الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
18 - سورة الكهف
[مقدمة]
«ذكر ما ورد في فضلها وأنها عصمة من الدجال»
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» (رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي)، طريق أخرى: قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . ورواه مسلم أيضاً والنسائي، وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيِّ:«مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ من الكهف» فذكره. حديث آخر: عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لَهُ من الدجال» (أخرجه النسائي في سننه).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
- 2 - قَيِّمًا لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
- 3 - مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً
- 4 - وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا
- 5 - مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِبًا
قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمَدُ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ، عِنْدَ فَوَاتِحَ الأمور وخواتمها عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى إِنْزَالِهِ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا اللَّهُ على أهل الأرض، إذا أَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، حَيْثُ جَعَلَهُ كِتَابًا مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، واضحاً بيناً جلياً، نذيراً للكافرين بشيراً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أَيْ لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اعْوِجَاجًا وَلَا زَيْغًا وَلَا مَيْلًا، بَلْ جَعَلَهُ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا، وَلِهَذَا قَالَ:{قَيِّماً} أَيْ مُسْتَقِيمًا، {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} أَيْ لِمَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، يُنْذِرُهُ بَأْسًا
شَدِيدًا عُقُوبَةً عَاجِلَةً فِي الدُّنْيَا، وَآجِلَةً فِي الأخرى، {من لدنه} أي من عند الله، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} أَيْ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ جَمِيلَةً، {مَّاكِثِينَ فِيهِ} فِي ثَوَابِهِمْ عِندِ اللَّهِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، خَالِدِينَ فِيهِ {أَبَداً} دَائِمًا، لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا انقضاء، وقوله:{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ {مَا لَهُمْ بِهِ مِّنْ عِلْمٍ} ، أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ الذي افتروه وائتفكوه، {ولا لآبائهم} أي لأسلافهم، {كَبُرَتْ كَلِمَةً} كبرت كلمتهم هذه، وفي هَذَا تَبْشِيعٌ لِمَقَالَتِهِمْ وَاسْتِعْظَامٌ لِإِفْكِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أَيْ لَيْسَ لها مستند سوى قولهم ولا دليل عَلَيْهَا إِلَّا
كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ:{إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} .
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق في سبب نزول هذه السورة الكريمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ (النَّضْرَ بن الحارث) و (عتبة بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ) إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ:، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فخرجا حتى أتيا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال، فقالوا: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بهن فهو نبي مرسل، وإلاّ فرجل متقول فتروا فِيهِ رَأْيَكُمْ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ، بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ؟ وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لم يخبركم فإنه رجل مقتول فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ؛ فَأَخْبَرُوهُمْ بِهَا، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يا محمد! لأخبرنا، فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أُخْبِرُكُمْ غَدًا عما سَأَلْتُمْ عَنْهُ» ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسَ عشرة ليلة لا يحدث الله له فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ عليه السلام، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا محمد غداً واليوم خمس عشرة، قد أصحبنا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من اللَّهِ عز وجل بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وَخَبَرُ مَا سألوه عنه من خبر الفتية والرجل والطواف، وقول الله عز وجل {يسألونك عَنِ الروح؟ قُلِ الروح} الآية.
- 6 - فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
- 7 - إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا
- 8 - وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه فِي حُزْنِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حسرات} ، وقال:{وَلَا تَحْزَنْ عليهم} ، وَقَالَ:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} ، بَاخِعٌ: أَيْ مَهْلِكٌ نَفْسَكَ بِحُزْنِكَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قال: {فعلك بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ
إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} (أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وأبو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من الفضيلة، فأحزنه حزناً شديداً، فأنزل الله: {فعلك بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثارهم} الآية) يَعْنِي الْقُرْآنَ، {أَسَفاً} يَقُولُ: لَا تُهْلِكْ
نَفْسَكَ أَسَفًا، قَالَ قَتَادَةُ: قاتلٌ نَفْسَكَ غَضَبًا وَحُزْنًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَزَعًا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ أَيْ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ بَلْ أَبْلِغْهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عليها، ولا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارًا فَانِيَةً مُزَيَّنَةً بِزِينَةٍ زائلة، وإنما جعلها دار اختيار لَا دَارَ قَرَارٍ، فَقَالَ:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زينة لهم لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} . عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» . ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى بزوالها وفنائها وذهابها، وخرابها، فقال تَعَالَى:{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أَيْ وَإِنَّا لَمُصَيِّرُوهَا بَعْدَ الزِّينَةِ إِلَى الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، فَنَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَيْهَا هَالِكًا {صَعِيداً جُرُزاً} لَا يُنْبَتُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، كَمَا قال ابن عباس: يَهْلَكُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَيَبِيدُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَعِيداً جُرُزاً} بَلْقَعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا نَبَاتٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يبصرون}؟.
- 9 - أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
- 10 - إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
- 11 - فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا
- 12 - ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف {أَمْ حَسِبْتَ} يَعْنِي يَا مُحَمَّدُ {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} أَيْ لَيْسَ أَمْرُهُمْ عَجِيبًا فِي قُدْرَتِنَا وَسُلْطَانِنَا فَإِنَّ خلق السماوات والأرض وتسخير الشمس والقمر وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ - أَعْجَبُ مِنْ أَخْبَارِ أصحاب الكهف، كما قال مجاهد: قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ من ذلك، وقال ابن عباس: الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَا أَظْهَرْتُ مِنْ حُجَجِي عَلَى الْعِبَادِ أَعْجَبَ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، وَأَمَّا الْكَهْفُ: فَهُوَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ، وَهُوَ الَّذِي لَجَأَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ الْمَذْكُورُونَ، وَأَمَّا الرقيم: فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ وَادٍ قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَمَّا الْكَهْفُ فَهُوَ غَارُ الْوَادِي، والرقيم اسم الوادي، وقال مجاهد: الرقيم كتاب بُنْيَانَهُمْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ هُوَ الْوَادِي الَّذِي فِيهِ كهفهم. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّقِيمُ الْجَبَلُ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرَّقِيمُ لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ كَتَبُوا فِيهِ قِصَصَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ثُمَّ وَضَعُوهُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الرَّقِيمُ الْكِتَابُ، ثُمَّ قرأ {كتاب مرقوم} وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن جرير، قال الرقيم بمعنى مرقوم، كما يقال لِلْمَقْتُولِ قَتِيلٌ وَلِلْمَجْرُوحِ جَرِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أُولَئِكَ الْفِتْيَةِ الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ لِئَلَّا يَفْتِنُوهُمْ عنه فهربوا منهم فلجأوا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ لِيَخْتَفُوا عَنْ قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا حِينَ دَخَلُوا سَائِلِينَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَتَهُ وَلُطْفَهُ بِهِمْ:{رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أَيْ هَبْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً تَرْحَمُنَا بِهَا وَتَسْتُرُنَا عَنْ قَوْمِنَا، {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} أَيْ اجْعَلْ عَاقِبَتَنَا رَشَدًا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:«وَمَا قَضَيْتَ لَنَا مِنْ قَضَاءٍ فاجعل عاقبته رشداً» . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ النار وَعَذَابِ الْآخِرَةِ» ، وَقَوْلُهُ:{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} أَيْ أَلْقَيْنَا عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حِينَ دَخَلُوا إِلَى الْكَهْفِ فَنَامُوا سِنِينَ كَثِيرَةً {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أَيْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ تِلْكَ، وَخَرَجَ أَحَدُهُمْ بِدَرَاهِمَ مَعَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ بِهَا طَعَامًا يَأْكُلُونَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ، وَلِهَذَا قَالَ:{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ} أَيِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِمْ {أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} قِيلَ: عَدَدًا، وقيل: غاية.
- 13 - نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
- 14 - وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطًا
- 15 - هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
- 16 - وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أمركم مرفقا
من ههنا شَرَعَ فِي بَسْطِ الْقِصَّةِ وَشَرْحِهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ وَهُمُ الشَّبَابُ، وَهُمْ أَقْبَلُ لِلْحَقِّ وَأَهْدَى لِلسَّبِيلِ مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ قَدْ عَتَوْا وانغمسوا فِي دِينِ الْبَاطِلِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْتَجِيبِينَ لله تعالى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم شَبَابًا. وَأَمَّا الْمَشَايِخُ مِنْ قُرَيْشٍ فَعَامَّتُهُمْ بَقُوا عَلَى دِينِهِمْ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَهَكَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِتْيَةً شباباً. وقال مُجَاهِدٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي آذَانِ بَعْضْهِمُ الْقِرَطَةُ، يَعْنِي الْحَلَقَ، فَأَلْهَمَهُمُ اللَّهُ رُشْدَهُمْ، وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ فَآمَنُوا بِرَبِّهِمْ، أَيْ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} استدل بهذه الآية وأمثالها على زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَفَاضُلِهِ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} ، كَمَا قَالَ:{وَالَّذِينَ اهتدوا زَادَهُمْ هدى تقواهم} ، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عِيسَى ابن مريم، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى: وَصَبَّرْنَاهُمْ عَلَى مخالفة قومهم، وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَالسَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِ الرُّومِ وَسَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا يَوْمًا فِي بَعْضِ أَعْيَادِ قَوْمِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ مجتمع في السنة يجتمعون فِي ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالطَّوَاغِيتَ ويذبحون لها، وكان لها مَلِكٌ جَبَّارٌ عَنِيدٌ يُقَالُ لَهُ (دَقْيَانُوسُ) وَكَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ لِمُجْتَمَعِهِمْ
ذَلِكَ وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ مَعَ آبَائِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُمْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِمْ، عَرَفُوا أَنَّ هَذَا الَّذِي يَصْنَعُهُ
قَوْمُهُمْ مِنَ السُّجُودِ لِأَصْنَامِهِمْ وَالذَّبْحِ لَهَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ؛ فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَخَلَّصُ مِنْ قومه وينحاز عنهم، واتخذوا لَهُمْ مَعْبَدًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ، فَعَرَفَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ فَوَشَوْا بِأَمْرِهِمْ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ بِالْحَقِّ وَدَعَوْهُ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهًا} وَ «لَنْ» لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ: أَيْ لَا يَقَعُ مِنَّا هَذَا أَبَدًا لِأَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَكَانَ بَاطِلًا، وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ:{لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أَيْ بَاطِلًا وَكَذِبًا وَبُهْتَانًا، {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أَيْ هَلَّا أَقَامُوا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا صَحِيحًا، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ، يَقُولُونَ: بَلْ هُمْ ظَالِمُونَ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَيُقَالُ إِنَّ مَلِكَهُمْ تهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم وأجّلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا لطف الله بهم فإنهم تَوَصَّلُوا إِلَى الْهَرَبِ مِنْهُ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ فِي النَّاسِ أَنْ يَفِرَّ الْعَبْدُ مِنْهُمْ خَوْفًا عَلَى دِينِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:«يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ أَحَدِكُمْ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرَ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» (الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي سعيد)، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُشْرَعُ الْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ وَلَا تُشْرَعُ فِيمَا عَدَاهَا، لِمَا يَفُوتُ بِهَا من ترك الجماعات والجمع، فلما عَزْمُهُمْ عَلَى الذَّهَابِ وَالْهَرَبِ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:{وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ} : أَيْ وَإِذَا فَارَقْتُمُوهُمْ وَخَالَفْتُمُوهُمْ بِأَدْيَانِكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، فَفَارِقُوهُمْ أَيْضًا بِأَبْدَانِكُمْ، {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ}: أَيْ يَبْسُطْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةً يَسْتُرُكُمْ بِهَا مِنْ قومكم {ويهيىء لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ} الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، {مِّرْفَقاً} أَيْ أَمْرًا تَرْتَفِقُونَ به، فعند ذلك خرجوا هرباً إِلَى الْكَهْفِ، فَأَوَوْا إِلَيْهِ فَفَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَتَطَلَّبَهُمُ الْمَلِكُ، فَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِ خَبَرَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ حِينَ لَجَأَ إِلَى (غَارِ ثَوْرٍ).
- 17 - وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً
أخبر تعالى أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا دَخَلَتْهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَزَاوَرُ عنه {ذَاتَ اليمين} ، قال ابن عباس {تَّزَاوَرُ}: أَيْ تَمِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ في الأفق تقلص بِارْتِفَاعِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} أَيْ تَدْخُلُ إِلَى غَارِهِمْ مِنْ شِمَالِ بَابِهِ وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِمَعْرِفَةِ الْهَيْئَةِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَابُ الْغَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ لَمَا دَخَلَ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ وَلَا تَزَاوَرَ الْفَيْءُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ لَمَا
دَخَلَتْهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ، بَلْ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَزَلْ فِيهِ إِلَى الْغُرُوبِ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ ولله الحمد. وقال ابن عباس ومجاهد:{تَّقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَأَرَادَ مِنَّا فَهْمَهُ وَتَدَبُّرَهُ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِمَكَانِ هَذَا الْكَهْفِ فِي أَيِّ الْبِلَادِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ لَنَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ لَأَرْشَدْنَا الله تعالى ورسوله إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَعْلَمْتُكُمْ بِهِ» . فَأَعْلَمَنَا تَعَالَى بِصِفَتِهِ وَلَمْ يُعْلِمْنَا بِمَكَانِهِ فَقَالَ: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} ، قال مالك: تَمِيلُ، {ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} أَيْ فِي متسع منه داخلاً، بحيث لا تصيبهم، إِذْ لَوْ أَصَابَتْهُمْ لَأَحْرَقَتْ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} حَيْثُ أرشدهم إِلَى هَذَا الْغَارِ الَّذِي جَعَلَهُمْ فِيهِ أَحْيَاءً وَالشَّمْسُ وَالرِّيحُ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِتَبْقَى أَبْدَانُهُمْ، ولهذا قال تعالى:{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} ثُمَّ قَالَ: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} أَيْ هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ إِلَى الْهِدَايَةِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
- 18 - وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
ذكر أَنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ بِالنَّوْمِ، لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليهم البلى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُقَلَّبُونَ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُقَلَّبُوا لَأَكْلَتْهُمُ الأرض، وقوله:{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} الوصيد الفناء، وقال ابن عباس: بالباب، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَحْرُسُ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَهَذَا مِنْ سَجِيَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ حَيْثُ يَرْبِضُ بِبَابِهِمْ، كَأَنَّهُ يَحْرُسُهُمْ، وَكَانَ جُلُوسُهُ خَارِجَ الْبَابِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، كَمَا وَرَدَ في الصحيح، ولا صورة ولا جنب، وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النوم على تلك الحال، وهذه فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذكر وخبر وشأن، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى عَلَيْهِمُ الْمَهَابَةَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ نَظَرُ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ إِلَّا هَابَهُمْ لِمَا أُلْبِسُوا مِنَ الْمَهَابَةِ وَالذُّعْرِ، لِئَلَّا يَدْنُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا تَمَسَّهُمْ يَدُ لَامِسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالرَّحْمَةِ الواسعة.
- 19 - وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ
مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
- 20 - إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أبداً
يقول تعالى: كما أَرْقَدْنَاهُمْ بَعَثْنَاهُمْ صَحِيحَةً أَبْدَانُهُمْ، وَأَشْعَارُهُمْ وَأَبْشَارُهُمْ، لَمْ يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً، وذلك بعد ثلثمائة سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ، وَلِهَذَا تَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ {كَم لَبِثْتُمْ} ؟ أَيْ كَمْ رَقَدْتُمْ؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يوم} لأنه كَانَ دُخُولُهُمْ إِلَى الْكَهْفِ فِي أَوَّلِ نَهَارٍ، وَاسْتِيقَاظُهُمْ كَانَ فِي آخِرِ نَهَارٍ، وَلِهَذَا اسْتَدْرَكُوا فقالوا:
{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي أَعْلَمُ بِأَمْرِكُمْ، وَكَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ نَوْعُ تَرَدُّدٍ فِي كَثْرَةِ نَوْمِهِمْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ عَدَلُوا إِلَى الْأَهَمِّ فِي أَمْرِهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَهُوَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَقَالُوا:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} أَيْ فِضَّتِكُمْ هَذِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ دَرَاهِمَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا، فَتَصَدَّقُوا مِنْهَا وَبَقِيَ مِنْهَا؛ فَلِهَذَا قَالُوا {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} أَيْ مدينتكم التي خرجتم منها {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً} أَيْ أَطْيَبُ طَعَامًا، كقوله:{ما زكى منكم أحد أبداً} ، وقوله:{قَدْ أَفْلَحَ من تزكى} ، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره. وقوله {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي في خروجه وإيابه، يقولون وليختف كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، {وَلَا يُشْعِرَنَّ} أَيْ وَلَا يُعْلِمَنَّ {بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} أَيْ إِنْ عَلِمُوا بِمَكَانِكُمْ {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} يَعْنُونَ أَصْحَابَ دَقْيَانُوسَ، يَخَافُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَكَانِهِمْ، فَلَا يزالون يعذبونكم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوكم فِي مِلَّتِهِمُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا أَوْ يَمُوتُوا،
وإن وافقتموهم عَلَى الْعَوْدِ فِي الدِّينِ فَلَا فَلَاحَ لَكُمْ في الدينا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} .
- 21 - وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا
يَقُولُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} : أَيْ أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمُ النَّاسَ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فيها} ذكر واحد من السلف، أنه قد حصل لأهل الزَّمَانِ شَكٌّ فِي الْبَعْثِ وَفِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ أَهْلَ الْكَهْفِ حُجَّةً وَدَلَالَةً وَآيَةً عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ لِيَذْهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ لَهُمْ لِيَأْكُلُوهُ، تَنَكَّرَ وَخَرَجَ يَمْشِي فِي غَيْرِ الجادة حتى انتهى إلى المدينة، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِهَا، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَبَدَّلُوا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بعد جيل، فجعْل لَا يَرَى شَيْئًا مِنْ مَعَالِمِ الْبَلَدِ الَّتِي يَعْرِفُهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا لَا خَوَاصِّهَا وَلَا عَوَامِّهَا، فَجَعَلَ يَتَحَيَّرُ فِي نفسه، ويقول إن عَهْدِي بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ عَشِيَّةَ أَمْسٍ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ تَعْجِيلَ الْخُرُوجِ من ههنا لَأَوْلَى لِي، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ مِمَّنْ يَبِيعُ الطَّعَامَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَا مَعَهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِهَا طَعَامًا، فَلَمَّا رَآهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنْكَرَهَا وَأَنْكَرَ ضَرْبَهَا، فَدَفَعَهَا إِلَى جَارِهِ، وَجَعَلُوا يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَعَلَّ هذا وَجَدَ كَنْزًا، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذِهِ النَّفَقَةُ، لَعَلَّهُ وَجَدَهَا مِنْ كَنْزٍ، وممن أنت؟ فجعل يقول أنا من هذه البلدة، وَعَهْدِي بِهَا عَشِيَّةَ أَمْسٍ، وَفِيهَا دَقْيَانُوسُ فَنَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى وَلِيِّ أَمْرِهِمْ، فَسَأَلَهُ عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ قَامُوا مَعَهُ إِلَى الْكَهْفِ - ملك الْبَلَدِ وَأَهْلُهَا - حَتَّى انْتَهَى بِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالَ دَعُونِي حَتَّى أَتَقَدَّمَكُمْ فِي الدُّخُولِ لِأُعْلِمَ أصحابي فدخل، فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ ذَهَبَ فِيهِ، وأخفى الله عليهم خبرهم، وَيُقَالُ: بَلْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ وَرَأَوْهُمْ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ الْمَلِكُ وَاعْتَنَقَهُمْ، وَكَانَ مُسْلِمًا فِيمَا قِيلَ، وَاسْمُهُ يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم دعوه وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَادُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَتَوَفَّاهُمُ اللَّهُ عز وجل، فالله أعلم. وَقَوْلُهُ {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}: أَيْ كَمَا أَرْقَدْنَاهُمْ وأيقظناهم بهيآتهم، أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أَيْ فِي أمر
الْقِيَامَةِ، فَمِنْ مُثْبِتٍ لَهَا وَمِنْ منكِّر، فَجَعَلَ اللَّهُ ظُهُورَهُمْ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ حُجَّةً لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ {فَقَالُواْ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أَيْ سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ كَهْفِهِمْ، وَذَرُوهُمْ عَلَى حَالِهِمْ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً}. حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْقَائِلِينَ ذَلِكَ قَوْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا): إِنَّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، و (الثاني): أهل الشرك منهم، والله أعلم.
- 22 - سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَاّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عِدَّةِ أَصْحَابِ الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، ولما ضعف القولين الأولين (القائلون بالثلاثة: اليهود، والقائلون بالخمسة: النصارى، كما ذكره السُّدي) بِقَوْلِهِ {رَجْماً بِالْغَيْبِ} أَيْ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ كَمَنْ يَرْمِي إِلَى مَكَانٍ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُصِيبُ وَإِنْ أَصَابَ فَبِلَا قَصْدٍ. ثُمَّ حَكَى الثَّالِثَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَوْ قَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ:{قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ رَدُّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا احْتِيَاجَ إِلَى الْخَوْضِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِلَا عِلْمٍ، لَكِنْ إِذَا أَطْلَعَنَا عَلَى أَمْرٍ قُلْنَا بِهِ وَإِلَّا وَقَفْنَا، وَقَوْلُهُ:{مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ قَلِيلٌ} : أَيْ مِنَ الناس. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ عز وجل، كَانُوا سَبْعَةً. وَكَذَا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول: عدتهم سبعة. فكانوا لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، يَبْكُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ بالله. قَالَ تَعَالَى:{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَاّ مِرَآءً ظَاهِراً} أَيْ سَهْلًا هَيِّنًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي معرفة ذلك لا يترتب عليه فائدة كَبِيرُ فَائِدَةٍ، {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً}: أَيْ فَإِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا مَا يَقُولُونَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى كَلَامٍ مَعْصُومٍ، وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ الَّذِي لا شك فيه ولا مرية فيه، فَهُوَ الْمُقَدِّمُ الْحَاكِمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمُهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَقْوَالِ.
- 23 - وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا
- 24 - إِلَاّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً
هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ تعالى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْأَدَبِ فِيمَا إِذَا عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ ليفعله في المستقبل أن يرد إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ عز وجل عَلَّامِ الْغُيُوبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام لَأَطُوفُنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً - وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةِ امْرَأَةٍ - تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ - وفي رواية قال لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ يَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ". وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ في قول
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: «غَدًا أُجِيبُكُمْ» ، فَتَأَخَّرَ الوحي خمسة عشر يوماً، وَقَوْلُهُ، {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}: قِيلَ مَعْنَاهُ إِذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ فَاسْتَثْنِ عِنْدَ ذِكْرِكَ لَهُ (قاله أبو العالية والحسن البصري)، وقال ابن عباس في الرجل يحلف، لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ إِلَى سَنَةٍ، وَكَانَ يقول {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ذلك، وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ أَيْ إِذَا نَسِيَ أَنْ يَقُولَ في حلفه أو في كَلَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَذَكَرَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ فَالسُّنَّةُ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِيَكُونَ آتِيًا بِسُنَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الحنث. قاله ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ، لا أن يكون رَافِعًا لِحِنْثِ الْيَمِينِ وَمُسْقِطًا لِلْكَفَّارَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَمْلِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}: إذا غضبت. وقال الطبراني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وروى الطبراني أيضاً عنه استثن إِذَا ذَكَرْتَ، وَقَالَ هِيَ خَاصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِلَّا فِي صِلَةٍ مِنْ يَمِينِهِ، وَيَحْتَمِلُ فِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يكون الله تعالى قَدْ أَرْشَدَ مَنْ نَسِيَ الشَّيْءَ فِي كَلَامِهِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ النِّسْيَانَ مَنْشَؤُهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ فَتَى مُوسَى:{وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشيطان أَنْ أذكره} وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَإِذَا ذَهَبَ الشيطان ذهب النسيان، فذكرُ الله تعالى سَبَبٌ لِلذِّكْرِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} . وقوله: {وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ شَيْءٍ لا تعلمه فاسأل الله تعالى فِيهِ، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يُوَفِّقَكَ لِلصَّوَابِ والرشد في ذلك.
- 25 - وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا
- 26 - قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا
هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِقْدَارِ مَا لَبِثَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ، مُنْذُ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، أعثر عَلَيْهِمْ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِقْدَارُهُ ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية. وهي ثلثمائة سَنَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ، فَإِنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ بِالْقَمَرِيَّةِ إِلَى الشَّمْسِيَّةِ ثَلَاثُ سِنِينَ، فلهذا قال بعد الثلثمائة وَازْدَادُوا تِسْعًا، وَقَوْلُهُ:{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ لَبْثِهِمْ وَلَيْسَ عندك علي في ذلك وتوقيف من الله تعالى فَلَا تَتَقَدَّمْ فِيهِ بِشَيْءٍ، بَلْ قُلْ فِي مِثْلِ هَذَا {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه (هذا قول جمهور المفسرين مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين} أنه قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بقوله: {الله أعلم بما لبثوا}، والظاهر أنه إخبار من الله لا حكاية عنهم كما قال ابن جرير). وَقَوْلُهُ: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أَيْ إِنَّهُ لَبَصِيرٌ بِهِمْ سَمِيعٌ لَهُمْ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَا أَبْصَرَهُ وَأَسْمَعَهُ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَا أَبْصَرَ اللَّهَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَأَسْمَعَهُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}: فَلَا أَحَدَ أَبْصَرُ مِنَ اللَّهِ وَلَا أَسْمَعُ.
وَقَوْلُهُ {مَا لَهُمْ
مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي لَهُ الخلق والأمر لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَزِيرٌ وَلَا نَصِيرٌ، وَلَا شَرِيكٌ وَلَا مُشِيرٌ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
- 27 - وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَاّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
- 28 - وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَإِبْلَاغِهِ إِلَى النَّاسِ، {لَاّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} أَيْ لَا مُغَيِّرَ لَهَا وَلَا محرف ولا مزيل، وقوله:{وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} قال مجاهد: {مُلْتَحَداً} مَلْجَأً، وَعَنْ قَتَادَةَ: وَلِيًّا وَلَا مَوْلًى، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ إِنْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ، فَإِنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَكَ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رسالته} ، وَقَوْلُهُ:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أَيْ اجْلِسْ مَعَ الذين يَذْكُرُونَ الله ويحمدونه وييسبحونه ويكبرونه بِكُرَةً وَعَشِيًّا، مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، سَوَاءً كَانُوا فقراء أو أغنياء، يُقَالُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ حِينَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُمْ وَحْدَهُ، وَلَا يُجَالِسَهُمْ بِضُعَفَاءِ أَصْحَابِهِ، كَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلْيُفْرِدْ أُولَئِكَ بِمَجْلِسٍ عَلَى حِدَةٍ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي} الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَبِّرَ نَفْسَهُ فِي الْجُلُوسِ مَعَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي} الآية. عن سعد بن أَبِي وَقَاصٍّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسمهما، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: َ {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (أخرجه مسلم في صحيحه).
وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:«مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يُذْكُرُونَ اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ بدلت سيئاتكم حسنات» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقال الطبراني، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية، فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُمْ فَوَجَدَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، منهم ثائر الرأس وجاف الْجِلْدِ، وَذُو الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَلَمَّا رَآهُمْ جَلَسَ مَعَهُمْ، وَقَالَ:«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم» ، وَقَوْلُهُ:{وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تُجَاوِزْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ يَعْنِي تَطْلُبُ بَدَلَهُمْ أَصْحَابَ الشَّرَفِ وَالثَّرْوَةِ، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} أَيْ شُغِلَ عَنِ الدِّينِ وَعِبَادَةِ
ربه بالدنيا، {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أَيْ أَعْمَالُهُ وَأَفْعَالُهُ سَفَهٌ وَتَفْرِيطٌ وَضَيَاعٌ، وَلَا تَكُنْ مطيعاًَ لَهُ وَلَا مُحِبًّا لِطَرِيقَتِهِ، وَلَا تَغْبِطْهُ، بِمَا هُوَ فِيهِ، كما قال:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خير وأبقى} .
- 29 - وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: قل يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ رَبِّكُمْ، هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ، هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّا أَعْتَدْنَا} أَيْ أَرْصَدْنَا {لِلظَّالِمِينَ} وَهُمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي سورها، وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَسُرَادِقُ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كَثَافَةُ كُلِّ جِدَارٍ مَسَافَةَ أَرْبَعِينَ سنة» (أخرجه أحمد والترمذي فِي صِفَةِ النَّارِ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ). وقال ابْنُ عَبَّاسٍ {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قَالَ: حَائِطٌ من نار، وَقَوْلُهُ:{وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوجوه} الآية، قال ابن عباس: المهل الماء الغليظ، مِثْلُ دُرْدِيِّ الزَّيْتِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كَالدَّمِ وَالْقَيْحِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي انْتَهَى حره، وقال الضحّاك: ماء جهنم وَهِيَ سَوْدَاءُ وَأَهْلُهَا سُودٌ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يَنْفِي الْآخَرَ، فَإِنَّ الْمُهْلَ يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الرَّذِيلَةَ كُلَّهَا، فَهُوَ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ غَلِيظٌ حَارٌّ، وَلِهَذَا قَالَ:{يَشْوِي الْوُجُوهَ} : أَيْ من حره، إذا الْكَافِرُ أَنْ يَشْرَبَهُ وَقَرَّبَهُ مِنْ وَجْهِهِ شَوَاهُ، حتى تسقط جلده وجهه فيه، كما جاء فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَاءٍ كَالْمُهْلِ، قَالَ: كَعَكْرِ الزَّيْتِ فَإِذَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وجهه فيه"(أخرجه أحمد والترمذي). وعن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قَالَ: "يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا قُرِّبَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب} "(أخرجه عبد الله بن المبارك عن أبي أمامة مرفوعاً). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا جَاعَ أَهْلُ النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقزم، فيأكلون منها فاجتثت جُلُودَ وُجُوهِهِمْ، فَلَوْ أَنَّ مَارًّا مَرَّ بِهِمْ لَعَرَفَ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِمُ الْعَطَشَ فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، فَإِذَا أَدْنَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ اشْتَوَى مِنْ حَرِّهِ لُحُومُ وُجُوهِهِمُ الَّتِي قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْجُلُودُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِهِ هَذَا الشَّرَابَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ الْقَبِيحَةِ {بِئْسَ الشَّرَابُ} أَيْ بِئْسَ هَذَا الشَّرَابُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أمعاءهم} ، وقال تعالى:{تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي حازة، كما قال تعالى:{وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} أَيْ وَسَاءَتِ النَّارُ مَنْزِلًا وَمَقِيلًا وَمُجْتَمَعًا وَمَوْضِعًا لِلِارْتِفَاقِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأخرى {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاما} .
- 30 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا
- 31 - أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ، ثَنى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ فِيمَا جَاءُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَالْعَدْنُ الْإِقَامَةُ {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ} أَيْ من تحت غرفهم ومنازلهم، قال فرعون {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} الآية. {يُحَلَّوْنَ} أَيْ مِنَ الْحِلْيَةِ {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} وَقَالَ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وفصّله ههنا فَقَالَ:{وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} فالسندس ثياب رقاق كَالْقُمْصَانِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، وَأَمَّا الْإِسْتَبْرَقُ فَغَلِيظُ الدِّيبَاجِ، وَفِيهِ بَرِيقٌ. وَقَوْلُهُ:{مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} الِاتِّكَاءُ قِيلَ: الِاضْطِجَاعُ، وَقِيلَ: التَّرَبُّعُ فِي الجلوس، وهو أسبه بالمراد ههنا - ومنه الحديث الصحيح:«أما أنا فلا آكل متكئاً» ، وَالْأَرَائِكُ جَمَعَ أَرِيكَةٍ وَهِيَ السَّرِيرُ تَحْتَ الْحَجَلَةِ، عَنْ قَتَادَةَ {عَلَى الْأَرَائِكِ} قَالَ: هِيَ الْحِجَالُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَقَوْلُهُ {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً}: أي الْجَنَّةُ ثَوَابًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أَيْ حَسُنَتْ مَنْزِلًا وَمَقِيلًا وَمَقَامًا،
كَمَا قَالَ فِي النار: {بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مرتفقا} ، وَهَكَذَا قَابَلَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي قوله:{إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاما} ، ثم ذكر صفات المؤمنين فقال:{خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاما} .
- 32 - وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا
- 33 - كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً
- 34 - وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً
- 35 - وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا
- 36 - وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَبًا
يَقُولُ تعالى بعد ذكره الْمُشْرِكِينَ، الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ مُجَالَسَةِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَافْتَخَرُوا عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ، فَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِرَجُلَيْنِ، جَعَلَ اللَّهُ لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ، أَيْ بساتين من أعناب محفوفتين بالنخيل الْمُحْدِقَةِ فِي جَنْبَاتِهِمَا وَفِي خِلَالِهِمَا الزُّرُوعُ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ مُثْمِرٌ مُقْبِلٌ فِي غَايَةِ الجودة (نقل السهيلي: عن محمد ابن الحسن المقري: اسم الخيَّر من الرجلين (تمليخا) واسم الآخر (فوطيس) وأنهما كانا شريكين، ثم اقتسما المال، فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيداً بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثياباً وكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاماً وأطعم الجياع، وبني أيضاً مساجد، وفعل خيراً - وأما الآخر: فنكح بماله نساء ذات يسار، واشترى دواب وبقراً فاستنتجها فنمت له نماء مفرطاً، واتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى. وأدركت الأول الحاجة فأراد أن يستأجر نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت إلى شريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح لي، فجاء فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب فلما دخل عليه وعرفه سأله حاجته، قال: ألم أكن قاسمتك المال شطرين، فما صنعت بمالك؟ قال: اشتريت به من الله، ما هو خير وأبقى. قال: أئنك لمن المصدقين، ما أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً، وما أراك إلا سفيهاً، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان. أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن المال؟ وذلك أني كسبت وسفهت أنت، أخرج عني. ثُمَّ كَانَ مِنَ قصة هذا الغني ما ذكره الله في القرآن من الإحاطة بثمرها وذهابها أصلاً. وفي عجائب الكرماني، قيل: كانا أخوين في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن اسمه (تمليخا) وقيل:(يهوذا)، والآخر كافر اسمه (نطروس) وهما المذكروان في سورة الصافات {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يقول أئنك لمن المصدقين} الآية). ولهذا قال:
{كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} أي أخرجت ثمرها {وَلَمْ تَظْلِم مِنْهُ شَيْئاً} أي لم تَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أَيْ والأنهار متفرقة ههنا وههنا {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قِيلَ، الْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ، وقيل: الثمار، وهو أظهر ههنا، {فَقَالَ} أَيْ صَاحِبُ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ {لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أَيْ يُجَادِلُهُ وَيُخَاصِمُهُ، يَفْتَخِرُ عَلَيْهِ وَيَتَرَأَّسُ {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أَيْ أَكْثَرُ خَدَمًا وَحَشَمًا وَوَلَدًا، قَالَ قَتَادَةُ: تِلْكَ وَاللَّهِ أُمْنِيَةُ الْفَاجِرِ، كَثْرَةُ الْمَالِ، وَعِزَّةُ النَّفَرِ. وَقَوْلُهُ:{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أَيْ بكفره وتمرده وَتَجَبُّرِهِ وَإِنْكَارِهِ الْمَعَادَ، {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} وَذَلِكَ اغْتِرَارٌ مِنْهُ، لَمَّا رَأَى فِيهَا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ فِي جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَفْنَى وَلَا تَفْرَغُ وَلَا تَهْلَكُ وَلَا تُتْلَفُ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ بِاللَّهِ وَإِعْجَابِهِ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَكُفْرِهِ بِالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً} أَيْ كَائِنَةً، {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} أي ولئن كان معاد ورجعة إِلَى اللَّهِ ليكوننَّ لِي هُنَاكَ أَحْسَنَ مِنْ هذا الحظ عِنْدَ رَبِّي، وَلَوْلَا كَرَامَتِي عَلَيْهِ مَا أَعْطَانِي هَذَا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} ، وَقَالَ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مالا وولدا} .
- 37 - قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سواك رجلا
- 38 - لكن هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا
- 39 - وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا
- 40 - فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً
- 41 - أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا
يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ وَاعِظًا لَهُ وَزَاجِرًا عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ من تراب} ، وَهَذَا إِنْكَارٌ وَتَعْظِيمٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ جُحُودِ رَبِّهِ الَّذِي خَلَقَهُ، وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مَنْ طِينٍ وَهُوَ آدَمُ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَاءٍ مَهِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} الآية، أَيْ كَيْفَ تَجْحَدُونَ رَبَّكُمْ، وَدَلَالَتُهُ عَلَيْكُمْ ظَاهِرَةٌ جلية، ولهذا قال المؤمن {لكنَّ هُوَ الله رَبِّي}: أي لكن لا أقول بمقالتك بل اعترف لله بالواحدنية والربوبية، {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} أَيْ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ
مِنكَ مالا وولدا}، هذا تخضيض وَحَثٌّ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ هَلَّا إِذَا أَعْجَبَتْكَ حِينَ دَخَلْتَهَا وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، وَأَعْطَاكَ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُكَ، وَقُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضَ السَّلَفِ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ حاله أو ماله أو ولده فَلْيَقُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وقد روي فيه حديث مرفوع عَنْ أنَس رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عبدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَيَرَى فِيهِ آفة دون الموت (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي). وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلا بالله} ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:«أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله» .؟
وقال أبو هريرة، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يا أبا هريرة أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ تحت العرش؟» قال، قلت: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ:«أَنْ تَقُولَ لَا قوة إلا بالله» . قال أبو بلخ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَسْلَمَ عبدي واستسلم» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقوله: {فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أَيْ على جنتك في الدينا الَّتِي ظَنَنْتَ أَنَّهَا لَا تَبِيدُ وَلَا تَفْنَى {حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: أَيْ عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَطَرٌ عَظِيمٌ مُزْعِجٌ، يُقْلِعُ زَرْعَهَا وَأَشْجَارَهَا، وَلِهَذَا قَالَ:{فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} ، أَيْ بَلْقَعًا تُرَابًا أَمْلَسَ، لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْجُرُزِ الَّذِي لَا يُنْبِتُ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ:{أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً} أَيْ غَائِرًا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ ضِدُّ النَّابِعِ الَّذِي يُطْلَبُ وَجْهَ الْأَرْضِ. فَالْغَائِرُ يُطْلَبُ أَسْفَلَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} أي جار وسائح، وقال ههنا:{أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} ، وَالْغَوْرُ مَصْدَرٌ. بِمَعْنَى غَائِرٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَظَلُّ جِيَادُهُ نَوْحًا عَلَيْهِ * تُقَلِّدُهُ أَعِنَّتَهَا صُفُوفَا
بِمَعْنَى نَائِحَاتٍ عَلَيْهِ.
- 42 - وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يا ليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً
- 43 - وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً
- 44 - هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْبًا
يَقُولُ تَعَالَى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بأمواله وبثماره مَا كَانَ يَحْذَرُ مِمَّا خَوَّفَهُ بِهِ الْمُؤْمِنُ، مِنْ إِرْسَالِ الْحُسْبَانِ عَلَى جَنَّتِهِ الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا وَأَلْهَتْهُ عَنِ اللَّهِ عز وجل، {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يُصَفِّقُ كَفَّيْهِ مُتَأَسِّفًا مُتَلَهِّفًا عَلَى الْأَمْوَالِ التي أذهبها عليها، {وَيَقُولُ يا ليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ فِئَةٌ} أَيْ عَشِيرَةٌ أَوْ وَلَدٌ كَمَا افْتَخَرَ بِهِمْ وَاسْتَعَزَّ {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} أي المولاة لله، أي هنالك كل أحد مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مولاته وَالْخُضُوعِ لَهُ إِذَا وَقَعَ الْعَذَابُ، كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا
رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا به مشركين}. وَكَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَسَرَ الْوَاوَ مِنْ {الوِلاية} أَيْ هنالك الحكم لله الحق، كَقَوْلِهِ:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} : أَيْ جَزَاءً {وَخَيْرٌ عُقْباً} أَيْ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَكُونُ لِلَّهِ عز وجل ثَوَابُهَا خَيْرٌ، وَعَاقِبَتُهَا حَمِيدَةٌ رَشِيدَةٌ، كُلُّهَا خَيْرٌ.
- 45 - وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا
- 46 - الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلًا
يَقُولُ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ} يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فِي زَوَالِهَا وَفَنَائِهَا وَانْقِضَائِهَا، {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أَيْ مَا فِيهَا مِنَ الْحَبِّ، فَشَبَّ وَحَسُنَ، وَعَلَاهُ الزَّهْرُ وَالنَّوْرُ، وَالنُّضْرَةُ، ثُمَّ بَعْدَ هذا كله {أصبح هَشِيماً} يَابِسًا {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أَيْ تُفَرِّقُهُ وَتَطْرَحُهُ ذَاتَ
الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَهَذِهِ الْحَالِ، وَكَثِيرًا مَا يَضْرِبُ اللَّهُ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِهَذَا الْمَثَلِ كَمَا قال تعالى فِي سُورَةِ يُونُسَ:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مما يأكل الناس والأنعام} الآية، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} الآية. وفي الحديث الصحيح: «الدنيا خضرة حلوة» . وَقَوْلُهُ: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كَقَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ والقناطير المقنطرة من الذهب} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} : أَيْ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالتَّفَرُّغُ لِعِبَادَتِهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ اشْتِغَالِكُمْ بِهِمْ وَالْجَمْعِ لَهُمْ وَالشَّفَقَةِ الْمُفْرِطَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: الصلوات الخمس. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَهَكَذَا سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَنْ {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} مَا هِيَ؟ فَقَالَ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لله، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وروي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بَاللَّهِ) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ عُمَارَةَ قَالَ: سَأَلَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ الباقيات الصالحات، فقلت: الصلاة والصيام، فقال: لَمْ تُصِبْ، فَقُلْتُ: الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ، فَقَالَ: لَمْ تصب، ولكهن الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ هنّ الباقيات الصالحات» (أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة). وفي الحديث: «أَمَّا إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ
يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَمَالَأَهُمْ عَلَى ظلمهم فليس مني ولست مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُمَالِئْهُمْ على ظلمهم فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَلَا وَإِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ والله أكبر من الباقيات الصالحات» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} قَالَ: هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ، قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَبَارَكَ الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَالصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ وَالْجِهَادُ وَالصِّلَةُ وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْحَسَنَاتِ، وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ الَّتِي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض، وعنه: هي الْكَلَامُ الطَّيِّبُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كُلُّهَا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله.
- 47 - وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا
- 48 - وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً
- 49 - وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} : أَيْ تَذْهَبُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَتَزُولُ كَمَا قَالَ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال قل يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} ، يذكر تَعَالَى إِنَّهُ تَذْهَبُ الْجِبَالُ وَتَتَسَاوَى الْمِهَادُ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ قَاعًا صَفْصَفًا، أَيْ سَطْحًا مُسْتَوِيًا لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا أَمْتًا، أَيْ لَا وَادِيَ وَلَا جَبَلَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} أَيْ بَادِيَةً ظَاهِرَةً، لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ وَلَا مَكَانٌ يُوَارِي أَحَدًا، بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ ضَاحُونَ لِرَبِّهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}: لا حجر فيها ولا غيابة، وقال قَتَادَةُ: لَا بِنَاءَ وَلَا شَجَرَ، وَقَوْلُهُ:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أَيْ وَجَمَعْنَاهُمْ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ وَالْآخَرِينَ، فَلَمْ نَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا لَا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا. كَمَا قَالَ:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} ، وَقَالَ:{ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} ، وَقَوْلُهُ:{وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً} يُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد أم جَمِيعَ الْخَلَائِقِ يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ صَفًّا واحداً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ صُفُوفًا صُفُوفًا، كَمَا قَالَ:{وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صفا صفا} ، وَقَوْلُهُ:{لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هَذَا تَقْرِيعٌ لِلْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى رؤوس الأشهاد، ولهذا قال تعالى مُخَاطِبًا لَهُمْ:{بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أَيْ مَا كَانَ ظَنُّكُمْ أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ بِكُمْ، وَلَا أَنَّ هَذَا كَائِنٌ. وَقَوْلُهُ:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أَيْ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، الَّذِي فِيهِ الْجَلِيلُ وَالْحَقِيرُ، وَالْفَتِيلُ وَالْقِطْمِيرُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمُ السيئة، وأفعالهم القبيحة، {ويقولون يا ويلتنا} أَيْ يَا حَسْرَتَنَا وَوَيْلَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي أعمارنا، {ما لهذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} أَيْ لَا يَتْرُكُ ذَنْبًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا وَلَا عَمَلًا
وَإِنْ صَغُرَ، إِلَّا أَحْصَاهَا أَيْ ضَبَطَهَا وَحَفِظَهَا، وَقَوْلُهُ:{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} أَيْ مِنْ خير وشر، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} الآية، وَقَالَ تَعَالَى:{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} وفي الحديث: «يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ
اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بن فلان» (أخرجاه في الصحيحين). وَقَوْلُهُ:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} أَيْ فَيَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَعْمَالِهِمْ جَمِيعًا وَلَا يَظْلِمُ أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح ويغفر وَيَرْحَمُ، وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَيَمْلَأُ النَّارَ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَصْحَابِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وَهُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} الآية، وَقَالَ:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً - إلى قوله - حَاسِبِينَ} والآيات في هذا كثيرة.
روى الإمام أحمد، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عن رجل سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شددت عليه رحلاً فَسِرْتُ عَلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ، فَإِذَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ)، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ: ابْنُ عبد الله؟ قلت: نَعَمْ، فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَصَاصِ فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ، فَقَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«يَحْشُرُ اللَّهُ عز وجل النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ قَالَ الْعِبَادَ - عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا» . قُلْتُ: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: "لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعْدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ من أهل الجنة حق حتى أقضيه مِنْهُ، وَلَا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ أهل النار حق حتى أقضيه مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ قَالَ: قُلْنَا، كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عز وجل حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بهماً؟ قال:«بالحسنات والسيئات» (أخرجه الإمام أحمد في المسند).
- 50 - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً
يَقُولُ تَعَالَى منبهاً بني آدم على عدواة إِبْلِيسَ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمُقَرِّعًا لِمَنِ اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، فَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} أَيْ لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ {اسْجُدُوا لأَدَمََ} أَيْ سُجُودَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَتَعْظِيمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} ، وَقَوْلِهِ:{فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أَيْ خَانَهُ أَصْلُهُ، فَإِنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَأَصْلُ خَلْقِ الملائكةُ مِنْ نُورٍ، كما ثبت في صحيح مسلم:(خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم)(أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً). ونبَّه تعالى ههنا على أنه من الجن،
أي على إِنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ كَمَا قَالَ: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ. كَمَا أَنَّ آدَمَ عليه السلام أَصْلُ الْبَشَرِ (رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه). وَقَوْلُهُ:{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أَيْ فَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ الْفِسْقَ هُوَ الْخُرُوجُ، يُقَالُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ أَكْمَامِهَا، وَفَسَقَتِ الْفَأْرَةُ مِنْ جُحْرِهَا، إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ لِلْعَيْثِ وَالْفَسَادِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّعًا وَمُوَبِّخًا لمت اتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} أَيْ بَدَلًا عَنِّي، وَلِهَذَا قَالَ:{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} ، وَهَذَا الْمَقَامُ كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَمَصِيرِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ فِي سُورَةِ يس:{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ - إلى قوله - أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} .
- 51 - مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا
يَقُولُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي، عَبِيدٌ أَمْثَالُكُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ خلق السماوات وَالْأَرْضِ، وَلَا كَانُوا إِذْ ذَاكَ مَوْجُودِينَ، يَقُولُ تَعَالَى: أَنَا الْمُسْتَقِلُّ بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمُدَبِّرُهَا ومقدرها وحدي، وليس مَعِي فِي ذَلِكَ شَرِيكٌ وَلَا وَزِيرٌ، وَلَا مشير ولا نظير، كما قال:{قُلْ ادعو الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظهير} ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} قَالَ مَالِكٌ: أَعْوَانًا.
- 52 - وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً
- 53 - وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُخَاطِبُ به المشركين يوم القيامة، على رؤوس الْأَشْهَادِ تَقْرِيعًا لَهُمْ وَتَوْبِيخًا {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، ادْعُوهُمُ الْيَوْمَ يُنْقِذُونَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا نرى مَعَكُمْ من شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ، كَمَا قَالَ:{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} الآية، وَقَالَ:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَاّ يستجيب له} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} ، وَقَوْلُهُ:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مهلكاً، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَوْبِقًا وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابن جرير، عن أنَس بن مالك في قوله تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: موبقاً: عداوة، والظاهر من السياق ههنا أَنَّهُ الْمَهْلَكُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَادِيًا فِي جهنم أو غيره، والمعنى إن الله تعالى بين أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا وُصُولَ لَهُمْ إِلَى آلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فِي الْآخِرَةِ، فَلَا خَلَاصَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، بَلْ بَيْنَهُمَا مَهْلَكٌ وَهَوْلٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ كَبِيرٌ، قال تعالى:{وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ
مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}، وَقَوْلُهُ:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} أَيْ إِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا جَهَنَّمَ حِينَ جِيءَ بِهَا تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ تَحَقَّقُوا لَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ لَهُمْ، فَإِنَّ تَوَقُّعَ الْعَذَابِ والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز، وقوله:{وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ طَرِيقٌ يَعْدِلُ بِهِمْ عَنْهَا، وَلَا بُدَّ لَهُمْ منها. قال ابن جرير، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّ الْكَافِرَ ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة» .
- 54 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا
ويقول تَعَالَى: وَلَقَدْ بَيَّنَّا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ وَوَضَّحْنَا لَهُمُ الْأُمُورَ وَفَصَّلْنَاهَا، كَيْلَا يَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ، وَيَخْرُجُوا عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَمَعَ هَذَا البيان وهذا الفرقان فإن الْإِنْسَانُ كَثِيرُ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، إِلَّا مَنْ هَدَى اللَّهُ وَبَصَّرَهُ لِطَرِيقِ النَّجَاةِ. قال الإمام أحمد،
عن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَالَ:«أَلَا تُصَلِّيَانِ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مولٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جدلا} (أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد).
- 55 - وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَاّ أَن تَأْتِيهُمُ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا
- 56 - وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَرُّدِ الْكَفَرَةِ في قديم الزمان وحديثه، وتكذبيهم بِالْحَقِّ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الآيات وَالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ، وَأَنَّهُ مَا مَنَعَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ ذَلِكَ إِلَّا طَلَبُهُمْ أَنْ يُشَاهِدُوا الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَيَانًا كَمَا قَالَ أُولَئِكَ لِنَبِيِّهِمْ:{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} ، وَآخَرُونَ قَالُوا:{ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ:{اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:{إِلَاّ أَن تَأْتِيهُمُ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} مِنْ غِشْيَانِهِمْ بِالْعَذَابِ، وَأَخْذِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} أَيْ يَرَوْنَهُ عَيَانًا مواجهة ومقابلة، ثم قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أَيْ مبشرين من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين لمن كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكَفَّارِ بِأَنَّهُمْ {يُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ} أَيْ لِيُضْعِفُوا بِهِ الْحَقَّ، الَّذِي جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَاصِلٍ لَهُمْ، {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً} أَيْ اتَّخَذُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَخَوَارِقَ الْعَادَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الرُّسُلُ، وَمَا أَنْذَرُوهُمْ وَخَوَّفُوهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، {هُزُواً}: أَيْ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَشَدُّ التَّكْذِيبِ.
- 57 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا
- 58 - وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلًا
- 59 - وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
يَقُولُ تَعَالَى: وَأَيُّ عِبَادِ اللَّهِ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، أَيْ تَنَاسَاهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَلَمْ يَصْغَ لَهَا، وَلَا أَلْقَى إِلَيْهَا بَالًا {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَيْ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ {أَكِنَّةً} أَيْ أَغْطِيَةً وَغِشَاوَةً، {أَن يَفْقَهُوهُ} أَيْ لِئَلَّا يَفْهَمُوا هَذَا الْقُرْآنَ وَالْبَيَانَ، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}: أي صمماً معنوياً عَنِ الرَّشَادِ، {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} ، وَقَوْلُهُ:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} : أَيْ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ غَفُورٌ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} ، كَمَا قَالَ:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} ، وَقَالَ:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} والآيات في هذا كثيرة شتى، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْلُمُ وَيَسْتُرُ وَيَغْفِرُ وَرُبَّمَا هَدَى بَعْضَهُمْ مِنَ الْغَيِّ إِلَى الرَّشَادِ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ مِنْهُمْ فَلَهُ يَوْمٌ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَلِهَذَا قَالَ:{بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} : أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد، وَلَا مَعْدِلٌ، وَقَوْلُهُ:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أَيْ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ وَالْقُرُونُ الْخَالِيَةُ أَهْلَكْنَاهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} : أَيْ جعلناه إلى مدة معلومة ووقت مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، أَيْ وَكَذَلِكَ أنتم أيها المشركون احذروا أن يصبيكم مَا أَصَابَهُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَشْرَفَ رَسُولٍ وَأَعْظَمَ نَبِيٍّ، وَلَسْتُمْ بِأَعَزَّ عَلَيْنَا مِنْهُمْ فَخَافُوا عَذَابِي ونذري.
- 60 - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً
- 61 - فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا
- 62 - فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً
- 63 - قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
- 64 - قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا
- 65 - فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً
سبب قول موسى لفتاه ووهو (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) هَذَا الْكَلَامَ، أَنَّهُ ذَكَرَ له عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُحِطْ بِهِ مُوسَى فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه ذلك {لا أَبْرَحُ}: أي لا أزال سائراً {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} أي هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ قتادة وغير واحد: هما (بحر فارس) مما يلي
المشرق و (بحر الرُّومِ) مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ طَنْجَةَ، يَعْنِي فِي أَقْصَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ:{أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أَيْ وَلَوْ أَنِّي أَسِيرُ حُقُبًا مِنَ الزمان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: الْحُقُبُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَبْعُونَ خَرِيفًا، وقال ابن عباس {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} قال: دهراً، وَقَوْلُهُ:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِحَمْلِ حُوتٍ مَمْلُوحٍ مَعَهُ وَقِيلَ لَهُ مَتَى فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّةَ، فَسَارَا حَتَّى بَلَغَا مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ فِي مِكْتَلٍ مَعَ يُوشَعَ عليه السلام، وَطَفَرَ مِنَ الْمِكْتَلِ إِلَى الْبَحْرِ، فَاسْتَيْقَظَ يُوشَعُ عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء وَالْمَاءُ لَهُ مِثْلُ الطَّاقِ لَا يَلْتَئِمُ بَعْدَهُ، ولهذا قال تعالى:{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} أَيْ مِثْلَ السرب في الأرض، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ أَثَرُهُ كَأَنَّهُ حَجَرٌ، وقال قتادة: سرب من البحر حَتَّى أَفْضَى إِلَى الْبَحْرِ، ثُمَّ سَلَكَ فِيهِ فجعل لا يسلك فيه طريقاً إلاّ صار مَاءً جَامِدًا، وَقَوْلُهُ:{فَلَمَّا جَاوَزَا} : أَيِ الْمَكَانَ الذي نسيا الحوت فيه، {قَالَ} مُوسَى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا} أي المكان الذي جاوزا فيه المكان {نَصَباً} أي تَعَبًا، {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} أَيْ طَرِيقَهُ {فِي البحر عَجَباً قَالَ ذَلِكَ ما كنا نبغي} أي هذا هو الَّذِي نَطْلُبُ {فَارْتَدَّا} أَيْ رَجَعَا {عَلَى آثَارِهِمَا} أي طريقهما {قَصَصاً} أي يقصان آثار مَشْيِهِمَا، وَيَقْفُوَانِ أَثَرَهُمَا {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} ، وَهَذَا هُوَ الْخَضِرُ عليه السلام، كَمَا دلت الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن موسى قاك خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ منك. قال موسى: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بِمِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حوتاً فجعله بمكتل وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فسقط في البحر، فاتخذ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} ، وَلَمْ يجد موسى النصب حتى جاوز الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، قَالَ لَهُ فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} ، قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَقَالَ:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} قَالَ، فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تعلمه أنت، وأنت على علم من اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ. فَقَالَ مُوسَى:{سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ:{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نوال، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَدْ حَمَلُونَا
بِغَيْرِ نَوْلٍ فَعَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟ قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} . قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وعلى آله - فكانت الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ، وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فوقع عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، ثُمَّ خرجا من السفينة فبينما هم يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى:{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، قَالَ وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي مائلاً فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ {فَأَقَامَهُ} فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا} "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وودنا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا» . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كان ابن عباس يقرأ: {وكان وراءهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا} ، وَكَانَ يَقْرَأُ:{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} (أخرجه البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهما.
وروى الزهري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى، الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "بينما مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ له: إذا فقدت الحوت فَارْجِعْ: فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا عَبْدَنَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كتابه.
- 66 - قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا
- 67 - قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
- 68 - وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا
- 69 - قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً - 70 - قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قِيلِ مُوسَى عليه السلام، لِذَلِكَ الرَّجُلِ الْعَالِمِ، وَهُوَ الْخَضِرُ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِعِلْمٍ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مُوسَى، كَمَّا أَنَّهُ أَعْطَى مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُعْطِهِ الْخَضِرَ. {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ} سؤال تلطف لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ وَالْإِجْبَارِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ الْمُتَعَلِّمِ مِنَ الْعَالِمِ، وَقَوْلُهُ {أَتَّبِعُكَ} أي أصحبك وأرافقك، {على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} أَيْ مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ شَيْئًا أَسْتَرْشِدُ بِهِ فِي أَمْرِي مِنْ عِلْمٍ نَافِعٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَعِنْدَهَا
{قَالَ} الْخَضِرُ لِمُوسَى {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لِمَا تَرَى مِنِّي مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُخَالِفُ شَرِيعَتَكَ، لِأَنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا عَلَّمَكَهُ اللَّهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ، فَكُلٌّ مِنَّا مُكَلَّفٌ بِأُمُورٍ مِنَ اللَّهِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى صُحْبَتِي {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} فَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّكَ سَتُنْكِرُ عليَّ مَا أَنْتَ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَلَكِنْ مَا اطَّلَعَتْ عَلَى حِكْمَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ الْبَاطِنَةِ، التي اطلعت أنا عليها دونك، {قَالَ} أي مُوسَى {سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً} أَيْ عَلَى مَا أَرَى مِنْ أُمُورِكَ، {وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً} أَيْ وَلَا أُخَالِفُكَ فِي شَيْءٍ، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} أَيْ ابْتِدَاءً {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أَيْ حَتَّى أَبْدَأَكَ أَنَا بِهِ، قَبْلَ أَنْ تسألني. عن ابن عباس قَالَ: سَأَلَ مُوسَى عليه السلام رَبَّهُ عز وجل فقال: أي رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي، قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقَضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، قَالَ، أَيْ رَبٍّ: هَلْ فِي أَرْضِكَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قال: فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى السَّاحِلِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي يَنْفَلِتُ عِنْدَهَا الْحُوتُ، قَالَ، فَخَرَجَ مُوسَى يَطْلُبُهُ حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ وَانْتَهَى مُوسَى إِلَيْهِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صاحبه، فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ صُحْبَتِي. قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنْ صَحِبْتَنِي {فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} ، قَالَ فَسَارَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَجْمَعِ البحرين، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَكَانٌ أَكْثَرُ مَاءً مِنْهُ، قَالَ، وَبَعَثَ اللَّهُ الْخُطَّافَ، فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ لِمُوسَى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا أَقَلَّ مَا رَزَأَ، قَالَ: يَا مُوسَى فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَدْرِ مَا اسْتَقَى هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَمِنْ ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ، وَقَتْلِ الْغُلَامِ، وَإِصْلَاحِ الْجِدَارِ، وَتَفْسِيرِهِ له ذلك (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس).
- 71 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا
- 72 - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
- 73 - قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى وَصَاحِبِهِ وَهُوَ الْخَضِرُ، أَنَّهُمَا انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ أَنْكَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِشَرْحِهِ وَبَيَانِهِ، فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ كَيْفَ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْخَضِرَ، فحملوهما بغير نول، يعني أُجْرَةٍ تَكْرِمَةً لِلْخَضِرِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ وَلَجَّجَتْ، أَيْ دَخَلَتِ اللُّجَّةَ، قَامَ الْخَضِرُ فَخَرَقَهَا، وَاسْتَخْرَجَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا، ثُمَّ رَقَعَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ مُوسَى عليه السلام نَفْسَهُ أَنْ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ. لَا لَامُ التَّعْلِيلِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ
{لَقَدْ جِئْتَ شيئا إمرا} قال مجاهد: منكرا، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَجَبًا، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ الْخَضِرُ مُذَكِّرًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْطِ
{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، يَعْنِي وَهَذَا الصَّنِيعُ فَعَلْتُهُ قَصْدًا، وَهُوَ مِنَ الأمور التي اشترطت معك أن لا تُنْكِرَ عَلَيَّ فِيهَا، لِأَنَّكَ لَمْ تُحِطْ بِهَا خبراً، ولها دخل هُوَ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ تَعْلَمْهُ أَنْتَ، {قَالَ} أَيْ مُوسَى {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}: أَيْ لَا تُضَيِّقُ عَلَيَّ ولا تشدد عَلَيَّ، وَلِهَذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا» .
- 74 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً
- 75 - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
- 76 - قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا
يَقُولُ تَعَالَى {فَانْطَلَقَا} أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ} ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فِي قَرْيَةٍ مِّن الْقُرَى، وَأَنَّهُ عَمَدَ إِلَيْهِ من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم فقتله، وروي أنه اجتز رأسه، وقيل رضخه بحجر، وفي رواية اقتلعه بِيَدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا شَاهَدَ مُوسَى عليه السلام هَذَا أَنْكَرَهُ أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَبَادَرَ فَقَالَ {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً}: أَيْ صَغِيرَةً، لَمْ تعمل الحنث، ولا عملت إِثْمًا بَعْدُ، فَقَتَلْتَهُ {بِغَيْرِ نَفْسٍ}: أَيْ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ لِقَتْلِهِ {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} : أَيْ ظَاهِرَ النَّكَارَةِ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فَأَكَّدَ أَيْضًا فِي التِّذْكَارِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، فَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا}: أَيْ إِنِ اعْتَرَضْتُ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ {فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنِّي عُذْراً} : أَيْ قَدْ أَعْذَرْتَ إِلَيَّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، قَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ:"رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لَأَبْصَرَ الْعَجَبَ، لكنه قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنِّي عُذْراً".
- 77 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً
- 78 - قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمَا؛ إِنَّهُمَا {انْطَلَقَا} بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} ، روي عن ابن سيرين أنها الإيكة، وَفِي الْحَدِيثِ:«حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا» أَيْ بُخَلَاءَ؛ {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} إِسْنَادُ الْإِرَادَةِ ههنا إِلَى الْجِدَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْمُحْدَثَاتِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ؛ وَالِانْقِضَاضُ هُوَ السُّقُوطُ، وَقَوْلُهُ:{فَأَقَامَه} أَيْ فَرَدَّهُ إِلَى حَالَةِ الِاسْتِقَامَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَدَّهُ بِيَدَيْهِ وَدَعَمَهُ حَتَّى رَدَّ مَيْلَهُ، وَهَذَا خَارِقٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَهُ {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أَيْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُضَيِّفُونَا كان ينبغي أن لا تَعْمَلَ لَهُمْ مَجَّانًا {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ، أَيْ لِأَنَّكَ شَرَطْتَ عِنْدَ قَتْلِ الْغُلَامِ أَنَّكَ إِنْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، فَهُوَ فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} أَيْ بِتَفْسِيرِ {مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا} .
- 79 - أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على حكمة باطنة، فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها، لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صالحة أي جيدة {غَصْباً} فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل إنهم أيتام، وروى ابن جريج، أن اسم ذلك الملك، (هدد ابن بدد)، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.
- 80 - وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا
- 81 - فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً
عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخضر طبع يوم طبع كافراً» (أخرجه ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ)، وَلِهَذَا قَالَ:{فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} أَيْ يَحْمِلُهُمَا حُبُّهُ عَلَى متابعته الْكُفْرِ، قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَوْ بقي لكان فِيهِ هَلَاكُهُمَا، فَلْيَرْضَ امْرُؤٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قَضَائِهِ فِيمَا يُحِبُّ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ:«لا يقضي الله لمؤمن قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ» ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، وقوله:{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أَيْ وَلَدًا أَزْكَى مِنْ هَذَا، وهما أرحم به منه، وقال قتادة: أبر بوالديه، وَقِيلَ لَمَّا قَتَلَهُ الْخَضِرُ كَانَتْ أُمُّهُ حَامِلًا بغلام مسلم، قاله ابن جريج.
- 82 - وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا
فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْقَرْيَةِ عَلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا {حَتَّى إِذَا أتيا أهل قرية} ، وقال ههنا:{فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المدينة} (قال السيهلي في الغلامين اليتيمين: هما أصرم وصريم ابنا كاشح، والأب الصالح الذي حفظ كنزهما من أجله كان بينهما وبينه سبعة آباء، وقيل عشرة، ولم يكونا ابنيه من صلبه فيما ذكر عن ابن عباس، وذكر السيوطي: أن اسم الملك (هدد بن ندد) واسم أبوي الغلام المقتول (أبرأ) وأمه (سهواً) وقد أبدلهما الله خيراً منه بجارية ولدت نبياً كان بعد موسى اسمه (شمعون))، كما قال تعالى: فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أخرجتك} {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} يَعْنِي مَكَّةَ وَالطَّائِفَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الجدار إنما أصلحته لِأَنَّهُ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تحته كنز لهما. قال عكرمة: كان تحته مال مدفون لهما، وهو
ظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ جرير رحمة الله، وقال ابن عباس: كان تحته كنز علم، وعن الحسن البصري أنه قَالَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفَ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» (أخرجه ابن جرير في تفسيره عن الحسن البصري، وورد في حديث مرفوع رواه الحافظ البزار عن أبي ذر بمثله)، وَذُكِرَ أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْهُمَا صَلَاحٌ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الَّذِي حُفِظَا بِهِ سَبْعَةُ آبَاءٍ، وَكَانَ نَسَّاجًا، وَهَذَا الذي ذكر - وَإِنْ صَحَّ - لَا يُنَافِي قَوْلَ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ مَالًا، لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا من ذهب، وفيه مال جزيل أكثر، كَانَ مُودَعًا فِيهِ عِلْمٌ وَهُوَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يَحْفَظُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَتَشْمَلُ بَرَكَةُ عِبَادَتِهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِشَفَاعَتِهِ فِيهِمْ، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِمْ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لِتَقَرَّ
عَيْنُهُ بِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، ووردت به السنّة، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ الْأَبُ السَّابِعُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كنزهما} ههنا أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ بُلُوغَهُمَا الْحُلُمَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ فِي الْغُلَامِ:{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً منه زكاة} وَقَالَ فِي السَّفِينَةِ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أَيْ هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثلاثة إنما هو رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَوَالِدَيِ الْغُلَامِ، وَوَلَدَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، لَكِنِّي أُمِرْتُ بِهِ وَوُقِفْتُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ قَالَ بِنُبُوَّةِ الْخَضِرِ عليه السلام مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ
مِن لَّدُنَّا علما}، وَذَهَبَ كَثِيرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا بل كان ولياً، فالله أعلم. وحكي فِي كَوْنِهِ بَاقِيًا إِلَى الْآنِ ثُمَّ إِلَى يوم القيامة قولان، ومال النووي وابن الصلاح إلى بقائه، وَرَجَّحَ آخَرُونَ مِنَ الْمُحْدَثِينَ وَغَيْرِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} ، وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ:«اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا حَضَرَ عِنْدَهُ وَلَا قَاتَلَ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ
الثَّقْلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقَدْ قَالَ:«لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمَا وَسِعَهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي» ، وَأَخْبَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَى مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ عَيْنٌ تَطْرِفُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ (أخرجه البخاري وأحمد ورواه أيضاً عبد الرزاق).
وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّمَا سُمِّي الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ من تحته خضراء» (الراجح قول أهل الحديث بموت الخضر للأدلة المذكورة) والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَجْهُ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ:{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أَيْ هَذَا تَفْسِيرُ مَا ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا، وَلَمْ تَصْبِرْ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهِ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا أَنْ فسره له بينه ووضحه وأزال المشكل قال:{تَسْطِع} وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْإِشْكَالُ قَوِيًّا ثَقِيلًا، فَقَالَ:{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} فَقَابَلَ الْأَثْقَلَ بِالْأَثْقَلِ، وَالْأَخَفَّ بِالْأَخَفِّ، كَمَا قال: {فَمَا
اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وَهُوَ الصُّعُودُ إِلَى أَعْلَاهُ {وَمَا استطاعوا له نقبا} وَهُوَ أَشَقُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ لَفْظًا وَمَعْنَى وَاللَّه أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُ فَتَى مُوسَى ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسِّيَاقِ إِنَّمَا هُوَ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَذِكْرُ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَفَتَى مُوسَى مَعَهُ تَبَعٌ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، أَنَّهُ (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَلِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد موسى عليه السلام.
- 83 - وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا
- 84 - إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {وَيَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّدُ {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} أَيْ عَنْ خَبَرِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ بَعَثَ كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى أهل الكتاب، يسألون منهم ما يمتحون بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ فتية ما يُدْرَى مَا صَنَعُوا، وَعَنِ الرُّوحِ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الكهف. وقد ذكر الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام أَوَّلُ مَا بَنَاهُ وَآمَنَ به، وتبعه، وكان وزيره الخضر عليه السلام، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً مِنْ أَخْبَارِهِ فِي كِتَابِ (الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ) بِمَا فيه كفاية والحمد لله. وقال بعض أهل الكتاب: سمي ذا القرنين لِأَنَّهُ مَلِكَ الرُّومَ وَفَارِسَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عن أبي الطفيل: سُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ ذِي القرنين فقال: كان عبداً ناصحاً لله فناصحه، دعا قومه لله فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، ويقال إنه سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّمْسِ وَيَغْرُبُ. وَقَوْلُهُ:{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ أَعْطَيْنَاهُ ملكاً عظيماً، ممكناً فيه مِنْ جَمِيعِ مَا يُؤْتَى الْمُلُوكُ مِنَ التَّمْكِينِ والجنود وآلات الحرب والحضارات، وَلِهَذَا مَلِكَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مِنَ الْأَرْضِ، وَدَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ وَخَضَعَتْ لَهُ مَلُّوكُ الْعِبَادِ، وَخَدَمَتْهُ الْأُمَمُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ إنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قَرْنَيِ الشَّمْسِ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَهَا، وَقَوْلُهُ:{وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} ، قال ابن عباس: يعني علماً (وبه قال مجاهد وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ والسُّدي وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم)، وقال قتادة: مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَأَعْلَامَهَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد، تعليم الألسنة، قال: كَانَ لَا يَغْزُو قَوْمًا إِلَّا كَلَّمَهُمْ بِلِسَانِهِمْ، وعن حبيب بن حماد قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَسَأَلَهُ رجُل عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كَيْفَ بَلَغَ المشرق والمغرب؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سَخَّرَ لَهُ السَّحَابَ وَقَدَّرَ له الأسباب وبسط له اليد (ذكره الضياء المقدسي عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ حماد).
- 85 - فَأَتْبَعَ سَبَبًا
- 86 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قلنا يا ذا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً
- 87 - قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ
عَذَاباً نُكْرًا
- 88 - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فَأَتْبَعَ سَبَباً} : يَعْنِي بِالسَّبَبِ الْمُنَزَّلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَأَتْبَعَ سَبَباً} : مُنَزَّلًا وطريقاً ما بين المشرق والمغرب، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ أَتْبَعَ مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَمَعَالِمَهَا. وقال سعيد بن جبير: علماً، وَقَالَ مَطَرٌ: مَعَالِمُ وَآثَارٌ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أَيْ فَسَلَكَ طَرِيقًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى مَا يَسْلُكُ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَهُوَ مَغْرِبُ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْوُصُولُ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنَ السَّمَاءِ فَمُتَعَذِّرٌ، وَمَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّهُ سَارَ فِي الْأَرْضِ مُدَّةً وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ مِنْ وَرَائِهِ، فَشَيْءٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ خُرَافَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاخْتِلَاقِ زَنَادِقَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، وَقَوْلُهُ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}: أَيْ رَأَى الشَّمْسَ فِي مَنْظَرِهِ تَغْرُبُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنِ انْتَهَى إِلَى سَاحِلِهِ، يَرَاهَا كَأَنَّهَا تغرب فيه، وَالْحَمِئَةُ مُشْتَقَّةٌ عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ الْحَمْأَةِ وَهُوَ الطِّينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}: أي من طِينٍ أَمْلَسَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَالَ ابْنُ جرير: كان ابن عباس يقول {فِي عَيْنٍ حمأة} ثُمَّ فَسَّرَهَا ذَاتُ حَمْأَةٍ، قَالَ نَافِعٌ: وَسُئِلَ عَنْهَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مني لكني أَجِدُهَا فِي الْكِتَابِ تَغِيبُ فِي طِينَةٍ سَوْدَاءَ. وبه قال مجاهد وغير واحد. وعن أُبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَهُ حَمِئَةٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَدَهَا تَغْرُبَ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ يَعْنِي حَارَّةً. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَأَيَّهُمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِمَا إِذْ قَدْ تَكُونُ حَارَّةً لِمُجَاوَرَتِهَا وَهْجِ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا وَمُلَاقَاتِهَا الشعاع بلا حائل، وحمئة فِي مَاءٍ وَطِينٍ أَسْوَدَ كَمَا قَالَ كَعْبُ الأحبار وغيره.
وقوله تعالى: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} : أَيْ أُمّة مِنَ الْأُمَمِ، ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً مِنْ بَنِي آدم (قال السهيلي: هم أهل جابرص، ويقال لها بالسريانية: جرجيا يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح)، وقوله:{قلنا يا ذا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} مَعْنَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مكَّنه مِنْهُمْ، وحكَّمه فِيهِمْ وَأَظْفَرَهُ بِهِمْ، وَخَيَّرَهُ إِنْ شَاءَ قَتَلَ وَسَبَى، وَإِنْ شَاءَ منَّ أَوْ فَدَى، فَعُرِفَ عَدْلُهُ وَإِيمَانُهُ، فِيمَا أَبْدَاهُ عَدْلَهُ وَبَيَانَهُ فِي قَوْلِهِ:{أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ بِرَبِّهِ {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} ، قَالَ قَتَادَةُ: بِالْقَتْلِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَحْمِي لهم النُّحَاسِ وَيَضَعُهُمْ فِيهَا حَتَّى يَذُوبُوا. وَقَالَ وَهْبُ ابن منبه: كان يسلط الظلمة فتدخل بيوتهم، وَتَغْشَاهُمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي شديداً بلغياً وجيعاً أليماً، وفي هذا إثبات المعاد والجزاء. وَقَوْلُهُ:{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أَيْ تَابَعَنَا عَلَى مَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عِندَ اللَّهِ عز وجل، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} قَالَ مُجَاهِدٌ: معروفاً.
- 89 - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
- 90 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً
- 91 - كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً
يقول تعالى: ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا فَسَارَ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى مَطْلَعِهَا، وَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ بأُمّة قَهَرَهُمْ وَغَلَبَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل، فَإِنْ أَطَاعُوهُ وَإِلَّا أَذَلَّهُمْ وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الْإِقْلِيمِ الْمُتَاخِمِ لَهُمْ. وَذُكِرَ فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ عَاشَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ يَجُوبُ الْأَرْضَ، طُولَهَا وَالْعَرْضَ، حَتَّى بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ كما قال تَعَالَى:{وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} أَيْ أُمَّةٍ {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ بِنَاءٌ يُكِنَّهُمْ، وَلَا أَشْجَارٌ تُظِلُّهُمْ وَتَسْتُرُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا حُمْرًا قِصَارًا مَسَاكِنُهُمُ الْغِيرَانُ، أَكْثَرُ معيشتهم من السمك. وقال الحسن في قوله الله تَعَالَى:{لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} قَالَ: إِنَّ أَرْضَهُمْ لَا تَحْمِلُ الْبِنَاءَ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَغَوَّرُوا فِي الْمِيَاهِ، فَإِذَا غَرَبَتْ خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم (أخرجه أبو داود الطيالسي عن الحسن البصري)، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ بِأَرْضٍ لَا تُنْبِتُ لَهُمْ شَيْئًا، فَهُمْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا فِي أَسْرَابٍ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم. وقال ابن جرير: لَمْ يَبْنُوا فِيهَا بِنَاءً قَطُّ وَلَمْ يُبْنَ عَلَيْهِمْ فِيهَا بِنَاءٌ قَطُّ، كَانُوا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا أَسْرَابًا لَهُمْ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، أَوْ دَخَلُوا الْبَحْرَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْضَهُمْ لَيْسَ فيها جبل. وَقَوْلُهُ:{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: عِلْمًا، أَيْ نَحْنُ مُطَّلِعُونَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَأَحْوَالِ جَيْشِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أُمَمُهُمْ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} .
- 92 - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
- 93 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا
- 94 - قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا
- 95 - قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً
- 96 - آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أَيْ ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَهُمَا جَبَلَانِ مُتَنَاوِحَانِ بَيْنَهُمَا ثَغْرَةٌ، يَخْرُجُ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ عَلَى بلاد الترك، فيعيثون فيها فَسَادًا وَيُهْلِكُونَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ عليه السلام كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا آدَمُ، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث فِي النَّارِ، فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فحينئذٍ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كل ذات حمل حملها، فقال: إِنَّ فِيكُمْ أُمَّتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ إلا كثّرتاه، يأجوج ومأجوج"(أخرجه البخاري ومسلم). وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"وَلَدَ نُوحٌ ثَلَاثَةً: سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ"، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَؤُلَاءِ مِنْ نَسْلِ يَافِثَ أَبِي التُّرْكِ، وقال، إنما سمي هَؤُلَاءِ تُرْكًا لِأَنَّهُمْ تُرِكُوا مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِلَّا فَهُمْ أَقْرِبَاءُ أُولَئِكَ، وَلَكِنْ كَانَ فِي أُولَئِكَ بَغْيٌ وَفَسَادٌ وَجَرَاءَةٌ، وقد ذكر ابن جرير ههنا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَثَرًا طَوِيلًا عَجِيبًا في
سَيْرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَبِنَائِهِ السَّدَّ وَكَيْفِيَّةِ مَا جَرَى لَهُ، وَفِيهِ طُولٌ وَغَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ فِي أَشْكَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَطُولِهِمْ وَقِصَرِ بَعْضِهِمْ وَآذَانِهِمْ. وَرَوَى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها، والله أعلم.
وقوله تعالى {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أَيْ لِاسْتِعْجَامِ كَلَامِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ النَّاسِ، {قَالُواْ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَجْراً عَظِيماً، يَعْنِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًا، فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعِفَّةٍ وَدِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ وَقَصْدٍ لِلْخَيْرِ {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أَيْ إِنَّ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّمْكِينِ خيرٌ لِي مِنَ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عليه السلام:{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} الآية. وَهَكَذَا قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ، الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَبْذُلُونَهُ، وَلَكِنْ سَاعِدُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ بِعَمَلِكُمْ وَآلَاتِ الْبِنَاءِ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَالزُّبَرُ، جَمْعُ (زُبْرَةٍ) وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْهُ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ) وَهِيَ كَاللَّبِنَةِ يُقَالُ كُلُّ لَبِنَةٍ زِنَةُ قِنْطَارٍ بِالدِّمَشْقِيِّ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أَيْ وَضَعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْأَسَاسِ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِهِ رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً (قال السيوطي عن الضحّاك: هما من قبل أرمينية وآذربيجان أخرجه ابن أبي حاتم) {قَالَ انْفُخُوا} أَيْ أَجَّجَ عَلَيْهِ النَّارَ، حَتَّى إذا صَارَ كُلُّهُ نَارًا {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} قال ابن عباس والسدي: هو النحاس (وهو قول مجاهد وعكرمة والضحّاك وقتادة)، زاد بَعْضُهُمْ الْمُذَابُ، وَيَسْتَشْهِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَأَيْتَ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. قَالَ: «انْعَتْهُ لِي» ، قَالَ كَالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ، طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ، وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، قَالَ:«قَدْ رأيته» (أخرجه ابن جرير وهو حَدِيثٌ مُرْسَلٌ)، وَقَدْ بَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ فِي دولته بعض امرائه وجهز مَعَهُ جَيْشًا سِرِّيَّةً لِيَنْظُرُوا إِلَى السَّدِّ وَيُعَايِنُوهُ وينعتونه لَهُ إِذَا رَجَعُوا، فَتَوَصَّلُوا مِنْ بِلَادٍ إِلَى بِلَادٍ،
وَمِنْ مُلْكٍ إِلَى مُلْكٍ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ، وَرَأَوْا بِنَاءَهُ مِنَ الْحَدِيدِ وَمِنَ النُّحَاسِ، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيمة، وَعَلَيْهِ أَقْفَالٌ عَظِيمَةٌ، وَرَأَوْا بَقِيَّةَ اللَّبَنِ وَالْعَمَلِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ، وَأَنَّ عِنْدَهُ حَرَسًا مِنَ الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف شَاهِقٌ، لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَا مَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَكَانَتْ غَيْبَتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَشَاهَدُوا أَهْوَالًا وَعَجَائِبَ، ثُمَّ قال تعالى:
- 97 - فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا
- 98 - قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
- 99 - وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَنَّهُمْ مَا قدروا على أن يصعدوا من فَوْقَ هَذَا السَّدِّ، وَلَا قَدَرُوا عَلَى نَقْبِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَلَمَّا كَانَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ أَسْهَلَ مِنْ نَقْبِهِ قَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ، فَقَالَ:{فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى نَقْبِهِ وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَأُمَّا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ
أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ، ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَّغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ، حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فستثني فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ فَيَحْفِرُونَهُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فترجع وعليها كهيئة الدَّمِ فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«والذي نفس محمد بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكر شُكْرًا من لحومهم ودمائهم» (وأخرجه ابن ماجه أيضاً والترمذي، وقال الترمذي: إسناده جيد قوي، واختار ابن كثير أن يكون موقوفاً)، ففي رَفْعِهِ نَكَارَةٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ ارْتِقَائِهِ وَلَا مِنْ نَقْبِهِ لإحكام بنائه وصلابته، وشدته ويؤيد مَا قُلْنَاهُ، مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ نقبه، وَمِنْ نَكَارَةِ هَذَا الْمَرْفُوعِ، قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» .
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} أَيْ لَمَّا بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} ، أَيْ بِالنَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حَائِلًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} أَيْ إِذَا اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أَيْ سَاوَاهُ بِالْأَرْضِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَاقَةٌ دَكَّاءُ إِذَا كَانَ ظَهْرُهَا مُسْتَوِيًا لَا سَنَامَ لَهَا، وَقَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} أَيْ مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ} قَالَ: طَرِيقًا كَمَا كَانَ، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} أَيْ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} أَيِ النَّاسَ {يَوْمَئِذٍ} أَيْ يَوْمَ يُدَكُّ هَذَا السَّدُّ وَيَخْرُجُ هَؤُلَاءِ فَيَمُوجُونَ فِي النَّاسِ، وَيُفْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ، وَيُتْلِفُونَ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، فِي قَوْلِهِ:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: ذَاكَ حِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَبَعْدَ الدجال، كما سيأتي بيانه عِنْدَ قَوْلِهِ:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الْآيَةَ. وهكذا قال ههنا، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، قال: إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن، وَقَوْلُهُ:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} ، وَالصُّورُ كَمَا جَاءَ في الحديث، قون يُنْفَخُ فِيهِ، وَالَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ عليه السلام، وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا:«كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَاسْتَمَعَ مَتَى يُؤْمَرُ» ، قَالُوا: كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» ، وَقَوْلُهُ:{فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} أَيْ أَحْضَرْنَا الْجَمِيعَ لِلْحِسَابِ {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} ، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ منهم أحدا} .
- 100 - وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا
- 101 - الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا
- 102 - أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَفْعَلُهُ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمَ، أَيْ يُبْرِزُهَا لَهُمْ وَيُظْهَرُهَا لِيَرَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ قَبْلَ دُخُولِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أبلغ في تعجيل الهم والجزن لَهُمْ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُقَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ ملك» (أخرجه مسلم عن ابن مسعود)، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي تغافلوا وتعاموا عَنْ قَبُولِ الْهُدَى وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ:{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ، وقال ههنا {وَكَانُواْ لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أَيْ لَا يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، ثُمَّ قَالَ:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ} أَيِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَصِحُّ لَهُمْ ذَلِكَ وينتفعون به {كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} ولهذا أخبر الله تعالى أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ منزلاً.
- 103 - قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا
- 104 - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
- 105 - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً
- 106 - ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا
عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي، يَعْنِي سَعْدَ بن أبي وقاص، عن قول الله:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا النصارى فكفروا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم بالفاسقين (أخرجه البخاري في صحيحه في باب التفسير)، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ، وَمَعْنَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَشْمَلُ الْحَرُورِيَّةَ كَمَا تَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرَهُمْ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ مُخْطِئٌ وعمله مردود، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} ، وقال تعالى:{والذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يجده شيئا} ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم} أَيْ نُخْبِرُكُمْ {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ، ثُمَّ فَسَّرَهُمْ فَقَالَ:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ عَمِلُوا أَعْمَالًا بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ مَشْرُوعَةٍ مَرْضِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} أَيْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ مَحْبُوبُونَ، وَقَوْلُهُ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} :
أي جحدوا آيات الله في الدينا، وَبَرَاهِينَهُ الَّتِي أَقَامَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ وَكَذَّبُوا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} أَيْ لَا نُثْقِلُ مَوَازِينَهُمْ لِأَنَّهَا خالية عن الخير، روى الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يزن عند الله جناح بعوضة - وقال - اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}» ، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ الْعَظِيمِ فَيُوزَنُ بِحَبَّةٍ فلا يزنها» ، قال قَرَأَ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَخْطُرُ فِي حُلَّةٍ لَهُ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا بُرَيْدَةُ هذا ممن لا يقيم الله لَهُمْ يَوْمَ القيامة وزنا» (أخرجه الحافظ البزار)، وعن كَعْبٍ قَالَ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَظِيمٍ طَوِيلٍ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقرأوا:{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} (أخرجه ابن جرير في تفسيره). وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ} أَيْ إنما جازيناهم بهذا الجزاء بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَاتِّخَاذِهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلَهُ هُزُوًا استهزأوا بِهِمْ وَكَذَّبُوهُمْ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ.
- 107 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا
- 108 - خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ السُّعَدَاءِ، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ الفردوس، قال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الضحاك: هُوَ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ شَجَرُ الْأَعْنَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«الْفِرْدَوْسُ ربوة الجنة أوسطها وأحسنها» (أخرجه ابن جرير عن سمرة مرفوعاً). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الجنة» ، وقوله تعالى:{نُزُلاً} أي ضيافة فإن النزل الضِّيَافَةُ، وَقَوْلُهُ:{خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مُقِيمِينَ سَاكِنِينَ فِيهَا، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا أَبَدًا، {لَا يَبْغُونَ عنها حِوَلاً} اي لا يختارون عنها غَيْرَهَا، وَلَا يُحِبُّونَ سِوَاهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَحَلَّتْ سُوَيْدَا القَلْبِ لَا أنَا بَاغيًا * سِوَاهَا، ولا عن حبها أتحول.
وفي قوله تعالى: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} تَنْبِيهٌ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِيهَا وَحُبِّهِمْ لَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِيمَنْ هُوَ مُقِيمٌ فِي الْمَكَانِ دَائِمًا أَنَّهُ قد يَسْأَمُهُ أَوْ يَمَلُّهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الدَّوَامِ وَالْخُلُودِ السَّرْمَدِيِّ لَا يَخْتَارُونَ عَنْ مُقَامِهِمْ ذَلِكَ مُتَحَوَّلًا وَلَا انْتِقَالًا، وَلَا ظَعْنًا وَلَا رِحْلَةً وَلَا بَدَلًا.
- 109 - قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَوْ كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ مِدَادًا للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه،
لنفد البحر قبل أن يفرغ كِتَابَةِ ذَلِكَ {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أَيْ بِمِثْلِ الْبَحْرِ آخَرَ ثُمَّ آخَرَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، بُحُورٌ تَمُدُّهُ وَيُكْتَبُ بِهَا لَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ كُلِّهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ:{قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال، قالت قريش لليهود: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح - إلى - وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، وَقَالَ اليهود: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية) يقول: لو كانت تلك البحور مِدَادًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَالشَّجَرُ كُلُّهُ أَقْلَامٌ، لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ وَفَنِيَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قَائِمَةً لَا يُفْنِيهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدُرَ قَدْرَهُ وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَنْبَغِي، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، إِنَّ رَبَّنَا كَمَا يَقُولُ وَفَوْقَ ما نقول، إن مثل نعيم الدينا أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ كَحَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فِي خِلَالِ الْأَرْضِ كُلِّهَا.
- 110 - قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه {قُلْ} لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ إِلَيْهِمْ {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، فَمَنْ زَعَمَ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْمَاضِي، عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ فِي نَفْسِ الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وإنما أُخْبِرُكُمْ {أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ} الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ {إِلَهٌ وَاحِدٌ} لَاّ شَرِيكَ لَهُ، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} أَيْ ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللَّهِ، {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانَ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن طاووس قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} ، وجاء رَجُلٌ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَقَالَ أَنْبِئْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا يُصَلِّي يَبْتَغِي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ، فَقَالَ عُبَادَةُ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعِي شريك فهو له كله ولا حاجة لي فيه.
وروى الإمام أحمد، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبْكَانِي. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله!
أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بِأَعْمَالِهِمْ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ» (أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه). (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يرويه عن الله عز وجل أَنَّهُ قَالَ:«أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بريء منه وهو للذي أشرك» . (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَاّ رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عن الشرك"(رواه أحمد والترمذي وابن ماجه). (حديث آخر): عَنْ أنَس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، في صحف مختمة، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي، وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا ما أريد به وجهي"(أخرجه الحافظ أبو بكر البزار). وَعَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ عز وجل» (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي).
-
54 - سورة القمر
قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ بِقَافٍ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْمَحَافِلِ الْكِبَارِ، لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى ذِكْرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَبَدْءِ الْخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ، وَالتَّوْحِيدِ، وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ العظيمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 - اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
- 2 - وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ
- 3 - وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
- 4 - وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
- 5 - حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَفَرَاغِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَتَى أَمْرُ الله فَلَا تستعجلوه} ، وَقَالَ:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ، وقد وردت الأحاديث بذلك، روى الحافظ أبو بكر البزار، عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أَصْحَابَهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إلا سف يَسِيرٌ فَقَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ وما نرى من الشمس إلا يسيراً» ، وقال الإمام أحمد، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «بُعِثْتُ أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى (أخرجه الشيخان والإمام أحمد)، وفي لفظ:«بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ إِنْ كادت لتسبقني» وَجَمَعَ الْأَعْمَشُ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد، عن خالد بن عمير قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فحمد الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بصُرْم وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبابة كصُبابة الْإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لَا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا مَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا، وَاللَّهِ لَتَمْلَؤُنَّهُ أَفَعَجِبْتُمْ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يوم وهو كظيظ من الزحام» (أخرجه ابن جرير. معنى (صُرْم): قطيعة. و (حذاء) مدبرة لم يتعلق أهلها منها بشيء، و (صُبابة): بقية). وذكر
تمام الحديث. وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: نَزَلْنَا الْمَدَائِنَ فَكُنَّا مِنْهَا عَلَى فَرْسَخٍ فَجَاءَتِ الْجُمُعَةُ فَحَضَرَ أَبِي وَحَضَرْتُ مَعَهُ، فَخَطَبَنَا حُذَيْفَةُ فَقَالَ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ، أَلَا وَإِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، أَلَا وَإِنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِفِرَاقٍ، أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارُ وَغَدًا السِّبَاقُ. فَقُلْتُ لِأَبِي أَيَسْتَبِقُ النَّاسُ غَدًا؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَجَاهِلٌ إِنَّمَا هُوَ السِّبَاقُ بِالْأَعْمَالِ، وقوله تعالى:{وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قَدْ كَانَ هَذَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ورد فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ:"خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الرُّومُ وَالدُّخَانُ وَاللِّزَامُ وَالْبَطْشَةُ وَالْقَمَرُ"، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أن انْشِقَاقُ الْقَمَرِ قَدْ وَقَعَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ كَانَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ.
(ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ).
(رواية أنَس بن مالك): روى الإمام أحمد عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آيَةً فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشق القمر} (أخرجه مسلم وأحمد)، وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إن يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِراء بينهما (أخرجاه في الصحيحين). وروى الإمام أحمد، عن جبير بن مطعم قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ
عَلَى هَذَا الْجَبَلِ، وَفِرْقَةٌ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ، فَقَالُوا: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ سَحَرَنَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ (تفرد به أحمد). وروى البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، عن ابن عباس في قوله تعالى:{اقربت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} قَالَ: قَدْ مَضَى ذَلِكَ، كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ انْشَقَّ الْقَمَرُ حَتَّى رَأَوْا شقيه، وقال الحافظ البيهقي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قَالَ: وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْشَقَّ فِلْقَتَيْنِ، فِلْقَةٌ مِنْ دُونِ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةٌ مِنْ خَلْفِ الْجَبَلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ اشْهَدْ» (رواه البيهقي وأخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح). وقال الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شقتين حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اشهدوا» (أخرجه الشيخان والإمام أحمد). وعن عبد الله ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، قَالَ، فَقَالُوا: انْظُرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ السفَّار، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، قال: فجاء السفَّار، فقالوا ذلك (أخرجه أبو داود الطيالسي). وفي لفظ: انْظُرُوا السفَّار، فَإِنْ كَانُوا رَأَوْا مَا رَأَيْتُمْ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا مِثْلَ مَا رَأَيْتُمْ فَهُوَ سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ، قَالَ: فَسُئِلَ السُّفَّارُ، قَالَ: وَقَدِمُوا مِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ، فقالوا: رأينا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القمر} (أخرجه البيهقي وابن جرير). وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:«انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى رَأَيْتُ الْجَبَلَ مِنْ بَيْنِ فُرْجَتَيِ الْقَمَرِ» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ:«اشْهَدْ يَا أَبَا بَكْرٍ» ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: سُحِرَ الْقَمَرُ حَتَّى انْشَقَّ، وَقَوْلُهُ تعالى:{وَإِن يَرَوْاْ آيَةً} أَيْ دَلِيلًا وَحُجَّةً وَبُرْهَانًا {يُعْرِضُواْ} أي لا ينقاضوا له بل يعرضوا عَنْهُ، وَيَتْرُكُونَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي يقولون هَذَا
الَّذِي شَاهَدْنَاهُ مِنَ الْحُجَجِ سحرٌ سُحِرْنَا به، ومعنى {مُّسْتَمِرٌّ} أي ذاهب بَاطِلٌ مُضْمَحِلٌّ لَا دَوَامَ لَهُ، {وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ إِذْ جَاءَهُمْ، وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ آرَاؤُهُمْ وَأَهْوَاؤُهُمْ، مِنْ جَهْلِهِمْ وَسَخَافَةِ عَقْلِهِمْ، وَقَوْلُهُ {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَيْرَ وَاقِعٌ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَالشَّرَّ وَاقِعٌ بِأَهْلِ الشَّرِّ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُسْتَقِرٌّ أَيْ واقع، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الْأَنْبَاءِ} أَيْ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ وَالنَّكَالِ وَالْعَذَابِ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أَيْ مَا فِيهِ وَاعِظٌ لَهُمْ عَنِ الشِّرْكِ والتمادي على التكذيب، وقوله تعالى:{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} أَيْ فِي هِدَايَتِهِ تَعَالَى لِمَنْ هداه وإضلاله لمن أضله {فَمَا تغني النُّذُرُ} يَعْنِي أَيُّ شَيْءٍ تُغْنِي النُّذُرُ عَمَّنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ وَخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ؟ فَمَنِ الَّذِي يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ وَهَذِهِ الآية كقوله تَعَالَى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَاّ يؤمنون} .
- 6 - فتول عنهم يَوْمَ يَدْعُ الداع إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ
- 7 - خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
- 8 - مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عسر
يقول تعالى: فتولى يَا مُحَمَّدُ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِذَا رَأَوْا آية يعرضوا ويقولوا هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْهُمْ {يَوْمَ يَدْعُ الداع إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} أَيْ إِلَى شَيْءٍ مُنْكَرٍ فَظِيعٍ، وَهُوَ مَوْقِفُ الْحِسَابِ، وَمَا فِيهِ مِنَ البلاء وَالْأَهْوَالِ، {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} أَيْ ذَلِيلَةٌ أَبْصَارُهُمْ، {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} وَهِيَ الْقُبُورُ {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي انْتِشَارِهِمْ وَسُرْعَةِ سَيْرِهِمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ إِجَابَةً لِلدَّاعِي، جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ فِي الْآفَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ:{مُهْطِعِينَ} أَيْ مُسْرِعِينَ {إِلَى الداعي} ، لا يخافون وَلَا يَتَأَخَّرُونَ {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي يوم شديد الهول عبوس قمطرير. كقوله تعالى:{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} .
- 9 - كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ
- 10 - فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ
- 11 - فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ
- 12 - وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
- 13 - وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ
- 14 - تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ
- 15 - وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
- 16 - فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
- 17 - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ
يَقُولُ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ} قَبْلَ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ {قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} أَيْ صَرَّحُوا لَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَاتَّهَمُوهُ بِالْجُنُونِ، {وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} قَالَ مجاهد: أَيْ اسْتُطِيرَ جُنُونًا، وَقِيلَ {وَازْدُجِرَ} أَيِ انْتَهَرُوهُ وزجروه
وتواعدوه، {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ حَسَنٌ، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} أَيْ إِنِّي ضَعِيفٌ عَنْ هَؤُلَاءِ وَعَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ فَانْتَصِرْ أَنْتَ لِدِينِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} وهو الْكَثِيرُ، {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} أَيْ نَبَعَتْ جَمِيعُ أَرْجَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى التَّنَانِيرُ الَّتِي هِيَ مَحَالُّ النِّيرَانِ نَبَعَتْ عُيُوناً، {فَالْتَقَى الْمَاءُ} أَيْ مِّنَ السماء والأرض {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أَيْ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ. قال ابْنِ عَبَّاسٍ:{فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} كَثِيرٍ لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ولا بعده إلا مِنَ السَّحَابِ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَالْتَقَى الْمَاءَانِ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} قال ابن عباس: هي المسامير، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الدُّسُرُ أَضْلَاعُ السَّفِينَةِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ: هُوَ صَدْرُهَا الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَوْجُ. وقال الضحّاك: الدسر طرفاها وَأَصْلُهَا، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ كلكلها أي صدرها، وَقَوْلُهُ:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أَيْ بِأَمْرِنَا بِمَرْأًى مِنَّا وَتَحْتَ حِفْظِنَا وَكَلَاءَتِنَا {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أَيْ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَانْتِصَارًا لنوح عليه السلام، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً} قَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَى اللَّهُ سَفِينَةَ نُوحٍ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ جِنْسُ السُّفُنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَآيَةٌ لَّهُمُ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} ، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، ولهذا قال ههنا {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أَيْ فَهَلْ مَنْ يَتَذَكَّرُ ويتعظ؟ وقوله تعالى:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أَيْ كَيْفَ كَانَ عَذَابِي لِمَنْ كَفَرَ
بِي وَكَذَّبَ رُسُلِي وَلَمْ يَتَّعِظْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ نُذُرِي، وَكَيْفَ انْتَصَرْتُ لَهُمْ وَأَخَذْتُ لَهُمْ بِالثَّأْرِ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أَيْ سَهَّلْنَا لَفْظَهُ وَيَسَّرْنَا مَعْنَاهُ لِمَنْ أَرَادَهُ لِيَتَذَكَّرَ النَّاسُ، كَمَا قَالَ:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آياته وليتذكروا أولوا الألباب} ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} ، قَالَ مُجَاهِدٌ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} يَعْنِي هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَسَّرْنَا تِلَاوَتَهُ عَلَى الألسن، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ عَلَى لِسَانِ الْآدَمِيِّينَ مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أن يتكلم بكلام الله عز وجل، وَقَوْلُهُ:{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أَيْ فَهَلْ مِنْ مُتَذَكِّرٍ بِهَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ حفظه ومعناه؟ وقال القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟ وروى ابن أبي حاتم، عن مطر الْوَرَّاقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} هل من طالب علم فيعان عليه (أخرجه ابن أبي حاتم وعلّقه البخاري بصيغة الجزم عن مطر الوراق).
- 18 - كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
- 19 - إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ
- 20 - تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ
- 21 - فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
- 22 - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَادٍ قَوْمِ (هُودٍ) إِنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، كَمَا صَنَعَ قَوْمُ (نُوحٍ) وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ {عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} وَهِيَ الْبَارِدَةُ الشَّدِيدَةُ الْبَرْدِ، {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} عَلَيْهِمْ نَحْسُهُ وَدَمَارُهُ، لِأَنَّهُ يَوْمٌ اتَّصَلَ فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي، وقوله تعالى:{تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَأْتِي أَحَدَهُمْ فَتَرْفَعُهُ حَتَّى تَغَيِّبَهُ عَنِ الْأَبْصَارِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَيَسْقُطُ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَبْقَى جُثَّةً بِلَا رَأْسٍ،
⦗ص: 411⦘
وَلِهَذَا قَالَ: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ} .
- 23 - كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ
- 24 - فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وسعر
- 25 - أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
- 26 - سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ
- 27 - إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ
- 28 - وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
- 29 - فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ
- 30 - فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
- 31 - إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ
- 32 - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ ثَمُودَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ صَالِحًا {فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} يَقُولُونَ: لَقَدْ خِبْنَا وَخَسِرْنَا إِنْ سَلَّمْنَا كُلُّنَا قِيَادَنَا لِوَاحِدٍ مِنَّا، ثُمَّ تَعَجَّبُوا مِنْ إِلْقَاءِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ دُونِهِمْ، ثُمَّ رَمَوْهُ بِالْكَذِبِ، فَقَالُوا {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أَيْ مُتَجَاوِزٌ فِي حَدِّ الْكَذِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ شَدِيدٌ ووعيد أكيد، ثم قال تعالى:{إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ} أَيِ اخْتِبَارًا لَهُمْ، أَخْرَجَ الله تعالى لَهُمْ نَاقَةً عَظِيمَةً عُشَرَاءَ، مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، طِبْقَ مَا سَأَلُوا، لِتَكُونَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَصْدِيقِ (صَالِحٍ) عليه السلام فِيمَا جَاءَهُمْ به، ثم قال تعالى آمِرًا لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَالِحٍ {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} ، أَيِ انتظر ما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ وَاصْبِرْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لَكَ والنصر فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُم} أَيْ يَوْمٌ لَهُمْ وَيَوْمٌ لِلنَّاقَةِ، كَقَوْلِهِ:{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شربٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ معلوم} ، وقوله تعالى:{كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا غَابَتْ حَضَرُوا الْمَاءَ، وَإِذَا جَاءَتْ حَضَرُوا اللَّبَنَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ عَاقِرُ النَّاقَةِ وَاسْمُهُ (قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ) وَكَانَ أَشْقَى قَوْمِهِ، كَقَوْلِهِ:{إِذِ انْبَعَثَ أشقاها} ، {فتعاطى} أي حسر {فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ} أَيْ فَعَاقَبْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِي لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِي وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولِي، {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أَيْ فَبَادُوا عَنْ آخِرِهِمْ لَمْ تَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ، وَخَمَدُوا وَهَمَدُوا كَمَا يَهْمُدُ يَبِيسُ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ {وَالْمُحْتَظِرُ} قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْمَرْعَى بالصحراء حين ييبس ويحترق وتسفيه الرِّيحُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ يَجْعَلُونَ حظاراً على الإبل والمواشي من يبس الشَّوْكِ، فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:{كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} .
- 33 - كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ
- 34 - إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَاّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ
- 35 - نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ
- 36 - وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ
- 37 - وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
- 38 - وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ
- 39 - فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
- 40 - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ {لُوطٍ} كَيْفَ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ وَخَالَفُوهُ وَارْتَكَبُوا الْمَكْرُوهُ مِنْ إِتْيَانِ الذُّكُورِ وَهِيَ {الْفَاحِشَةَ} الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ هَلَاكًا لَمْ يُهْلِكْهُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ جِبْرِيلَ عليه السلام فَحَمَلَ مَدَائِنَهُمْ حَتَّى وَصَلَ بِهَا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ وَأَرْسَلَهَا وَأُتْبِعَتْ بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ، ولهذا قال ههنا:{إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} وَهِيَ الْحِجَارَةُ {إِلَاّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} أَيْ خَرَجُوا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَنَجَوْا مِمَّا أَصَابَ قَوْمَهُمْ، وَلَمْ يؤمن بلوط من قومه أحد، حَتَّى وَلَا امْرَأَتُهُ أَصَابَهَا مَا أَصَابَ قَوْمَهَا، وخرج نبي الله لوط من بين أظهرهم سالماً لم يمسه سُوءٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أَيْ وَلَقَدْ كَانَ قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، قَدْ أَنْذَرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ، فَمَا الْتَفَتُوا إِلَى ذَلِكَ وَلَا أَصْغَوْا إِلَيْهِ، بَلْ شَكُّوا فِيهِ وَتَمَارَوْا بِهِ {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} وَذَلِكَ لَيْلَةَ وَرَدَ عليه الملائكة في صور شَبَابٍ مُرْدٍ حِسَانٍ، مِحْنَةً مِنَ اللَّهِ بِهِمْ، فَأَضَافَهُمْ لُوطٌ عليه السلام، وَبَعَثَتِ امْرَأَتُهُ الْعَجُوزُ السُّوءُ إِلَى قَوْمِهَا، فَأَعْلَمَتْهُمْ بِأَضْيَافِ لُوطٍ فَأَقْبَلُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ مِن كُلِّ مَكَانٍ، فَأَغْلَقَ لُوطٌ دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، ولوط عليهم السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحَالُ وَأَبَوْا إِلَّا الدُّخُولَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ (جِبْرِيلُ) عليه السلام فَضَرَبَ أَعْيُنَهُمْ بِطَرَفِ جَنَاحِهِ، فَانْطَمَسَتْ أَعْيُنُهُمْ، يُقَالُ إِنَّهَا غَارَتْ مِنْ وجوههم، وقيل: إنه لم يبق لَهُمْ عُيُونٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَرَجَعُوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ يَتَحَسَّسُونَ بِالْحِيطَانِ، وَيَتَوَعَّدُونَ لُوطًا عليه السلام إِلَى الصَّبَاحِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَا انْفِكَاكَ لَهُمْ مِنْهُ {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ} .
- 41 - وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ
- 42 - كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ
- 43 - أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ
- 44 - أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ
- 45 - سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
- 46 - بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إنهم جاءهم رسول (موسى) وأخوه (هارون) وَأَيَّدَهُمَا بِمُعْجِزَاتٍ عَظِيمَةٍ وَآيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَكَذَّبُوا بِهَا كُلِّهَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، أَيْ فأبادهم الله ولم يبق منهم عين ولا أثر، ثم قال تعالى:{أَكُفَّارُكُمْ} أيها المشركون {خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} يَعْنِي مِنَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذكرهم، ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، أأنتم خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ؟ {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ} أَيْ أَمْ مَعَكُمْ مِنَ اللَّهِ بَرَاءَةٌ، أن لا ينالكم عذاب ولا نكال، ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنْهُمْ:{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي يعتقدون أن جَمْعَهُمْ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أَيْ سيتفرق شملهم ويغلبون، روى البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ:«أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تعبد بعد اليوم في الأرض أَبَدًا» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِيَدِهِ، وَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، وَهُوَ يَقُولُ: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وأمر} (أخرجه البخاري والنسائي)، وروى
ابن أبي حاتم، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدبر} قَالَ عُمَرُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟ أَيُّ جَمْعٍ يُغْلَبُ؟ قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَهُوَ يَقُولُ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدبر» فعرفت تأويلها يومئذٍ (أخرجه ابن أبي حاتم).
- 47 - إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ
- 48 - يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
- 49 - إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
- 50 - وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ
- 51 - وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
- 52 - وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ
- 53 - وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ
- 54 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
- 55 - فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
يُخْبِرُنَا تَعَالَى عَنِ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُمْ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ {وسُعُر} مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالِاضْطِرَابِ فِي الْآرَاءِ، وَهَذَا يَشْمَلُ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ مِنْ كَافِرٍ ومبتدع من سائر الفرق، ثم قال تعالى:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أَيْ كَمَا كَانُوا فِي سُعُرٍ وَشَكٍّ وَتَرَدُّدٍ أَوْرَثَهُمْ ذلك النار، وَيُقَالُ لَهُمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} ، وقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، كَقَوْلِهِ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} ، وكقوله تعالى {والذي قَدَّرَ فهدى} أَيْ قَدَّرَ قَدَرًا وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ، عَلَى إِثْبَاتِ قَدَرِ اللَّهِ السَّابِقِ لِخَلْقِهِ، وَهُوَ عِلْمُهُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا، وَكِتَابَتُهُ لَهَا قَبْلَ بُرْئِهَا، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها عَلَى الْفِرْقَةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ نَبَغُوا فِي أَوَاخِرِ عصر الصحابة، روى أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ على وجوههم ذوقوا عذاب مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (أخرجه مسلم وأحمد والترمذي). وعن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عباس وهو ينتزع مِنْ زَمْزَمَ وَقَدِ ابْتَلَّتْ أَسَافِلُ ثِيَابِهِ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ تُكِلِّمَ فِي الْقَدَرِ، فَقَالَ: أَوَ قَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِيهِمْ: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أُولَئِكَ أشرار هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَى مَوْتَاهُمْ، إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ فَقَأْتُ عينيه بأصبعي هاتين (أخرجه ابن أبي حاتم). وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا قَدَرَ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تشهدوهم» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» (رواه مسلم وأحمد عن ابن عمر مرفوعاً).
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ". وروى الإمام أحمد، عن الوليد بن عبادة قال: دخلت
عَلَى عُبَادَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ أَتَخَايَلَ فِيهِ الْمَوْتَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ أَوْصِنِي وَاجْتَهِدْ لِي، فَقَالَ: أَجْلِسُونِي، فَلَمَّا أَجْلَسُوهُ، قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لن تطعم الإيمان ولن تَبْلُغْ حَقَّ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ وَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ مَا خَيْرُ الْقَدَرِ وَشَرُّهُ؟ قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ يصيبك، وما أصابك لم يكن يخطئك، يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فجرى في تلك الساعة مما هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، يَا بُنَيَّ إِنْ مُتَّ وَلَسْتَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارَ (أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب). وقد ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إن الله كتب مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» ، زَادَ ابْنُ وَهْبٍ:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} (أخرجه مسلم والترمذي). وقوله تعالى: {وما أَمْرُنَآ إِلَاّ وَاحِدَةٌ كلمح البصر} وهذا إِخْبَارٌ عَنْ نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ فِي خَلْقِهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِنُفُوذِ قَدَرِهِ فِيهِمْ، فَقَالَ:{وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَاّ وَاحِدَةٌ} أَيْ إِنَّمَا نَأْمُرُ بِالشَّيْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَا نَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ بِثَانِيَةٍ، فَيَكُونُ ذلك مَوْجُودًا كَلَمْحِ الْبَصَرِ لَا يَتَأَخَّرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْراً فَإِنَّمَا * يَقُولُ لَهُ: كن - قولة - فيكونوقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} يَعْنِي أَمْثَالَكُمْ وَسَلَفَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ؟ أَيْ فَهَلْ مِنْ مُتَّعِظٍ بِمَا أَخْزَى اللَّهُ أُولَئِكَ، وقدَّر لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تعالى:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قبل} ، وقوله تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أَيْ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ عليهم السلام، {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ {مُّسْتَطَرٌ} أَيْ مَجْمُوعٌ عَلَيْهِمْ وَمُسَطَّرٌ فِي صَحَائِفِهِمْ، لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا، وقد روى الإمام أحمد، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:«يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا من الله طالباً» (أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة)، وقوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أَيْ بِعَكْسِ مَا الْأَشْقِيَاءُ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالسُّعْرِ، وَالسَّحْبِ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، مَعَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ والتهديد، وقوله تعالى:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أَيْ فِي دَارِ كَرَامَةِ الله ورضوانه، وفضله وامتنانه، ووجوده وَإِحْسَانِهِ {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} أَيْ عِنْدَ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ، الْخَالِقِ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَمُقَدِّرِهَا، وَهُوَ مُقْتَدِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ مِمَّا يَطْلُبُونَ وَيُرِيدُونَ، وَقَدْ روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«المقسطون عند الله عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وأهليهم وما ولوا» (أخرجه مسلم وأحمد والنسائي).
-
55 - سورة الرحمن
روى الترمذي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَسَكَتُوا فَقَالَ:"لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تكذبان} قالوا: لاشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد"(أخرجه الترمذي ورواه الحافظ البزار وابن جرير بنحوه).
بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 - الرَّحْمَنُ
- 2 - عَلَّمَ الْقُرْآنَ
- 3 - خَلَقَ الْإِنْسَانَ
- 4 - عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
- 5 - الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ
- 6 - وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
- 7 - وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ
- 8 - أَلَاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ
- 9 - وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ
- 10 - وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ
- 11 - فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ
- 12 - وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ
- 13 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ، أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى عِبَادِهِ الْقُرْآنَ، وَيَسَّرَ حِفْظَهُ وفهمه على من رحمه، فقال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} قال الحسن: يعني النطق، وقال الضحاك: يعني الخير والشر، وقول الحسن ههنا أَحْسَنُ وَأَقْوَى، لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي تَعْلِيمِهِ تَعَالَى الْقُرْآنَ وَهُوَ أَدَاءُ تِلَاوَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْقِ عَلَى الْخَلْقِ، وَتَسْهِيلِ خُرُوجِ الْحُرُوفِ من مواضعها، على اختلاف مخارجها وأنواعها، وقوله تعالى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أَيْ يَجْرِيَانِ مُتَعَاقِبَيْنَ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ، لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَضْطَرِبُ. {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . وقوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} اختلف المفسرون
في معنى قوله {والنجم} ؛ فروي عن ابن عباس {النَّجْمُ} مَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، يَعْنِي من النبات (وهو قول سعيد بن جبير والسدي وسفيان الثوري واختاره ابن جرير)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: النَّجْمُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} الآية، وقوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} يَعْنِي الْعَدْلَ، كَمَا قال تَعَالَى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} وهكذا قال ههنا: {أَلَاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ} أَيْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِتَكُونَ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالْحَقِّ والعدل، ولهذا قال تعالى:{وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ} أَيْ لَا تَبْخَسُوا الْوَزْنَ بَلْ زِنُوا بِالْحَقِّ وَالْقِسْطِ، كما قال تعالى:{وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} .
وقوله تعالى: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي السماء أرساها بالجبال الشامخات، لتستقر بما عَلَى وَجْهِهَا مِنَ الْأَنَامِ، وَهُمُ الْخَلَائِقُ الْمُخْتَلِفَةُ أنواعهم وأشكالهم وألوانهم فِي سَائِرِ أَقْطَارِهَا وَأَرْجَائِهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد وقتادة: الْأَنَامُ: الْخَلْقُ، {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أَيْ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ وَنَفْعِهِ رَطْبًا وَيَابِسًا، وَالْأَكْمَامُ: قَالَ ابْنُ عباس: هي أوعية الطلع، وَهُوَ الَّذِي يَطْلُعُ فِيهِ الْقِنْوُ، ثُمَّ يَنْشَقُّ عَنِ الْعُنْقُودِ فَيَكُونُ بُسْرًا ثُمَّ رُطَبًا، ثُمَّ ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه، وَقِيلَ الْأَكْمَامُ رُفَاتُهَا، وَهُوَ اللِّيفُ الَّذِي عَلَى عُنُقِ النَّخْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ، {وَالْحَبُّ ذُو العصف والريحان} قال ابن عباس:{ذُو العصف} يعني التبن، وعنه: العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه، فَهُوَ يُسَمَّى الْعَصْفَ إِذَا يَبِسَ، وَكَذَا قَالَ قتادة والضحاك: عصفة: تبنه، وقال ابن عباس ومجاهد: وَالرَّيْحَانُ يَعْنِي الْوَرَقَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ رَيْحَانُكُمْ هذا، وَمَعْنَى هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْحَبَّ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا، لَهُ فِي حَالِ نَبَاتِهِ عَصْفٌ وَهُوَ مَا عَلَى السُّنْبُلَةِ، وَرَيْحَانٌ وَهُوَ الْوَرَقُ الْمُلْتَفُّ عَلَى سَاقِهَا، وَقِيلَ: الْعَصْفُ الْوَرَقُ أَوَّلَ مَا يُنْبِتُ الزَّرْعُ بَقْلًا، وَالرَّيْحَانُ الْوَرَقُ يَعْنِي إِذَا أَدْجَنَ وَانْعَقَدَ فِيهِ الْحَبُّ، كَمَا قَالَ زيد بن عمرو ابن نُفَيْلٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
وَقُولَا لَهُ: مَنْ يُنْبِتُ الْحَبَّ فِي الثَّرَى * فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه * فَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيَا
وَقَوْلُهُ تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أَيْ فَبِأَيِّ الْآلَاءِ يَا مَعْشَرَ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ تُكَذِّبَانِ؟ أَيِ النِّعَمُ ظَاهِرَةٌ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ مَغْمُورُونَ بِهَا، لَا تَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهَا وَلَا جُحُودَهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ كما قالت الجن:«اللَّهُمَّ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ» وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا بِأَيِّهَا يَا رَبِّ، أَيْ لَا نُكَذِّبُ بِشَيْءٍ منها.
- 14 - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
- 15 - وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ
- 16 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 17 - رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ
- 18 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 19 - مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
- 20 - بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَاّ يَبْغِيَانِ
- 21 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 22 - يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ والمرجان
- 23 - فَبِأَيِّ آلاء
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 24 - وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ
- 25 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
يَذْكُرُ تَعَالَى خَلْقَهُ الْإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلْقَهُ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ طَرَفُ لَهَبِهَا، قاله ابن عباس (وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وابن زيد)، وعنه:{مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ}
مِنْ لَهَبِ النَّارِ مِنْ أَحْسَنِهَا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَّارٍ} مِنْ خَالِصِ النَّارِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ والضحَّاك وغيرهم، وروى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخَلَقَ آدَمُ مِمَّا وصف لكم» (أخرجه مسلم والإمام أحمد). وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} يَعْنِي مَشْرِقَيِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، ومغربي الصيف والشتاء، وقال:{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب} وَذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ وَتَنَقُّلِهَا فِي كُلِّ يوم وبروزها منه إلى الناس، وقال:{رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فاتخذوه وكيلاً} ، والمراد مِنْهُ جِنْسُ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَلَمَّا كَانَ فِي اخْتِلَافِ هَذِهِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَصَالِحُ لِلْخَلْقِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالَ:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ وقوله تعالى: {مَرَجَ البحرين} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ أَرْسَلَهُمَا، وَقَوْلُهُ {يَلْتَقِيَانِ} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ مَنَعَهُمَا أَنْ يَلْتَقِيَا بِمَا جَعَلَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْبَرْزَخِ الْحَاجِزِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {الْبَحْرَيْنِ}: الْمِلْحُ وَالْحُلْوُ، فَالْحُلْوُ هذه الأنهار السارحة بين الناس (تقدم الكلام على هذا في سورة الفرقان)؛ وقد اختار ابن جرير: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْرَيْنِ بَحْرَ السَّمَاءِ، وَبَحْرَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ اللُّؤْلُؤَ يَتَوَلَّدُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَأَصْدَافِ بحر الأرض، وهذا لا يساعده اللفظ، فإنه قَدْ قَالَ {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَاّ يَبْغِيَانِ} أَيْ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَهُوَ الْحَاجِزُ مِنَ الْأَرْضِ لِئَلَّا يَبْغِيَ هَذَا عَلَى هَذَا وَهَذَا عَلَى هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يُسَمَّى بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً.
وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أَيْ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا، فإذا وجد ذلك من أحدهما كَفَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ منكم} ؟ وَالرُّسُلُ إِنَّمَا كَانُوا فِي الْإِنْسِ خَاصَّةً دُونَ الْجِنِّ، وَقَدْ صَحَّ هَذَا الْإِطْلَاقُ. وَاللُّؤْلُؤُ مَعْرُوفٌ، وَأَمَّا الْمَرْجَانُ فَقِيلَ: هُوَ صِغَارُ اللُّؤْلُؤِ (قَالَهُ مجاهد وقتادة والضحّاك)، وَقِيلَ: كِبَارُهُ وَجَيِّدُهُ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بعض السلف (منهم الربيع بن أنَس وابن عباس وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ)، وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ أحمر اللون، قال ابن مسعود: المرجان الخرز الأحمر. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمِن كلٍ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حلية تلبسونها} ، فَاللَّحْمُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْأُجَاجِ وَالْعَذْبِ، وَالْحَلِيَّةُ إنما هي من المالح دُونَ الْعَذْبِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا سَقَطَتْ قَطُّ قَطْرَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي الْبَحْرِ فَوَقَعَتْ في صدفة إلا صار منها لؤلؤة، وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ هَذِهِ الْحِلْيَةِ نِعْمَةً عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ امْتَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ:{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ وقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ} يَعْنِي السُّفُنَ الَّتِي تَجْرِي {فِي الْبَحْرِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا رَفَعَ قَلْعَهُ من السفن فهي منشآت وما لم يرفع قلعه فليس بمنشآت. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُنْشَآتُ يَعْنِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: المنشِئات بكسر الشين
يَعْنِي الْبَادِئَاتِ، {كَالْأَعْلَامِ} أَيْ كَالْجِبَالِ فِي كِبَرِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاجِرِ وَالْمَكَاسِبِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ وَإِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، مِمَّا فيه صلاح الناس فِي جَلْبِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ سَائِرِ أنواع البضائع، ولهذا قال:{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ عن عمرة بن سويد قَالَ: "كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ إِذْ أَقْبَلَتْ سَفِينَةٌ مَرْفُوعٌ شِرَاعُهَا فَبَسَطَ عليٌّ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: {وَلَهُ الجوار الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} وَالَّذِي أَنْشَأَهَا تَجْرِي في بِحَوَرِهِ مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ وَلَا مَالَأْتُ عَلَى قتله"(أخرجه ابن أبي حاتم).
- 26 - كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
- 27 - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ
- 28 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 29 - يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
- 30 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ سَيَذْهَبُونَ وَيَمُوتُونَ أَجْمَعُونَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ إِلَاّ مَن شَآءَ اللَّهُ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ سِوَى وَجْهِهِ الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا، قَالَ قَتَادَةُ: أَنْبَأَ بِمَا خَلَقَ، ثُمَّ أَنْبَأَ أَنَّ ذلك كله فانٍ، وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثُ، أصلح لنا شئننا كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَرَأْتَ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فَلَا تَسْكُتْ حَتَّى تَقْرَأَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} ، وَقَدْ نَعَتَ تَعَالَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، أَيْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُجل فَلَا يُعصى، وَأَنْ يُطاع فلا يُخالف، كقوله تعالى:{يُرِيدُونَ وجهه} ، وكقوله:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ذُو العظمة والكبرياء، ولما أخبر تعالى عَنْ تَسَاوِي أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي الْوَفَاةِ، وَأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ، قَالَ:{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ غِنَاهُ عما سواه، وافتقار الخلائق إليه وَأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ بِلِسَانِ حَالِهِمْ وَقَالِهِمْ، وَأَنَّهُ كُلَّ يوم هو في شأن، قال الأعمش: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُجِيبَ دَاعِيًا أَوْ يُعْطِيَ سَائِلًا، أَوْ يَفُكَّ عَانِيًا أَوْ يَشْفِيَ سَقِيمًا، وقال مجاهد: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ يُجِيبُ دَاعِيًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا، وَيُجِيبُ مُضْطَرًّا، وَيَغْفِرُ ذَنْبًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي حَيًّا وَيُمِيتُ مَيِّتًا، وَيُرَبِّي صَغِيرًا وَيَفُكُّ أَسِيرًا، وَهُوَ منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم، وروى ابن جرير عن منيب الأزدي قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ الشَّأْنُ؟ قَالَ: «أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ كَرْبًا، ويرفع قوماً ويضع آخرين» (أخرجه ابن جرير مرفوعاً ورواه البخاري موقوفاً من كلام أبي الدرداء). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ دَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ قَلَمُهُ نور، وكتابه نور، وعرضه مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يوم ثلثمائة وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يَخْلُقُ فِي كُلِّ نَظْرَةٍ، وَيُحْيِي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء (أخرجه ابن جرير).
- 31 - سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ
- 32 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 33 - يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَاّ بِسُلْطَانٍ
- 34 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 35 - يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ
- 36 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
قَالَ ابن عباس في قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} قَالَ: وَعِيدٌ مِنَ الله تعالى للعباد، وليس بالله شغل وهو فارغ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ دَنَا مِنَ اللَّهِ فَرَاغٌ لِخَلْقِهِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أَيْ سَنَقْضِي لَكُمْ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: سَنُحَاسِبُكُمْ لَا يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ العرب، يقال: لأفرغنّ لَكَ، وَمَا بِهِ شُغْلٌ يَقُولُ: لَآخُذَنَّكَ عَلَى غرتك، وقوله تعالى:{أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} الثَّقَلَانِ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ كَمَا جَاءَ في الصحيح: «يسمعه كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ:«إِلَّا الإنس والجن» ، وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ:«الثَّقَلَانِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، ثم قال تعالى:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَاّ بِسُلْطَانٍ} أَيْ لَا تَسْتَطِيعُونَ هَرَبًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُمْ لَا تقدرون على التخلص من حكمه، أَيْنَمَا ذَهَبْتُمْ أُحِيطَ بِكُمْ، وَهَذَا فِي مَقَامِ الحشر، الْمَلَائِكَةُ مُحْدِقَةٌ بِالْخَلَائِقِ سَبْعَ صُفُوفٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الذَّهَابِ {إِلَاّ بِسُلْطَانٍ} أَيْ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ، {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أين المفر} ، ولهذا قال تعالى:{يُرسلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} قال ابن عباس: الشواظ هو لهب النار، وعنه: الشواظ الدخان، وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع، وَقَالَ الضَّحَّاكُ:{شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} سَيْلٌ مِنْ نار، وقوله تعالى:{ونحاس} قال ابن عباس: دخان النار، وقال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاساً. روى الطبراني عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الشُّوَاظِ فَقَالَ: هُوَ اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ مَعَهُ، فَسَأَلَهُ شَاهِدًا عَلَى ذلك من اللغة، فأنشده بيت أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي حَسَّانَ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حسانَ عَنِّي * مُغَلْغلة تَدِبُّ إِلَى عُكَاظِ
أَلَيْسَ أَبُوكَ فِينَا كَانَ قَيْنًا * لَدَى الْقَيْنَاتِ فَسْلا فِي الحِفاظ
يَمَانِيًّا يَظَلُّ يَشُدُّ كيراً * وينفخ دائباً لهب الشواظ (معنى مغلغلة: أي رسالة، قين: أي عبد، فَسْل: أي ضعيف عابر).
قَالَ: صَدَقْتَ، فَمَا النُّحَاسُ؟ قَالَ: هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي لَا لَهَبَ لَهُ، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ؟ قَالَ: نَعَمْ أَمَا سَمِعْتَ نَابِغَةَ بَنِي ذبيان يقول:
يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِي * طِ لَّمْ يَجْعَلِ الله فيه نحاساً (رواه الطبراني عن الضحّاك عن نافع بن الأزرق).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: النُّحَاسُ الصُّفَّرُ يُذَابُ فَيُصَبُّ عَلَى رؤوسهم، والمعنى: لَوْ ذَهَبْتُمْ هَارِبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَدَّتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالزَّبَانِيَةُ بِإِرْسَالِ اللَّهَبِ مِنَ النَّارِ وَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ عَلَيْكُمْ لِتَرْجِعُوا، وَلِهَذَا قَالَ:{فَلَا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟
- 37 - فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ
- 38 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 39 - فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ
- 40 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 41 - يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ
- 42 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 43 - هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ
- 44 - يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ
- 45 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
يَقُولُ تَعَالَى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا دَلَّتْ عليه الآيات الواردة في معناها، كقوله تعالى:{وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهية} ، وَقَوْلِهِ:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} ، وَقَوْلِهِ:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} ، وقوله تعالى:{فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} أَيْ تَذُوبُ كَمَا يَذُوبُ الدُّردِي (الدردي: ما يركد في أسفل كل مائع كالشراب والأدهان) وَالْفِضَّةُ فِي السَّبْكِ، وَتَتَلَوَّنُ كَمَا تَتَلَوَّنُ الْأَصْبَاغُ الَّتِي يُدْهَنُ بِهَا، فَتَارَةً حَمْرَاءَ وَصَفْرَاءَ وَزَرْقَاءَ وَخَضْرَاءَ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَهَوْلِ يَوْمِ القيامة العظيم. عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُبْعَثُ النَّاسُ يوم القيامة والسماء تطش عليهم» (رواه الإمام أحمد من حديث أنَس بن مالك) قال الجوهري: الطش المطر الضعيف، وقال ابن عباس:{وَرْدَةً كالدهان} كالأديم الأحمر، وعنه كالفرس الورد، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَالْبِرْذَوْنِ الْوَرِدِ، ثُمَّ كَانَتْ بعد كالدهان، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: تَكُونُ أَلْوَانًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَكُونُ كَلَوْنِ الْبَغْلَةِ الْوَرِدَةِ، وَتَكُونُ كَالْمُهْلِ كَدُرْدِيِّ الزَّيْتَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{كَالدِّهَانِ} كَأَلْوَانِ الدِّهَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ الخُراساني: كَلَوْنِ دُهْنِ الْوَرْدِ فِي الصُّفْرَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْيَوْمَ خَضْرَاءُ ويومئذٍِ لَوْنُهَا إِلَى الْحُمْرَةِ يَوْمَ ذِي أَلْوَانٍ، وَقَالَ أَبُو الجوزاء، في صفاء الدهن، وقال ابن جريج: تصير السماء كالدهان الذَّائِبِ، وَذَلِكَ حِينَ يُصِيبُهَا حَرُّ جَهَنَّمَ، وَقَوْلُهُ تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ} ، وهذه كقوله تَعَالَى:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فهذا في حال، و «ثَمَّ» في حال، يسأل الخلائق عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، ولهذا قَالَ قَتَادَةُ {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ} ، قَالَ: قَدْ كَانَتْ مَسْأَلَةٌ ثُمَّ خُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِ الْقَوْمِ، وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يعملون، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لِمَ عملتم كذا وكذا، فهذا قَوْلٌ ثَانٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يُعْرَفُونَ بِسِيمَاهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَكَأَنَّ هَذَا بَعْدَ مَا يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَذَلِكَ الْوَقْتُ لَا يُسْأَلُونَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، بَلْ يُقَادُونَ إِلَيْهَا وَيُلْقَوْنَ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أَيْ بِعَلَامَاتٍ تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ الحسن وقتادة: يعرفون بِاسْوِدَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ، (قُلْتُ): وَهَذَا كَمَا يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ.
وقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} أي يجمع الزَّبَانِيَةُ نَاصِيَتَهُ مَعَ قَدَمَيْهِ وَيُلْقُونَهُ فِي النَّارِ كذلك، وقال ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه فَيُكْسَرُ كَمَا يُكْسَرُ الْحَطَبُ فِي التَّنُّورِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ
فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَةِ الْكَافِرِ وَقَدَمَيْهِ فَتُرْبَطُ نَاصِيَتُهُ بقدمه ويفتل ظهره، وقوله تَعَالَى:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} أَيْ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِوُجُودِهَا، هَا هِيَ حَاضِرَةٌ تُشَاهِدُونَهَا عِيَانًا، يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً، وقوله تعالى:{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أَيْ تَارَةً يعذبون في الحجيم، وَتَارَةً يُسْقَوْنَ مِنَ الْحَمِيمِ، وَهُوَ الشَّرَابُ الَّذِي هُوَ كَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ يُقَطِّعُ الْأَمْعَاءَ وَالْأَحْشَاءَ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} . وقوله تعالى: {إن} أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة قال ابن عباس: قد انتهى غليه واشتد حرّه، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: يُؤْخَذُ الْعَبْدُ فَيُحَرَّكُ بِنَاصِيَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحَمِيمِ، حَتَّى يَذُوبَ اللَّحْمُ وَيَبْقَى الْعَظْمُ وَالْعَيْنَانِ فِي الرَّأْسِ، وَهِيَ كَالَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:{فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النار يسجرون} فَقَوْلُهُ {حَمِيمٍ آنٍ} أَيْ حَمِيمٌ حَارٌّ جِدًّا، وَلَمَّا كَانَ مُعَاقَبَةُ الْعُصَاةِ الْمُجْرِمِينَ، وَتَنْعِيمُ الْمُتَّقِينَ من فضله ورحمته، وكان إنذاره لهم عن عَذَابَهُ وَبَأْسَهُ، مِمَّا يَزْجُرُهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ من الشرك والمعاصي، قَالَ مُمْتَنًّا بِذَلِكَ عَلَى بَرِيَّتِهِ:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تكذبان} ؟
- 46 - وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ
- 47 - فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 48 - ذَوَاتَا أَفْنَانٍ
- 49 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 50 - فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ
- 51 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 52 - فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ
- 53 - فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
قال عطاء الخُرساني: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} في أبي بكر الصديق، وقال عطية بن قيس: نَزَلَتْ فِي الَّذِي قَالَ: أَحْرِقُونِي بِالنَّارِ لَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ، قَالَ تَابَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا فَقَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ وَأَدْخَلَهُ الجنة (رواه ابن أبي حاتم)، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ كَمَا قَالَهُ ابن عباس وغيره، يقول الله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} ولم يطع ولا آثر الحياة الدُّنْيَا، وَعَلِمَ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، فَأَدَّى فَرَائِضَ اللَّهِ وَاجْتَنَبَ مَحَارِمَهُ، فَلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عند ربه جنتان، كما روى البخاري رحمه الله: عن عبد الله بن قيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:«جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عدن» (أخرجه البخاري وبقية أفراد الجماعة إلا أبا داود)، وقال حَمَّادٌ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ فِي قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ ربه جنتان} ، وفي قوله:{وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} ، جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ وَرِقٍ لأصحاب اليمين. وقال عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ يَوْمًا هَذِهِ الْآيَةَ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «وَإِنْ
…
رَغِمَ أَنْفُ أبي الدرداء» (رواه النسائي مرفوعاً وموقوفاً)، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَهِيَ من أدل
دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِذَا آمَنُوا وَاتَّقَوْا، وَلِهَذَا
امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الثَّقَلَيْنِ بِهَذَا الْجَزَاءِ فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثُمَّ نَعَتَ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ فَقَالَ: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} أَيْ أَغْصَانٍ نَضِرَةٍ حَسَنَةٍ، تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ نضيجة، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ هَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ الْأَفْنَانَ أَغْصَانُ الشَّجَرِ يَمَسُّ بَعْضُهَا بعضاً، وقال عكرمة {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} يَقُولُ: ظِلُّ الْأَغْصَانِ عَلَى الْحِيطَانِ، ألم تسمع قول الشاعر:
مَا هَاجَ شَوْقُكَ مِنْ هَدِيلِ حَمَامَةٍ * تَدْعُو على فنن الغصون حماما
وعن ابن عباس {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} : ذواتا ألوان، ومعنى هذا القول أن فيهما مِنَ الْمَلَاذِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: كُلُّ غُصْنٍ يَجْمَعُ فُنُونًا مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:{ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} وَاسِعَتَا الْفِنَاءِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا والله أعلم، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَقَالَ: «يَسِيرُ فِي ظِلِّ الْفَنَنِ مِنْهَا الرَّاكِبُ مِائَةَ سَنَةٍ - أَوْ قَالَ يَسْتَظِلُّ فِي ظِلِّ الْفَنَنِ مِنْهَا مِائَةُ رَاكِبٍ - فِيهَا فِرَاشُ الذَّهَبِ كأن ثمرها القلال» (أخرجه الترمذي في سننه){فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أَيْ تَسْرَحَانِ لِسَقْيِ تِلْكَ الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِحْدَاهُمَا يُقَالُ لَهَا تَسْنِيمٌ، وَالْأُخْرَى السَّلْسَبِيلُ، وَقَالَ عَطِيَّةُ: إِحْدَاهُمَا مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَالْأُخْرَى مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا:{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا فِي الدُّنْيَا ثَمَرَةٌ حُلْوَةٌ ولا مرة إلا وهي في الجنة، وليس فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، يَعْنِي أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ بَوْنًا عَظِيمًا وَفَرْقًا بَيِّنًا فِي التَّفَاضُلِ.
- 54 - مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ
- 55 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 56 - فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ
- 57 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 58 - كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ
- 59 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 60 - هَلْ جَزَآءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ
- 61 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
يَقُولُ تَعَالَى: {مُتَّكِئِينَ} ، يَعْنِي أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَالْمُرَادُ بالاتكاء ههنا الاضجاع، ويقال: الجلوس على صفة التربيع {عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وَهُوَ مَا غلظ من الديباج، وقيل: هو الديباج المزيّن بِالذَّهَبِ، فَنَبَّهَ عَلَى شَرَفِ الظِّهَارَةِ بِشَرَفِ الْبِطَانَةِ، فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، قال ابن مسعود: هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر؟ قال مالك بن دنيار: بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَظَوَاهِرُهَا مِنْ نُورٍ، وَقَالَ الثوري: بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَظَوَاهِرُهَا مِنْ نُورٍ جَامِدٍ، وقال القاسم ابن مُحَمَّدٍ: بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَظَوَاهِرُهَا مِنَ الرَّحْمَةِ {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} أي ثمرهما قَرِيبٌ إِلَيْهِمْ مَتَى شَاءُوا تَنَاوَلُوهُ، عَلَى أَيِّ صفة كانوا كما قال تعالى:{قطوفها دانية} ، وَقَالَ:{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} اي لا تمتنع مِمَّنْ تَنَاوَلَهَا بَلْ تَنْحَطُّ إِلَيْهِ مِنْ أَغْصَانِهَا {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَلَمَّا ذَكَرَ الْفُرُشَ وَعَظَمَتَهَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {فِيهِنَّ} أَيْ فِي الْفُرُشِ {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أَيْ غَضِيضَاتٌ عَنْ غَيْرِ
أزواجهن، فلا يرين شيئاً في الجنة أحسن من أزواجهن، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ تَقُولُ لِبَعْلِهَا: وَاللَّهِ مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْكَ، وَلَا فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَكَ لِي وَجَعَلَنِي لَكَ، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ} أَيْ بَلْ هُنَّ أَبْكَارٌ عُرُبٌ أَتْرَابٌ، لَمْ يَطَأْهُنَّ أَحَدٌ قَبْلَ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى دُخُولِ مُؤْمِنِي الجن الجنة، سُئِلَ ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ هَلْ يَدْخُلُ الْجِنُّ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَنْكِحُونَ، لِلْجِنِّ جِنِّيَّاتٌ وَلِلْإِنْسِ إِنْسِيَّاتٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، ثُمَّ قَالَ يَنْعَتُهُنَّ لِلْخُطَّابِ {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قَالَ مجاهد والحسن: فِي صَفَاءِ الْيَاقُوتِ وَبَيَاضِ الْمَرْجَانِ، فَجَعَلُوا الْمَرْجَانَ ههنا اللؤلؤ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«إن المرأة من نساء الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حلة من حرير حتى يرى مخها» وذلك قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فَأَمَّا الْيَاقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لَرَأَيْتَهُ من ورائه" (رواه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أصح). وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ الثياب» (تفرد به الإمام أحمد) وعن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِمَّا تَفَاخَرُوا وَإِمَّا تذاكروا، الرِّجَالُ أَكْثَرُ فِي الْجَنَّةِ أَمِ النِّسَاءُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوَلَمْ يَقُلْ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تليها على ضوء كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زوجتان اثنتان يرى مخ ساقها مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ؟» (الحديث مخرج في الصحيحين). وروى الإمام أحمد، عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ولقاب قوس أحدهم أو موضع قده - يَعْنِي سَوْطَهُ - مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوِ اطَّلَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَطَابَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خير من الدنيا وما فيها» (أخرجه أحمد ورواه البخاري بنحوه).
وقوله تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} أي ليس لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . روى البغوي، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} وقال: «هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» ؟ (ذكره البغوي من حديث أنَس بن مالك) وَلَمَّا كَانَ فِي الَّذِي ذُكِرَ نِعَمٌ عَظِيمَةٌ لَا يُقَاوِمُهَا عَمَلٌ، بَلْ مُجَرَّدُ تَفَضُّلٍ وَامْتِنَانٍ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تكذبان} ؟
- 62 - وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ
- 63 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 64 - مُدْهَامَّتَانِ
- 65 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 66 - فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ
- 67 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 68 - فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ
- 69 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 70 - فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ
- 71 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 72 - حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ
- 73 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 74 - لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ - 75 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 76 - مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ
- 77 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- 78 - تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ
هَاتَانِ الْجَنَّتَانِ دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، فِي الْمَرْتَبَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَنْزِلَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا» . فَالْأُولَيَانِ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَالْأُخْرَيَانِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} من دونهما في الدرجة، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ دُونِهِمَا فِي الْفَضْلِ؛ {مُدْهَآمَّتَانِ} أي سوداوان من شدة الري من الماء، قال ابن عباس {مُدْهَآمَّتَانِ} قَدِ اسْوَدَّتَا مِنَ الْخُضْرَةِ مِنْ شِدَّةِ الري من الماء، وعنه {مُدْهَآمَّتَانِ} قال: خضروان. وقال محمد بن كعب: ممتلئتان من الخضرة، وقال قتادة: خضروان مِنَ الرِّيِّ نَاعِمَتَانِ، وَلَا شَكَّ فِي نَضَارَةِ الأغصان على الأشجار المشتبكة بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَقَالَ هُنَاكَ:{فِيهِمَا عَيْنَانِ تجريان} وقال ههنا: {نَضَّاخَتَانِ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ فَيَّاضَتَانِ وَالْجَرْيُ أَقْوَى مِنَ النضخ، وقال الضحّاك {نَضَّاخَتَانِ} أي ممتلئتان ولا تَنْقَطِعَانِ، وَقَالَ هُنَاكَ:{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} وقال ههنا {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُولَى أَعَمُّ وَأَكْثَرُ فِي الْأَفْرَادِ وَالتَّنْوِيعِ عَلَى {فَاكِهَةٌ} وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا تعم، ولهذا ليس في قَوْلُهُ:{وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ، مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، كَمَا قَرَّرَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: جَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَفِي الْجَنَّةِ فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ» ، قَالُوا: أَفَيَأْكَلُونَ كَمَا يَأْكُلُونَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَضْعَافٌ» ، قَالُوا: فَيَقْضُونَ الْحَوَائِجَ؟ قَالَ: «لَا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب ما في بطونهم من أذى» (أخرجه عبد الحميد في مسنده). وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«نَخْلُ الْجَنَّةِ سَعَفُهَا كُسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَمِنْهَا حُلَلُهُمْ، وورقها ذهب أحمر، وجذوعها زمرد أخضر، وتمرها أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَلَيْسَ له عجم» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخِدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَظَرْتُ إِلَى الْجَنَّةِ فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب» (أخرجهما ابن أبي حاتم)، ثُمَّ قَالَ:{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قِيلَ: الْمُرَادُ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْجَنَّةِ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ:{خَيْرَاتٌ} جَمْعُ خَيِّرَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الحسنة الخلق الحسنة الوجه قاله الجمهور، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي سَنُورِدُهُ فِي سُورَةِ الواقعة إن شاء الله أَنَّ الْحُورَ الْعِينَ يُغَنِّينَ:«نَحْنُ الخيِّرات الْحِسَانُ، خُلِقْنَا لِأَزْوَاجٍ كِرَامٍ» وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} بِالتَّشْدِيدِ {حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، ثُمَّ قَالَ {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} ، وَهُنَاكَ قَالَ:{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّتِي قَدْ قَصَرَتْ طَرْفَهَا بِنَفْسِهَا أَفْضَلُ مِمَّنْ قُصِرت وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مُخَدَّرَاتٍ، قَالَ ابْنُ أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ خَيِّرَةً وَلِكُلِّ
خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، تدخل عليه كُلَّ يَوْمٍ تُحْفَةٌ وَكَرَامَةٌ وَهَدِيَّةٌ، لَمْ تَكُنْ قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات، ولا بخرات، ولا زفرات، حور عين كأنها بيض مكنون.
وقوله تعالى: {فِي الخيام} قال البخاري، عن عبد الله بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا
يَرَوْنَ الْآخَرِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المؤمنون»، ورواه مسلم بلفظ:«إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلٌ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بعضاً» . وقال ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء قال: لُؤْلُؤَةٌ وَاحِدَةٌ فِيهَا سَبْعُونَ بَابًا مِنْ دُرٍّ (أخرجه ابن أبي حاتم). وعن ابن عباس في قوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} قال: خِيَامِ اللُّؤْلُؤِ، وَفِي الْجَنَّةِ خَيْمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ لؤلؤة واحدة أربع فراسخ في أربع فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وهب، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً وَتُنْصَبُ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وياقوت كما بين الجابية وصنعاء» (أخرجه الترمذي في سننه). وقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ} قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ سَوَاءٌ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي وَصْفِ الْأَوَائِلِ بِقَوْلِهِ: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، وقوله تعالى:{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّفْرَفُ الْمَحَابِسُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وعكرمة هي المحابس، وَقَالَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ:{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} يعني الوسائد وهو قول الحسن البصري، وقال سعيد بن جبير: الرفرف رياض الجنة، وقوله تعالى:{وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} قال ابن عباس وَالسُّدِّيُّ: الْعَبْقَرِيُّ الزَّرَابِيُّ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ يَعْنِي جِيَادَهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: العبقري الديباج.
وسأل الحسن البصري عن قوله تعالى {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} فَقَالَ: هِيَ بُسُطُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لا أباً لكم فاطلبوها، وقال أبو العالية: العبقري الطنافس المحملة إلى الرقة ما هي، وقال القيسي: كل ثوب موشّى عند العرب عبقري، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَصِفَةُ مَرَافِقِ أَهْلِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَرْفَعُ وَأَعْلَى مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ هُنَاكَ:{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} ، فَنَعَتَ بَطَائِنَ فُرُشِهِمْ وَسَكَتَ عَنْ ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن وَتَمَامُ الْخَاتِمَةِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ:{هَلْ جَزَآءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ؟ فَوَصَفَ أَهْلَهَا بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَالنِّهَايَاتِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ الإيمان، ثم الإحسان، فَهَذِهِ وُجُوهٌ عَدِيدَةٌ فِي تَفْضِيلِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ على هاتين الأخيرتين، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْوَهَّابَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْأُولَيَيْنِ. ثُمَّ قَالَ:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} أَيْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُجَلَّ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُكْرَمَ فَيُعْبَدَ، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}: ذِي الْعَظَمَةِ والكبرياء. «أجلّوا الله يغفر لكم» (أخرجه الإمام أحمد). وفي الحديث الآخر: «أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام» (رواه الترمذي). وفي رواية: «أَلِظُّوا بذي الجلال
والإكرام» (رواه النسائي وأحمد). وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَلَظَّ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا لَزِمَهُ، وقول ابن مسعود: ألظوا بياذا الجلال والإكرام: أي الزموا، يقال: الإلظاظ هو الإلحاح، وفي صحيح مسلم، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ لَا يَقْعُدُ يعني بعد الصلاة إلا بقدر مَا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (أخرجه مسلم وأصحاب السنن).
-
56 - سورة الواقعة
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود بسنده عَنْ أَبِي ظَبْيَةَ قَالَ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَعَادَهُ (عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) فَقَالَ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي، قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي، قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِطَبِيبٍ؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي، قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِعَطَاءٍ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، قَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ؟ إِنِّي أَمَرْتُ بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لم تصبه فاقة أبداً» (رواه ابن عساكر وأبو يعلى، وقال بعده: فكان أبو ظبية لا يدعها). وروى أحمد عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كَنَحْوٍ مِنْ صَلَاتِكُمُ، الَّتِي تُصَلُّونَ الْيَوْمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ كَانَتْ صَلَاتُهُ أَخَفَّ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَكَانَ يَقْرَأُ في الفجر الواقعة ونحوها من السور (رواه الإمام أحمد في المسند).
بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 - إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ
- 2 - لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
- 3 - خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ
- 4 - إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا
- 5 - وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً
- 6 - فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً
- 7 - وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً
- 8 - فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ
- 9 - وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
- 10 - وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
- 11 - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
- 12 - فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
الْوَاقِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحَقُّقِ كَوْنِهَا وَوُجُودِهَا كَمَا قال تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} وقوله تعالى: {لَّيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أَيْ لَيْسَ لِوُقُوعِهَا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلَا دَافِعٌ يَدْفَعُهَا، كَمَا قَالَ:{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} ، وَقَالَ:{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دافع} ، ومعنى {كَاذِبَةٌ} أي لابد أن تكون، وقال قتادة: لَّيْسَ فيها ارْتِدَادٌ وَلَا رَجْعَةٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية، وقوله تعالى:{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي تخفض أَقْوَامًا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِلَى الْجَحِيمِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَعِزَّاءَ، وَتَرْفَعُ آخَرِينَ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَإِنْ كَانُوا في الدنيا وضعاء، وعن ابن عباس:{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} تخفض أقواماً وترفع آخرين، وقال عثمان بن سراقة: السَّاعَةُ خَفَضَتْ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، وَرَفَعَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: تَخْفِضُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ، وَتَرْفَعُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَخْفُوضِينَ، وَقَالَ السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين، وقوله تعالى:{إِذاً رُجَّتِ الْأَرْضُ رجَّاً} أَيْ حُرِّكَتْ تَحْرِيكًا فَاهْتَزَّتْ وَاضْطَرَبَتْ بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رجَّاً} أَيْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالًا، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: تُرَجُّ بِمَا فِيهَا كرج الغربال بما فيه، كقوله تعالى:{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زلزالها} ، وقال تعالى:{إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} ، وقوله تعالى:{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} أَيْ فُتِّتَتْ فَتًّا، قَالَهُ ابن عباس ومجاهد، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَارَتِ الْجِبَالُ كَمَا قَالَ الله تعالى {كثيباً مهيلاً} ، وقوله تعالى:{فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: هَبَاءً مُنْبَثًّا كَرَهَجِ الْغُبَارِ يَسْطَعُ ثُمَّ يَذْهَبُ فَلَا يَبْقَى منه شيء، وقال ابن عباس: الهباء الذي يطير من النار إذا اضرمت يَطِيرُ مِنْهُ الشَّرَرُ، فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شيئاً، وقال عكرمة: المنبث الذي قد ذَرَّتْهُ الرِّيحُ وَبَثَّتْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ:{هَبَاءً مُّنبَثّاً} كيابس الشَّجَرِ الَّذِي تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَأَخَوَاتِهَا الدَّالَةِ عَلَى زَوَالِ الْجِبَالِ عَنْ أَمَاكِنِهَا يَوْمَ القيامة، وذهابها وَنَسْفِهَا أَيْ قَلْعِهَا وَصَيْرُورَتِهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} أَيْ يَنْقَسِمُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: قَوْمٌ عَنْ يَمِينِ العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، وَهُمْ جُمْهُورُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَآخَرُونَ عَنْ يَسَارِ العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم وَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ النار، وطائفة سابقون بين يديه عز وجل وَهُمْ أحظى وأقرب من أصحاب اليمين، فِيهِمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ، وَهُمْ أَقَلُّ عدداً من أصحاب اليمين، لهذا قال تعالى:{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} ، وَهَكَذَا قَسَّمَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَقْتَ احْتِضَارِهِمْ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} الآية وَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ كما تقدم بيانه، قال ابن عباس {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} قَالَ: هِيَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} قَالَ: أَصْنَافًا ثَلَاثَةً، وقال مجاهد:{وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} يَعْنِي فِرَقًا ثَلَاثَةً، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أفواجاً ثَلَاثَةً، اثْنَانِ فِي الْجَنَّةِ وَوَاحِدٌ فِي النَّارِ، قال مُجَاهِدٍ:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَهْلُ عِلِّيِّينَ، وَقَالَ ابْنُ سيرين {والسابقون السابقون} الذين صلوا إلى القبلتين، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أَيْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ، أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ثُمَّ قَالَ: أَوَّلُهُمْ رَوَاحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَوَّلُهُمْ خُرُوجًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّابِقِينَ هُمُ الْمُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ الْخَيِّرَاتِ، كَمَا أُمِرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} ، وقال تَعَالَى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء
والأرض}، فمن سابق في هَذِهِ الدُّنْيَا وَسَبَقَ إِلَى الْخَيْرِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْكَرَامَةِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكَمَا تَدِينُ تُدان، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، وقال ابن أبي حاتم، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ جَعَلْتَ لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَرَاجَعُوا ثَلَاثًا، فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي، كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ؛ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو موقوفاً).
- 13 - ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ
- 14 - وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ
- 15 - عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ
- 16 - مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ
- 17 - يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ
- 18 - بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ
- 19 - لَاّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ
- 20 - وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ
- 21 - وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
- 22 - وَحُورٌ عِينٌ
- 23 - كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ
- 24 - جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
- 25 - لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً
- 26 - إِلَاّ قِيلاً سَلَاماً سَلَامًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هؤلاء السابقين المقربين أَنَّهُمْ {ثُلَّةٌ} أَيْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ الأولين والآخرين فقيل: المراد بالأولين الأمم الماضية، وبالآخرين هذه الأمة، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَاسْتَأْنَسَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القيامة» ، ولم يحك غيره، وَمِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} شِقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوْ شَطْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُمُ النِّصْفَ الثَّانِي» (أخرجه ابن أبي حاتم والإمام أحمد). وهذا الذي اختاره ابن جرير فِيهِ نَظَرٌ بَلْ هُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرَّبُونَ فِي غَيْرِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَابَلَ مَجْمُوعُ الْأُمَمِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الرَّاجِحُ، وَهُوَ أن يكون المراد بقوله تعالى:{ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} أَيْ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، {وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أَيْ مِنْ هَذِهِ الأمة، قال ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ الْمُزَنِيُّ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فَقَالَ: أَمَّا السَّابِقُونَ فَقَدْ مَضَوْا، وَلَكِنِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أصحاب اليمين، ثم قَرَأَ الْحَسَنُ:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جنات النعيم * ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} قال: ثلة ممن مضى من هذه الأمة. وعن محمد بن سيرين أنه قال في هذاه الْآيَةِ {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ أَوْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. ولاشك أَنَّ أَوَّلَ كُلِّ أُمَّةٍ خَيْرٌ مِنْ آخِرِهَا، فيحتمل أن تعم الآية جَمِيعَ الْأُمَمِ كُلُّ أُمَّةٍ بِحَسْبِهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ
قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (أخرجه الشيخان) الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخره» (أخرجه الإمام أحمد) فهذا الحديث مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ كَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلى أول الأمة في إبلاغه كَذَلِكَ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْقَائِمِينَ بِهِ فِي أواخرها، والفضل للمتقدم، وكذلك الزرع هو محتاج إِلَى الْمَطَرِ الْأَوَّلِ وَإِلَى الْمَطَرِ الثَّانِي، وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ الْكُبْرَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَاحْتِيَاجُ الزَّرْعِ إِلَيْهِ آكَدُ، فَإِنَّهُ لَوْلَاهُ مَا نَبَتَ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَعَلَّقَ أَسَاسُهُ فِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام:«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمتي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خالفهم إلى قيام الساعة» (أخرجاه في الصحيحين).
وفي لفظ: «حتى يأتي أمر الله تعالى وَهُمْ كَذَلِكَ» ، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَالْمُقَرِّبُونَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا وَأَعْلَى مَنْزِلَةً لِشَرَفِ دِينِهَا وَعِظَمِ نَبِيِّهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَفِي لَفْظٍ:«مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا - وَفِي آخَرَ - مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ ألفاً» ؛ وقد روى الحافظ الطبراني، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أما والذي نفسي بِيَدِهِ لَيُبْعَثَنَّ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلَ اللَّيْلِ الْأَسْوَدِ زُمْرَةٌ جَمِيعُهَا يُحِيطُونَ الْأَرْضَ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَمَا جَاءَ مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مِمَّا جَاءَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام» (أخرجه الحافظ الطبراني). وقوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ يَعْنِي مَنْسُوجَةٌ بِهِ (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقتادة والضحّاك)، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ وَاللُّؤْلُؤِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِنْهُ يسمى وَضِينُ النَّاقَةِ الَّذِي تَحْتَ بَطْنِهَا وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ مَضْفُورٌ وَكَذَلِكَ السُّرُرُ فِي الجنة مضفورة بالذهب واللاليء.
وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أَيْ وُجُوهٌ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ لَيْسَ أَحَدٌ وَرَاءَ أَحَدٍ، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أَيْ مُخَلَّدُونَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لا يَشِيبُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أَمَّا الْأَكْوَابُ فَهِيَ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا خَرَاطِيمَ لَهَا وَلَا آذَانَ، وَالْأَبَارِيقُ الَّتِي جَمَعَتِ الوصفين، والكؤوس الْهَنَابَاتُ وَالْجَمِيعُ مِنْ خَمْرٍ مِنْ عَيْنٍ جَارِيَةٍ مَعِينٍ، لَيْسَ مِنْ أَوْعِيَةٍ تَنْقَطِعُ وَتُفْرَغُ بَلْ من عيون سارحة، وقوله تعالى:{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ} أَيْ لَا تصدع رؤوسهم وَلَا تُنْزَفُ عُقُولُهُمْ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ مَعَ الشدة المطربة واللذة الحاصلة، وروى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: «السكْر، وَالصُّدَاعُ، وَالْقَيْءُ، وَالْبَوْلُ» فَذَكَرَ اللَّهُ تعالى خَمْرَ الْجَنَّةِ وَنَزَّهَهَا عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ، وَقَالَ مجاهد وعكرمة {لَاّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} يَقُولُ: لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا صُدَاعُ رَأْسٍ، وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ {وَلَا يُنزِفُونَ} أي لا تذهب بعقولهم، وقوله تعالى:{وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ وَيَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَتَخَيَّرُونَ مِنَ الثِّمَارِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ على صفة التخير لها، روى الطبراني عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعَ ثمرة من الجنة عادت مكانها
أُخرى» (أخرجه الحافظ الطبراني)، وقوله تعالى:{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ طَيْرَ الْجَنَّةِ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ يَرْعَى فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَطَيْرٌ ناعمة، فقال:«آكلها أَنْعَمُ مِنْهَا - قَالَهَا ثَلَاثًا - وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تكون ممن يأكل منها» (أخرجه الإمام أحمد). وقال قتادة في قوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} وذكر لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إني لأرى طيرها ناعماً كأهلها ناعمون، قال:«ومن يَأْكُلُهَا وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ أَنْعَمُ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَأَمْثَالُ الْبُخْتِ وَإِنِّي لَأَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أن تأكل منها يا أبا بكر» . وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْكَوْثَرِ فَقَالَ:«نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عز وجل فِي الْجَنَّةِ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، فِيهِ طُيُورٌ أَعْنَاقُهَا يَعْنِي كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ» فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا» (أخرجه
ابن أبي الدنيا، ورواه الترمذي). وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَتَشْتَهِيهِ فَيَخِرُّ بين يديك مشوياً» (رواه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {وحورٌ عينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} بالرفع وتقديره: ولهم فيها حور عين، وقوله تعالى:{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أَيْ كَأَنَّهُنَّ اللُّؤْلُؤُ الرَّطْبُ في بياضه وصفائه كما تقدم، {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} ، وَلِهَذَا قَالَ:{جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَتْحَفْنَاهُمْ بِهِ مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى ما أحسنوا من العمل.
- 27 - وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابَ الْيَمِينِ
- 28 - فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ
- 29 - وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ
- 30 - وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
- 31 - وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ
- 32 - وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
- 33 - لَاّ مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ
- 34 - وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ
- 35 - إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً
- 36 - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً
- 37 - عُرُباً أَتْرَاباً
- 38 - لأَصْحَابِ الْيَمِينِ
- 39 - ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ
- 40 - وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَآلَ السَّابِقِينَ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ، عَطَفَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمُ الْأَبْرَارُ، كَمَا قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أصحاب اليمين منزلتهم دُونَ الْمُقَرَّبِينَ، فَقَالَ {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ اليمين} أي ما حَالُهُمْ وَكَيْفَ مَآلُهُمْ؟ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ تعالى:{فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ، وَعَنِ ابْنِ عباس: هو الموقر بالثمر، وقال قتادة: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ الْمُوقَرُ الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّ سِدْرَ الدُّنْيَا كَثِيرُ الشَّوْكِ قَلِيلُ الثَّمَرِ، وَفِي الآخرة على العكس مِنْ هَذَا لَا شَوْكَ فِيهِ، وَفِيهِ الثَّمَرُ الكثير الذي أثقل أصله، كما روى الحافظ أبو بكر النجار، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَنْفَعُنَا بِالْأَعْرَابِ وَمَسَائِلِهِمْ، قَالَ: أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَمَا هي؟» قال: السدر، فإن له شوكاً مؤذياً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أليس الله تعالى يَقُولُ: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} خَضَدَ اللَّهُ شَوْكَهُ، فَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً، فَإِنَّهَا لَتُنْبِتُ ثمراً
تَفَتَّقُ الثَّمَرَةُ مِنْهَا عَنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا مِنْ طَعَامٍ مَا فِيهَا لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ"، وَقَوْلُهُ:{وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} الطَّلْحُ: شَجَرٌ عِظَامٌ يَكُونُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، مِنْ شَجَرِ الْعِضَاةِ وَاحِدَتُهُ طَلْحَةٌ، وَهُوَ شَجَرٌ كَثِيرُ الشَّوْكِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ لِبَعْضِ الْحُدَاةِ:
بشَّرها دَلِيلُهَا وَقَالَا * غَدًا تَرَيْنَ الطلح والجبالا
قال مُجَاهِدٌ {مَّنضُودٍ} : أَيْ مُتَرَاكِمُ الثَّمَرِ، يُذَكِّرُ بِذَلِكَ قُرَيْشًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْجَبُونَ مِنْ وَجٍّ وَظِلَالِهِ من طلح وسدر، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُشْبِهُ طَلْحَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ لَهُ ثَمَرٌ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالطَّلْحُ لُغَةٌ فِي الطَّلْعِ، (قُلْتُ) وَقَدْ رَوَى أن علياً يقول هذا الحرف في {طلح مَّنضُودٍ} قَالَ: طَلْعٌ مَنْضُودٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ صِفَةِ السِّدْرِ، فَكَأَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَخْضُودٌ وَهُوَ الَّذِي لَا شَوْكَ لَهُ، وَأَنَّ طَلْعَهُ منضود، وهو كثرة ثمره والله أعلم. وعن أبي سعيد {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} قال: الموز (وهو قول ابن عباس وأبي هريرة والحسن وعكرمة وقتادة وغيرهم)، وأهل الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الْمَوْزَ: الطَّلْحَ، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جرير غير هذا القول، وقوله تعالى:{وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} روى البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شجرة يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها، اقرأوا إن شئتم {وَظِلٍّ ممدود} (رواه البخاري ومسلم). وقال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرأوا إن شئتم {وظل ممدود} (أخرجه أحمد ورواه الشيخان). وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضْمَرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يقطعها» (أخرجه الشيخان)، فَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وآله وَسَلَّمَ بَلْ مُتَوَاتِرٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ النُّقَّادِ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ وَقُوَّةِ أَسَانِيدِهِ وَثِقَةِ رجاله. وقال الترمذي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا فِي الْجَنَّةِ شجرة إلا ساقها من ذهب» (أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب). وقال الضحّاك والسدي في قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} لَا يَنْقَطِعُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا حَرٌّ مِثْلُ قَبْلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَالَ ابن مسعود: الجنة سَجْسَج (سَجْسَج: أي لا حر ولا برد) كَمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وقد تقدمت الآيات كقوله تعالى:{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} وقوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وظلها} ، وقوله {فِي ظِلَالٍ وعيون} إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى:{وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} قال الثوري: يَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية، بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله تَعَالَى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَاّ مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} أَيْ وَعِنْدَهُمْ مِنَ الْفَوَاكِهِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي الْأَلْوَانِ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خطر على قلب بشر، كما قال تَعَالَى:{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} أَيْ يُشْبِهُ الشَّكْلُ الشَّكْلَ، وَلَكِنَّ الطَّعْمَ غَيْرُ الطَّعْمِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
في ذكر سدرة المنتهى: فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَنَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هجر، وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ إِذْ تَقَدَّمُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَقَدَّمْنَا مَعَهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا لِيَأْخُذَهُ ثُمَّ تَأَخَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ الْيَوْمَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا مَا كُنْتَ تَصْنَعُهُ، قَالَ:«إِنَّهُ عُرِضَتْ عليَّ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ لِآتِيَكُمْ بِهِ فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا ينقص منه» (أخرجه الحافظ أبو يعلى وأخرجه مسلم بنحوه). وقوله تعالى: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} أَيْ لَا تَنْقَطِعُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، بَلْ أُكُلُهَا دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا، مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ بقدرة الله شيء، وقال قَتَادَةُ: لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَنَاوُلِهَا عُودٌ وَلَا شَوْكٌ وَلَا بُعْدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ:«إِذَا تَنَاوَلَ الرَّجُلُ الثَّمَرَةَ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى» .
وقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة، روى النسائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} قَالَ: «ارْتِفَاعُهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام» (أخرجه النسائي والترمذي وقال: حسن غريب). وعن الْحَسَنِ: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} قَالَ: ارْتِفَاعُ فِرَاشِ الرَّجُلِ من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة (أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري موقوفاً)، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} جَرَى الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، لَكَنْ لَمَّا دَلَّ السِّيَاقُ وَهُوَ ذِكْرُ الْفُرُشِ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي يُضَاجِعْنَ فِيهَا اكْتَفَى بِذَلِكَ عن ذكرهَّن وعاد الضمير عليهن، قال الأخفش في قوله تعالى {أنا أنشأهن} أضمرهن ولم يذكرن قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذُكِرْنَ فِي قوله تعالى:{وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} ، فقوله تعالى:{إنا أَنشَأْنَاهُنَّ} أي أعدناهن في النشأة الأُخرى بعد ما كُنَّ عَجَائِزَ رُمْصًا، صِرْنَ {أَبْكَاراً عُرُباً} أَيْ بعد الثيوبة عدن أبكاراً عرباً، مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْحَلَاوَةِ وَالظَّرَافَةِ وَالْمَلَاحَةِ، وَقَالَ بعضهم {عُرُباً} أي غنجات، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً قَالَ: نِسَاءٌ عَجَائِزُ كنَّ فِي الدُّنْيَا عمشاً رمصاً"(أخرجه الترمذي وابن أبي حاتم وقال الترمذي: غريب). وعن سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً} يَعْنِي الثَّيِّبَ وَالْأَبْكَارَ اللَّاتِي كُنَّ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: أَتَتْ عَجُوزٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادع الله تعالى أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلَانٍ إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ» قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي، قَالَ: أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا، وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنشآء فجعلناهن أبكاراً} (أخرجه التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ).
وعن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أخبرني عن قول الله تعالى: {حُورٌ عِينٌ} قَالَ: «حُورٌ» بِيضٌ «عِينٌ» ضِخَامُ الْعُيُونِ، شُفْرُ الْحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قوله تعالى: {كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} قَالَ: «صَفَاؤُهُنَّ صَفَاءُ الدَّرِّ الَّذِي فِي الْأَصْدَافِ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي» قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قَالَ: «خَيِّرَاتُ الْأَخْلَاقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ» ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عن قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} قال:
«رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الْجِلْدِ الَّذِي رَأَيْتَ فِي دَاخِلِ البيضة مما يلي القشر وهو الغرقيء» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: {عُرُباً أَتْرَاباً} قَالَ: «هُنَّ اللَّوَاتِي قُبِضْنَ فِي الدار الدُّنْيَا عَجَائِزَ رُمْصًا شُمْطًا خَلَقَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَجَعَلَهُنَّ عَذَارَى عُرُبًا مُتَعَشِّقَاتٍ مُحَبَّبَاتٍ أَتْرَابًا عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ أَمِ الْحُورُ الْعِينِ؟ قَالَ: «بَلْ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَبِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: "بِصَلَاتِهِنَّ وَصِيَامِهِنَّ وَعِبَادَتِهِنَّ اللَّهَ عز وجل، أَلْبَسَ اللَّهُ وُجُوهَهُنَّ النُّورَ، وَأَجْسَادَهُنَّ الْحَرِيرَ، بِيضُ الْأَلْوَانِ خُضْرُ الثِّيَابِ، صُفْرُ الْحُلِيِّ، مَجَامِرُهُنَّ الدُّرُّ، وَأَمْشَاطُهُنَّ الذَّهَبُ، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ أَبَدًا، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ أَبَدًا، وَنَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلَا نَظْعَنُ أَبَدًا، أَلَا وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا، طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَانَ لَنَا"، قُلْتُ: يَا رسول الله! المرأة منا تتزوج الزوجين وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ، ثُمَّ تَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ زَوْجَهَا؟ قَالَ:"يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، فَتَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا كَانَ أَحْسَنَ خُلُقًا مَعِي فَزَوِّجْنِيهِ، يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الخلق بخير الدنيا والآخرة"(رواه أبو القاسم الطبراني). وفي الحديث: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا جَامَعُوا نِسَاءَهُمْ عُدْنَ أبكاراً» (أخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَصِلُ إِلَى نِسَائِنَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصِلُ فِي الْيَوْمِ إِلَى مِائَةِ عذراء» (رواه الطبراني وقال الحافظ المقدسي: هو على شرط الصحيح).
وقوله تعالى: {عُرُباً} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى النَّاقَةِ الضُّبَعَةِ هِيَ كَذَلِكَ، وَقَالَ الضحّاك عنه: العرب العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون، وقال عكرمة: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ {عُرُباً} قَالَ: هي المَلِقة لزوجها، وقال عكرمة: هي الغنجة، وعنه: هي الشكلة، وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {عُرُباً} قَالَ: الشِّكِلَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْغَنِجَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ حَذْلَمٍ: هِيَ حسن التبعل، وقوله {أَتْرَاباً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِي سِنٍّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَتْرَابُ: الْمُسْتَوِيَاتُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْأَمْثَالُ، وَقَالَ عَطِيَّةُ: الْأَقْرَانُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {أَتْرَاباً} أَيْ فِي الْأَخْلَاقِ الْمُتَوَاخِيَاتُ بَيْنَهُنَّ، لَيْسَ بَيْنَهُنَّ تَبَاغُضٌ وَلَا تَحَاسُدٌ، يَعْنِي لَا كما كن ضرائر متعاديات، وقال ابن أبي حاتم، عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ {عُرُباً أَتْرَاباً} قَالَا: الْمُسْتَوَيَاتُ الْأَسْنَانِ يَأْتَلِفْنَ جَمِيعًا وَيَلْعَبْنَ جَمِيعًا، وَقَدْ رَوَى الترمذي، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمُجْتَمَعًا لِلْحُورِ الْعِينِ يَرْفَعْنَ أَصْوَاتًا لم تسمع الخلائق بمثلها - قال - يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ، وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ، طُوبَى لمن كان لنا وكنا له"(أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب). وعن أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْحُورَ الْعِينَ لَيُغَنِّينَ فِي الْجَنَّةِ يَقُلْنَ: نَحْنُ خَيِّرَاتٌ حِسَانٌ خُبِّئْنَا لِأَزْوَاجٍ كرام"(أخرجه الحافظ أبو يعلى). وقوله تعالى: {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ خُلِقْنَا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ أَوِ زُوِّجْنَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {إنآ أنشأناهن إنشآء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} فَتَقْدِيرُهُ أَنْشَأْنَاهُنَّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ ابْنِ جرير، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَتْرَاباً
لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ فِي أَسْنَانِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى ضَوْءِ أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يتفلون، ولا يتمخطون؛ أمشاطهم الذهب وريحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأرواحهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السماء» (أخرجه الشيخان). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَهُمْ عَلَى خَلْقِ آدَمَ سِتُّونَ ذراعاً في عرض سبعة أذرع» (أخرجه الطبراني ورواه الترمذي بنحوه). وروى ابن وهب، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ يُرَدُّونَ بَنِي ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَزِيدُونَ عليها أبداً وكذلك أهل النار» . وروى ابن أبي الدنيا، عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى طُولِ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْمَلِكِ! عَلَى حُسْنِ يُوسُفَ وَعَلَى مِيلَادِ عِيسَى ثَلَاثٍ وثلاثين وَعَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ» ، وَقَالَ أبو بكر بن أبي داود، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُبْعَثُ أَهْلُ الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ. ثُمَّ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَيُكْسَوْنَ مِنْهَا لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ» ، وَقَوْلُهُ تعالى:{ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أَيْ جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هما جميعاً من أُمتي» (أخرجه ابن جرير).
- 41 - وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ
- 42 - فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ
- 43 - وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ
- 44 - لَاّ بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ
- 45 - إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ
- 46 - وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ
- 47 - وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
- 48 - أَوَ آبَآؤُنَا الْأَوَّلُونَ
- 49 - قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ
- 50 - لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ
- 51 - ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ
- 52 - لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ
- 53 - فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ
- 54 - فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ
- 55 - فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ
- 56 - هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، عَطَفَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ أَصْحَابِ الشِّمَالِ فَقَالَ:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ} أَيْ أيُّ شَيْءٍ هُمْ فِيهِ أَصْحَابُ الشِّمَالِ؟ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ: {فِي سَمُومٍ} وَهُوَ الْهَوَاءُ الْحَارُّ، {وَحَمِيمٍ} وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظل الدخان (وبه قال مجاهد وعكرمة وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ)، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْطَلِقُوا
إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَاّ ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهب} ولهذا قال ههنا: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} وَهُوَ الدُّخَّانُ الْأَسْوَدُ {لَاّ بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} أَيْ لَيْسَ طَيِّبَ الْهُبُوبِ، ولا حسن المنظر {وَلَا كَرِيمٍ} أَيْ وَلَا كَرِيمِ الْمَنْظَرِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ شَرَابٍ لَيْسَ بِعَذْبٍ فَلَيْسَ بِكَرِيمٍ، قال ابْنُ جَرِيرٍ: الْعَرَبُ تَتْبَعُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي النَّفْيِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا الطَّعَامُ لَيْسَ بِطَيِّبٍ وَلَا كَرِيمٍ، هَذَا اللَّحْمُ لَيْسَ بِسَمِينٍ وَلَا كَرِيمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِحْقَاقَهُمْ لِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أَيْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مُنَعَّمِينَ، مُقْبِلِينَ عَلَى لَذَّاتِ أنفسهم، {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ} أي يقيمون وَلَا يَنْوُونَ تَوْبَةً {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} ، وَهُوَ الكفر بالله، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحِنْثِ الْعَظِيمِ: الشِّرْكُ (وَكَذَا قال مجاهد وعكرمة والضحّاك وقتادة)، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ {وَكَانُواْ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الْأَوَّلُونَ} يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مُكَذِّبِينَ بِهِ مُسْتَبْعِدِينَ لِوُقُوعِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أَيْ أَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ سَيُجْمَعُونَ إِلَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ لا يغادر منهم أحد، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مشهود} ، ولهذا قال ههنا:{لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أَيْ هُوَ موقت بوقت محدود لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقْبَضُونَ وَيُسَجَّرُونَ حَتَّى يَأْكُلُوا مِنْ شجر الزقوم حتى يملأوا مِنْهَا بُطُونَهُمْ، {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} وَهِيَ الْإِبِلُ الْعِطَاشُ وَاحِدُهَا أَهْيَمُ وَالْأُنْثَى هَيْمَاءُ، وَيُقَالُ: هَائِمٌ وَهَائِمَةٌ، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: الهيم الإبل العطاش الظماء، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْهِيمُ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فَلَا تَرْوَى أَبَدًا حَتَّى تَمُوتَ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ جَهَنَّمَ لا يرون من الحميم أبداً، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أَيْ هَذَا الَّذِي وَصَفْنَا هُوَ ضِيَافَتُهُمْ عِنْدَ ربهم يوم حسابهم، كما قال تعالى في حق المؤمنين:{كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً} أَيْ ضِيَافَةً وَكَرَامَةً.
- 57 - نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ
- 58 - أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ
- 59 - أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ
- 60 - نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
- 61 - عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
- 62 - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ
يَقُولُ تعالى مقرراً للمعاد، وراداً على المكذبين به من أهل الزيع والإلحاد، {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أَيْ نَحْنُ ابْتَدَأْنَا خَلْقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، أَفَلَيْسَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى الْبَدَاءَةِ، بِقَادِرٍ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الأولى والأحرى؟ ولهذا قَالَ:{فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} ؟ أَيْ فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ! ثم قال تعالى مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ؟ أَيْ أَنْتُمْ تُقِرُّونَهُ فِي الْأَرْحَامِ وَتَخْلُقُونَهُ فِيهَا أَمِ اللَّهُ الْخَالِقُ لذلك؟ ثم قال تعالى {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أَيْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَكُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سَاوَى فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَيْ وَمَا نَحْنُ بِعَاجِزِينَ {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أَيْ نُغَيِّرُ خلقكم يوم القيامة، {وننشئكم فيما لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ، ثُمَّ قال تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} أَيْ قد علمتم
أَنَّ اللَّهَ أَنْشَأَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، فَخَلَقَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، فَهَلَّا تَتَذَكَّرُونَ وَتَعْرِفُونَ أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى هَذِهِ النَّشْأَةِ وَهِيَ الْبَدَاءَةُ قَادِرٌ عَلَى النَّشْأَةِ الأُخرى وَهِيَ الْإِعَادَةُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} ، وقال تعالى:{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} ، وقال تَعَالَى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ، وقال تعالى:{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يحيي الموتى} ؟
- 63 - أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ
- 64 - أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ
- 65 - لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ
- 66 - إِنَّا لَمُغْرَمُونَ
- 67 - بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
- 68 - أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ
- 69 - أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
- 70 - لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ
- 71 - أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ
- 72 - أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ
- 73 - نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ
- 74 - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
يَقُولُ تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ؟ وَهُوَ شَقُّ الْأَرْضِ وَإِثَارَتُهَا وَالْبَذْرُ فِيهَا، {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} ؟ أَيْ تُنْبِتُونَهُ فِي الْأَرْضِ {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ؟ أَيْ بَلْ نَحْنُ الذي نقره قراره وننبته في الأرض، روى عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وَأَمْثَالَهَا، يَقُولُ: بل أنت يا رب، وقوله تعالى:{لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أَيْ نَحْنُ أَنْبَتْنَاهُ بِلُطْفِنَا وَرَحْمَتِنَا، وَأَبْقَيْنَاهُ لَكُمْ رَحْمَةً بِكُمْ، وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً، أَيْ لَأَيْبَسْنَاهُ قَبْلَ اسْتِوَائِهِ وَاسْتِحْصَادِهِ، {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{إنا لمغرومون * بل نحن محرمون} أَيْ لَوْ جَعَلْنَاهُ حُطَامًا لَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ فِي المقالة تنوعون كلامكم، فتقولون تارة {إن لمغرومون} أَيْ لَمُلْقَوْنَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِنَّا لَمُولَعٌ بِنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُعَذَّبُونَ، وَتَارَةً تَقُولُونَ:{بَلْ نَحْنُ محرمون} أَيْ لَا يَثْبُتُ لَنَا مَالٌ وَلَا يَنْتُجُ لَنَا رِبْحٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي مجدودون يعني لا حظ لنا، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تَعْجَبُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تُفْجَعُونَ وَتَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ زَرْعِكُمْ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ التَّعَجُّبُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُصِيبُوا فِي مَالِهِمْ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تُلَاوِمُونَ، وَقَالَ الحسن وقتادة {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تَنْدَمُونَ، وَمَعْنَاهُ إِمَّا عَلَى مَا أَنْفَقْتُمْ أَوْ عَلَى مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: تَفَكَّهَ مِنَ الْأَضْدَادِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: تَفَكَّهْتُ بِمَعْنَى تَنَعَّمْتُ، وَتَفَكَّهْتُ بِمَعْنَى حَزِنْتُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أنزلمتوه مِنَ المزن} ، يعني السحاب، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} ، يَقُولُ بَلْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي زعافاً مُرًّا لَا يَصْلُحُ لِشُرْبٍ وَلَا زَرْعٍ، {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} أَيْ فَهَلَّا تَشْكُرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ عَلَيْكُمْ عَذْبًا زُلَالًا، {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} روى ابن أبي حاتم، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ قَالَ:«الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي سَقَانَا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْحًا أُجَاجًا بذنوبنا» (أخرجه ابن أبي حاتم) ثُمَّ قَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أَيْ
تَقْدَحُونَ مِنَ الزِّنَادِ وَتَسْتَخْرِجُونَهَا مِنْ أَصْلِهَا {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشؤن} أَيْ بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ جَعَلْنَاهَا مُودَعَةً فِي مَوْضِعِهَا، وَلِلْعَرَبِ شَجَرَتَانِ: إِحْدَاهُمَا (الْمَرْخُ) والأُخْرى (الْعَفَارُ) إِذَا أُخِذَ مِنْهُمَا غُصْنَانِ أَخْضَرَانِ فَحُكَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ تَنَاثَرَ مِنْ بَيْنِهِمَا شَرَرُ النَّارِ، وَقَوْلُهُ تعالى:{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيْ تذكر النار الكبرى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن ناركم هذه جزء من سبعين جزء مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» (أخرجه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً)، وقال الإمام مالك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«نَارُ بَنِي آدَمَ التي يوقدون جزء من سبعين جزء مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، فَقَالَ:«إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً» ، وَفِي لَفْظٍ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» (أخرجه مالك ورواه البخاري ومسلم).
وقوله تعالى: {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} قال ابن عباس ومجاهد: يعني بالمقوين المسافرين، واختاره ابن جرير، وقال ابن أسلم: المقوي ههنا الجائع، وقال ليث، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ}: لِلْحَاضِرِ وَالْمُسَافِرِ، لِكُلٍّ طعام لا يصلحه إلا النار، وعنه {لِّلْمُقْوِينَ} يعني المستمتعين من الناس أجمعين، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ والبادي من غني وفقير، الجميع محتاجون إليها لِلطَّبْخِ وَالِاصْطِلَاءِ وَالْإِضَاءَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، ثم من لطف الله تعالى أَوْدَعَهَا فِي الْأَحْجَارِ وَخَالِصِ الْحَدِيدِ، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْمُسَافِرُ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ فِي مَتَاعِهِ وَبَيْنَ ثِيَابِهِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَنْزِلِهِ أَخْرَجَ زَنْدَهُ وَأَوْرَى وَأَوْقَدَ نَارَهُ فَأَطْبَخَ بِهَا واصطلى بها وَاشْتَوَى وَاسْتَأْنَسَ بِهَا، وَانْتَفَعَ بِهَا سَائِرَ الِانْتِفَاعَاتِ، فَلِهَذَا أُفْرِدَ الْمُسَافِرُونَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا في حق الناس كلهم، وفي الحديث:"الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: النَّارِ وَالْكَلَأِ وَالْمَاءِ"(أخرجه أحمد وأبو داود)، وفي رواية:"ثلاثة لا يمنعن: الماء والكلأ والنار"(أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن). وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بسم رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أَيِ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ خَلَقَ هَذِهِ الأشياء المختلفة المتضادة، الماء الزلال العذب الْبَارِدَ، وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ مِلْحًا أُجَاجًا كَالْبِحَارِ الْمُغْرِقَةِ، وَخَلَقَ النَّارَ الْمُحْرِقَةَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ، وَجَعَلَ هَذِهِ مَنْفَعَةً لَهُمْ فِي مَعَاشِ دنياهم، وزجراً لَهُمْ فِي الْمَعَادِ.
- 75 - فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ
- 76 - وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ
- 77 - إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
- 78 - فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ
- 79 - لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
- 80 - تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
- 81 - أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ
- 82 - وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
قال الضحّاك: إن الله تعالى لَا يُقْسِمُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتِفْتَاحٌ يَسْتَفْتِحُ بِهِ كَلَامَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، وَالَّذِي عليه الجمهور أنه قسم من الله تعالى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَتِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ:
(لا) ههنا زائدة، وتقديره: أقسم بمواقع النجوم، وَيَكُونُ جَوَابُهُ:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ، وَقَالَ آخَرُونَ: ليست (لا) زائدة بَلْ يُؤْتَى بِهَا فِي أَوَّلِ الْقَسَمِ إِذَا كان مقسماً به على منفي، تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ، وَقَالَ بعضهم: مَعْنَى قَوْلِهِ {فَلَا أُقْسِمُ} : فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تقولون، ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل اقسم (ذكره ابن جرير عن بعض أهل العربية)، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:{بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي نُجُومَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ جُمْلَةً لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَرَّقًا فِي السِّنِينَ بَعْدُ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ، وقال مجاهد:{مواقع النجوم} في السماء ويقال مطالعها ومشارقها، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ: مَوَاقِعُهَا: منازلها، وعن الحسن: أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة، وَقَوْلُهُ {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أَيْ وَإِنَّ هَذَا الْقَسَمَ الَّذِي أَقْسَمْتُ بِهِ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ، لَوْ تَعْلَمُونَ عَظَمَتَهُ لَعَظَّمْتُمُ الْمُقْسِمَ بِهِ، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أَيْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ لَكِتَابٌ عَظِيمٌ {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} أي معظم في كتاب محفوظ موقر، عن ابن عباس قال: الكتاب الذي فِي السماء، {لَاّ يَمَسُّهُ إِلَاّ المطهرون} يعني الملائكة، وقال ابن جرير، عَنْ قَتَادَةَ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قَالَ: لَا يَمَسُّهُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَمَسُّهُ الْمَجُوسِيُّ النَّجِسُ، وَالْمُنَافِقُ الرجس، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} لَيْسَ أَنْتُمْ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: زَعَمَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لمعزولون} ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ، وقال آخرون: ههنا الْمُصْحَفُ، كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مخافة أن يناله العدو» (أخرجه مسلم في صحيحه)، واحتجوا بما رواه الإمام مالك أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أن «لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَرَأْتُ في صحيفة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» ، وَهَذِهِ وِجَادَةٌ جَيِّدَةٌ قَدْ قَرَأَهَا الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي الْأَخْذُ به.
وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُونَ إِنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ شِعْرٌ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فيه، وليس وراءه حق نافع، وقوله تعالى:{أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} قال ابن عباس: أي مكذبون غير مصدقين، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{مُّدْهِنُونَ} أَيْ تُرِيدُونَ أَنْ تُمَالِئُوهُمْ فِيهِ وَتَرْكَنُوا إِلَيْهِمْ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال بعضهم: معنى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} بمعنى شكركم أنكم تكذبون بدل الشكر، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَتَجْعَلُونَ» رِزْقَكُمْ يَقُولُ: شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، تَقُولُونَ: مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا" (أخرجه أحمد وابن أبي حاتم، ورواه الترمذي وقال: حسن غريب)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}
قَالَ: قَوْلُهُمْ فِي الْأَنْوَاءِ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَبِنَوْءِ كَذَا يَقُولُ: قُولُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ رِزْقُهُ (وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا الْحَسَنُ فَكَانَ يَقُولُ: بِئْسَ مَا أَخَذَ قَوْمٌ لِأَنْفُسِهِمْ، لَمْ يُرْزَقُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا التَّكْذِيبَ،
فَمَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا وَتَجْعَلُونَ حَظَّكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ قَبْلَهُ:{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} .
- 83 - فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ
- 84 - وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ
- 85 - وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ
- 86 - فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
- 87 - تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ} أَيِ الرُّوحُ {الْحُلْقُومَ} أَيِ الْحَلْقَ وَذَلِكَ حِينَ الاحتضار كما قال تعالى: {كَلَاّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} ، ولهذا قال ههنا {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أَيْ إِلَى الْمُحْتَضَرِ وَمَا يُكَابِدُهُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أَيْ بِمَلَائِكَتِنَا {وَلَكِنْ لَاّ تُبْصِرُونَ} أَيْ ولكن لا ترونهم كما قال تعالى في الآية الأُخرى:{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} . وقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ} مَعْنَاهُ فَهَلَّا تَرْجِعُونَ هَذِهِ النَّفْسَ الَّتِي قَدْ بَلَغَتِ الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الْجَسَدِ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، قَالَ ابْنُ عباس: يعني محاسبين (وهو قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحّاك وقتادة)، وقال سعيد بن جبير {غَيْرَ مَدِينِينَ} غَيْرَ مُصَدِّقِينَ أَنَّكُمْ تُدَانُونَ وَتُبْعَثُونَ وَتُجْزَوْنَ فَرُدُّوا هَذِهِ النَّفْسَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ {غَيْرَ مَدِينِينَ} غَيْرَ مُوقِنِينَ، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: غَيْرَ مُعَذَّبِينَ مَقْهُورِينَ.
- 88 - فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ
- 89 - فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ
- 90 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
- 91 - فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
- 92 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ
- 93 - فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ
- 94 - وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
- 95 - إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ
- 96 - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
هَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَحْوَالُ النَّاسِ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ دُونَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من المكذبين بالحق، الضَّالِّينَ عَنِ الْهُدَى، الْجَاهِلِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَأَمَّآ إِن كَانَ} أَيِ الْمُحْتَضَرُ {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وَهُمُ الَّذِينَ فَعَلُوا الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَبَعْضَ الْمُبَاحَاتِ، {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أَيْ فَلَهُمْ رَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَتُبَشِّرُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ تَقُولُ: أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، كُنْتِ تُعَمِّرِينَهُ اخرجه إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَرَوْحٌ} يَقُولُ: رَاحَةٌ {وَرَيْحَانٌ} يَقُولُ: مُسْتَرَاحَةٌ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الرَّوْحَ الِاسْتِرَاحَةُ، وقال أبو حرزة: الرَّاحَةُ مِنَ الدُّنْيَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرَّوْحُ الْفَرَحُ، وَعَنْ
مُجَاهِدٍ: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فروح فرحمة. وقال ابن عباس ومجاهد {وَرَيْحَانٌ} : وَرِزْقٌ؛ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ صَحِيحَةٌ، فإن مَاتَ مُقَرَّبًا حَصَلَ لَهُ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّاحَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ {وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُفَارِقُ أَحَدٌ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ حَتَّى يُؤْتَى بِغُصْنٍ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ فَيُقْبَضَ رُوحُهُ فِيهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَعْلَمَ أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ هُوَ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَحَادِيثَ الِاحْتِضَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت} . وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية. روى الإمام أحمد، عن أم هانىء أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَتَزَاوَرُ إِذَا مُتْنَا وَيَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يكون النَّسَمُ طَيْرًا يَعْلُقُ بِالشَّجَرِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دَخَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ فِي جَسَدِهَا» ، هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ بِشَارَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَمَعْنَى «يَعْلَق» يَأْكُلُ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، عَنِ الإمام مالك، عن كعب بْنُ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجِرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» ، وَهَذَا إِسْنَادٌ عَظِيمٌ وَمَتْنٌ قَوِيمٌ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَرْوَاحَ الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ معلقة بالعرش» (الحديث مخرج في الصحيحين) الحديث. وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قَالَ: فَأَكَبَّ الْقَوْمُ يَبْكُونَ فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكُمْ؟» فَقَالُوا: إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ:«لَيْسَ ذَاكَ، ولكنه إذا احتضر {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}، فَإِذَا بُشِّرَ بِذَلِكَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ عز وجل، وَاللَّهُ عز وجل لِلِقَائِهِ أَحَبُّ {وَأَمَّآ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} فَإِذَا بُشِّرَ بذلك كره لقاء الله، والله تعالى للقائه أكره» (أخرجه الإمام أحمد في المسند).
وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُحْتَضَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ تُبَشِّرُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ تَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: سَلَامٌ لَكَ أَيْ لابأس عَلَيْكَ أَنْتَ إِلَى سَلَامَةٍ، أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين، وقال قتادة: سَلِمَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وسلَّمت عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ عِكْرِمَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَهَذَا مَعْنًى حسن، ويكون ذلك كقول اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} . وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فنزلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أَيْ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُحْتَضَرُ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْحَقِّ، الضَّالِّينَ عَنِ الْهُدَى {فَنُزُلٌ} أَيْ فَضِيَافَةٌ، {مِّنْ حَمِيمٍ} وَهُوَ الْمُذَابُ الَّذِي يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أَيْ وَتَقْرِيرٌ لَهُ فِي النَّارِ الَّتِي تَغْمُرُهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أَيْ إِنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ عنه، {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} . قال الإمام أحمد، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: لمْا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» ، وَلَمَّا نَزَلَتْ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)