق.

(1) في الأصل (وإنما) والصواب: ما أثبت، وهذا هو الرد على الوجه الثالث من الوجوه الأربعة.

(2)

هو الوجه الثاني من الوجوه الأربعة.

(3)

سورة الأعراف الآية 180

(4)

في الأصل (جمعنا) بغير همزة. والصواب: ما أثبت. المراد: إجماع المسلمين.

ص: 248

وإن قالوا: إن هذه أسماء لشيء واحد، وإنما هذه عبارة عن معبر واحد ولم ينزل منها شيء، ولا نزل الله على بشر من شيء، فهذا تكذيب لله ولرسوله، وخرق لإجماع المسلمين وموافقة لليهود الذين رد الله عليهم بقوله:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} (1).

وإن قالوا: بل قد أنزلت وهي متحدة، لزم أن يكون كل واحد من هذه الكتب قد أنزلت على كل واحد من هؤلاء الأنبياء الأربعة، ويكون نبينا- عليه السلام قد أنزلت التوراة والإنجيل والزبور [عليه](2)، وهذا قول من [لا حياء](3) له، ثم هو دعوى مجردة تخالف إجماع الأمة.

وقولهم: إن كلام الله- تعالى- واحد، لا أول له ولا آخر (4)، ولا بعض، فهو باطل بما ذكرنا هاهنا وفيما سبق. ثم إنهم قد سلموا أن موسى عليه السلام سمع كلام الله وكلمه ربه، فيؤدي إلى أن يكون موسى قد شارك الله تعالى في علمه، وعلم ما في نفسه. وهذا يرده قول الله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (5).

وإن كان قد سمع البعض، فلقد سلموا التبعيض، وقد سلموا أن القرآن كلام، وأنه غير مخلوق، وأنه مسموع مقروء محفوظ، فيلزم من قولهم: أن من سمع آية فقد سمع كلام الله وحفظ القرآن، ومن حفظ شيئا منه فقد [علمه](6).

(1) سورة الأنعام الآية 91

(2)

ساقطة من الأصل.

(3)

في الأصل (الأحياء) والصواب: ما أثبت.

(4)

في الأصل (الأول له والآخر)، والصواب: ما أثبت.

(5)

سورة الكهف الآية 109

(6)

في الأصل بياض، ولعل الصواب ما ذكرناه.

ص: 249

وينبغي أن لا يتعب [أحد](1) في حفظ القرآن.

وهذه فضيحة لم يسبقوا إليها، وقد [أجمعوا](2) على أن القرآن لم ينزل على النبي-صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، وإنما أنزل نجوما [في نحو] (3) ثلاث وعشرين سنة. وقد دل على ذلك قول الله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} (4){وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (5)، فهؤلاء إن وافقوا المسلمين في هذا فقد بطل قولهم.

وإن قالوا: أنزل جملة، خالفوا رب العالمين وخلقه أجمعين، ثم متى نزل عليه كله، في أول رسالته أم في آخرها أم في أي وقت؟ ثم إن هذا شيء لا يعلم بالعقل، وإنما يعلم بالنقل، فعمن أخذوه؟ ومن نقله لهم؟ وأين روي هذا ومن رواه؟.

وإن قالوا: ما أنزل من القرآن شيء أصلا ولا يتصور نزوله، وكل ما جاء من الآيات والأخبار في هذا مجاز لا حقيقة له، وهذا الكتاب الذي أنزل على النبي-صلى الله عليه وسلم ليس بقرآن، وإنما هو عبارة القرآن، وإنما سمي قرآنا مجازا.

قلنا: قد سبقت الدلالة على بطلان هذا بأدلة كثيرة قاطعة يقينية، فلا يلتفت إلى ما خالفها.

ثم نقول: حمل الكلام على المجاز تأويل، كل متأول محتاج إلى شيئين: -

(1) في الأصل (أحدا) بالنصب، والصواب الرفع.

(2)

في الأصل (جمعوا) بدون همز.

(3)

في الأصل (نحو في) والصواب: ما أثبت.

(4)

سورة الفرقان الآية 32

(5)

سورة الفرقان الآية 33

ص: 250

أحدهما: بيان احتمال اللفظ لما حمله عليه.

والثاني: بيان دليل يصرف إليه.

فيحتاج هاهنا إلى بيان وجود قرآن حقيقي سوى هذا الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما نعلم لهم في هذا دليلا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا عرف المسلمون قرآنا سوى هذا، فإثبات قرآن لا دليل عليه ولا سبيل إليه، ثم لا بد في المجاز من سبب [تجوز](1) تسمية المجاز باسم الحقيقة. إما اشتراكهما في المعنى المشهور في محل الحقيقة، وإما تجاورهما، وإما غير ذلك.

فإن قالوا: إنما سمي قرآنا لتضمنه للمعنى القديم، فالمعنى هو القرآن وعبارته تسمى باسمه.

قلنا: هذا لا يصح لوجوه:

أحدهما: المطالبة بدليل يدل على أن المعنى يسمى قرآنا بمفرده، فإنه لا يجوز التسمية إلا بنقل عن الشارع لكون التسمية شرعية لا تعلم إلا من جهته.

الثاني: أنه لو سمي قرآنا لتضمنه معناه، لسمي كل ما [تضمن](2) ذلك المعنى قرآنا، فعلى هذا لو قرأه بالعجمية (3) أو عبر عنه لأي لسان كان قرآنا، ويجب أن يكون تفسير القرآن قرآنا لتضمنه المعنى.

الثالث: أن القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم الذي عجز الخلق عن الإتيان بمثله، والإعجاز يتعلق باللفظ والنظم.

(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب (يجوز) بالياء وتشديد الواو.

(2)

في الأصل (تظمن) بالظاء المعجمة، والصواب بالضاد المعجمة.

(3)

هكذا في الأصل بدون همز، ولو كتبت- (الأعجمية) لكان حسنا.

ص: 251

الرابع: أنهم إن زعموا أن كلام الله شيء واحد لا [يتعدد](1) ولا يتجزأ ولا يتبعض، والمعنى متعدد مختلف، فإن معنى كل كلمة غير معنى الأخرى، ومعنى كل جملة غير معنى الأخرى.

مثال ذلك في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} (2)، فإن معنى (أوحينا) الإلهام و (إلى) حرف معناه انتهاء الغاية، و (أم موسى) والدته، و (موسى)[نبي](3) الله. وهذه [معان](4) مختلفة.

وهذه الآية [تشتمل](5) على ثلاثة: إخبار وشرط وأمرين ونهيين.

فمعنى الإخبار غير معنى الأمر والنهي، ومعنى كل خبر غير معنى [الآخر](6)، ومعنى كل أمر غير معنى الآخر. فإن (أرضعيه) غير معنى {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (7) ومعنى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} (8) غير معنى {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (9)

وإذا ثبت التغاير والتعدد فكيف جعلوه كلام الله- تعالى- مع ذلك؟.

(1) في الأصل (يتعد).

(2)

سورة القصص الآية 7

(3)

في الأصل (النبي).

(4)

في الأصل (صعنان).

(5)

في الأصل (يشتمل) بالياء، والصواب ما أثبت.

(6)

في الأصل (الأخرى) والصواب ما أثبت.

(7)

سورة القصص الآية 7

(8)

سورة القصص الآية 7

(9)

سورة القصص الآية 7

ص: 252

الخامس: أن معنى القرآن إن كان معنى التوراة والإنجيل، فالكل شيء واحد، والقرآن إذا هو التوراة والإنجيل، وتكون التوراة منزلة على

ص: 252

محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن على موسى، ومن قرأ القرآن فقد قرأ التوراة والإنجيل.

السادس: أن معنى القرآن إن كان على كلام الله تعالى بحيث لم [يبق] له كلام سواه، فهذا خلاف قوله:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1).

وأن من حفظ القرآن فقد علم كل كلام الله- تعالى- وشاركه في علمه وكلامه، وإن قال: إنه كلام الله، فقد ناقض قولهم.

السابع: أن كلام الله مسموع، متلو مكتوب، فقد سمع موسى كلام الله- تعالى- والمعنى يفهم ولا يسمع، وإنما يتعلق السماع باللفظ، فكما لا يوصف المعنى بالرؤية (2)، كذلك لا يوصف بالسماع.

الثامن: [أن إضافة المعنى إلى كلام الله دون اللفظ إن كان بمعنى كلام الله- تعالى- علمه به]. فهذا يشتمل على معنى كل شيء، فإن الله- تعالى- بكل شيء عليم.

فعلى هذا: يكون الشعر. [والكلام](3) قرآنا متناسقا (4) معناه معلوما

(1) سورة الكهف الآية 109

(2)

يعني: الرؤية البصرية لا العلمية.

(3)

في الأصل (كلام).

(4)

أي يكون الشعر والكلام قرآنا، يتلى بالمعنى.

ص: 253

لله- تعالى-، فإن كان ذلك [لعدم حضوره](1) في الفكر وبحديث النفس به، فهذا ما لا يجوز إضافته إلى الله- تعالى-، ولا يوصف بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله. ثم من أين علموا ذاك؟!.

التاسع: أن الله- تعالى- أخبر أنه {قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (2){فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (3) و {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (4){فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (5)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن [السفر](6) بالقرآن إلى أرض العدو، والمكتوب في المصاحف والألواح إنما هو اللفظ.

العاشر: أن القرآن كلام الله- تعالى- باتفاقنا (7)، والكلام إنما هو اللفظ المشتمل على الحروف، بدليل قوله تعالى:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (8){فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (9) وأراد اللفظ دون المعنى؛ لأن الوحي إليهم [تضمن](10) المعنى، ولزم منه حضور المعنى في قلبه، وقد نفى كونه كلاما.

وكذلك قوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (11) إلى قوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} (12) والحجة مثل الحجة من الآية الأولى.

وقال الله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} (13).

(1) في الأصل (لا حضاره) والمعنى لعدم وروده في الذهن.

(2)

سورة البروج الآية 21

(3)

سورة البروج الآية 22

(4)

سورة الواقعة الآية 77

(5)

سورة الواقعة الآية 78

(6)

في الأصل (الصافرة). الحديث متفق عليه.

(7)

أي باتفاق أهل العلم المعتبرين.

(8)

سورة مريم الآية 10

(9)

سورة مريم الآية 11

(10)

في الأصل (تظمن) بالطاء المعجمة.

(11)

سورة مريم الآية 26

(12)

سورة مريم الآية 29

(13)

سورة آل عمران الآية 46

ص: 254

وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1)[في اللفظ]، والمعنى في القلب لا يحصل به تكلم.

وقال: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (2).

وقال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} (3).

ومن السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وصاحب جريج وصبي آخر (4)» أراد اللفظ.

وقال صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يسوق بقرة [إذ ركبها] فقالت له: إني لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر (6)» وما هما في القوم، وقال:«وبينما راع يرعى غنما [إذ عدا] ذئب فأخذ شاة فخلصها منه الراعي، فالتفت إليه الذئب وقال: من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري. فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر (8)» وما هما في القوم.

وقال: «إن الله عفا عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به نفسها

(1) سورة النساء الآية 164

(2)

سورة النبأ الآية 38

(3)

سورة يس الآية 65

(4)

متفق عليه. انظر: صحيح البخاري (4/ 140)، ومسلم (4/ 1976).

(5)

صحيح البخاري المناقب (3663)، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2388)، سنن الترمذي المناقب (3695)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 246).

(6)

في الأصل (إذا ركبها). (5)

(7)

انظر الحديث في: صحيح البخاري (4/ 149)، عن أبي هريرة.

(8)

في الأصل (إذ غدا) بالغين المعجمة. (7)

ص: 255

(1) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة بلفظ: " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم به ". البخاري (3/ 119)، ومسلم (1/ 116) وأما اللفظ المذكور أعلاه فهو لابن ماجة. عن أبي هريرة انظر: سننه (1/ 659) وجامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 325).

(2)

في الأصل (يسمي) والصواب: حذف الياء للجزم.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 381).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (7/ 234).

(5)

في الأصل (رجل) بالرفع والصواب ما أثبت. (4)

(6)

(5) نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. قال: مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه

(7)

صحيح. أخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن (20/ 1315) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، وأخرجه الترمذي في كتاب الزهد (4/ 608).

(8)

في الأصل (أمر) بالرفع، والصواب النصب. (7)

ص: 256

الله [من تكلم] فغنم أو سكت فسلم (2)»، والأخبار الدالة على هذا أكثر من أن تحصى، وكذلك الصحابة، فمن ذلك: حديث أبي بكر حين "رأى امرأة من الحمس لا تتكلم، فسأل عنها، فقالوا: حجت مصمتة، فقال: إن هذا لا يحل، فتكلمت".

وقال عمر بن الخطاب: "من كثر كلامه كثر سقطه".

وقال رجل لسلمان: «أوصني. قال: لا تتكلم. قال: فكيف يصبر رجل على أن لا يتكلم؟ قال: فإن كنت لا تصبر عن الكلام فلا

(1) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، والخطيب في الفقيه والمتفقه، والقضاعي في مسند الشهاب، والإمام أحمد في فضائل الصحابة، وفي كتابه (الزهد)، ورواه وكيع بن الجراح في كتابيهما "الزهد". وجميع طرقه عند هؤلاء ضعيفة، وذكر الألباني أن الحديث عنده حسن ا. هـ. قلت: ولعل وقفه على ابن عباس أصح. انظر: فيض القدير (4/ 14)، ومسند الشهاب (1/ 338)، وفضائل الصحابة (2/ 952)، والزهد لأحمد (ص 188)، والزهد لوكيع (2/ 550)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 535)، والفقيه والمتفقه (2/ 148).

(2)

في الأصل (أمن تكلم) والصواب ما أثبت. (1)

ص: 257

تكلم إلا بخير أو اصمت (1)».

ويروى عن سليمان بن داود عليه السلام أنه قال: إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب.

ونظمه بعضهم فقال:

إن كان من فضة كلامك يا

نفسي فإن السكوت من ذهب

وقال مالك بن دينار: لو كلف الناس الصمت لأقلوا من الكلام.

وقال بعض الشعراء: (2).

وحديثها السحر الحلال لو انه

لم يجن قتل المسلم [المتحرز](3)

إن طال لم [يملل](4)

وإن هي أوجزت

ود المحدث أنها لم توجز

وقال آخر:

(1) لم أجده بهذا اللفظ، ومعناه يدل عليه جملة أحاديث صحيحة، كحديث مسلم عن أبي سعيد الخدري:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ". انظر: صحيح البخاري (3/ 1353).

(2)

القائل هو الشاعر علي بن العباس. انظر: الأمالي لأبي علي القالي (1/ 84).

(3)

في الأصل (المتحرزا) وهو خطأ.

(4)

في الأصل (يملك) والصواب ما أثبت.

ص: 258

من الخفرات البيض ود جليسها

إذا ما قضت [أحدوتة (1) لو تعيدها]

وقال آخر:

وحدثني عن مجلس كنت زينه

رسول أمين والوفود شهود

فقلت له ذكر الحديث الذي مضى

وذكرك من بين الحديث أريد

وقال أهل العربية: الكلام من ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف معنى. وقال: الكلام ما أفاد المستمع.

قال الحريري:

حد الكلام ما أفاد السمع

نحو سعى زيد وعمرو متبع

وقالوا: الكلام لا ينتظم إلا من [كلمتين](2)، اسم وفعل، أو اسم وحرف في النداء خاصة.

وأجمع الفقهاء على أن من حلف لا يتكلم، أنه يحنث بالنطق، ولا يحنث بحديث النفس.

(1) ساقطة من الأصل.

(2)

في الأصل (اسمين) والصواب ما ذكرناه؛ لأن الفعل والحرف لا يسميان اسما.

ص: 259

[فصل]

وإذا تقرر أن الكلام هو المشتمل على الحروف المنظومة، والكلمات المعلومة، بطل قول من ادعى أن القرآن اسم للمعنى، لاتفاقنا على أنه كلام الله تعالى.

ص: 259

فإن قالوا: فقد قال الأخطل:.

إن الكلام [لفي](1) الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الكلام دليلا

قلنا: سبحان الله، هذا من أعجب الأشياء وأظرفها، فإنهم تركوا قول الله تعالى، وقول رسوله-صلى الله عليه وسلم، وقول أصحابه، وقول سائر الناس، وقول الشعراء، وقول أهل العربية [الذين](2) ذكروا حقيقة الكلام وشرحوه، وبينوا حده [لكلمة](3) نسبت إلى الأخطل النصراني الخبيث، لا تدري أصحيحة عنه أم متقولة.

وقد سمعت شيخنا أبا محمد بن الخشاب -رحمة الله عليه- وكان إمام أهل عصره في العربية، يقول: قد فتشت دواوين الأخطل العتيقة، فلم أجد هذا البيت فيها.

وقال أبو نصر السجزي: إنما قال الأخطل: إن البيان من الفؤاد، فحرفوه، وقالوا: إن الكلام، ثم لو صح ذلك فإنما سماه كلاما، مجازا.

(1) في الأصل (من) والمحفوظ ما أثبت.

(2)

في الأصل (الذي).

(3)

في الأصل (الكلمة) بالتعريف ولا معنى لها إلا بالتنكير.

ص: 260

يعني: أن عقلاء الناس لا يتكلمون إلا بعد روية وفكر واستحضار معنى الكلام في القلب كما [قيل](1): لسان الحكيم من وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم نظر، فإن كان له قال، وإلا سكت، والأحمق إنما كلامه على طرف لسانه.

ويتعين حمل قوله على المجاز [لثبوت](2) حقيقة الكلام في النطق بما قد ذكرنا يقينا ولأن حقيقة الشيء ما يتبادر إلى الأفهام من إطلاق اللفظ به، وهو ما قلنا، ولأن تأويل كلمة الأخطل [بحملها](3) على مجازها [أولى](4) من تأويل قول الله، وقول رسوله، وقول سائر الخلق.

ثم إن قدرنا أن كلام الأخطل لا يحتمل التأويل؛ فنسبة الخطأ إليه أولى من نسبته إلى أهل العربية الذين ذكروا حقيقة الكلام، وقولهم لا يحتمل التأويل أيضا.

ثم لو قدرنا خلو كلام الأخطل عن [معارض](5)، لم يجز أن يبنى مثل هذا الأصل العظيم وتأسيس مذهب برأسه على كلمة شاذة نادرة لا يعتقدها دليلا مع إمكان خطأ قائلها، فإنه ليس بمعصوم عن الخطأ، ولا هو من أهل الدين والتقى: نصراني يقذف المحصنات، ويهجو الأنصار، ويعيب الإسلام، فلو لم يكن في مذهبهم من العيب، إلا أن أساسه كلمة من قول الأخطل، لكان من أشد العيب، فكيف وقد خالفوا ربهم- تعالى-، ونبيهم-صلى الله عليه وسلم، وسائر أهل اللسان- من المسلمين وغيرهم.

(1) في الأصل (قال) والصواب ما أثبت.

(2)

في الأصل (الثبوت) والصواب ما أثبت.

(3)

في الأصل (مجملها) ولعل الصواب ما أثبت.

(4)

في الأصل (أولا) غير واضحة، ولعل الصواب ما أثبت.

(5)

الكلمة في الأصل غير واضحة ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 261

فما مثلهم إلا كمثل من بنى قصرا شامخا وجعل أساسه أعواد القنب (1) في مجرى السيول.

ولقد حدثني أبو المعالي أسعد بن منجا قال: كنت يوما قاعدا عند الشيخ أبي البيان رحمه الله فجاءه ابن تميم الذي كان يدعى: الشيخ الأمين، فقال له الشيخ بعد كلام جرى بينهما: ويحك ما أنجسكم!! فإن الحنابلة [إذا](2) قيل لهم: ما الدليل على أن القرآن بحرف وصوت؟ قالوا: قال الله- تعالى-، وقال رسوله - وذكر الشيخ الآيات والأخبار- وأنتم إذا قيل لكم: ما الدليل على أن القرآن معنى في النفس؟

(1) يراد به الزرع والكرم. انظر لسان العرب (1/ 690).

(2)

في الأصل (إذ) ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 262

قلتم: قال الأخطل: إن الكلام من الفؤاد أيش هذا النصراني، خبيث بنيتم مذهبكم على بيت شعر من قوله، وتركتم الكتاب والسنة.

فهذا ببديهة العقل يعرف فساده وإذا تأمله متأمل علم أنه لا شيء.

الحادي عشر: أن هذا الكتاب العربي إذا لم يكن كلام الله فكلام من هو؟!.

ص: 263

[فصل]

فإن قالوا: هذا كلام جبريل.

قلنا: هذا فاسد لوجوه:

أحدها: أن المسلمين أجمعين إذا تلوا آية قالوا: قال الله تعالى، فإن [كان](1) هذا قول جبريل، فليقولوا: قال جبريل. وليفصح بذلك هذا القائل ولا ينافق فيعتقد أنه من جبريل، ويظهر موافقة المسلمين في أنه قول رب العالمين.

الثاني: أن هذا بالإجماع كتاب الله. وعلى قوله: هذا كتاب جبريل.

الثالث: أن الحجة عند العلماء إنما هي قول الله- تعالى- وقول رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإجماع أمته. وهذا عند هؤلاء ما هو وارد منها فلم يحتج به. وأين تكون الحجة الثالثة؟!.

(1) ساقطة من الأصل.

ص: 263

الرابع: أن الله تعالى قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَق} (1).

وعلى قولهم: ما نزله من ربك، إنما نزله من كلام نفسه وقوله.

الخامس: أنه قد روي عن النبي-صلى الله عليه وسلم «أن [الله] قرأ طه ويس قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام (3)» .

فعلى هذا يكون الله قرأ كلام جبريل.

السادس: إن كان هذا كلام جبريل وهو مخلوق، فلم تجب الكفارة على من حلف به وحنث؟ والكفارة لا تجب بالحلف بالمخلوق. ولم يمتنع المحدث من مسه، والجنب من قراءته، والمسافر به إلى أرض العدو، ولم جاز للمصلي تلاوته، واشترطت قراءته فيها وفي الخطبة.

السابع: أن الله تعالى قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (4)، وقال:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} (5).

(1) سورة النحل الآية 102

(2)

رواه ابن خزيمة عن أبي هريرة في كتاب التوحيد (ص 166)، والدارمي في سننه (2/ 456)، وفي سنده إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، ضعفه يحيى بن معين وقال عنه:"إنه منكر الحديث". وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حاتم: منكر الحديث جدا. قلت: متن الحديث موضوع. انظر: الضعفاء للعقيلي (1/ 66)، والضعفاء والمتروكين للدارقطني (ص 107)، والمجروحين (1/ 108). وفي سنده عند الدارمي عمر بن حفص بن ذكوان متروك الحديث. انظر: ميزان الاعتدال (3/ 189).

(3)

سقطت من الأصل. (2)

(4)

سورة التوبة الآية 6

(5)

سورة البقرة الآية 75

ص: 264

فعلى قول هؤلاء ما هذا صحيحا (1)، وما يستمع به السامع إلا كلام جبريل، وما عندهم لله- تعالى-[كلام](2) يسمع.

وقال تعالى: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (3)، وقال تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا} (4)، وما عند هؤلاء قرآن يقرأ ولا يسمع.

الثامن: أن النبي-صلى الله عليه وسلم قال: «إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي (5)» ، وقال أبو بكر:"ما هذا كلامي، ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى"(6). وكان عكرمة يقبل المصحف، ويقول: كلام ربي.

وعلى قول هؤلاء: هذا كلام جبريل.

(1) بالنصب خبر (ما) الحجازية: مثل قوله تعالى: " ما هذا بشرا ".

(2)

في الأصل (كلاما) والصواب الرفع.

(3)

سورة الأحقاف الآية 29

(4)

سورة الأعراف الآية 204

(5)

أخرجه الدارمي في سننه (2/ 440)، والإمام أحمد في مسنده (2/ 222 - 229)، والترمذي في جامعه (5/ 184)، وأبو داود؛ مختصر السنن (7/ 127) كلهم رواه عن جابر بن عبد الله.

(6)

ذكره ابن حجر في الفتح 13/ 454.

ص: 265

[فصل]

فإن قالوا: هذا قول محمد-صلى الله عليه وسلم فهذا باطل لهذه الوجوه كلها (1).

ومن وجه آخر: وهو أنهم وافقوا الوليد بن المغيرة هو: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. زعيم من زعماء قريش، وطاغية من طغاتهم، ومات على الشرك، وهو زعيم بني مخزوم، ووالد خالد بن الوليد رضي الله عنه. انظر: الكامل لابن الأثير (2/ 52). في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (2) ولهم من الجزاء ما وعد به الوليد بقوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (3) فهم رفقته في سقر، كما وافقوه في [زعمه](4) إن هذا إلا قول البشر.

ويرد عليهم من الجواب ما أجاب الله- تعالى- به المشركين بقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُون} (5){فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (6)، وقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (7)، وسائر الآيات الدالة على الرد على قائل هذه المقالة، وتصير مناظرتهم مع رب العالمين، وخصمهم أحكم الحاكمين وأصدق

(1) يعني الوجوه الثمانية التي يرد بها على الزعم أن القرآن من كلام جبريل.

(2)

سورة المدثر الآية 25

(3)

سورة المدثر الآية 26

(4)

ساقطة من الأصل.

(5)

سورة الطور الآية 33

(6)

سورة الطور الآية 34

(7)

سورة البقرة الآية 23

ص: 266

الصادقين، وقدوتهم ومشايخهم رءوس المشركين الذين قالوا [فيما قال الله عنهم]:{إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} (1){وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (2).

فنحن نكتفي برد الله تعالى عليهم وما نحتاج إلى شيء سواه، ففي الله- تعالى- كفاية.

ومتى رضوا لأنفسهم بهذا المقام، انقطع معهم الكلام، وزال الحجاج والخصام.

الثاني: أن الله- تعالى- أنزل على عبده الكتاب، وشهد الله وملائكته بإنزاله:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (3).

وعلى قول هؤلاء: ما أنزل الله على بشر من شيء، وردوا شهادة الله وملائكته وكذبوا قوله، تعالى الله عما يقول [الظالمون](4) علوا كبيرا.

وإن قالوا: هذا قولنا [رد](5) عليهم كما ذكرنا، ويزيد أنهم كذبوا الله تعالى في قوله:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (6) وعلى قولهم: قد أتوا بمثله. وقال الله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (7).

(1) سورة الفرقان الآية 4

(2)

سورة الفرقان الآية 5

(3)

سورة الأنعام الآية 114

(4)

بالأصل (الضالون) بالصاد المعجمة، والصواب ما أثبت.

(5)

في الأصل (ورد) والصواب حذف الواو ليستقيم المعنى.

(6)

سورة الإسراء الآية 88

(7)

سورة الطور الآية 34

ص: 267

وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1){فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (2) فأخبر الله أنهم لن يفعلوا، وهؤلاء يقولون: قد فعلنا، وهذا قولنا وكلامنا.

ولعمري ما جسر الكفار- مع فصاحتهم وقدرتهم على أنواع الكلام الفصيح من الشعر والنثر والنظم والخطب البليغة والرسائل الحسنة- على دعوى هذا بعد أن عرض عليهم وتحدوا به، فأقروا بالعجز عنه.

فكيف ادعى هؤلاء مع لكنتهم (3) وعيهم أن هذا الكلام القديم قولهم وتصنيفهم؟!.

الثالث: أن هذا إن كان حقا فيجب أن يفصحوا به ويظهروه لسلاطين المسلمين وعامتهم، ويعلنوه في محافل المسلمين وجماعتهم، ويقولوا على منابر المسلمين: هذا تصنيفنا وكلامنا وتأليفنا وقولنا، ولا يسلكون سبيل الزنادقة الذين أسروا الكفر واعتقدوه، وأظهروا الإسلام ووافقوا المسلمين فيه.

وهؤلاء قد سلكوا مسلكهم، واتبعوا طريقتهم: يعظمون القرآن في الظاهر بين المسلمين ويحترمونه، ويقومون للمصحف ويقبلونه ويرفعونه على رءوسهم، ويقولون: هذا قول الله تعالى، وكلامه القديم وكتابه الحكيم، ثم يعتقدون أنه قولهم وعبارتهم، وأنه كلام للمخلوقين: ما لله في الأرض كلام، ولا هذا بقرآن، ولا في المصاحف إلا الورق والمداد،

(1) سورة البقرة الآية 23

(2)

سورة البقرة الآية 24

(3)

في الأصل (لكنهم) بدون تاء، والصواب ما أثبت، والمعنى كيف يدعون هذا مع عجمتهم.

ص: 268

ولا يشتمل إلا على العفص، والزاج (1)، فعل الزنادقة والطرقية المارقية.

فإن كان قولهم حقا، وجب إظهاره، وتبيينه للخلق ليصير إليه، ويعلموا أنه كما فعل النبي-صلى الله عليه وسلم في إظهار الإسلام وبيان شريعته وتعريفها لمن آمن [به](2) وصدقه، ولم يكتم ذلك عن أمته.

فهلا اقتدوا بالنبي-صلى الله عليه وسلم ولم يقتدوا بالزنادقة والمنافقين الذين أظهروا الإسلام وموافقة أهله، وأسروا الكفر والزندقة.

فإن كان قولهم حقا فقد كتموه [وداهنوا](3) أهل الباطل وأظهروه، وإن كان باطلا فقد أسروا الباطل واعتقدوه، فما خلوا من الباطل في الحالين، والحمد لله على العافية من بلائهم، والسلامة من دائهم.

الرابع: إن كان قولهم فكيف يحتجون به في مناظراتهم ومحاوراتهم، فإن كلام الإنسان ليس بحجة له بغير خلاف.

الخامس: أنهم نسبوا قصائد الشعر إلى قائلها، ولم (4) يدعوا أنها قولهم، ولو ادعوا ذلك لكذبهم الناس أجمعون، ولو أن [إنسانا](5) سرق بيتا من الشعر ادعاه لنفسه، سمي سارقا وعيب بذلك، فكيف من يدعي أنه قال القرآن العظيم الذي اعترف بالعجز عن مثله الخلق كلهم أجمعون.

(1) الزاج: نوع من الأدوية وهو من أخلاط الحبر، فارسي معرب. لسان العرب (2/ 293).

(2)

في الأصل (بها) بدل (به) وما أثبتناه لعله أوضح.

(3)

في الأصل (وواهنوا) من الوهن، ولا معنى له هنا، والصواب ما أثبت.

(4)

في الأصل (ولهم) والصواب ما أثبت.

(5)

في الأصل (إنسان) بالرفع، والصواب النصب.

ص: 269

[فصل]

فإن قيل: فما الدلالة على الصوت في كلام الله تعالى؟، قلنا: الكتاب والسنة والإجماع.

فأما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1)، وقال:{وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (2)، وقال:{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} (3)، والتكلم هو ما يسمعه المكلم ويصل إلى سمعه، ولا يكون إلا بصوت. وكذلك قوله تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (4) والنداء لا يكون إلا [بصوت](5)، وفي القرآن من هذا كثير.

وأما السنة: فقول النبي-صلى الله عليه وسلم: «إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء (6)» ، وروي ذلك موقوفا على عبد الله بن مسعود. فروى عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية (7) أنه قال: قلت:

(1) سورة النساء الآية 164

(2)

سورة الأعراف الآية 143

(3)

سورة البقرة الآية 253

(4)

سورة مريم الآية 52

(5)

في الأصل (صوت) بالرفع والصواب ما ذكرناه.

(6)

لم أطلع عليه بهذا اللفظ: غير أن معناه جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري بلفظ: " إذا أراد الله أمرا في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله ". انظر: صحيح البخاري (5/ 221)، وانظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (ص 154).

(7)

هذا الكتاب لم يطبع بعد، وهو غير كتاب أبيه (الرد على الجهمية) فإنه مطبوع ومتداول.

ص: 270

يا أبت، إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: كذبوا، إنما يدورون على التعطيل. ثم قال: حدثني عبد الرحمن بن [محمد المحارب] عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء"(1).

(1) سبق تخريجه قريبا، فليراجع.

ص: 271

قال أبو نصر [السجزي](1): وأما في رواية الإمام بقوله.

وفي حديث عبد الله بن أنيس أن النبي-صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الله تعالى الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمع من قرب: أنا الملك أنا الديان (2)» .

وفى رواية: فيناديهم بصوت رفيع غير [فظيع](3). ذكره أبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتابه.

وروى أنس [أن](4) النبي-صلى الله عليه وسلم «ذكر أهل الجنة إذا رأوا ربهم-

(1) في الأصل أبو نصر الحري، والصواب ما أثبت.

(2)

متفق عليه، وعند مسلم بلفظ: ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أنا الديان. انظر: البخاري (8/ 194)، ومسلم (4/ 2148).

(3)

في الأصل (فضيع) بالصاد المعجمة، والصواب ما ذكرناه. والحديث صحيح.

(4)

ساقطة من الأصل.

ص: 272

تبارك وتعالى- فيناديهم بلذاذة صوته (1)».

وأما الإجماع: فإننا أجمعنا على أن موسى سمع كلام الله- تعالى- منه بغير واسطة، والصوت هو ما سمع.

وروي عن الصحابة-رضي الله عنهم أجمعين- إضافة الصوت إلى الله بغير نكير من أحد منهم:

فقال ابن مسعود: "إذا تكلم الله بالوحي يسمع صوته أهل السماء"(2)، وفي الخبر:«أن الله تعالى لما كلم موسى عليه السلام ليلة رأى النار فهالته وفزع منها، فناداه ربه: "يا موسى، فأجاب سريعا استئناسا بالصوت: لبيك، لبيك أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ قال: يا موسى أنا فوقك وعن يمينك وعن شمالك وأمامك ومن ورائك» فعلم أن هذه الصفة لا تكون إلا لله تعالى، قال: فكذلك أنت يا إلهي، كلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي اسمع يا موسى.

[وجاء](3) في خبر أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى بم شبهت صوت ربك؟ قال: إنه لا شبه له.

وروي أن موسى لما كلم ربه ثم سمع كلام الآدميين مقتهم، لما وقر في مسامعه من كلام الله تعالى.

(1) متفق عليه. وقد أورد ابن قيم الجوزية الأحاديث الواردة بأسانيدها. انظر: صحيح البخاري (8/ 200)، ومسلم (4/ 1176)، وحادي الأرواح (ص 179 - 201).

(2)

سبق تخريجه في (ص 76)، وأخرجه البخاري تعليقا انظر الفتح (13/ 452).

(3)

في الأصل (جاءت) والصواب ما ذكر.

ص: 273

وهذه الأخبار لم تزل متداولة بين [عدد من](1) الصحابة والتابعين، يرويها [بعضهم](2) لم ينكرها منكر فيكون [إجماعا](3).

فإن قيل: فالصوت لا يكون إلا من حرفين، ولا يوصف الله تعالى بذلك.

قلنا: الجواب عن هذا ما أجبنا به عن [اعتراضهم](4) على الحروف فيما تقدم.

ثم نقول: الصوت ما سمع أو تأتى سماعه، وهذا هو الحد الصحيح، على أن معتمدنا في صفات الله- تعالى- ما صح به النقل عن الله- تعالى-، وعن رسول الله-صلى الله عليه وسلم، ونصف الله- تعالى- بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا نتعدى، ونتبع سنة رسولنا عليه السلام وسنة الخلفاء الراشدين ممتثلين لقوله- عليه السلام:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (5)» .

وقال عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون - وروى معناه عن عمر

(1) في الأصل (بين أهل من) ولم يظهر لنا بها المعنى، ولعل ما ذكر يتضح به المقام.

(2)

في الأصل (بعظهم) بالظاء المعجمة، والصواب ما ذكر.

(3)

في الأصل (إجمالها) وما ذكرناه يستقيم به السياق.

(4)

في الأصل (اعتراظهم) بالظاء المعجمة، والصواب ما ذكر.

(5)

صحيح، أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 126 - 127)، وأبو داود مختصر السنن (7/ 11)، والترمذي (5/ 44)، وابن ماجة (1/ 120).

ص: 274

بن عبد العزيز - فقال: قف حيث وقف القوم فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا (1)، وهم على كشفها كانوا أقوى، و [بالفضل](2) لو كان فيها أحرى (3)، فلئن قلتم: حدث بعدهم حدث فما [أحدثه](4) إلا من رغب عن سنتهم وخالف طريقتهم، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فما دونهم مقصر، ولا فوقهم مجسر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم، ثبتنا الله وإياكم على صراطه المستقيم.

(1) في الأصل (وببصرنا فتكوا)، وهو خطأ، والصواب ما ذكر.

(2)

في الأصل بالفظل، بالطاء المعجمة، والصواب ما ذكر.

(3)

انظر لمعة الاعتقاد (ص 9) طبعة الحلبي.

(4)

في الأصل (أحد به) والصواب ما ذكرت.

ص: 275

فصل

وقد وضح الحق- إن شاء الله- بما ذكرناه من جهة التفصيل، ونذكر في هذا الفصل أمورا تدل على أن الصواب فيما قلنا من جهة الإجمال:

فمنها: أن الحق في اتباع السنة، والضلال في اتباع البدعة، بدليل الآثار والإجماع.

ص: 275

فأما الآثار: فقول النبي-صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1)» ، وما أشبه هذا من الآثار.

وأما الإجماع:

فإننا أجمعنا على أن السنة محمودة، والبدعة مذمومة، وكل واحدة من الطائفتين تدعي أنها هي السنية والأخرى هي المبتدعة، والسنة هي طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم.

والبدعة: ما أحدث في الدين بعدهم بدليل قوله: «وإياكم ومحدثات الأمور (2)» إلى آخر الخبر، وقوله- عليه السلام:«شر الأمور محدثاتها (3)» ، وطريقتنا منقولة عن النبي-صلى الله عليه وسلم وصحابته (4) ومن تبعهم، وقولهم لم ينقل عن النبي-صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته، ولا عن أحد من التابعين.

وقيل: أول من قال به (5) ابن كلاب فهو محدث في

(1) سبق تخريجه، وهو حديث صحيح.

(2)

سنن أبو داود السنة (4607)، سنن الدارمي المقدمة (95).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه. انظر: (8/ 139).

(4)

في الأصل (وصاحبته) والصواب ما أثبت.

(5)

سقطت من الأصل.

ص: 276

الدين، فثبت أنه بدعة، وأنه من شر الأمور، وأن قولنا هو السنة، فيكون صوابا ممدوحا.

الثاني: أن دليل قولنا وأساسه الكتاب والسنة والإجماع.

ودليل قولهم: بيت الأخطل، وشيء من علم الكلام المذموم، فيكون كل قول بمنزلة دليله.

الثالث: أن قولنا ظاهر بين المسلمين، وقولهم: يسرونه ويكتمونه من عامة المسلمين وسلاطينهم.

وبيان ذلك: أننا نعتقد أن هذا القرآن هو القرآن الذي هو كلام الله منزل غير مخلوق، وأنه سور وآيات وحروف وكلمات، وأنه قرآن كريم في كتاب مكنون، وأنه قرآن مجيد في لوح محفوظ، وأنه حيث تلي وقرئ وسمع وحفظ، فهو كلام الله- تعالى- القديم.

ونحن نظهر ذلك ونناظر عليه، وندعو الناس إليه، وتعلمه منا السلاطين والعامة والناس كلهم، إلا من شاء الله تعالى، وهم يقولون: ليس هذا قرآنا، وإنما هو عبارة القرآن وحكايته، وهو مخلوق، فمنهم من يقول: إنه من قول جبريل وتصنيفه. ومنهم من يقول: قول محمد صلى الله عليه وسلم.

ومنهم من يقول: هو قول كل من قرأ، وما هو قرآن ولا كلام الله، وما في المصاحف إلا الحبر والورق والعفص (1) والزاج.

وحقيقة مذهبهم: أن ما لله في الأرض قرآن، ولا في السماء إله، ولا أن [محمدا](2) رسول الله-صلى الله عليه وسلم بل انقطعت رسالته بموته، وهم لا

(1) سبق بيانها.

(2)

في الأصل (محمد) بالرفع والصواب النصب.

ص: 277

يظهرون هذا إلا لبعض الناس، فلو كان قولهم حقا لأظهروه بين المسلمين، ولما احتاجوا إلى ستره.

الرابع: أن أقوالنا متفقة متسقة، وأقوالهم متناقضة مختلفة.

فهم يقولون: أشهد أن محمدا (1) رسول، ولا يعتقدونه رسولا.

ويقولون: إن القرآن مسموع مقروء متلو مكتوب محفوظ، وهم لا يعتقدون أن المسموع قرآن، ولا المقروء (2) ولا المكتوب، ولا يعظمون المصاحف، ويقولون: لا يجوز للمحدث مسها ولا حملها، ومن حلف بها وحنث فعليه الكفارة، وحكامهم يبعثون من عليه اليمين إلى المصحف ليحلف، وهم لا يعتقدون فيه قرآنا ولا شيئا محترما.

ويقولون: موسى سمع كلام الله من الله بغير واسطة، ثم يقولون: كلام معنى في نفسه، ليس بصوت ولا يظهر للحس.

ويردون على المعتزلة قولهم: القرآن مخلوق، ثم يقولون كقولهم: إنه مخلوق.

ويقولون: الله حي موجود يرى في القيامة، ولكن ما هو في سماء ولا أرض، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا يعقل وجوده على هذه الصفة.

الخامس: أن قولنا يستند إلى أئمة الإسلام والسادة الأعلام، المتفق على إمامتهم وعدالتهم، وفضائلهم مشهورة، وأقوالهم مأثورة.

وقول خصومنا يستند إلى قول رجل (3) من أهل الكلام: لا يعرف

(1) في الأصل (محمد) بالرفع والصواب النصب.

(2)

في الأصل (ولا المقري) والصواب ما ذكرناه.

(3)

هو ابن الكلاب، وقد سبقت ترجمته.

ص: 278

[شيئا](1) من علم الإسلام، ولا يعلم القرآن ولا الحديث، ولا الفقه ولا العربية والحساب، ولا شيئا من العلوم سوى علم الكلام المذموم.

وأئمة الإسلام أحق بالإصابة ممن خالفهم.

السادس: أن أهل مقالتنا مخصوصون بالدين، وولاية الله تعالى، فلا يوجد من له كرامة مشهورة وولاية مأثورة إلا منهم، وهم أصحاب الزهد والعبادات والولاية والكرامات، وقد زوى الله عنهم الدنيا وأبرهم بالدين.

وخصومنا أصحاب الجاه والمناصب، وأصحاب المدارس والرباطات والوقوف (2)، والأموال والأولاد، قد آثرهم الله بالدنيا وحرمهم الدين، فهم أبدا على أبواب السلاطين، ونوابهم في طلب الدنيا غارقون (3)، وعلى جمعها حريصون.

ففي حال الفريقين ما يدل ذوي البصائر على أن قولنا هو الحق، فإن الله تعالى وصف أهل الحق في كل الأمم بالضعف وقلة المال، ووصف أهل الباطل بالاستكبار وكثرة الأموال والأولاد، فقال في حق قوم نوح:{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} (4)، وفي قصة ثمود:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (5).

(1) في الأصل (شيء) بالرفع، والصواب النصب.

(2)

هكذا بياض في الأصل.

(3)

في الأصل (غارقين- حريصين) والأولى الرفع كما ذكرناه.

(4)

سورة هود الآية 27

(5)

سورة الأعراف الآية 75

ص: 279

وفي قصة شعيب: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} (1)، وفي قوم نبينا صلى الله عليه وسلم {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (2) الآية.

وقال قيصر - ملك الروم - لما جاءه كتاب النبي-صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، سأل: هل يتبعه ضعفاء الناس أو أقوياؤهم؟ فقيل له: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل في كل عصر وزمان، فاستدل بذلك على أنه رسول، مع كونه ملكا كافرا.

السابع: أن النبي-صلى الله عليه وسلم وصف الدين أنه يعود في آخر الزمان غريبا بقوله: «بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء (3)» .

وأهل مقالتنا في هذا الزمان غرباء مستضعفون في أكثر الأمصار، يضامون ويضطهدون ويخوفون، فهم كأصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم في بداية الإسلام في الضعف وغلبة أعدائهم لهم. فصح- بما ذكرنا من الوجوه- أنهم أهل الحق، وأنهم أتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم[وسالكو](4) الصراط المستقيم، وأنهم الغرباء الذين قال النبي-صلى الله عليه وسلم فيهم:«فطوبى للغرباء (5)» .

(1) سورة الأعراف الآية 88

(2)

سورة الكهف الآية 28

(3)

رواه مسلم في صحيحه. انظر: (1/ 130).

(4)

في الأصل (وسلكوا) ولعل ما ذكرناه صحيح، لاتساقه مع الصفات المذكورة.

(5)

سبق تخريجه قريبا.

ص: 280

فاعتبروا يا إخواني- رحمكم الله- بما أعطاكم الله- تعالى- من كرامته، وخصكم به من اتباع دينه وسنته، تمسكوا بالسنة كما أمركم نبيكم بقوله-صلى الله عليه وسلم:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ (1)» يعني الأضراس.

يريد: استمسكوا بها تمسكا قويا بحيث لا [تلتفتوا](2) إلى غيرها، ولا يفوتكم شيء منها، ولا تنفلت منكم، واجتنبوا ما نهاكم عنه من المحدثات، واشكروا الله تعالى على نعمته عليكم، فقد آتاكم ما لم يؤت [أحدا] من العالمين الذين حرموا السنة وابتلوا بالبدعة والفتنة.

واعلموا أن ما فاتكم من الدنيا ومتاعها في جانب ما أعطيتموه يسير حقير، كما قال الله تعالى:{وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (3).

واعلموا أن الدنيا من أولها إلى آخرها وكل ما فيها في جنب ما يؤتاه أدنى أهل الجنة منزلة - أقل من قطرة بالنسبة إلى البحر، فكيف بما يؤتاه أهل الدرجات العلا، مما لم تره العيون، ولم تسمعه الآذان، ولم يخطر على قلب بشر.

جعلنا الله وإياكم من أهلها، وثبتنا وإياكم على الإسلام والسنة في قوله [واعتقادها](4) وفعلها.

والحمد لله، وصلى الله على محمد النبي الأمي، وآله وصحبه وسلم

(1) سبق تخريجه في (ص 80).

(2)

في الأصل (يلتفتوا) بالياء ولعل ما أثبت أظهر.

(3)

سورة الرعد الآية 26

(4)

في الأصل (وعقدها).

ص: 281

تسليما كثيرا.

قد فرغ من النسخة الأولى المنسوخ منها يوم الخميس سادس جمادى الآخرة سنة 1229هـ.

وقد فرغ من هذا يوم السبت رابع عشر عاشوراء سنة 1256هـ على يد أفقر عباد الله تعالى إليه: عبد العزيز بن سليمان بن عبد الوهاب.

تجاوز الله تعالى عنهم، ورحمهم وجميع المسلمين.

وكان في الأم ما صورته:

فرغ منه يوم الأحد في الغر الأول من ذي الحجة سنة ستة عشر وستمائة.

والله أعلم.

وإلى هنا نصل إلى نهاية المطاف في تحقيق رسالة "البرهان في بيان القرآن ".

فإن كان ثمة توفيق فبفضل الله، أو خطأ فمن طبع الإنسان، وجل من لا عيب فيه.

وإن تجد عيبا فسد الخللا

فجل من لا فيه عيب وخلا

ورحم الله القائل:

كم من كتاب تصفحته

وقلت في نفسي أصلحته

حتى إذا طالعته ثانيا

وجدت تصحيفا فأصلحته

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

سعود بن عبد الله الفنيسان

ص: 282

الموضوعات

محتويات البحث

-المقدمة

- الموفق ابن قدامة

-مولده ونشأته

-شيوخه

-تلاميذه

-آثاره العلمية

-التعريف بالكتاب المحقق

-وصف النسخة الخطية

-موضوع الكتاب المحقق

-منهج التحقيق

-القرآن كلام الله

-الوجه الثاني

-الوجه الثالث والرابع

-الوجه الخامس والسادس

-الوجه السابع والثامن والتاسع

-الوجه العاشر

-الأحاديث القولية على بطلان

-قول أهل التفسير

-من كفر بحرف من القرآن كفر به كله

-أقوال بعض السلف في حروف القرآن

-الإجماع أن القرآن يقرأ ويجمع ويكتب ويحفظ

ص: 283

-أحرف القرآن قديمة أم حادثة؟

-فإن قال القائل: لا يصح قولكم إن القرآن حروف

-أقوال السلف في ذم الكلام

-الأدلة من القرآن بإبطال القول أن الحروف لا تكون إلا من مخارج

-فضيحة الأشاعرة بزعمهم أن القرآن معنى في النفس

-الرد عليهم من عشرة أوجه

-إسناد الكلام إلى البشر حقيقة

-أهل السنة يستدلون بالنصوص والمبتدعة بالشعر المنحول

-القرآن كلام الله وحده

-لوازم قول أهل الضلال في القرآن

-المبتدعة في القرآن جبناء

-أدلة القرآن والسنة على إثبات الصوت لله

-دلالة القرآن على معنى السنة والبدعة

-اتفاق أهل السنة وتناقض خصومهم

-أعداء القرآن يلازمون أبواب السلاطين طلبا للثراء

-أهل القرآن في كل زمان هم قلة

ص: 284