المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أدلة المانعين مطلقا: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ١٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ النشأة التاريخية لفكرة التأمين:

- ‌ أقسام التأمين:

- ‌ وظائف التأمين:

- ‌ أسس التأمين الفني:

- ‌‌‌ أركان التأمينوعناصره:

- ‌ أركان التأمين

- ‌ عناصر عقد التأمين أو أركانه:

- ‌ خصائص عقد التأمين:

- ‌ حق الحلول:

- ‌ مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر:

- ‌ وثيقة التأمين أو ما يسمى ببوليصة التأمين:

- ‌ أنواع وثيقة التأمين:

- ‌ المشاركة في التأمين:

- ‌ التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:

- ‌ تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها:

- ‌الخلاصة:

- ‌أدلة المانعين مطلقا:

- ‌ قالوا: عقود التأمين من القمار والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:

- ‌ قالوا التأمين يتضمن ربا النساء والفضل وكل منهما ممنوع

- ‌ قالوا: التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا

- ‌قالوا: التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع

- ‌الرأي الثاني الجواز مطلقا:

- ‌ثانيا- أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة

- ‌ من يسمح بدخول المجلات التي فيها صور ومقالات محرمة شرعا إلى بيته وإلى أهله

- ‌ حضور المرأة حفلات الزواج وأعياد الميلاد

- ‌ أكل الحلزون والتمساح

- ‌ حان وقت الصلاة والإنسان مسافر ولا ماء معه للوضوء

- ‌ وسم أذن الدابة أو خرقها أو قرضها جزئيا أو كليا

- ‌ استعمال المسبحة بعد الصلاة

- ‌ الاستعانة بالأنبياء والأولياء

- ‌ جامع زوجته وهي ما زالت في الحيض

- ‌شعري أبيض وأريد صبغ لحيتي قاصدا كسب الرزق

- ‌ الحاجز بين الرجال والنساء في المسجد

- ‌ إمامة العبد وولد الزنا في الصلاة

- ‌ القنفذ هل أكله حلال أم حرام

- ‌ يأخذ زوجته إلى طبيب مسلم أو كافر ليعالجها

- ‌ مواظبة السلام ومصافحة الإمام والجالس على اليمين والشمال دبر كل صلاة

- ‌ قراءة القرآن في المسجد جماعة

- ‌ قراءة القرآن جماعة بصوت واحد بعد كل من صلاة الصبح والمغرب

- ‌ بعض أئمة المساجد وغيرهم يصبغون لحاهم بالصبغ الأسود هل هذا جائز أم حرام

- ‌ المسافة التي يمكن أن يقصر فيها المسافر الصلاة المكتوبة

- ‌ تأثير الجن على الإنس أو الإنس على الجن

- ‌ قراءة سورة قصيرة أو ما تيسر من القرآن الكريم بعد الفاتحة بركعتي السنة الراتبة

- ‌ صلاة مسافر خلف إمام مقيم

- ‌ الصلاة خلف إمام يعتقد في صاحب قبر صالح

- ‌ وضع الصورة الشمسية في الجيب أثناء الصلاة

- ‌ صناعة الخل في بعض البلدان يدخل فيها النبيذ أو البيرة

- ‌ يحلق الخدين المسمين بالعارضين ويترك اللحية

- ‌ أداء صلاة الجمعة بمدينة واحدة في مسجدين

- ‌ الاستعانة بقبور الأولياء أو النذر لهم أو اتخاذهم وسطاء عند الله

- ‌ تنتقل من بلد زوجها إلى بلد وليها لتقضي مدة الحداد عنده

- ‌أسئلة في أحكام الحج

- ‌القضاء والحكم بشريعة الإسلامبين توحيد المشرع ومتابعة المبلغ

- ‌القضاء والحكم في اللغة:

- ‌القضاء والحكم في القرآن

- ‌لفظ الحكم في القرآن:

- ‌القضاء والحكم في السنة

- ‌القضاء بالشريعة بين التوحيد والمتابعة:

- ‌مولده ونشأته:

- ‌شيوخه وتلاميذه:

- ‌آثاره العلمية:

- ‌فضله وعلمه:

- ‌وفاته:

- ‌التعريف بالكتاب المحقق

- ‌اسمه وتوثيق نسبته للمؤلف:

- ‌وصف النسخة الخطية:

- ‌من هو الناسخ:

- ‌موضوع الكتاب وأهميته:

- ‌منهج التحقيق:

- ‌ القرآن كلام الله

- ‌نفقة المرأة الواجبة على نفسهافي الفقه الإسلامي

- ‌إنفاق الإنسان على نفسه

- ‌الأصل في الإنفاق على المرأة

- ‌ نفقة المرأة غير المتزوجة:

- ‌ نفقة الزوجات:

- ‌الحالات التي يتحقق بها إلزام المرأة بالإنفاق على نفسها

- ‌المرأة باعتبار لزوم النفقة

- ‌ كونها غير زوجة:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌أدلة المانعين مطلقا:

‌أدلة المانعين مطلقا:

أ- التأمين عقد من عقود الغرر وعقود الغرر ممنوعة.

وقبل ذكر كلام المحدثين في الاستدلال بهذا الدليل ومناقشتهم نذكر معنى الغرر لغة واصطلاحا وأقسامه، وبيان ما يكون من أقسامه سببا في تحريم العقد وما لا يكون:

معنى الغرر لغة واصطلاحا:

لما ذكر أحمد بن فارس بن زكريا أن الغرر له أصول ثلاثة صحيحة وذكر منها النقصان قال: ومن الباب بيع الغرر، وهو الخطر الذي لا يدرى أيكون أم لا، كبيع العبد الآبق والطائر في الهواء، فهذا ناقص لا يتم البيع فيه أبدا (1).

ونقل ابن منظور عن أبي زيد: والغرر الخطر، «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (2)» ، وهو مثل بيع السمك في الماء، والطير في الهواء، والتغرير حمل النفس على الغرر، وقد غرر بنفسه تغريرا وتغرة، كما يقال حلل تحليلا وتحلة، وعلل تعليلا وتعلة، وقيل: بيع الغرر المنهي عنه ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول. يقال: إياك وبيع الغرر. قال بيع الغرر أن يكون على غير عهدة ولا ثقة، قال الأزهري، ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي لا يحيط كنهها المتبايعان حتى تكون معلومة، وفي حديث مطرف: إن لي نفسا واحدة وإني أكره أن أغرر بها، أي: أحملها على غير ثقة، قال: وبه سمي الشيطان غرورا؛ لأنه يحمل الإنسان على محابه وراء ذلك ما يسوءه كفانا الله فتنته، وفي حديث الدعاء: وتعاطي ما نهيت عنه تغريرا، أي: مخاطرة وغفلة عن عاقبة أمره، وفي الحديث: لأن أغتر بهذه الآية

(1) معجم مقاييس اللغة 4/ 380 - 381.

(2)

صحيح مسلم البيوع (1513)، سنن الترمذي البيوع (1230)، سنن النسائي البيوع (4518)، سنن أبو داود البيوع (3376)، سنن ابن ماجه التجارات (2194)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 439)، سنن الدارمي البيوع (2563).

ص: 71

يريد قوله تعالى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) وقوله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (2) المعنى أن أخاطر بتركي مقتضى الأمر بالأولى- أحب إلي من أن أخاطر بالدخول تحت الآية الأخرى (3).

وقال ابن الأثير: الغرر ماله ظاهر تؤثره وباطن تكرهه، فظاهره يغر المشتري وباطنه مجهول (4).

وأما كلام الفقهاء، فقد قال السمرقندي في أثناء الكلام على أنواع البيوع الفاسدة قال: ومنها أن يكون في المبيع وفي ثمنه غرر مثل بيع السمك في الماء وهو لا يقدر على تسليمه بدون الاصطياد والحيلة، وبيع الطير في الهواء، أو بيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه إليه؛ لأنه باع ما ليس بمملوك له للحال، وفي ثبوته غرر وخطر (5).

وأما المذهب المذهب المالكي فإن القرافي رحمه الله ذكر بحثا في الفرق بين الجهالة والغرر من حيث الحقيقة والأثر، نصه ما يلي:

اعلم أن العلماء قد يتوسعون في هاتين العبارتين فيستعملون إحداهما موضع الأخرى، وأصل الغرر هو الذي لا يدري هل يحصل أم لا، كالطير في الهواء، والسمك في الماء، وأما ما علم حصوله وجهلت صفته فهو المجهول، كبيعه ما في كمه، فهو يحصل قطعا، لكن لا يدري أي شيء هو.

فالغرر والمجهول كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، فيوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه، أما وجود الغرر بدون الجهالة، فكشراء العبد الآبق المعلوم قبل الإباق لا جهالة فيه، وهو غرر؛ لأنه

(1) سورة الحجرات الآية 9

(2)

سورة النساء الآية 93

(3)

لسان العرب 6/ 317 ويرجع أيضا إلى القاموس 2/ 99 وما بعدها.

(4)

جامع الأصول 1/ 527 - 528.

(5)

تحفة الفقهاء 2/ 66 - 67.

ص: 72

لا يدري هل يحصل أم لا، والجهالة بدون الغرر كشراء حجر يراه لا يدري أزجاج هو أم ياقوت، مشاهدته تقتضي القطع بحصوله فلا غرر، وعدم معرفته تقتضي الجهالة به.

وأما اجتماع الغرر والجهالة فكالعبد الآبق المجهول الصفة قبل الإباق.

ثم الغرر والجهالة يقعان في سبعة أشياء في الوجود كالآبق قبل الإباق، والحصول إن علم الوجود كالطير في الهواء، وفي الجنس كالسلعة لم يسمها، وفي النوع كعبد لم يسمه، وفي المقدار كالبيع إلى مبلغ رمي الحصاة، وفي التعيين كثوب من ثوبين مختلفين، وفي البقاء كالثمار قبل بدو صلاحها، فهذه سبعة موارد للغرر والجهالة، ثم الغرر والجهالة ثلاثة أقسام: كثير ممتنع إجماعا كالطير في الهواء، وقليل جائز إجماعا كأساس الدار وقطن الجبة، ومتوسط اختلف فيه هل يلحق بالأول أو الثاني، فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير، ولانحطاطه عن الكثير ألحق بالقليل، وهذا هو سبب اختلاف العلماء في فروع الغرر والجهالة. اهـ (1).

وقال محمد بن علي بن حسين بعد ذكره للأقسام السبعة المتقدمة، وبقى الجهل بالأجل إن كان هناك أجل، والجهل بالصفة، فهذه تسعة موارد للغرر من جهة الجهالة (2).

وقال القرافي: الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر، وقاعدة مالا يؤثر فيه ذلك من التصرفات.

وردت الأحاديث الصحيحة في «نهيه عليه السلام عن بيع الغرر (3)» «وعن

(1) الفروق 3/ 265 - 266.

(2)

تهذيب الفروق 3/ 271.

(3)

صحيح مسلم البيوع (1513)، سنن الترمذي البيوع (1230)، سنن النسائي البيوع (4518)، سنن أبو داود البيوع (3376)، سنن ابن ماجه التجارات (2194)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 439)، سنن الدارمي البيوع (2563).

ص: 73

بيع المجهول» واختلف العلماء بعد ذلك، فمنهم من عممه في التصرفات وهو الشافعي، فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح وغير ذلك. ومنهم من فصل وهو مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة، وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال، وما يقصد به تحصيلها، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة، فالطرفان أحدهما معاوضة صرفة، فيجتنب فيه ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة كما تقدم أن الجهالات ثلاثة أقسام، فكذلك الغرر والمشقة، وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال، كالصدقة والهبة والإبراء فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال. بل إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه، فإنه لم يبذل شيئا، بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه، فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئا وهذا فقه جميل، ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة منصوص صاحب الشرع، بل إنما وردت في البيع ونحوه، وأما الواسطة بين الطرفين فهو النكاح. . . إلخ (1).

وقال محمد علي حسين مبينا أقسام الجهالة والغرر ما نصه:

وذلك أن الغرر والجهالة كما يؤخذ مما مر ثلاثة أقسام، وقسم

(1) الفروق 1/ 15.

ص: 74

أبو الوليد الغرر إلى ثلاثة أقسام: كثير وقليل ومتوسط، وجعل الكثير عبارة عن القسمين الأولين في هذا التقسيم، فقال في بداية المجتهد: الفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز، وأن القليل يجوز، ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر؛ لترددها بين الغرر الكثير والقليل. اهـ (1).

وأما المذهب الشافعي فقد قال النووي: وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ولهذا قدمه مسلم، ويدخل في مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهما، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه، ونظائر ذلك، كل هذا بيع باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة، وقد يحتمل بعض الغرر بيعا إذا دعت إليه الحاجة، كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن فإنه يصح البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير منها: أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها، ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز، وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة ونحو ذلك شهرا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوما، وقد يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين وعكس هذا، وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في

(1) تهذيب الفروق 1/ 170.

ص: 75

البطون والطير في الهواء. قال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده ما ذكرناه، وهو أنه إن دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة - وكان الغرر حقيرا - جاز البيع، وإلا فلا، وما وقع في بعض مسائل الباب من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها وفساده - كبيع الغائبة - مبني على هذه القاعدة، فبعضهم يرى أن الغرر حقير فيجعله كالمعدوم فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع، والله أعلم (1).

قال الخطابي على هذا الحديث: قال الشيخ أصل الغرر هو ما طوي عنك علمه وخفى عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك: طويت الثوب على غره، أي: على كسره الأول، كل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ومعجوز عنه غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل أن يبيعه سمكا في الماء، أو طيرا في الهواء، أو لؤلؤا في البحر، أو عبدا آبقا، أو جملا شاردا، أو ثوبا في جراب لم يره ولم ينشره، أو طعاما في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمرة شجرة لم تثمر، ونحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدرى هل تكون أو لا، فإن البيع مفسوخ فيها. وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع، وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها، وأبواب الغرر كثيرة، وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل (2).

(1) شرح النووي على مسلم 10/ 156، 157.

(2)

مختصر وشرح وتهذيب أبى داود 5/ 47، 48.

ص: 76

وأما الغرر عند الحنابلة، فقد قال موسى الحجاوي: الخامس - أي شروط البيع - أن يكون مقدورا على تسليمه، فلا يصح بيع آبق علم مكانه أو جهل ولو لقادر على تحصيله، وكذا جمل شارد وفرس غائر

ص: 76

ونحوهما ولا نحل ولا طير في الهواء، يألف الطير الرجوع أو لا، ولا سمك في لجة ماء (1).

وأما كلام بعض الفقهاء المعاصرين، فقال الصديق محمد الأمين الضرير: عقد التأمين من العقود الاحتمالية عند جمهرة رجال القانون؛ لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطا واحدا ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم المؤمن به، وقد لا تقع الكارثة مطلقا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا ماديا، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي أو يأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وإن كان يستطيع إلى حد كبير أن يعرف ما يأخذ وما يعطي بالنسبة لمجموع المستأمنين عن طريق الاستعانة بقواعد الإحصاء، وقد يحدث في حالات نادرة أن تطرأ ظروف غير متوقعة تؤدي إلى زيادة تحقق الخطر كزيادة نسبة الوفيات لحدوث وباء، أو زيادة نسبة الحريق في المحصول لحدوث الجفاف، فتضطر شركات التأمين في مثل هذه الأحوال لدفع مبالغ أكثر مما كانت تتوقع، والعقد الاحتمالي هو عقد الغرر، وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن بيع الغرر، وقاس الفقهاء عقود المعاوضات المالية على البيع. وعقد التأمين من عقود المعاوضات المالية فيؤثر فيه الغرر كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات، وقد قسم الفقهاء الغرر بالنسبة لتأثيره في عقود المعاوضات المالية ثلاثة أقسام:

1 -

غرر كثير، وهذا يؤثر في عقود المعاوضات فيفسدها إجماعا كبيع الطير في الهواء إلا ما دعت الضرورة إليه عادة.

2 -

غرر يسير، وهذا لا تأثير له إجماعا كقطن الجبة وأساس الدار.

(1) الإقناع 2/ 64.

ص: 77

3 -

غرر متوسط وهذا مختلف فيه، فبعض الفقهاء يلحقه باليسير وبعضهم يلحقه بالكثير.

والغرر في التأمين ليس يسيرا قطعا فهو إما من الغرر الكثير أو المتوسط، وأرجح أنه من الغرر الكثير؛ لأن من أركان عقد التأمين التي لا يوجد بدونها " الخطر" والخطر هو حادثة محتملة لا تتوقف على إرادة أحد الطرفين، والتأمين لا يجوز إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، فالغرر عنصر ملازم لعقد التأمين، ومن الخصائص التي يتميز بها. وهذا يجعله من الغرر المنهي عنه.

يقول الباجي في المنتقى: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر يقتضي فساده ومعنى بيع الغرر - والله أعلم - ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر، فهذا الذي لا خلاف في المنع منه.

وهذا الضابط ينطبق على عقد التأمين، وقد أورد الباجي في أثناء كلامه عن بيع الغرر مسألة توافق صورة من صور التأمين على الحياة تعرف في اصطلاح علماء القانون "بالتأمين لحال البقاء براتب عمري وهو أن يتعهد المؤمن بدفع إيراد لمدى الحياة نظير مبلغ متجمد يدفعه له المستأمن ". يقول الباجي (ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته، روى ابن المواز عن أشهب: لا أحب ذلك ولا أفسخه إن وقع. وقال أصبغ: هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ. وقال ابن القاسم عن مالك: لا يجوز إذا قال على أن ينفق عليه حياته، قال الصديق محمد الضرير: فهذه الصورة من صور التأمين غير جائزة عند هؤلاء الفقهاء لما فيها من غرر، ويفسخ العقد إن وقع إلا عند أشهب، فإنه لا يفسخ العقد مع منعه له ابتداء (1).

(1) أسبوع الفقه الإسلامي 461 وما بعدها.

ص: 78

وقد أجاب الأستاذ مصطفى الزرقا عن كون عقد التأمين فيه غرر بقوله: إن الغرر في اللغة العربية هو الخطر، والمراد به في هذا المقام الشرعي أن يكون أصل البيع الذي شرع طريقا لمعاوضة محدودة النتائج والبدلين، قائما على مخاطرة أشبه بالقمار والرهان بحيث تكون نتائجه ليست معاوضة محققة للطرفين، بل ربحا لواحد وخسارة لآخر بحسب المصادفة.

وبالنظر فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيوع تطبيقا لما نهى من الغرر يتضح لنا المقصود من الغرر في الحديث النبوي.

فقد نهى النبي عليه السلام تطبيقا لذلك عن بيع المضامين، وهي ما سوف ينتج من أصلاب فحول الإبل الأصيلة من أولاد.

ونهى عن بيع الملاقيح، وهي ما ستنتجه إناث الإبل الأصيلة من نتاج. ونهى أيضا عن ضربة القانص، وهي بيع ما ستخرجه شبكة الصياد البحري من السمك أو ما يقع في شبك الصياد البري من حيوان أو طير. . . ونهى أيضا عن بيع ضربة الغائص، وهي ما سيخرجه الغواص من لؤلؤ في غوصته المقبلة، ونهى أيضا عن بيع الثمار على الأشجار في بداية انعقادها قبل أن يبدو صلاحها وتأمن العاهة، وقال للسائل عنها:«أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يستحل أحدكم مال أخيه (1)» تلك المناهي النبوية تطبيق للنهي عن الغرر وهي كما يرى من طبيعة واحدة تدل على نوع المقصود وقد قرر الفقهاء بناء على هذا النظر عدم انعقاد بيع الأشياء غير مقدورة التسليم، أي: التي لا يستطيع البائع فيها التنفيذ العيني بتسليم المبيع ذاته، ولو كانت معيبة بذاتها لا جهالة فيها عند العقد، كبيع طير في الهواء، أو سمكة في الماء لا يمكن أخذها إلا بصيد؛ لأن صيدها غير موثوق بإمكانه فيكون ذلك غررا، وإذا نظرنا أيضا إلى أن عنصر المغامرة والاحتمال والمخاطرة في حدوده الطبيعية، قلما تخلو منه أعمال الإنسان

(1) صحيح البخاري البيوع (2199)، صحيح مسلم المساقاة (1555)، سنن الترمذي البيوع (1228)، سنن النسائي البيوع (4526)، سنن أبو داود البيوع (3371)، سنن ابن ماجه التجارات (2217)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 250)، موطأ مالك البيوع (1304).

ص: 79

وتصرفاته المشروعة باتفاق المذاهب.

فالتجارة والزراعة والكفالة وسائر الأعمال والتصرفات التي يبتغى من ورائها مكاسب حيوية هي معرضة للأخطار، وفاعلها مقدم على قدر من الغرر، والمغامرة لا تخلو منه طبيعة الأشياء، إذا نظر ذلك وتأملنا في أنواع التصرفات التي خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي تطبيقا للنهي عن الغرر، ومنها ما قد علل النبي عليه السلام نفسه نهيه عنه بالغرر، أدركنا أن الغرر المنهي عنه هو نوع فاحش متجاوز لحدود الطبيعة، بحيث يجعل العقد كالقمار المحض، اعتمادا على الحظ المجرد في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل، فلا يصلح أن يكون أساسا يعتمد عليه في تصرفات اقتصادية كما في الأمثلة المتقدمة لأنها ترتكز على أسس موهومة.

فإذا طبقنا هذا المقياس على نظام التأمين وعقده وجدنا الفرق كبيرا، فعقد التأمين فيه معاوضة محققة النتيجة فور عقده حتى إني لأنتقد على القانونيين عدة من العقود الاحتمالية دون تحفظ، فالتأمين فيه عنصر احتمالي بالنسبة إلى المؤمن فقط، حيث يؤدي التعويض إلى المستأمن إن وقع الخطر المؤمن عنه، فإن لم يقع لا يؤدي شيئا، على أن هذا الاحتمال أيضا إنما هو بالنسبة إلى كل عقد تأمين على حده، لا بالنسبة إلى مجموع العقود التي يجريها المؤمن، ولا بالنسبة إلى نظام التأمين في ذاته؛ لأن النظام وكذا مجموع العقود يرتكزان على أساس إحصائي ينفي عنصر الاحتمال حتى بالنسبة للمؤمن عادة.

أما بالنسبة إلى المستأمن فإن الاحتمال فيه معدوم؛ ذلك لأن المعاوضة الحقيقية في التأمين بأقساط إنما هي بين القسط الذي يدفعه المستأمن وبين الأمان الذي يحصل عليه، وهذا الأمان حاصل للمستأمن بمجرد العقد دون توقف على الخطر المؤمن منه بعد ذلك؛ لأنه بهذا الأمان الذي حصل عليه واطمأن إليه لم يبق بالنسبة إليه فرق بين وقوع الخطر

ص: 80

وعدمه، فإنه إن لم يقع الخطر ظلت أمواله وحقوقه ومصالحه سليمة، وإن وقع الخطر عليها أحياها التعويض، فوقوع الخطر وعدمه بالنسبة إليه سيان بعد عقد التأمين، وهذا ثمرة الأمان والاطمئنان الذي منحه إياها المؤمن نتيجة للعقد في مقابل القسط، وهنا المعاوضة الحقيقية على أن عنصر الاحتمال قد قبله الفقهاء في الكفالة ولو عظم، فقد نصوا على أن الإنسان لو قال لآخر: تعامل مع فلان وما يثبت لك عليه من حقوق فأنا كفيل به، صحت الكفالة هكذا، رغم الاحتمال في وجود الدين في المستقبل وجهالة مقداره؟.

وصرحوا بصحة تعليقها على الخطر المحض في الشرط الملائم، كما لو قال الشخص لدائن: إن أفلس مدينك فلان أو مات في هذا الشهر مثلا أو إن سافر فأنا كفيله، فإن الكفالة تنعقد صحيحة ويلتزم بموجبها إن وقع الشرط.

فعلى فرض وجود غرر في عقد التأمين ليس هو من الغرر الممنوع شرعا، بل من النوع المقبول، فإن قيل: إن الأمان ليس مالا يقابل بعوض؟ قلنا: إن الأمان أعظم ثمرات الحياة، وهو الذي امتن الله به على قريش بقوله:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (1){الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (2) وإن الإنسان يسعى ويكد ويكدح ويبذل أغلى الأثمان من ماله وراحته في سبيل الحصول على الأمان والاطمئنان لنفسه ولأسرته ولحقوقهم ولمستقبلهم، فأي دليل في الشرع يثبت أنه لا يجوز الحصول عليه لقاء مقابل؟ هذا تحكم في شرع الله.

وإننا نجد في بعض العقود القديمة المتفق بين جميع المذاهب الفقهية على شرعيتها ما يشهد لجواز بذل المال بطريق التعاقد بغية الاطمئنان والأمان على الأموال، ذلك هو عقد الاستئجار على الحراسة (3).

(1) سورة قريش الآية 3

(2)

سورة قريش الآية 4

(3)

أسبوع الفقه الإسلامي 401 وما بعدها.

ص: 81

وأجاب الأستاذ أبو زهرة عن ذلك فقال:

ولقد قرر المانعون لعقد التأمين غير التعاوني أن فيه غررا، فمحل العقد فيه غير ثابت، وغير محقق الوجود، فيكون كبيع ما تخرجه شبكة الصائد وكبيع ما يكون في بطن الحيوان، ووجه المشابهة أن المبيع في هذه الصور غير معلوم محله، وغير مؤكد الوجود، بل الوجود فيه احتمالي، وكذلك التأمين غير التعاوني محل العقد غير ثابت، فما هو محل العقد؟ أهو المدفوع من المستأمن، أم المدفوع من الشركة المؤمنة، أم هما معا باعتبار أن ذلك العقد من الصرف، ولا يكون مخرجا إلا على ذلك النحو، ولا شك أن ما يدفعه المستأمن غير متعين، فقد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وقد يكون كل ما نص عليه في الاتفاق، وما تدفعه الشركة قد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وفي الكثير لا تدفع شيئا، بل ترد ما أخذت مضافا إليه بعض ما كسبت، فهل يكون كل ذلك خاليا من الغرر؟.

ويقرر الأستاذ أن التفاوت في المبادلات لا يمنع الصحة، ونقول: إنه لا تفاوت هنا فقط، إنما هو الاحتمال وعدم التعيين، والاختلاف في قيم الأبدال في المعاوضات العادية لا احتمال فيها، وحيث كان الاحتمال فهو الغرر والقمار فليس ثمة بدل يتعين قليلا أو كثيرا، ولذلك قرر فقهاء القانون المدني أن عقد التأمين عقد محله احتمالي ولا مانع عندهم من جوازه، ولكن الأستاذ الجليل مصطفى الزرقا يقول: لا غرر مطلقا، بل لا احتمال في محل العقد، فإن كل العقد هو الأمان (1).

(1) أسبوع الفقه الإسلامي 520 وما بعدها.

ص: 82

ب - عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم.

وقبل ذكر كلام المحدثين في الاستدلال بذلك والمناقشة نذكر كلام الفقهاء في المصادر التي رجع إليها المانعون في استدلالهم على تحريم التأمين.

ص: 82

لقد وردت أدلة في حكم بيع المجهول نذكر منها ما فيه كفاية، ثم نذكر كلام الفقهاء في حكم بيع المجهول.

أما الأدلة فمنها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين وعن بيعتين، ونهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر بثوبه ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض (1)» الحديث. هذه رواية البخاري ومسلم إلا أن اللفظ للبخاري.

قال ابن الأثير: الملامسة والمنابذة قد مر تفسيرهما في الحديث ونزيدها هنا بيانا. قال: هو أن يقول إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يلمس المبيع من وراء ثوب ولا ينظر إليه، ثم يقع البيع عليه، وهذا هو بيع الغرر والمجهول.

وأما المنابذة فهي أن يقول أحد المتبايعين للآخر: إذا نبذت إلي الثوب ونبذته إليك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع.

وقال الفقهاء نحو ذلك في الملامسة والمنابذة وهذا لفظهم.

قالوا الملامسة: أن يقول: مهما لمست ثوبي فهو مبيع منك، وهو باطل؛ لأنه تعليق وعدول عن الصيغة الشرعية، وقيل: معناه أن يجعل اللمس بالليل في ظلمة قاطعا للخيار، ويرجع ذلك إلى تعليق اللزوم وهو غير نافذ، قالوا: والمنابذة في معنى الملامسة، وقيل: معناه أن يتنابذ السلع وتكون معاطاة فلا ينعقد بها البيع عند الشافعي رحمه الله (2).

(1) صحيح البخاري اللباس (5820)، سنن أبو داود الصوم (2417)، سنن ابن ماجه اللباس (3559)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 6).

(2)

جامع الأصول 1/ 24 - 525.

ص: 83

ومنها ما رواه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة (1)» ، وكان بيعا يبتاعه أهل الجاهلية، وكان الرجل يبتاع لحم الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها، هذه رواية الموطأ، وفي رواية البخاري ومسلم قال «كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة (2)» ، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وفي أخرى للبخاري نحوه وقال: ثم تنتج التي في بطنها، وفي أخرى له قال:«كانوا يبتاعون الجزور إلى حبل الحبلة فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه (3)» ، ثم فسره نافع: أن تنتج الناقة ما في بطنها.

قال ابن الأثير: " حبل الحبلة " مصدر سمي به المحمول كما سمي بالحمل، وإنما أدخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه، وذلك أن معناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن يكون أنثى، وإنما نهى عنه؛ لأنه غرر، والحبل الأول يراد به ما في بطن النوق، والثاني حبل الذي في بطن النوق (4).

وأما معنى المجهول في اللغة والاصطلاح، فقال أحمد بن فارس بن زكريا في مادة "جهل " الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما خلاف العلم. . . فالأول الجهل نقيض العلم، ويقال للمفازة التي لا علم بها مجهل (5).

وقال الفيروز أبادي: " جهله " كسمعه جهلا وجهالة ضد علمه (6).

وقال أيضا: والجهل نقيض العلم، جهله يجهله جهلا وجهالة، وجهل

(1) صحيح البخاري البيوع (2143)، صحيح مسلم البيوع (1514)، سنن الترمذي البيوع (1229)، سنن النسائي البيوع (4625)، سنن أبو داود البيوع (3380)، سنن ابن ماجه التجارات (2197)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 108)، موطأ مالك البيوع (1357).

(2)

صحيح البخاري المناقب (3843)، صحيح مسلم البيوع (1514)، سنن الترمذي البيوع (1229)، سنن النسائي البيوع (4625)، سنن أبو داود البيوع (3380)، سنن ابن ماجه التجارات (2197)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 144)، موطأ مالك البيوع (1357).

(3)

صحيح البخاري السلم (2256)، صحيح مسلم البيوع (1514)، سنن الترمذي البيوع (1229)، سنن النسائي البيوع (4625)، سنن أبو داود البيوع (3380)، سنن ابن ماجه التجارات (2197)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 144)، موطأ مالك البيوع (1357).

(4)

جامع الأصول 1/ 489 - 490.

(5)

معجم مقاييس اللغة 1/ 489

(6)

القاموس 3/ 342.

ص: 84

عليه أظهر الجهل كتجاهل وهو جاهل. . . والجهل على ثلاثة أضرب:

الأول: خلو النفس من العلم هذا هو الأصل وقد جعل بعض المتكلمين الجهل معنى مقتضيا للأفعال الخارجة عن النظام، كما جعل العلم معنى مقتضيا للأفعال الجارية على النظام.

الثاني: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.

الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا، كمن ترك الصلاة عمدا، وعلى ذلك قوله تعالى:{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (1) فجعل فعل الهزو جهلا (2).

وقال ابن منظور في مادة "جهل ": الجهل نقيض العلم، وقد جهله فلان جهلا وجهالة وجهل عليه وتجاهل أظهر الجهل، عن سيبويه. . .

والمعروف في كلام العرب جهلت الشيء إذا لم تعرفه (3). انتهى المقصود.

(1) سورة البقرة الآية 67

(2)

بصائر ذوي التمييز / 2/ 405، 406.

(3)

لسان العرب 13/ 136، 137

ص: 85

وأما كلام الفقهاء: فقد ذكر السمرقندي من البيوع الفاسدة هذا النوع، فقال: منها أن يكون المبيع مجهولا أو الثمن مجهولا جهالة توجب المنازعة؛ لأنها مانعة عن التسليم والتسلم، وبدونهما يكون البيع فاسدا؛ لأنه لا يفيد مقصوده، بيانه: إذا اشترى شاة من قطيع، أو اشترى أحد الأشياء الأربعة بكذا على أنه بالخيار بين أن يأخذ واحدا منها ويرد الباقي، أو اشترى أحد الأشياء الثلاثة، أو أحد الشيئين ولم يذكر فيه الخيار، فأما إذا ذكر الثلاثة أو الاثنين وشرط الخيار لنفسه بين أن يأخذ واحدا ويرد الباقي فهذا جائز

ص: 85

استحسانا اعتبارا بشرط الخيار ثلاثة أيام.

وهل يشترط فيه ذكر مدة خيار الشرط، اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا يشترط، وكذا إذا باع العبد بمائة شاة من هذا القطيع ونحوه، لا يجوز لجهالة الثمن.

فأما الجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة فلا تمنع الجواز، فإنه إذا باع قفيزا من صبرة معينة بدراهم، أو باع هذا العدل من الثياب بكذا ولا يعرف عددها، أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعرف عدد القفزان جاز لما ذكرنا، وعلى هذا: إذا اشترى شيئا لم يره، بأن اشترى فرسا مجللا، أو جارية منتقبة، أو كرى حنطة في هذا البيت، أو عبدا تركيا في هذا البيت، فإنه يجوز إذا وجد كذلك وللمشتري الخيار، وعند الشافعي فاسد، ولو باع هذا العبد بقيمته فهو فاسد؛ لأن القيمة تعرف بالحزر والظن، وكذا لو اشترى عدلا زطيا أو جرابا هرويا بقيمته لما قلنا، ولو اشترى بحكم البائع أو المشتري أو بحكم فلان فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وكذلك لو اشترى شيئا بألف درهم إلا دينارا أو بمائة دينار إلا درهما؛ لأن معناه إلا قدر قيمة الدينار، وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة. ولو باع وقال هو بالنسيئة كذا وبالنقد كذا فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وكذا لو قال بعت إلى أجل كذا أو كذا فهو فاسد؛ لأن الأجل مجهول، ولو باع إلى الحصاد والدياس أو إلى رجوع الحاج وقدومهم فالبيع فاسد لما ذكرنا، ولو باع عدلا زطيا برأس مال أو برقمه ولا يعلم المشتري رقمه ولا رأس ماله فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول

(1).

وقال القرافي: الفرق الثامن والمئتان بين قاعدة ما يمنع فيه الجهالة وبين قاعدة ما يشترط فيه الجهالة، بحيث لو فقدت فيه الجهالة فسد:

(1) تحفة الفقهاء 2/ 62 وما بعدها.

ص: 86

أما ما تفسده الجهالة فهو البياعات كما تقدم، وكثير من الإجارات، ومن الإجارات قسم لا يجوز تعيين الزمان فيه، بل يترك مجهولا، وهو الأعمال في الأعيان كخياطة الثياب ونحوها، لا يجوز أن يعين زمان الخياطة بأن يقول له اليوم مثلا، فتفسد؛ لأن ذلك يوجب الغرر بتوقع تعذر العمل في ذلك اليوم، بل مصلحته ونفي الغرر عنه أن يبقى مطلقا، وكذلك الجعالة لا يجوز أن يكون العمل فيها محدودا معلوما؛ لأن ذلك يوجب الغرر في العمل بأن لا يجبر الآبق في ذلك الوقت ولا بذلك السفر المعلوم، بل نفي الغرر عن الجعالة بحصول الجهالة فيها، والجهالة في هذين القسمين شرط إن كانت في غيرهما مانعا، وههنا قاعدة شرعية تعرف بجمع الفرق، وهي أن يكون المعنى المناسب يناسب الإثبات والنفي أو يناسب الضدين، ويترتبان عليه في الشريعة وهو قليل في الفقه، فإن الوصف إذا ناسب حكما نافى ضده، أما اقتضاؤه لهما فبعيد كما تقدم بيانه في الجعالات والإجارات.

ومن ذلك أيضا الحجر يقتضي رد التصرفات وإطلاق التصرفات في حالة الحياة صونا لمال المحجور عليه على مصالحه، وتنفذ وصاياه صونا لماله على مصالحه؛ لأنا لو رددنا الوصايا لحصل المال للوارث ولم ينتفع به المحجور عليه، فصار المال على المصالح يقتضي تنفيذ التصرفات ورد التصرفات، وكذلك القرابة توجب البر بدفع المال، وتوجب المنع من دفع المال إذا كان زكاة، فيحرموا إياها وتعطى لغيرهم بسبب القرابة، وكذلك أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب برهم بسد خلاتهم بالمال، ويحرم دفع المال إليهم إذا كان زكاة، فصار قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب دفع المال ومنع المال باعتبار مالين ونسبتين، وكذلك كل معنى يوجب مصلحة أو يفسده ويوجب نقيضها في محل آخر، وباعتبار نسبة آخرى، فإنه يوجب الضدين وهو ضابط جميع الفرق، وسمي بذلك؛ لأنه يجمع المفرقات وهي الأضداد، فكذلك الجهالة توجب الإخلال بمصالح العقود في البياعات وأكثر أنواع الإجارات فكانت مانعة، ووجودها يوجب تحصيل مصلحة عقد

ص: 87

الجعالة حتى يبقى المجعول له على طلبه، فيجبر الآبق فلا يذهب عمله المتقدم مجانا، فإنا إذا قيدنا عليه العمل وقدرناه معلوما، فإذا فعل ذلك العمل المعلوم ولم يجد الآبق ذهب عمله مجانا فضاعت مصلحة العقد (1).

وقال الغزالي في كلامه على شروط البيع قال: " الخامس العلم " وليكن المبيع معلوم العين والقدر والصفة؛ أما العين فالجهل به مبطل، ونعنى به أنه لو قال: بعت منك عبدا من العبيد أو شاة من القطيع بطل. ولو قال: بعت صاعا من هذه الصبرة، وكانت معلومة الصيعان صح، ونزل على الإشاعة وإن كانت مجهولة الصيعان لم يصح على اختيار القفال لتعذر الإشاعة ووجود الإبهام، وإبهام ممر الأرض المبيعة كإبهام نفس المبيع، وبيع بيت من دار دون حق الممر جائز على الأصح، أما القدر فالجهل به فيما في الذمة ثمنا أو مثمنا مبطل، كقوله بعت بزنة هذه الصنجة، ولو قال بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم؛ صح وإن كانت مجهولة الصيعان؛ لأن تفصيل الثمن معلوم وإن لم يعلم جملته، والغرر ينتفي به، فإن كان معينا فالوزن غير مشروط، بل يكفي عيان صبرة الحنطة والدراهم، فإن كان تحتها دكة تمنع تخمين القدر فيخرج على قولي بيع الغائب لاستواء الغرر، وقطع بعض المحققين بالبطلان لعسر إثبات الخيار مع جريان الرؤية. أما الصفة ففي اشتراط معرفتها بالعيان قولان: اختار المزني الاشتراط، وأبطل البيع ما لم يره، ولعله أصح القولين. . . (2)

وقال ابن قدامة في التمثيل لمفهوم الشرط السادس من شروط البيع " الجهالة " قال:

(1) الفروق 4/ 12، 13.

(2)

الوجيز 1/ 81.

ص: 88

ولا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الضرع، والمسك في الفأر، والنوى في الثمر، ولا الصوف على الظهر، وعنه يجوز بشرط جزه في الحال، ولا يجوز بيع الملامسة، وهو أن يقول: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، ولا بيع المنابذة، وهو أن يقول: أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا. . . (1) إلخ ما ذكره من الأمثلة.

وقد أجاب الأستاذ الزرقا عن هذا الدليل، فقال:

إن فقهاء الحنفية كانوا في قضية الجهالات التي تصاحب العقود عباقرة في تحليلهم الدقيق لطبيعة الجهالة وتمييزهم في آثارها بحسب أنواعها، فهم لا يحكمون ببطلان العقد وإفساده متى داخلته الجهالة مطلقا دون تمييز كما يفعل سواهم، بل يميزون بين جهالة تؤدي إلى مشكلة تمنع تنفيذ العقد وجهالة لا تأثير لها في التنفيذ، فالنوع الأول وهو الجهالة التي تمنع التنفيذ هو الذي يمنع صحة العقود، كما لو قال شخص لآخر " بعتك شيئا وأجرتك شيئا بكذا " ولم يعين الشيء، أو عينه ولكن لم يعين الثمن أو الأجرة، وقبل الآخر العقد بهذه الجهالة، وكذا لو باع شاة من قطيع تتفاوت آحاده، فهذا كله وأمثاله لا يصح؛ لأن هذه الجهالة تتساوى معها حجج الفريقين ويقع القاضي في مشكلة منها تمنع التنفيذ؛ لأن البائع والمؤجر يريدان تسليم الأدنى وأخذ الأعلى بحجة عدم التعيين، والمشتري والمستأجر يريدان أخذ الأعلى وإعطاء الأدنى بحجة عدم التعيين ذاتها أيضا، فالجهالة حجة متساوية للطرفين فتمنع التنفيذ، فتمنع صحة العقد.

أما الجهالة التي لا تؤدي إلى هذه النتيجة فلا تؤثر في العقد مهما عظمت، كما لو صالح شخص آخر على جميع الحقوق التي له عليه كافة

(1) المقنع 2/ 13، 14

ص: 89