الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه الأمر في المستقبل، والشك في التماثل كتحقق التفاضل، فيتبين أنه لا يتأتى التخلص من الربا في عقود التأمين إلا بالقضاء على التأمين المعروف واجتثاثه من أصوله.
ويمكن أن يناقش الجواب الآخر بأن تكون قسط التأمين من جزأين جزء يغطي الضرر والآخر يدخر لا أثر له في الحكم بحل أو بحرمه، فإن الحكم بذلك مبني على ما في عقود التأمين من ربا الفضل والنساء، لا على تجزئة المبلغ وتوزيعه إلى جهات نفع أو ضر، فمآلها وتوظيفها بعد استحقاقها أو الحصول عليها له حكم آخر.
هـ-
قالوا: التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا
إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين.
وفيما يلي بيان معنى الرهان، ودليل حكمه شرعا، ثم كلام بعض العلماء على الأدلة، ثم بيان وجه كون التأمين رهانا مع مناقشة ذلك.
أما معنى الرهان فقال فيه ابن منطور نقلا عن ابن الأعرابي: والرهان والمراهنة المخاطرة، وقد راهنه وهم يتراهنون وأرهنوا بينهم خطرا بدلوا منه ما يرضى به القوم بالغا ما بلغ فيكون لهم سبقا، وراهنت فلانا على كذا مراهنة خاطرته.
وأما دليل حكم الرهان من الشرع ففي المسند لأحمد من حديث أنس رضي الله عنه أنه قيل له: «أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، والله لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له يقال له سبحة فسبق الناس فبش لذلك وأعجبه (1)» .
وقد راهن الصديق رضي الله عنه المشركين وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له فروى الترمذي في جامعه في حديث سفيان الثوري عن
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/ 256)، سنن الدارمي الجهاد (2430).
حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «في قول الله تعالى: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم أولياؤهم أهل الأوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي بكر رضي الله عنه، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنهم سيغلبون فذكروه لهم فقالوا: اجعلوا بيننا وبينكم أجلا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلت إلى دون العشر، قال سعيد والبضع ما دون العشر، قال ثم ظهرت الروم بعد، قال فذلك قوله: قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم (9)» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي جامعه أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت {الم} (10){غُلِبَتِ الرُّومُ} (11){فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} (12) إلى قوله {بِضْعِ سِنِينَ} (13) وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب، وذلك قوله تعالى:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (14){بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (15) وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {الم} (16) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (17) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (18) {فِي بِضْعِ سِنِينَ} (19) فقال ناس من قريش: فذلك بيننا وبينكم بزعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، قال: وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم نجعل البضع وهو ثلاث سنين إلى سبع سنين، فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه. قال: فسموا بينهم ست سنين، قال: فمضت الست سنين قبل أن
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3193).
(2)
سورة الروم الآية 1 (1){الم}
(3)
سورة الروم الآية 2 (2){غُلِبَتِ الرُّومُ}
(4)
سورة الروم الآية 3 (3){فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}
(5)
سورة الروم الآية 1 (4){الم}
(6)
سورة الروم الآية 2 (5){غُلِبَتِ الرُّومُ}
(7)
سورة الروم الآية 3 (6){فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}
(8)
سورة الروم الآية 4 (7){فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}
(9)
سورة الروم الآية 5 (8){بِنَصْرِ اللَّهِ}
(10)
سورة الروم الآية 1
(11)
سورة الروم الآية 2
(12)
سورة الروم الآية 3
(13)
سورة الروم الآية 4
(14)
سورة الروم الآية 4
(15)
سورة الروم الآية 5
(16)
سورة الروم الآية 1
(17)
سورة الروم الآية 2
(18)
سورة الروم الآية 3
(19)
سورة الروم الآية 4
يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين؛ لأنه قال {فِي بِضْعِ سِنِينَ} (1) قال: أسلم عند ذلك ناس كثير. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الجامع أيضا من حديث ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مناحبته: ألا أخفضت. وفي لفظ: ألا احتطت، فإن البضع من الثلاث إلى التسع (2)» . من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس.
قال ابن القيم: وقوله في الحديث "مناحبته " فالمناحبة المخاطرة، وهي المراهنة من النحب وهو النذر، وكلاهما مناحب هذا بالعقد وهذا بالنذر وقوله: ألا أخفضت. يجوز أن يكون من الخفض وهو الدعة، والمعنى هلا نسفت المدة فكنت في خفض من أمرك ودعة، ويجوز أن يكون من الخفض الذي هو من الانخفاض، أي هلا استزلتم إلى أكثر مما اتفقتم عليه. وقوله في اللفظ الآخر: هلا احتطت، هو من الاحتياط، أي هلا أخذت بالأحوط وجعلت الأجل أقصى ما ينتهي إليه البضع فإن النص لا يتعداه.
وقوله " وذلك قبل تحريم الرهان " من كلام بعض الرواة ليس من كلام أبى بكر ولا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن القيم أيضا: وقد اختلف أهل العلم في أحكام هذا الحديث ونسخه على قولين:
فادعت طائفة نسخه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر والقمار، قالوا: ففي الحديث دلالة على ذلك وهو قوله، وذلك قبل تحريم الرهان، قالوا: ويدل على نسخه ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (3)» . والسبق بفتح السين والباء، وهو الحظ الذي وقع عليه الرهان، وإلى هذا القول ذهب أصحاب مالك والشافعي وأحمد. وادعت طائفة أنه محكم غير منسوخ، وأنه ليس مع مدعي نسخه حجة يتعين المصير إليها.
قالوا: والرهان لم يحرم جملة فإن النبي صلى الله عليه وسلم راهن في تسبيق الخيل كما تقدم، وإنما الرهان المحرم على الباطل الذي لا منفعة فيه في الدين. وأما الرهان
(1) سورة الروم الآية 4
(2)
سنن الترمذي تفسير القرآن (3191).
(3)
سنن الترمذي الجهاد (1700)، سنن أبو داود الجهاد (2574)، سنن ابن ماجه الجهاد (2878)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 474).
على ما فيه ظهور أعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، كما راهن عليه الصديق فهو من أحق الحق، وهو أولى بالجواز من الرهان على النصال أو سباق الخيل والإبل أدنى من هذا في الدين وأقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان وبالسيف والقصد الأول إقامته بالحجة والسيف منفذ.
قالوا: وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد - فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة الذي به تفتح القلوب ويعز الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى، وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية، قال أرباب هذا القول: والقمار المحرم هو أكل المال بالباطل فكيف يلحق به أكله بالحق، قالوا: والصديق لم يقامر قط في جاهلية ولا إسلام، ولا أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قمار فضلا عن أن يأذن فيه وهذا تقرير قول الفريقين (1).
وقال ابن العربي في أثناء الكلام على فقه حديث مراهنة أبي بكر للمشركين، قال: إن الله حرم أكل المال بالباطل، ومنه المناحبة على رهن، وقد كان ذلك يجري في صدر الإسلام كما كان يجري سائر الأحكام قبل بيان وجود الحلال والحرام حتى أنزل الله الآيات وفصل ذلك كله تفصيلا، ولم يبق من ذلك شيء يستعمل إلا في سباق الخيل ونحوه تحريضا على الجهاد وتحضيضا به على التأهب للأعداء والاستعداد المبين في بحث الجهاد.
وأما بيان كون التأمين رهانا فإن كلا من التأمين والرهان معلق على خطر، تارة يقع وتارة لا يقع، وقد أجاب الأستاذ مصطفى الزرقا على ذلك
(1) الفروسية 5/ 6.