الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَكُم} عُجّل لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أَيْ فِي إِسْبَاغِهِ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْكُرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يعلم الضمائر والسرائر كَمَا يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ، {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ به} ، {يعلم السر وأخفى} ، ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السماوات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَا غاب عن العباد وما شاهدوه، فقال تعالى:{وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي وَمَا مِن شَيْءٍ {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، وهذه كَقَوْلِهِ:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يسير} .
- 76 - إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
- 77 - وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
- 78 - إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ
- 79 - فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ
- 80 - إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ
- 81 - وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَمَا اشتمل عليه من الهدى والبيان وَالْفُرْقَانِ، إِنَّهُ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ حَمَلَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} كَاخْتِلَافِهِمْ فِي عِيسَى وَتَبَايُنِهِمْ فِيهِ، فَالْيَهُودُ افتروا والنصارى غلوا، فجاء الْقُرْآنُ بِالْقَوْلِ الْوَسَطِ الْحَقِّ الْعَدْلِ أَنَّهُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْكِرَامِ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ عيسى بن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ هُدًى لقلوب المؤمنين به ورحمة لهم، ثم قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {بِحُكْمِهِ وَهُوَ العزيز} أي فِي انْتِقَامِهِ {الْعَلِيمُ} بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ وَأَقْوَالِهِمْ {فَتَوَكَّلْ على الله} أي في جميع أُمُورِكَ وَبَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أَيْ أَنْتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَإِنْ خَالَفَكَ مَنْ خَالَفَكَ مِمَّنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ، وَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آية، ولهذا قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أَيْ لَا تُسْمِعُهُمْ شَيْئًا يَنْفَعُهُمْ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ عَلَى قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةٌ وفي آذانهم وقر الكفر، ولهذا قال تعالى:{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ * إِن تُسْمِعُ إِلَاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ مَنْ هُوَ سَمِيعٌ بصير، السمع والبصر النافع في القلب، الْخَاضِعُ لِلَّهِ وَلِمَا جَاءَ عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عليهم السلام.
- 82 - وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ
هَذِهِ الدَّابَّةُ تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ وَتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ وتبديلهم دين الْحَقَّ، يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ. قِيلَ: مِنْ مَكَّةَ، وَقِيلَ مِنْ غَيْرِهَا كَمَا سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، فَتُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ والحسن وقتادة: تُكَلِّمُهُمْ كَلَامًا أَيْ تُخَاطِبُهُمْ مُخَاطَبَةً، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: تُكَلِّمُهُمْ فَتَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ واختاره ابن جرير وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ الدَّابَّةِ أَحَادِيثُ
وآثار كثيرة، فلنذكر منها ما تيسر والله المستعان روى الإمام أحمد: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غُرْفَةٍ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ أَمْرَ السَّاعَةَ فَقَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَخُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مريم عليه السلام، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ أَوْ تَحْشُرُ النَّاسَ تَبِيتُ مَعَهُمْ حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا"(أخرجه الإمام أحمد ورواه كذلك مسلم وأهل السنن وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مسلم بن الحجاج عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنْ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا» . حديث آخر: وروى مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ عليهما السلام، فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْعَصَا، وَتُجْلِي وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْخَاتَمِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى الخوان يعرف المؤمن من الكافر» (أخرجه أبو داود الطيالسي بهذا اللفظ وأخرجه الإمام أحمد بمثله إلا أنه قال: فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، وَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخُوَانِ الْوَاحِدِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذَا يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذَا يَا كافر). وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ حَكَى مِنْ كَلَامٍ عُزَيْرٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: وَتَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَدُومَ دَابَّةٌ تُكَلِّمُ النَّاسَ كُلٌّ يَسْمَعُهَا، وَتَضَعُ الْحَبَالَى قَبْلَ التَّمَامِ، وَيَعُودُ الْمَاءُ الْعَذْبُ أُجَاجًا وَيَتَعَادَى الْأَخِلَّاءُ وَتُحْرَقُ الْحِكْمَةُ وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ وَتُكَلِّمُ الْأَرْضُ الَّتِي تَلِيهَا، وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَرْجُو النَّاسُ مَا لَا يَبْلُغُونَ، وَيَتْعَبُونَ فِيمَا لَا يَنَالُونَ، وَيَعْمَلُونَ فِيمَا لَا يَأْكُلُونَ (أخرجه ابن أبي حاتم وقد ورد في بعض الآثار أن الدابة تخرج من موضع بالبادية قريباً من مكة، ويروى عن ابن عباس أنها تخرج من بعض أودية تهامة، وعن ابن مسعود: أنها تخرج من صدع بالصفا).
- 83 - وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فهم يوزعون
- 84 - حتى إذا جاؤوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - 85 - وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ
- 86 - أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحَشْرِ الظَّالِمِينَ من المكذبين بآيات الله ورسله، لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، تَقْرِيعًا وتصغيراً وتحقيراً، فقال تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} أَيْ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ وَقَرْنٍ فَوْجًا أَيْ جَمَاعَةً {مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَآ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} ، وقوله تعالى:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال ابن عباس: يدفعون، وقال قتادة: يرد أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد: يساقون {حتى إِذَا جَآءُوا} ووقفوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل فِي مَقَامِ الْمُسَاءَلَةِ {قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا علما أم
ماذا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيسألون عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أهل السعادة وكانوا كما قال الله عَنْهُمْ، {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فحينئذٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عذر يعتذرون به، كما قال الله تَعَالَى:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعتذرون} الآية، وهكذا قال ههنا {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ} أَيْ بُهِتُوا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ظَلَمَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وقد ردوا إلى علام الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ وشأنه الرفيع:{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في ظلام الليل لتسكن حركاتهم بسببه وَتَهْدَأُ أَنْفَاسُهُمْ، وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ نَصَبِ التَّعَبِ فِي نهارهم {والنهار مُبْصِراً} أي منيراً مشرقاً، فسبب ذَلِكَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ وَالْأَسْفَارِ وَالتِّجَارَاتِ، وغير ذلك من شؤونهم الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
- 87 - وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ
- 88 - وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
- 89 - مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ
- 90 - وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هول يوم نفخة الفزع في الصور، وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّ إِسْرَافِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَوَّلًا نَفْخَةَ الْفَزَعِ، وَيُطَوِّلُهَا، وَذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنْيَا حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرَارِ الناس من الأحياء، فيفزع مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ {إِلَاّ مَن شَآءَ اللَّهُ} وَهُمُ الشُّهَدَاءُ فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عند ربهم يرزقون، وفي حديث مسلم الطويل قَالَ:"فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ دارٌّ رِزْقُهُمْ حسنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. قَالَ - وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ قَالَ: فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ - أَوْ قَالَ الظل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ نفخة أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون} ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ. فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وتسعون قَالَ: فَذَلِكَ يَوْمٌ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساق"(أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بطوله، وهذا جزء من الحديث الصحيح). وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. اللِّيتُ هُوَ صَفْحَةُ الْعُنُقِ أَيْ أَمَالَ عُنُقَهُ لِيَسْتَمِعَهُ مِنَ السَّمَاءِ جَيِّدًا، فَهَذِهِ (نَفْخَةُ الْفَزَعِ) ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ (نَفْخَةُ الصَّعْقِ) وَهُوَ الْمَوْتُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ (نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وَهُوَ النُّشُورُ مِنَ الْقُبُورِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} أَيْ صَاغِرِينَ مُطِيعِينَ لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ عَنْ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بحمده} .
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ ظَهَرَتِ الصَّلَاةُ فصلوها، وخفيت الزكاة فمنعوها. وسئل ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الْمَاعُونِ؟ فَقَالَ: هُوَ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وأشباه ذلك، وقال ابن جرير، عن عبد الله قَالَ:«كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْمَاعُونَ الدلو والفأس والقدر لا يستغنى عنهن» ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُلٌّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَكُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَارِيَّةَ الدلو والقدر، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} يَعْنِي مَتَاعَ الْبَيْتِ، وكذا قال مجاهد والنخعي أنها العارية للأمتعة، وقد اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْنَعُونَ الطَّاعَةَ، ومنهم من قال: يمنعون العارية، وعن عَلِيٍّ: الْمَاعُونُ مَنْعُ النَّاسِ الْفَأْسَ وَالْقِدْرَ وَالدَّلْوَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَأْسُ الْمَاعُونِ زَكَاةُ الْمَالِ وَأَدْنَاهُ المنخل والدلو والإبرة، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِكْرِمَةُ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَتَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَرْكُ الْمُعَاوَنَةِ بِمَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَلِهَذَا جاء في الحديث:«كل معروف صدقة» .
-
108 - سورة الكوثر
.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
- 2 - فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ
- 3 - إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ
روى مسلم عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع مُبْتَسِمًا قُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: «لقد أُنْزِلَتْ عليَّ آنِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ: {بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، ثُمَّ قَالَ:«أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: فإنه نهر في الجنة وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنيته عدد النجوم في السماء فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بعدك" (أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي)، وقد استدل كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مدنية، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الجنة، وقد رواه الإمام أحمد عَنْ أنَس أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ فَإِذَا هُوَ نَهَرٌ يَجْرِي وَلَمْ يُشَقَّ شَقًّا، وَإِذَا حَافَّتَاهُ قباب الؤلؤ فضربت بيدي في تربته، فإذا مسك أذفر، وإذا حصباؤه اللؤلؤ» (أخرجه الإمام أحمد). وعن أنَس ابن مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: "أَتَيْتُ عَلَى نَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ فَقُلْتُ: مَا هذا يا جبريل؟ فقال: هذا الكوثر"(أخرجه البخاري). وروى ابن جرير، عن أنَس بن مالك قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَضَى بِهِ جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ اللؤلؤ وَزَبَرْجَدٍ، فَذَهَبَ يَشُمُّ تُرَابَهُ، فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ، قَالَ:«يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا النَّهْرُ؟» قَالَ: هو الكوثر الذي خبأ لك ربك؛ وفي رواية عَنْ أنَس قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَوْثَرِ؟ فَقَالَ: «هُوَ نهر أعطانيه الله تعالى في الجنة ترابه مسك، أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، تَرِدُهُ طير أعناقها مثل أعناق الجزر» ، قال أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا لِنَاعِمَةٌ؟ قال: «آكلها أنعم منها» . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حدَّثنا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} قالت: نهر أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم شَاطِئَاهُ عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم" (أخرجه البخاري). وعن عَائِشَةَ قَالَتِ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ شَاطِئَاهُ دُرٌّ مُجَوَّفٌ، وَقَالَ إِسْرَائِيلُ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ عليه من الآنية عدد نجوم السماء، وعن مَسْرُوقٍ قَالَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: يَا أُم الْمُؤْمِنِينَ حدِّثيني عَنِ الْكَوْثَرِ؟ قَالَتْ: نَهْرٌ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: وَمَا بُطْنَانُ الْجَنَّةِ؟ قَالَتْ: وَسَطُهَا، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت (أخرجه ابن جرير).
وقال البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أعطاه الله إياه، قال أبو البشر: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ الله إياه (أخرجه البخاري). وروى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَعُمُّ النَّهْرَ وَغَيْرَهُ، لِأَنَّ الْكَوْثَرَ مِنَ الْكَثْرَةِ وَهُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عباس وعكرمة ومجاهد، حَتَّى قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ النُّبُوَّةُ وَالْقُرْآنُ وَثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالنَّهْرِ أَيْضًا، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، يَجْرِي عَلَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرِّ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ العسل» . وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، يَجْرِي عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، مَاؤُهُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ (أخرجه الترمذي مَوْقُوفًا). وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَى اللُّؤْلُؤِ، وَمَاؤُهُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» (رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح). وروى ابن جرير عن عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: قَالَ لِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْكَوْثَرِ. قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، فَقَالَ:
صدق الله إِنَّهُ لِلْخَيْرُ الْكَثِيرُ؛ وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ يَجْرِي على الدر والياقوت» . وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أنَس وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ حَوْضٌ فِي الجنة.
وقوله تعالى: {فصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أَيْ كَمَا أَعْطَيْنَاكَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْرُ الَّذِي تَقَدَّمَ صِفَتُهُ، فَأَخْلِصْ لِرَبِّكَ صَلَاتَكَ الْمَكْتُوبَةَ وَالنَّافِلَةَ، وَنَحْرَكَ فَاعْبُدْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَانْحَرْ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} قال ابن عباس: يعني بذلك نحر البدن ونحوها، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَانْحَرْ} وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى على اليسرى تحت النحر، وقيل:{وانحر} أي استقبل بنحرك القبلة، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّحْرِ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعِيدَ ثُمَّ يَنْحَرُ نُسُكَهُ وَيَقُولُ:«مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا نسك له» الحديث. قال ابن جرير: والصواب قول من قال: إن مَعْنَى ذَلِكَ فَاجْعَلْ صَلَاتَكَ كُلَّهَا لِرَبِّكَ خَالِصًا، دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَكَذَلِكَ نَحْرَكَ اجْعَلْهُ لَهُ دُونَ الْأَوْثَانِ، شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْخَيْرِ الَّذِي لَا كِفَاءَ لَهُ وَخَصَّكَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قاله في غاية الحسن، وقوله تعالى:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أَيْ إِنَّ مُبْغِضَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَمُبْغِضَ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ، وَالْبُرْهَانِ السَّاطِعِ وَالنُّورِ الْمُبِينِ {هُوَ الْأَبْتَرُ} الْأَقَلُّ الْأَذَلُّ الْمُنْقَطِعُ ذِكْرُهُ، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: نزلت في العاص بن وائل، وقال يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: قَالَ، كَانَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ إِذَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ، فَإِذَا هَلَكَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، فأنزل الله هذه السورة، وقيل: نزلت في عقبة ابن أبي معيط، وقال عَطَاءٍ: نَزَلَتْ فِي (أَبِي لَهَبٍ) وَذَلِكَ حِينَ مات ابن لرسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ أَبُو لهب إلى المشركين، فقال: بُتِرَ مُحَمَّدٌ اللَّيْلَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {إِنَّ شَانِئَكَ
هُوَ الْأَبْتَرُ}، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي (أَبِي جَهْلٍ) وَعَنْهُ {إِنَّ شَانِئَكَ} يَعْنِي عَدُّوَّكَ، وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ مِمَّنْ ذُكِرَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَبْتَرُ الْفَرْدُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا مَاتَ ذُكُورُ الرَّجُلِ، قَالُوا: بُتِرَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبْنَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، وهذا يرجع إلى ماقلناه مِنْ أَنَّ الْأَبْتَرَ الَّذِي إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، فَتَوَهَّمُوا لِجَهْلِهِمْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ بَنُوهُ انقطع ذِكْرُهُ، وَحَاشَا وَكَلَّا، بَلْ قَدْ أَبْقَى اللَّهُ ذكره على رؤوس الْأَشْهَادِ، وَأَوْجَبَ شَرْعَهُ عَلَى رِقَابِ الْعِبَادِ، مُسْتَمِرًّا على دوام الآباد، إلى يوم المحشر وَالْمَعَادِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ التناد.