المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 57 - سورة الحديد - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 57 - سورة الحديد

دُونَهُمْ هَذَا وَجْهٌ. (الثَّانِي) أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ بَلْ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا. (الثَّالِثُ) أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نُورَثُ، مَا تركناه صَدَقَةٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» . وَعَلَى هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهِ: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} عَلَى مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} كقوله: {وَوَرِثَ سليمان داود} أَيْ فِي النُّبُوَّةِ. إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ لَمَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا وِرَاثَةٌ خَاصَّةٌ لَمَا أَخْبَرَ بِهَا، وَكُلُّ هَذَا يُقَرِّرُهُ وَيُثْبِتُهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ:«نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكَنَا فَهُوَ صدقة» ، قال مجاهد: كان وراثته علماً وقال الْحَسَنِ: يَرِثُ نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَرِثُ نبوتي ونبوة آل يعقوب، وعن أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ:{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَالَ: يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ في تفسيره. وَقَوْلُهُ:{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أَيْ مَرْضِيًّا عِنْدَكَ وَعِنْدَ خَلْقِكِ، تُحِبُّهُ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى خَلْقِكَ فِي دينه وخلقه.

ص: 443

- 7 - يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً

هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ مَحْذُوفًا، وَهُوَ أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ فِي دُعَائِهِ فَقِيلَ لَهُ:{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} ، وَقَوْلُهُ:{لَمْ نَجْعَل لَهُ مِن قَبْلِ سَمِيّاً} . قال قتادة: أَيْ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِهَذَا الِاسْمِ (وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أَيْ شَبِيهًا، أَخَذَهُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ؟ أي شبيهاً، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا عليه السلام كان لا يولد له، وكذلك كانت امرأته عَاقِرًا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهَا، بِخِلَافِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ عليهما السلام، فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا تَعَجَّبَا مِنَ الْبِشَارَةِ بإسحاق لكبرهما، وَلِهَذَا قَالَ:{أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تبشرون} مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ قَبْلَهُ إسماعيل بثلاث عشرة سنة.

ص: 443

- 8 - قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا

- 9 - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هين وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا

هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ زَكَرِيَّا عليه السلام حِينَ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ، وَبُشِّرَ بِالْوَلَدِ فَفَرِحَ فرحاَ شَدِيدًا وَسَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مَا يُولَدُ لَهُ، وَالْوَجْهُ الَّذِي يَأْتِيهِ مِنْهُ الْوَلَدُ، مَعَ أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ عَاقِرًا لَمْ تَلِدْ مِنْ أول عمرها مع كبرها (ذكر السهيلي: أن امرأته اسمها (إيشاع بنت قافوذ)، وهي أخت حنة بنت قافوذ، قاله الطبري، وحنة هي أم مريم. وقال العتبي: امرأة زكريا هي (إيشاع بنت عمران)، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى على الحقيقة، وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه، وفي حديث الإسراء قال عليه السلام:«فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى» ، وهذا شاهد للقول الأول)، ومع أنه

ص: 443

قَدْ كَبُرَ وَعَتَا، أَيْ عَسَا عَظْمُهُ، وَنَحُلَ، ولم يبق فيه لقاح ولا جماع، والعرب تقول للعود إذا يبس: عتا، وقال مجاهد:{عِتِيّاً} يعني قحول الْعَظْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، عِتِيًّا يَعْنِي الكبر، والظاهر أنه أخص من الكبر، {قَالَ} أَيِ الْمَلَكُ مُجِيبًا لِزَكَرِيَّا عَمَّا اسْتَعْجَبَ مِنْهُ {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عليَّ هَيِّنٌ} أَيْ إِيجَادُ الْوَلَدِ مِنْكَ وَمَنْ زَوْجَتِكَ هَذِهِ لَا مِنْ غَيْرِهَا، {هَيِّنٌ} أَيْ يَسِيرٌ سَهْلٌ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} ، كَمَا قَالَ تعالى:{هَلْ أتى عَلَى الإنسان حيناً مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} .

ص: 444

- 10 - قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً

- 11 - فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِن الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ زَكَرِيَّا عليه السلام أَنَّهُ {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أَيْ عَلَامَةً وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي، لِتَسْتَقِرَّ نَفْسِي وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى * قال أو لم تُؤْمِن؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، {قَالَ آيَتُكَ} أَيْ عَلَامَتُكَ {أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي أن يُحبس لِسَانَكَ عَنِ الْكَلَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ، مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عِلَّةٍ، قَالَ ابن عباس ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ ولا علة. قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ يَقْرَأُ وَيُسَبِّحُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ قَوْمَهُ إِلَّا إِشَارَةً، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي متتابعات (القول الأول عن ابن عباس وعن الجمهور أصح كما في آل عمران {قَالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ والإبكار}). وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} مِنْ غَيْرِ خَرَسٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ وَأَيَّامِهَا {إِلَاّ رَمْزاً} أَيْ إِشَارَةً، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} أَيِ الَّذِي بُشِّرَ فِيهِ بِالْوَلَدِ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أَيْ أَشَارَ، إِشَارَةً خَفِيَّةً سَرِيعَةً {أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أَيْ مُوَافَقَةً لَهُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ فِي هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله، شكراً لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَاهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي أشار (وهذا القول أرجح، وبه قال وهب وقتادة). وقال مجاهد: أي كتب لَهُمْ فِي الأرض.

ص: 444

- 12 - يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً

- 13 - وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا

- 14 - وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً

- 15 - وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً

وَهَذَا أَيْضًا تَضَمَّنَ مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ وَجَدَ هَذَا الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ وَهُوَ يَحْيَى عليه السلام، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْكِتَابَ وَهُوَ (التوراة) التي كانوا يتدارسونها بينهم، وَقَدْ كَانَ سِنُّهُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا، فَلِهَذَا نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَبِمَا أَنْعَمَ

ص: 444

بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ، فَقَالَ {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أَيْ تَعَلَّمِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ أَيْ بِجِدٍّ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أَيِ الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالْعَزْمَ، وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْإِكْبَابَ عَلَيْهِ وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ حدث. قال عبد الله بن المبارك، قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا. وقوله: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} قال ابن عباس: يقول ورحمة من عندنا. وزاد قتادة: رحم الله بِهَا زَكَرِيَّا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} وتعطفاً من ربه عليه، وقال عكرمة: محبة عليه، وقال عطاء بن أبي رباح: تعظيماً من لدنا، والظاهر من السياق أن قوله:{وَحَنَاناً} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ وَحَنَانًا، وَزَكَاةً أَيْ وَجَعَلْنَاهُ ذَا حَنَانٍ وَزَكَاةٍ، فَالْحَنَانُ هُوَ الْمَحَبَّةُ فِي شَفَقَةٍ وَمَيْلٍ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: حَنَّتِ النَّاقَةُ عَلَى ولدها، وَحَنَّ الرَّجُلُ إِلَى وَطَنِهِ، وَمِنْهُ التَّعَطُّفُ وَالرَّحْمَةُ، وَفِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أنَس رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَبْقَى رَجُلٌ فِي النَّارِ يُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ» . وقد يثنى كما قال طرفة:

أبا مُنْذِرٌ أفنيتَ فَاسْتَبْقِ بعضَنا * حَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهون من بعض

وقوله تعالى: {وَزَكَاةً} مَعْطُوفٌ عَلَى {وَحَنَاناً} فَالزَّكَاةُ الطَّهَارَةُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْآثَامِ وَالذُّنُوبِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّكَاةُ الْعَمَلُ الصالح، وقال الضحّاك: العمل الصالح الزكي، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَزَكَاةً} قَالَ: بَرَكَةً {وَكَانَ تَقِيّاً} طاهراً فلم يذنب، وَقَوْلُهُ:{وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَاعَتَهُ لِرَبِّهِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ ذَا رَحْمَةٍ وَزَكَاةٍ، وَتُقًى، عَطَفَ بِذِكْرِ طَاعَتِهِ لِوَالِدَيْهِ وَبِرِّهِ بِهِمَا، وَمُجَانَبَتِهِ عُقُوقَهُمَا قَوْلًا وَفِعْلًا، أمراً وَنَهْيًا، وَلِهَذَا قَالَ:{وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} أَيْ لَهُ الأمان في هذه الثلاثة الأحوال، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ، لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى» (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: وفي إسناده ضعف)، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، أن الحسن قَالَ: إِنَّ يَحْيَى وَعِيسَى عليهما السلام الْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مني، فقال له الآخر: أنت خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سلمتُ عَلَى

نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَعُرِفَ وَاللَّهِ فَضْلُهُمَا.

ص: 445

- 16 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا

- 17 - فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَابًا فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا

- 18 - قالت إني أعوذ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً

- 19 - قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً

- 20 - قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً - 21 - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هين وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ زَكَرِيَّا عليه السلام، وَأَنَّهُ أَوْجَدَ مِنْهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعُقْمِ زَوْجَتِهِ وَلَدًا زَكِيًّا طَاهِرًا، مُبَارَكًا،

ص: 445

عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليه السلام مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَإِنَّ بَيْنَ القصتين مناسبة ومشابهة، لِتَقَارُبِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى، لِيَدُلَّ عِبَادَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، فَقَالَ:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} وَهِيَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ عليه السلام، وَكَانَتْ مِنْ بَيْتٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قصة ولادة أمها لها في سورة آلِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهَا نَذَرَتْهَا مُحَرَّرَةً أَيْ تَخْدُمُ مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك (ذكر السهيلي: إن القرآن لم يذكر امرأة باسمها إلا (مريم ابنة عمران) فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعاً، لحكمة ذكرها بعض الأشياخ، وذكر أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ ولا يبتذلون أسماءهن، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال، ولم يصونوا أسماء الإماء عن الذكر، فصرح الله باسم مريم لما قالت النصارى في مريم تأكيداً لعبوديتها، وإجراء الكلام على عادة العرب من ذكر إمائها، وتكرر ذكر عيسى منسوباً إلى أمه لتشعر القلوب بنفي أبوة الله وبنزاهة أمه الطاهرة عن مقالة اليهود) {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ونشأت في بني إسرئيل نَشْأَةً عَظِيمَةً، فَكَانَتْ إِحْدَى الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ، الْمَشْهُورَاتِ بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبيّ بني إسرئيل إِذْ ذَاكَ وَعَظِيمِهِمُ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، وَرَأَى لَهَا زَكَرِيَّا مِنَ الْكَرَامَاتِ الْهَائِلَةِ مَا بَهَرَهُ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، فَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا ثَمَرَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَثَمَرَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ كَمَا تقدم بيانه في سورة آلِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَهُ الحكمة الْبَالِغَةُ - أَنْ يُوجِدَ مِنْهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى عليه السلام، أَحَدَ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْعِظَامِ {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} أَيِ اعتزلتهم، وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس؛

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ إِلَى الْبَيْتِ وَالْحَجُّ إِلَيْهِ، وما صرفهم عنه إلاّ قيل ربك {فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ مَكَانًا شَرْقِيًّا فَصَلُّوا قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ (رَوَاهُ ابن أبي حاتم وابن جرير، وهذه هي العلة في توجه النصارى جهة المشرق). وعنه قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} وَاتَّخَذُوا مِيلَادَ عِيسَى قِبْلَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ:{مَكَاناً شَرْقِياً} شَاسِعًا مُتَنَحِّيًا، وَقَوْلُهُ:{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً} أَيِ اسْتَتَرَتْ مِنْهُمْ وَتَوَارَتْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا جِبْرِيلَ عليه السلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} أَيْ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ تَامٍّ كَامِلٍ.

قَالَ مُجَاهِدٌ والضحاك {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} : يعني جبرائيل عليه السلام، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قلبلك لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} ، {قالت إني أعوذ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أَيْ لَمَّا تَبَدَّى لَهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَهِيَ فِي مَكَانٍ مُنْفَرِدٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمِهَا حِجَابٌ خَافَتْهُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أَيْ إِنْ كُنْتَ تَخَافُ الله تذكيراً له بالله، قال أبو وائل: قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، حِينَ قالت:

{إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} أَيْ فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حَصَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا، لَسْتُ مِمَّا تَظُنِّينَ، وَلَكِنِّي رَسُولُ رَبِّكِ أَيْ بَعَثَنِي الله إليك {لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً} ، {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غلام} أَيْ فَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ مِنْ هَذَا، وَقَالَتْ كَيْفَ

ص: 446

يَكُونُ لِي غُلَامٌ، أَيْ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ يُوجَدُ هَذَا الْغُلَامُ مِنِّي وَلَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنِّي الْفُجُورُ، وَلِهَذَا قَالَتْ:{وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بَغِيّاً} وَالْبَغِيُّ هِيَ الزانية، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هَيِّنٌ} أَيْ فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ مُجِيبًا لَهَا عَمَّا سَأَلَتْ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ إِنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْكِ غُلَامًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكِ بَعْلٌ ولا يوجد مِنْكِ فَاحِشَةٌ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} أَيْ دَلَالَةً وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم {وَرَحْمَةً مِّنَّا} أَيْ وَنَجْعَلُ هَذَا الْغُلَامَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ، نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مريم وجيها في الدينا والآخرة وَمِنَ المقربين} أي يدعو إلى عبادة رَبِّهِ فِي مَهْدِهِ وَكُهُولَتِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، قَالَتْ مَرْيَمُ عليها السلام: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي عِيسَى وَكَلَّمَنِي وَهُوَ فِي بَطْنِي وَإِذَا كُنْتُ مَعَ النَّاسِ، سَبَّحَ فِي بَطْنِي وَكَبَّرَ، وَقَوْلُهُ:{وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} يحتمل أن هذا من تمام كَلَامِ جِبْرِيلَ لِمَرْيَمَ، يُخْبِرُهَا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهُ وَمَشِيئَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَبَرِ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ كَنَّى بِهَذَا عَنِ النَّفْخِ فِي فَرْجِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن روحنا} ، وَقَالَ:{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}: أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَذَا فَلَيْسَ مِنْهُ بُدٌّ، وَاخْتَارَ هَذَا أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أعلم.

ص: 447

- 22 - فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا

- 23 - فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ، أَنَّهَا لَمَّا قَالَ لَهَا جبريل ما قال، اسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ من علماء السلف، أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عِنْدَ ذَلِكَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ حَتَّى وَلَجَتْ فِي الْفَرْجِ فَحَمَلَتْ بِالْوَلَدِ، بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا حَمَلَتْ به ضاقت ذرعاً، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها لم تَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهَا فِيمَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا أَفْشَتْ سِرَّهَا وَذَكَرَتْ أَمْرَهَا لِأُخْتِهَا امْرَأَةِ زَكَرِيَّا، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا عليه السلام كَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ الْوَلَدَ فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتِ امْرَأَتُهُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا مَرْيَمُ، فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَاعْتَنَقَتْهَا وَقَالَتْ: أَشَعَرْتِ يَا مَرْيَمُ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: وَهَلْ عَلِمْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى، وَذَكَرَتْ لَهَا شَأْنَهَا، وَمَا كَانَ مِنْ خَبَرِهَا، وَكَانُوا بَيْتَ إِيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ، قَالَ مَالِكٌ رحمه الله: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابْنَا خَالَةٍ، وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا، فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عليه السلام، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الأكمة والأبرص (أخرجه ابن أبي حاتم). ثُمَّ اخْتَلَفَ

الْمُفَسِّرُونَ فِي مُدَّةِ حَمْلِ عِيسَى عليه السلام، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وقال ابن جريج، عن ابن عباس، وسئل عن حمل مَرْيَمَ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فوضعت (قال ابن كثير: هذا القول عن ابن عباس غريب، وكأنه مأخوذ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مكانا قصيا * فأجاءها المخاض} فالفاء للتعقيب ولكن تعقيب كل شيء بسببه).

ص: 447

والمشهور الظَّاهِرُ - وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ بِأَوْلَادِهِنَّ، وَلِهَذَا لما ظهرت مخايل الحمل بها، وَكَانَ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ قَرَابَاتِهَا يَخْدِمُ مَعَهَا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ النَّجَّارُ، فَلَمَّا رَأَى ثِقَلَ بَطْنِهَا وَكِبَرَهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا، ثُمَّ صَرَفَهُ مَا يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَدِينِهَا وَعِبَادَتِهَا، ثُمَّ تَأَمَّلَ مَا هِيَ فِيهِ فَجَعَلَ أَمْرُهَا يَجُوسُ فِي فِكْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ عرَّض لَهَا فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ إِنِّي سائِلك عَنْ أرم فَلَا تَعْجَلِي عليَّ، قَالَتْ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هَلْ يَكُونُ قَطُّ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ؟ وَهَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وفهمت مَا أَشَارَ إِلَيْهِ، أَمَّا قَوْلُكَ هَلْ يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ وَزَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ أَوَّلَ مَا خَلَقَهُمَا مِنْ غَيْرِ حَبٍّ وَلَا بَذْرٍ، وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فإن الله تعالى قَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ فَصَدَّقَهَا، وَسَلَّمَ لَهَا حَالَهَا، وَلَمَّا اسْتَشْعَرَتْ مَرْيَمُ مِنْ قَوْمِهَا اتِّهَامَهَا بِالرِّيبَةِ، انْتَبَذَتْ مِنْهُمْ مَكَانًا قَصِيًّا، أَيْ قَاصِيًا مِنْهُمْ بَعِيدًا عَنْهُمْ لِئَلَّا تَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا حَمَلَتْ بِهِ وَمَلَأَتْ قُلَّتَهَا وَرَجَعَتْ، اسْتَمْسَكَ عَنْهَا الدَّمُ وَأَصَابَهَا مَا يُصِيبُ الْحَامِلَ على الولد من الوصب والتوحم، وَتَغَيُّرِ اللَّوْنِ، حَتَّى فُطِرَ لِسَانُهَا، فَمَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ زَكَرِيَّا وَشَاعَ الْحَدِيثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: إِنَّمَا صَاحِبُهَا يُوسُفُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فِي الكنسية غَيْرُهُ، وَتَوَارَتْ مِنَ النَّاسِ، وَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا، فَلَا يَرَاهَا أَحَدٌ وَلَا تَرَاهُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} أَيْ فَاضْطَرَّهَا وألجأها إلى جذع النخلة، فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَنَحَّتْ إِلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ شَرْقِيَّ مِحْرَابِهَا الَّذِي تُصَلِّي فِيهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ وَهْبُ بن منبه: كَانَ ذَلِكَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ بَيْتِ المقدس، في قرية يقال لها بيت لحم، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ النَّصَارَى أَنَّهُ ببيت لحم، وقوله تعالى إخباراً عنها:{قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّهَا سَتُبْتَلَى وَتُمْتَحَنُ بِهَذَا الْمَوْلُودِ الَّذِي لَا يَحْمِلُ النَّاسُ فيه أمرها على السداد ولا يصدقونها في خبرها، وبعد ما كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَابِدَةً نَاسِكَةً تُصْبِحُ عِنْدَهُمْ فِيمَا يظنون عاهرة زانية، فقال {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} أَي قَبْلَ هذا الحمل {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} أَي لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أك شيئاَ قاله ابن عباس، وَقَالَ قَتَادَةُ {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}: أَيْ شَيْئًا لا يعرف ولا يذكر، ولا يدري الناس من أنا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ أَكُنْ شَيْئًا قَطُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ إِلَّا عِنْدَ الْفِتْنَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ:{وتوفني مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} .

ص: 448

- 24 - فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً

- 25 - وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً

- 26 - فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً

ص: 448

اختلف الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ ابن عباس: {فَنَادَاهَا مِن تحتها} جبريل (وهو قول الضحاك والسدي وقتادة وسعيد بن جبير)، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا، أَيْ نَادَاهَا مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وقال الحسن: هو ابنها (وهو رواية سعيد بن جبير واختاره ابن جرير). قال أو لم تسمع الله يقول {فأشارت إليه} ، وقوله:{أن لا تَحْزَنِي} أَيْ نَادَاهَا قَائِلًا لَا تَحْزَنِي {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ، عن البراء بن عازب، وعن ابن عباس: السري النهر، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْجَدْوَلُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النَّهْرُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جرير، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالسَّرِيِّ عِيسَى عليه السلام (وبه قال الحسن وَالرَّبِيعُ بْنُ أنَس وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ، وهو ضعيف والقول الأول أظهر كما قال ابن كثير)، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أُظْهَرُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أَيْ وَخُذِي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، قِيلَ: كَانَتْ يَابِسَةً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وقيل: مثمرة، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ شَجَرَةً، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ فِي إِبَّانِ ثَمَرِهَا، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ولهذا امتن عليها بذلك بأن جَعَلَ عِنْدَهَا طَعَامًا وَشَرَابًا فَقَالَ: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} أَيْ طِيبِي نَفْسًا، وَلِهَذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: مَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة.

وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} أَيْ مَهْمَا رَأَيْتِ مِنْ أَحَدٍ، {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} ، الْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ، لِئَلَّا يُنَافِيَ {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} ، قَالَ أنَس بْنُ مَالِكٍ فِي قوله:{إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} قال: صَمْتًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ، وَفِي رواية عن أنَس: صوماً وصمتاً، والمراد أنهم إِذَا صَامُوا فِي شَرِيعَتِهِمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ والكلام. روى ابن إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ رَجُلَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُسَلِّمِ الْآخَرُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ أَصْحَابُهُ: حَلَفَ أن لا يُكَلِّمَ النَّاسَ الْيَوْمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تِلْكَ امْرَأَةٌ عَلِمَتْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُصَدِّقُهَا، أنهما حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَرْيَمَ عليها السلام، لِيَكُونَ عُذْرًا لَهَا إِذَا سُئِلَتْ (رواه ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن جرير). وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَالَ عيسى لمريم {لَاّ تَحْزَنِي} قَالَتْ: وَكَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي لَا ذَاتُ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} .

ص: 449

- 27 - فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا

- 28 - يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً

- 29 - فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا

- 30 - قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا

- 31 - وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً

- 32 - وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً

- 33 - وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً

ص: 449

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ حِينَ أُمِرَتْ أن تصوم يومها ذلك، ولا تُكَلِّمَ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ، فَإِنَّهَا سَتُكْفَى أَمْرَهَا وَيُقَامُ بِحُجَّتِهَا، فَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ عز وجل واستسلمت لقضائه، فأخذت وَلَدَهَا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا كَذَلِكَ أَعْظَمُوا أَمْرَهَا وَاسْتَنْكَرُوهُ جِدًّا، وَقَالُوا {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيّاً} أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا، {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أَيْ يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ فِي الْعِبَادَةِ، {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} أَيْ أَنْتِ مِنْ بَيْتٍ طَيِّبٍ طَاهِرٍ مَعْرُوفٍ بِالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ قال السدي: قِيلَ لَهَا {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أَيْ أَخِي مُوسَى وَكَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ: يَا أَخَا تَمِيمٍ، وَلِلْمُضَرِيِّ: يَا أَخَا مُضَرٍ، وَقِيلَ: نُسِبَتْ إِلَى رَجُلٍ صَالِحٍ كَانَ فِيهِمُ اسمه

هارون (قال السهيلي: هارون رجل من عباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تشبه به في اجتهادها، ليس بهارون أخي موسى بن عمران، فإن بينهما من الدهر الطويل والقرون الماضية والأمم الخالية ما قد عرفه الناس)، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة. وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّوْنَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ. كَمَا قال الإمام أحمد، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى نَجْرَانَ، فقالوا: أرأيت ما تقرأون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» (وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب).

وقال ابن جرير، عن قتادة قوله {يا أخت هَارُونَ} الآية قَالَ: كَانَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَلَا يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَآخَرُونَ يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَكَانَ هَارُونُ مُصْلِحًا مُحَبَّبًا فِي عَشِيرَتِهِ، وَلَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَلَكِنَّهُ هَارُونُ آخَرُ، قَالَ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَ مات أربعون ألفاً كلهم يسمون هَارُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ:{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أَيْ إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَرَابُوا فِي أَمْرِهَا وَاسْتَنْكَرُوا قَضِيَّتَهَا، وَقَالُوا لَهَا مَا قَالُوا مُعَرِّضِينَ بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها هذا صَائِمَةً صَامِتَةً، فَأَحَالَتِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَأَشَارَتْ لَهُمْ إِلَى خِطَابِهِ وَكَلَامِهِ، فَقَالُوا مُتَهَكِّمِينَ بِهَا ظَانِّينَ أَنَّهَا تَزْدَرِي بِهِمْ وَتَلْعَبُ بِهِمْ {كَيْفَ نُكَلِّمُ من كان في المهد صَبِيّاً}؟ قال السُّدِّيُّ: لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ غَضِبُوا وَقَالُوا لَسُخْرِيَّتُهَا بنا حتى تَأْمُرُنَا أَنَّ نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشُدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} أَيْ مَنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي مَهْدِهِ فِي حَالِ صِبَاهُ وَصِغَرِهِ، كَيْفَ يَتَكَلَّمُ؟ {قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ نَزَّهَ جَنَابَ رَبِّهِ تَعَالَى وبرأه عَنِ الْوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ، وَقَوْلُهُ:{آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} تَبْرِئَةٌ لِأُمِّهِ مِمَّا نُسِبَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، قَالَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: لَمَّا قَالُوا لِأُمِّهِ مَا قَالُوا كَانَ يَرْتَضِعُ ثَدْيَهُ، فَنَزَعَ الثَّدْيَ مِنْ فَمِهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَقَالَ:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً - إِلَى قَوْلِهِ - مَا دُمْتُ حيا} .

وقوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وجعلني معلماً للخير، وفي رواية عنه: نفاعاً، وَقَوْلُهُ:{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {واعبد رَبَّكَ حتى يأتيك اليقين} . وَقَوْلُهُ: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} أَيْ وَأَمَرَنِي بِبِرِّ وَالِدَتِي، ذكره بعد طاعة رَبِّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُقْرِنُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} ، وَقَوْلُهُ:{وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}

ص: 450

أَيْ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَبِرِّ وَالِدَتِي فَأَشْقَى بِذَلِكَ، قَالَ سُفْيَانُ الثوري: الجبار الشقي الذي يقتل عَلَى الْغَضَبِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تُجِدُ أَحَدًا عَاقًّا لِوَالِدَيْهِ إِلَّا وَجَدْتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا، ثُمَّ قَرَأَ:{وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} . وَقَوْلُهُ: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} إِثْبَاتٌ مِنْهُ لِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ عز وجل، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَحْيَا وَيَمُوتُ وَيُبْعَثُ كَسَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَلَكِنْ لَهُ السَّلَامَةَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ أَشَقُّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه.

ص: 451

- 34 - ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ

- 35 - مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

- 36 - وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ

- 37 - فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٌ

يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ} أَيْ يَخْتَلِفُ المبطلون والمحققون ممن آمن به وكفر به، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُ عَبْدًا نَبِيًّا نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ، فَقَالَ:{مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} أَيْ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، أَيْ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً فَإِنَّمَا يَأْمُرُ به، فيصير كما يشاء كما قال:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وَقَوْلُهُ:{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أَيْ ومما أمر به عيسى قَوْمَهُ وَهُوَ فِي مَهْدِهِ أَنْ أَخْبَرَهُمْ إِذْ ذاك أن الله ربه وربهم، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ فَقَالَ {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أَيْ قَوِيمٌ مَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ وَهَدَى وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ وَغَوَى، وَقَوْلُهُ:{فَاخْتَلَفَ الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} أي اختلف قول أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِيسَى بَعْدَ بَيَانِ أَمْرِهِ وَوُضُوحِ حَالِهِ، وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فصممت طائفة منهم وَهُمْ جُمْهُورُ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، عَلَى أَنَّهُ وَلَدُ زِنْيَةٍ، وَقَالُوا: كَلَامُهُ هَذَا سِحْرٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخرى: إِنَّمَا تَكَلَّمَ اللَّهُ، وَقَالَ آخرون: بل هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ آخَرُونَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وهذا هو قَوْلَ الحق الذي أرشد إِلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابن جُرَيْجٍ وقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ (قُسْطَنْطِينَ) جَمَعَهُمْ فِي مَحْفَلٍ كَبِيرٍ مِنْ مَجَامِعِهِمُ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ، فَكَانَ جَمَاعَةُ الْأَسَاقِفَةِ مِنْهُمْ أَلْفَيْنِ وَمِائَةً وسبيعن أُسْقُفًا، فَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام اختلافاً متبانياً جداً، فقالت كل شرذمة فيه قولاً، وَلَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى مَقَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرُ مِنْ ثلثمائة وَثَمَانِيَةٍ مِنْهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَصَمَّمُوا عَلَيْهِ فمال إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ، وَكَانَ فَيْلَسُوفًا، فَقَدَّمَهُمْ وَنَصَرَهُمْ وَطَرَدَ مَنْ عَدَاهُمْ، فَوَضَعُوا لَهُ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ بَلْ هِيَ الْخِيَانَةُ الْعَظِيمَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ كُتُبَ الْقَوَانِينِ وَشَرَّعُوا لَهُ أَشْيَاءَ وَابْتَدَعُوا بِدَعًا كَثِيرَةً، وَحَرَّفُوا دين المسيح وغيروه، فابتنى لهم حينئذٍ الْكَنَائِسَ الْكِبَارَ فِي مَمْلَكَتِهِ كُلِّهَا، بِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ، فَكَانَ مَبْلَغُ الْكَنَائِسِ فِي أَيَّامِهِ ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة، وَقَوْلُهُ:{فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تهديد

ص: 451

وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَافْتَرَى، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَلَكِنْ أَنْظَرَهُمْ تَعَالَى إلى يوم القيامة، وأجّلهم حلماً فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» وقد قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإليَّ المصير} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} ، ولهذا قال ههنا {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أَيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ من العمل» .

ص: 452

- 38 - أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

- 39 - وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

- 40 - إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الكفار يوم القيامة: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أَيْ مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {لَكِنِ الظَّالِمُونَ اليوم} أي في الدينا {فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، فَحَيْثُ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْهُدَى لَا يَهْتَدُونَ، وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أَيْ أَنْذِرِ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} : أَيْ فَصَلَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النار، وصار كُلٌّ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مُخَلَّدًا فِيهِ، {وَهُمْ} أَيِ الْيَوْمَ {فِي غَفْلَةٍ} عَمَّا أُنْذِرُوا به يوم الحسرة والندامة {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِهِ. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ قال، فيشرئبون وينظرون وَيَقُولُونَ، نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ، فَيَشْرَئِبُّونَ وينظرون وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ وَلَا موت" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، وأشار بيده ثم قال:«أهل الدنيا في غفلة الدنيا» (رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري واللفظ له وأخرجه الشيخان عن ابن عمر ولفظهما قريب من ذلك).

وقال السُّدي، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، أُتِيَ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يُمِيتُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي أَهْلِ عِلِّيِّينَ، وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرَجَةٍ فِي الجنة إلاّ نظر إليه، ثم ينادي مناد: يَا أَهْلَ النَّارِ هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يميت الناس في الدينا فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادَى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، فَيَفْرَحُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرْحَةً لَوْ كان أحدا مَيِّتًا مِنْ فَرَحٍ مَاتُوا، وَيَشْهَقُ

ص: 452

أَهْلُ النَّارِ شَهْقَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ مَيِّتًا من شهقة ماتوا، فذلك قوله تعالى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} : يَقُولُ إِذَا ذُبِحَ الْمَوْتُ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في تفسيره). وقال ابن عباس: {يَوْمَ الْحَسْرَةِ} مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عظَّمه اللَّهُ وَحَذَّرَهُ عِبَادَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد، فِي قَوْلِهِ:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ:{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَهْلَكُونَ وَيَبْقَى هُوَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَلَا أَحَدَ يَدَّعِي مُلْكًا وَلَا تَصَرُّفًا، بَلْ هُوَ الْوَارِثُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ الْبَاقِي بَعْدَهُمْ، الْحَاكِمُ فِيهِمْ، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة.

ص: 453

- 41 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً

- 42 - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا

- 43 - يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً

- 44 - يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا

- 45 - يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْ فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} أي اتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، خبر إبراهيم خليل الرحمن، وقد كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً مَعَ أَبِيهِ كَيْفَ نَهَاهُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَقَالَ:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} أَيْ لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَدْفَعُ عَنْكَ ضَرَرًا، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} يَقُولُ: وإن كنت من صلبك وتراني أَصْغَرُ مِنْكَ، لِأَنِّي وَلَدُكَ، فَاعْلَمْ أَنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا تَعْلَمْهُ أَنْتَ، وَلَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ وَلَا جَاءَكَ {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أَيْ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا مُوَصِّلًا إِلَى نَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ، {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} أَيْ لَا تُطِعْهُ فِي عِبَادَتِكَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ فَإِنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ وَالرَّاضِي بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا يني آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عدو مبين} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} أَيْ مُخَالِفًا مُسْتَكْبِرًا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، فَطَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ، فلا تتبعه {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ}: أَيْ عَلَى شِرْكِكَ وَعِصْيَانِكَ لِمَا آمُرُكَ بِهِ {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} يَعْنِي فَلَا يَكُونُ لَكَ مَوْلًى وَلَا نَاصِرًا وَلَا مُغِيثًا إِلَّا إِبْلِيسُ، وَلَيْسَ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ اتِّبَاعُكَ لَهُ مُوجِبٌ لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى:{فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

ص: 453

- 46 - قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً

- 47 - قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا

- 48 - وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَاّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً

ص: 453

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لِوَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} ؟ يَعْنِي إِنْ كُنْتَ لَا تُرِيدُ عِبَادَتَهَا وَلَا تَرْضَاهَا، فاتنه عَنْ سَبِّهَا وَشَتْمِهَا وَعَيْبِهَا، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ اقْتَصَصْتُ مِنْكَ وَشَتَمْتُكَ وَسَبَبْتُكَ، وهو قوله:{لأَرْجُمَنَّكَ} ، قاله ابن عباس (وقاله أيضاُ السدي وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ)، وَقَوْلُهُ:{وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قال مجاهد: يَعْنِي دَهْرًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: زَمَانًا طَوِيلًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قَالَ: أَبَدًا. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: سَوِيًّا سَالِمًا، قَبْلَ أَنْ تُصِيبَكَ مِنِّي عُقُوبَةٌ (وَكَذَا قَالَ الضحّاك وقتادة وأبو مالك، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ)، فَعِنْدَهَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ {سَلَامٌ عَلَيْكَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ المؤمنين:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قالوا سلاما} ، وقال تعالى:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجاهلين} ، وَمَعْنَى قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ {سَلَامٌ عَلَيْكَ} يَعْنِي: أَمَّا أَنَا فَلَا يَنَالُكَ مِنِّي مَكْرُوهٌ وَلَا أَذًى وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} ، ولكن سأسأل الله فِيكَ أَنْ يَهْدِيَكَ وَيَغْفِرَ ذَنْبَكَ، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَطِيفًا، أي في أن هداني لعبادته. وقال قتادة ومجاهد {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قالا: عودة الْإِجَابَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْحَفِيُّ الَّذِي يَهْتَمُّ بِأَمْرِهِ، وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لِأَبِيهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَبَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَبَعْدَ أَنْ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ عليهما السلام فِي قَوْلِهِ:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} ، وَقَدِ اسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في ابتداء الإسلام، حتى أنزل الله:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أسوة في إِبْرَاهِيمَ والذين معه إذا قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله - إِلَى قَوْلِهِ - إِلَاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِّن شَيْءٍ} الْآيَةَ، يَعْنِي إِلَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ فَلَا تَتَأَسَّوْا بِهِ، ثُمَّ بيَّن تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَقْلَعَ عن ذلك ورجع عنه، فقال تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ

إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، وَقَوْلُهُ:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ أَجْتَنِبُكُمْ وَأَتَبَرَّأُ مِنْكُمْ وَمِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، {وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ وَأَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {عَسَى أَلَاّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} وعسى هَذِهِ مُوجِبَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ عليه السلام سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

ص: 454

- 49 - فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا

- 50 - وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً

يقول تعالى: فَلَمَّآ اعْتَزَلَ الْخَلِيلُ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي اللَّهِ، أَبْدَلَهُ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَوَهَبَ لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، يَعْنِي ابْنَهُ وَابْنَ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} ، وقال:{وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يعقوب} ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ إِسْحَاقَ وَالِدُ يَعْقُوبَ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ولهذا إنما ذكر ههنا إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، أَيْ جَعَلْنَا لَهُ نَسْلًا وَعَقِبًا أَنْبِيَاءَ، أَقَرَّ اللَّهُ بِهِمْ عَيْنَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا

ص: 454

نَبِيّاً} فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قَدْ نُبِّئَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ، لَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَذَكَرَ وَلَدَهُ يُوسُفَ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ:{وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} ، قال ابن عباس: يعني الثناء الحسن، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا قَالَ {عَلِيّاً} لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ يُثْنُونَ عَلَيْهِمْ وَيَمْدَحُونَهُمْ، صَلَوَاتُ اللَّهِ

وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

ص: 455

- 51 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً

- 52 - وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا

- 53 - وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْكَلِيمِ فَقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى

إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} بكسر اللام من الإخلاص في العبادة، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُصْطَفًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} ، {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} جمع الله لَهُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الْكِبَارِ، أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ، وَهُمْ (نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ) صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ، وَقَوْلُهُ:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جانب الطور} أي الجانب {الْأَيْمَنِ} مِنْ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ يَبْتَغِي مِنْ تلك النار جذوة، فرآها تَلُوحُ فَقَصَدَهَا فَوَجَدَهَا فِي جَانِبِ الطُّوْرِ الْأَيْمَنِ منه، غربية عند شاطئ الوادي، فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قَالَ: أُدْنِيَ حتى سمع صريف القلم. وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قَالَ: أُدْخِلَ فِي السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه، وروى ابن أبي حاتم، عن عمرو بن معد يكرب قَالَ: لَمَّا قَرَّبَ اللَّهُ مُوسَى نَجِيًّا بِطُورِ سَيْنَاءَ قَالَ: يَا مُوسَى إِذَا خَلَقْتُ لَكَ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ، فَلَمْ أُخَزِّنْ عَنْكَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَمَنْ أُخَزِّنُ عَنْهُ هَذَا فَلَمْ أَفْتَحْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ:{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} أَيْ وَأَجَبْنَا سُؤَالَهُ وَشَفَاعَتَهُ فِي أَخِيهِ فَجَعَلْنَاهُ نَبِيًّا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُكَذِّبُونِ} ، وقال:{قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى} ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا شُفِّعَ أَحَدٌ شَفَاعَةً فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ شَفَاعَةِ مُوسَى فِي هَارُونَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} ، قال ابن عباس: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَلَكِنْ أَرَادَ وهب نبوته له (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم).

ص: 455

- 54 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً

- 55 - وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً

هَذَا ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليهما السلام، وَهُوَ وَالِدُ عَرَبِ الْحِجَازِ كُلِّهِمْ بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ لَمْ يَعِدْ رَبَّهُ عِدَةً إِلَّا أنجزها، يعني ما التزم عبادة قط بِنَذْرٍ إِلَّا قَامَ بِهَا، وَوَفَّاهَا حَقَّهَا. وَقَالَ ابن جرير، عن سهل بن عقيل، أَنَّ (إِسْمَاعِيلَ) النَّبِيَّ عليه السلام وَعَدَ رَجُلًا مكاناً أن يأتيه فيه،

ص: 455

فَجَاءَ وَنَسِيَ الرَّجُلُ فَظَلَّ بِهِ إِسْمَاعِيلُ، وَبَاتَ حَتَّى جَاءَ الرَّجُلُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا برحت من ههنا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِنِّي نَسِيتُ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَبْرَحَ حَتَّى تَأْتِيَنِي، فَلِذَلِكَ {كَانَ صَادِقَ الوعد} ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ فَبَقِيَتْ لَهُ عليَّ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ، قَالَ فَنَسِيتُ يَوْمِي وَالْغَدَ، فَأَتَيْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي:«يا فتى لقد شققت عليّ أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك» ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُ {صَادِقَ الْوَعْدِ} لِأَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ {سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصابرين} فَصَدَقَ فِي ذَلِكَ، فصدقُ الْوَعْدِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، كَمَا أَنَّ خُلْفَهُ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"(الحديث أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة)، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ التَّلَبُّسُ بِضِدِّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَادِقَ الْوَعْدِ أَيْضًا، لَا يَعِدُ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا وَفَّى لَهُ بِهِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَوْجِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ فقال:«حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي» .

وقوله تعالى: {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِ إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وُصِفَ بِالنُّبُوَّةِ فَقَطْ، وَإِسْمَاعِيلُ وُصِفَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، فَدَلَّ

عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُهُ:{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} ، هَذَا أَيْضًا مِنَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالصِّفَةِ الْحَمِيدَةِ وَالْخِلَّةِ السَّدِيدَةِ، حَيْثُ كَانَ صابراً على طاعة ربه عز وجل، آمِرًا بِهَا لِأَهْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عليها} الآية. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ الله كثيراً والذكرات» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ له).

ص: 456

- 56 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نبياً

- 57 - وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً

ذِكْرُ إِدْرِيسَ عليه السلام بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ كَانَ صدِّيقاً نَّبِيّاً، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ مَكَانًا عَلِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مرَّ بِهِ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ خَيَّاطًا فَكَانَ لَا يَغْرِزُ إِبْرَةً إِلَّا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ أحد أفضل عملاً منه، وقال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ كَمَا رُفِعَ عِيسَى. وقال سفيان، عن مجاهد {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: السماء الرابعة، وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قَالَ: الْجَنَّةُ.

ص: 456

- 58 - أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا

يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَطْ، بَلْ جِنْسُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْأَشْخَاصِ إِلَى الْجِنْسِ، {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ} الْآيَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله: فَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ (إِدْرِيسَ)، وَالَّذِي عَنَى بِهِ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ (إِبْرَاهِيمَ)، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ (إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ)، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ (مُوسَى وَهَارُونَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلِذَلِكَ فَرَّقَ أَنْسَابَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ آدَمُ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ إِدْرِيسُ، فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ، (قُلْتُ): هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّ إِدْرِيسَ فِي عَمُودِ نَسَبِ نُوحٍ عليهما السلام، وَقَدْ قِيلَ إنه من أنبياء بني إسرئيل، أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، حَيْثُ قَالَ فِي سَلَامِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، وَلَمْ يَقِلْ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ عليهما السلام، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ:"أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَفِي {ص} سَجْدَةٌ؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: {أولئك الذي هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} فَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، قَالَ وَهُوَ مِنْهُمْ يَعْنِي دَاوُدَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} أَيْ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَ حُجَجَهُ وَدَلَائِلَهُ وَبَرَاهِينَهُ سَجَدُوا لِرَبِّهِمْ خُضُوعًا واستكانة حمداً وَشُكْرًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْبُكِيُّ جَمْعُ بَاكٍ فَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ على شرعية السجود ههنا اقْتِدَاءً بِهِمْ وَاتِّبَاعًا لِمِنْوَالِهِمْ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه سُورَةَ مَرْيَمَ فَسَجَدَ، وَقَالَ هَذَا السُّجُودُ، فَأَيْنَ الْبُكِيُّ؟ يُرِيدُ الْبُكَاءَ"(رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابن جرير).

ص: 457

- 59 - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا

- 60 - إِلَاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حِزْبَ السُّعَدَاءِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْقَائِمِيْنَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ الْمُؤَدِّينَ فَرَائِضَ اللَّهِ التَّارِكِينَ لِزَوَاجِرِهِ، ذَكَرَ أَنَّهُ {خَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي قرون أخر، {أَضَاعُواْ الصلاة} ، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَمَلَاذِّهَا، وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا، فَهَؤُلَاءِ سَيَلْقَوْنَ غَيًّا، أَيْ خَسَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بإضاعة الصلاة ههنا، فَقَالَ قَائِلُونَ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا تَرْكُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَهُ محمد بن كعب القرظي وَالسُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا هُوَ مشهور عن الإمام أحمد، إِلَى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ لِلْحَدِيثِ:«بَيْنَ الْعَبْدِ وبين الشرك ترك الصلاة» (الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن جابر بلفظ «بين الرجل وبين الشرك الكفر

»)، وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ: «الْعَهْدُ الَّذِي

ص: 457

-‌

‌ 57 - سورة الحديد

ص: 443

عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَقَالَ: «إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب)، وَالْآيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ هِيَ وَاللَّهُ أعلم قوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم} .

ص: 443

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 443

- 1 - سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

- 2 - لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

- 3 - هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخْرَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

وَلَكِنْ لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} وقوله تعالى {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيِ الَّذِي قَدْ خَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، {الْحَكِيمُ} فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ، فَيُحْيِي وَيُمِيتُ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وقوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سارية أنها أفضل من ألف آية، روى أبو داود، عن أبي زُمَيْلٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ بِهِ. قَالَ، فَقَالَ لِي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ، وَضَحِكَ، قَالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، قَالَ: حَتَّى أنزل الله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يقرأون الكتاب مِن قَبْلِكَ} الآية، قَالَ، وَقَالَ لِي: إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم} (أخرجه أبو داود)، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ المفسِّرين فِي هَذِهِ الْآيَةِ،

ص: 443

وَأَقْوَالُهُمْ عَلَى نحوٍ مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو عِنْدَ النَّوْمِ:«اللَّهُمَّ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، ربنا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخذ بناصيته، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عنا الدين، وأغننا من الفقر» (وأخرجه مسلم بلفظ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثم يقول: اللهم رب السماوات

الخ). وعن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِفِرَاشِهِ، فَيُفْرَشُ لَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَوَى إِلَيْهِ تَوَسَّدَ كَفَّهُ الْيُمْنَى ثُمَّ هَمَسَ، مَا يُدْرَى مَا يَقُولُ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ:«اللَّهُمَّ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ العظيم، إله كُلِّ شَيْءٍ وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عنا الدين، وأغننا من الفقر» (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي).

وروى الترمذي، عن أبي هريرة قال: بينما نبي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَأَصْحَابُهُ إِذْ أَتَى عَلَيْهِمْ سَحَابٌ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«هَذَا الْعَنَانُ، هَذِهِ رَوَايَا الْأَرْضِ تَسُوقُهُ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْكُرُونَهُ وَلَا يَدْعُونَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال:«فإنها الرفيع سَقْفٌ مَحْفُوظٌ وَمَوْجٌ مَكْفُوفٌ» ، ثُمَّ قَالَ:«هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ» ، ثُمَّ قَالَ:«هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّ فَوْقَ ذَلِكَ سَمَاءٌ بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ - حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ - مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ، ثُمَّ قَالَ:«هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّ فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشَ وبينه وبين السماء مثل مَا بَيْنَ السَّمَاءَيْنِ» ، ثُمَّ قَالَ:«هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّهَا الْأَرْضُ» ، ثُمَّ قَالَ:«هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّ تَحْتَهَا أَرْضًا أُخْرى بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ - حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرَضِينَ - بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ» ، ثُمَّ قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّكُمْ دليتم حبلاً إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم} (أخرجه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً وقال: حديث غريب من هذا الوجه). وفسَّر بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالُوا: إِنَّمَا هَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ وَقَدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الحديث بسنده، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فذكره، وعنده:«وبعد مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ» ، وَقَالَ:«لَوْ دَلَّيْتُمْ أَحَدَكُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى السَّابِعَةِ لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ» ،

ص: 444

ثُمَّ قَرَأَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْتَقَى أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَرْسَلَنِي رَبِّي عز وجل مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَتَرَكْتُهُ ثَمّ، قَالَ الْآخَرُ: أَرْسَلَنِي رَبِّي عز وجل مِنَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ وَتَرَكْتُهُ ثَمّ، قَالَ الْآخَرُ: أَرْسَلَنِي رَبِّي مِنَ الْمَشْرِقِ وَتَرَكْتُهُ ثَمّ، قَالَ الْآخَرُ: أَرْسَلَنِي ربي من المغرب وتركته ثَمّ (أخرجه ابن جرير، قال ابن كثير: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ الأول موقوفاً على قتادة كما هنا).

ص: 445

- 4 - هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

- 5 - لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

- 6 - يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثم أخبر تعالى بِاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِهِنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَشْبَاهِهَا فِي سُورَةِ الأعراف بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى:{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ يَعْلَمُ عَدَدَ مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ حَبٍّ وَقَطْرٍ، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نبات وزرع وثمار، كما قَالَ تَعَالَى:{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وقوله تعالى:{وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ مِنَ الْأَمْطَارِ، وَالثُّلُوجِ وَالْبَرَدِ وَالْأَقْدَارِ، وَالْأَحْكَامِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ، وقوله تعالى:{وَمَا يَعْرُجُ فِيهَآ} أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ:«يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ» ، وقوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ رَقِيبٌ عليكم شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وَأَيْنَ كُنْتُمْ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، فِي ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء، فَيَسْمَعُ كَلَامَكُمْ وَيَرَى مَكَانَكُمْ، وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَنَجْوَاكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} ، وَقَالَ تَعَالَى:{سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ، فَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْإِحْسَانُ:«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنه يراك» ، وفي الحديث، قال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ: «يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كان» (أخرجه أبو نعيم من حديث عبد الله العامري مرفوعاً). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَفْضَلَ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ معك حيثما كنت» (أخرجه أبو نعيم عن عبادة بن الصامت). وكان الإمام أحمد رحمة الله تعالى يُنْشِدُ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:

إِذَا مَا خلوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلَا تَقُلْ * خلوتُ وَلَكِنْ قُلْ عليَّ رقيبُ

وَلَا تحسبنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً * وَلَا أن ما تخفي عليه يغيب

ص: 445

وقوله تعالى: {لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} ، أَيْ هُوَ الْمَالِكُ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قال تعالى:{وإن لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} وهو المحمود على ذلك، كما قال تَعَالَى:{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الحمد في الأولى والآخرة} ، وقال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الحكيم الخبير} ، فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ، وَأَهْلُهُمَا عَبِيدٌ أَرِقَّاءُ أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا قال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِ الرحمن عبداً} ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَيْ إِلَيْهِ الْمَرْجِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ ولا يظلم مثقال ذرة، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حاسبين} ، وقوله تَعَالَى:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْخَلْقِ، يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَيُقَدِّرُهُمَا بِحِكْمَتِهِ كَمَا يَشَاءُ، فَتَارَةً يُطَوِّلُ اللَّيْلَ وَيُقَصِّرُ النَّهَارَ، وَتَارَةً بِالْعَكْسِ، وَتَارَةً يَتْرُكُهُمَا مُعْتَدِلَيْنَ، وَتَارَةً يَكُونُ الْفَصْلُ شِتَاءً ثُمَّ رَبِيعًا ثُمَّ قَيْظًا ثُمَّ خَرِيفًا، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِمَا يُرِيدُهُ بِخَلْقِهِ {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَإِنْ دَقَّتْ أو خفيت.

ص: 446

- 7 - آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ

- 8 - وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

- 9 - هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لرؤوف رَحِيمٌ

- 10 - وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

- 11 - مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ

أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، وَحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أَيْ مِمَّا هُوَ مَعَكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي أَيْدِي مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ صَارَ إِلَيْكُمْ، فَأَرْشَدَ تَعَالَى إِلَى اسْتِعْمَالِ ما استخلفكم فيه من المال في طاعته، وقوله تعالى:{مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ مُخَلَّفًا عَنْكَ، فَلَعَلَّ وَارِثَكَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ فَيَكُونَ أَسْعَدَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ مِنْكَ، أَوْ يَعْصِيَ اللَّهَ فِيهِ فَتَكُونَ قَدْ سَعَيْتَ فِي مُعَاوَنَتِهِ عَلَى الإثم والعدوان. روى مسلم، عن عبد الله بن الشخير قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ يَقُولُ: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَاّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ للناس"(أخرجه مسلم والإمام أحمد). وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} تَرْغِيبٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَةِ،

ثُمَّ قال تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

ص: 446

وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ}؟ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالرَّسُولُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَدْعُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ لَكُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ:«أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟» قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ، قَالَ:«وَمَا لَهُم لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟» قَالُوا: فَالْأَنْبِيَاءُ، قَالَ:«وَمَا لَهُم لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟» قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ:«وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَلَكِنْ أَعْجَبُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا قَوْمٌ يَجِيئُونَ بَعْدَكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بما فيها» (أخرجه البخاري في كتاب الإيمان). وقوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وَيَعْنِي بِذَلِكَ بَيْعَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وقوله تَعَالَى:{هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أَيْ حُجَجًا وَاضِحَاتٍ وَدَلَائِلَ بَاهِرَاتٍ وَبَرَاهِينَ قَاطِعَاتٍ، {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ مِنْ ظلمات الجهل والكفر، إلى نور الهدى والإيمان، {وَإِنَّ الله بِكُمْ لرؤوف رَّحِيمٌ} أَيْ فِي إِنْزَالِهِ الْكُتُبَ وَإِرْسَالِهِ الرُّسُلَ لهداية الناس، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ على الأيمان، حَثَّهُمْ أَيْضًا عَلَى الْإِنْفَاقِ، فَقَالَ:{وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؟ أَيْ أَنْفَقُوا وَلَا تَخْشَوْا فَقْرًا وَإِقْلَالًا، فَإِنَّ الَّذِي أَنْفَقْتُمْ فِي سَبِيلِهِ هُوَ مالك السماوات والأرض، وَهُوَ الْقَائِلُ:{وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} ، فمن توكل على الله أنفق وعلم أن الله سيخلفه عليه، وقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أَيْ لَا يَسْتَوِي هَذَا وَمَنْ لم يفعل كفعله، وذلك أنه قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ الْحَالُ شَدِيدًا، فَلَمْ يَكُنْ يُؤْمِنُ حِينَئِذٍ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ ظُهُورًا عَظِيمًا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى:{أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ، وَالْجُمْهُورُ على أن المراد بالفتح ههنا (فتح مكة)، وعن الشعبي: أن المراد (صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ).

وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا قال الإمام أحمد، عَنْ أنَس قَالَ: كَانَ بَيْنَ (خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) وَبَيْنَ (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) كَلَامٌ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا، فَبَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أحُد أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْلَامَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كان بين صلح الحُدَيبية وفتح مكة. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخِدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ» ، قُلْنَا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُرَيْشٌ؟ قَالَ:«لَا، وَلَكِنْ أَهْلُ الْيَمَنِ لِأَنَّهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا» ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ:«هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةَ يَمَانِيَةٌ» ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ يُنْفِقُهُ مَا أَدَّى مُدَّ أَحَدِكُمْ وَلَا نَصِيفَهُ» ، ثُمَّ جَمَعَ أَصَابِعَهُ وَمَدَّ خِنْصَرَهُ وَقَالَ: «أَلَا إِنَّ هَذَا فَضْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً

مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ، وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خبير}» (أخرجه ابن جرير). وقوله تعالى:{وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يَعْنِي الْمُنْفِقِينَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ كُلُّهُمْ لَهُمْ

ص: 447

ثَوَابٌ عَلَى مَا عَمِلُوا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ تفاوت في تفاضل الجزاء، كما قال تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} الآية، وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ:«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ، وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وفي كل خير» . فَلِهَذَا عَطَفَ بِمَدْحِ الْآخَرِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، مَعَ تفضيل الأول عليه، ولهذا قال تعالى:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ فَلِخِبْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ ثَوَابِ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدِ ذَلِكَ، وَمَآ ذاك إِلَّا لِعِلْمِهِ بِقَصْدِ الْأَوَّلِ وَإِخْلَاصِهِ التَّامِّ وَإِنْفَاقِهِ فِي حَالِ الْجُهْدِ وَالْقِلَّةِ وَالضِّيقِ، وَفِي الْحَدِيثِ:«سبق درهم مائة ألف» . ولا شك أَنَّ الصِّدِّيقَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ أَنْفَقَ مَالَهُ كُلَّهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ عز وجل، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ نِعْمَةٌ يَجْزِيهِ بها.

وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْعِيَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، وَعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ دَخَلَ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِهَذَا قال تعالى:{مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخْرى {أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أَيْ جَزَاءٌ جَمِيلٌ وَرِزْقٌ بَاهِرٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ يوم القيامة. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ:«نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ» ، قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَلَهُ حَائِطٌ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا، قَالَ، فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ، فَنَادَاهَا: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ، قَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي عز وجل. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: رَبِحَ بَيْعُكَ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، وَنَقَلَتْ مِنْهُ مَتَاعَهَا وَصِبْيَانَهَا، وَإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«كَمْ مِنْ عِذْق رَدَاح فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدحداح» (أخرجه ابن أبي حاتم. معنى (العذق): القنو من النخل، والعنقود من العنب، و (رداح): ضخم، مخصب).

ص: 448

- 12 - يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

- 13 - يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ

- 14 - يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ

- 15 - فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَصَدِّقِينَ، أَنَّهُمْ يوم القيامة يسعى نُورُهُم بَيْنَ أيديهم بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قَالَ: عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ،

ص: 448

مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نوره مثل النخلة، ومنهم نُورُهُ مِثْلُ الرَّجُلِ الْقَائِمِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ فِي إِبْهَامِهِ يَتَّقِدُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ مَرَّةً (رواه ابن أبي جرير)، وقال الضحّاك: ليس أحداً إِلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إلى الصراط طفىء نُورُ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ أَشْفَقُوا أن يطفأ نورهم كما طفىء نُورُ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا: رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا، وقال الحسن {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: يَعْنِي عَلَى الصِّرَاطِ. وقد روى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسُّجُودِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِرَفْعِ رَأْسِهِ فَأَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ يَدِي وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَأَعْرِفُ أُمتي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ» ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ أُمّتك مِنْ بَيْنِ الأُمم؟ فقال: «أَعْرِفُهُمْ، مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ الأُمم غَيْرِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ يُؤْتَونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَوْلُهُ: {وَبِأَيْمَانِهِم} ، قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمْ كما قال تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بيمينه} ، وَقَوْلُهُ:{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ، أَيْ لَكُمُ الْبِشَارَةُ بِجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وَقَوْلُهُ:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى عَمَّا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ مِنَ الْأَهْوَالِ الْمُزْعِجَةِ، وَالزَّلَازِلِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَنْجُو يومئذٍ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَمِلَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَرَكَ مَا عَنْهُ زجر.

روى ابن أبي حاتم، عن سليم بن عامر قل: خرجن على جنازة في بب دِمَشْقَ، وَمَعَنَا (أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ) فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ، وَأَخَذُوا فِي دَفْنِهَا، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ وَأَمْسَيْتُمْ فِي مَنْزِلٍ تَقْتَسِمُونَ فِيهِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَتُوشِكُونَ أَنْ تَظْعَنُوا مِنْهُ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَهُوَ هَذَا - يُشِيرُ إِلَى الْقَبْرِ - بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَبَيْتُ الظُّلْمَةِ، وَبَيْتُ الدُّودِ، وَبَيْتُ الضِّيقِ، إِلَّا مَا وسع الله، ثم تَنْتَقِلُونَ مِنْهُ إِلَى مُوَاطِنِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّكُمْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ حَتَّى يَغْشَى النَّاسَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فتبيَضّ وُجُوهٌ، وتسوَدّ وُجُوهٌ، ثُمَّ تَنْتَقِلُونَ منه إلى منزل آخر، فيغشى النَّاسَ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ يُقَسَّمُ النُّورُ، فَيُعْطَى الْمُؤْمِنُ نُورًا، وَيُتْرَكُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، فَلَا يُعْطَيَانِ شيئاً، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} فَلَا يَسْتَضِيءُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ بِنُورِ الْمُؤْمِنِ، كَمَا لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} ، وَهِيَ خَدْعَةُ اللَّهِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قال:{يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قُسِّمَ فِيهِ النُّورُ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ ضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهره فيه الْعَذَابُ} الْآيَةَ، يَقُولُ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَمَا يَزَالُ الْمُنَافِقُ مُغْتَرًّا حَتَّى يُقَسَّمَ النُّورُ، وَيُمَيِّزَ الله بين المنافق والمؤمن (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي ظُلْمَةٍ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ نُورًا، فَلَمَّا رَأْي الْمُؤْمِنُونَ النُّورَ تَوَجَّهُوا نَحْوَهُ، وَكَانَ النُّورُ دَلِيلًا مِنَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ انطلقوا

ص: 449

اتَّبَعُوهُمْ، فَأَظْلَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا حينئذٍ:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ} فَإِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدنيا قال المؤمنون {ارجعوا وَرَآءَكُمْ} مِنْ حَيْثُ جِئْتُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ فَالْتَمِسُوا هُنَالِكَ النور، وروى الطبراني عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَدْعُو النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِهِمْ سِتْرًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الصِّرَاطِ، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى يُعْطِي كُلَّ مُؤْمِنٍ نُورًا وَكُلَّ مُنَافِقٍ نُورًا، فَإِذَا اسْتَوَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ، وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا فَلَا يَذْكُرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَحَدٌ أَحَدًا".

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ فيه الْعَذَابُ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ حَائِطٌ بَيْنَ الجنة والنار، وقال عبد الرحمن بن زيد: هُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} ، وهكذا روي عن مجاهد وَهُوَ الصَّحِيحُ {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} أَيِ الْجَنَّةُ وما فيها {وظاهره فيه العذاب} أي النار، والمراد بِذَلِكَ سُورٌ يُضْرَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَحْجِزَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ دَخَلُوهُ مِنْ بَابِهِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلُوا دُخُولَهُمْ أُغْلِقَ الْبَابُ، وبقي المنافقين مِنْ وَرَائِهِ فِي الْحَيْرَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالْعَذَابِ، كَمَا كانوا في الدار الدنيا في كفر وَشَكٍّ وَحَيْرَةٍ، {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} أَيْ ينادي المنافقين الْمُؤْمِنِينَ: أَمَا كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا نَشْهَدُ مَعَكُمُ الْجُمُعَاتِ؟ وَنُصَلِّي مَعَكُمُ الْجَمَاعَاتِ؟ وَنَقِفُ مَعَكُمْ بِعَرَفَاتٍ؟ وَنَحْضُرُ مَعَكُمُ الْغَزَوَاتِ؟ وَنُؤَدِّي مَعَكُمْ سَائِرَ الْوَاجِبَاتِ؟ قَالُواْ: بَلَى، أَيْ فَأَجَابَ الْمُؤْمِنُونَ النافقين قَائِلِينَ: بَلَى قَدْ كُنْتُمْ مَعَنَا {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَيْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاللَّذَّاتِ وَالْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ {وَتَرَبَّصْتُمْ} أَيْ أَخَّرْتُمُ التَّوْبَةَ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وقت، وقال قتادة:{تربصتم} بِالْحَقِّ وَأَهْلِهِ، {وَارْتَبْتُمْ} أَيْ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، {وغوتكم الأماني} أي قلتم: سيغفر لنا، وقبل غَرَّتْكُمُ الدُّنْيَا {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} أَيْ ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت، {وَغَرَّكُم بالله الغرور} أي الشيطان، وقال قَتَادَةُ: كَانُوا عَلَى خَدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهِ مَا زَالُوا عَلَيْهَا حَتَّى قَذَفَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ مَعَنَا أَيْ بِأَبْدَانٍ لَا نِيَّةَ لَهَا وَلَا قُلُوبَ مَعَهَا، وَإِنَّمَا كُنْتُمْ فِي حَيْرَةٍ وَشَكٍّ فَكُنْتُمْ تُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا تَذْكُرُونَ الله إِلَاّ قَلِيلاً، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمُ الذي أخبر الله تعالى به عنهم حيث يقول:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سقر} ؟ فَهَذَا إِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ لهم والتوبيخ؛ ثم قَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ لَوْ جَاءَ أَحَدُكُمُ الْيَوْمَ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَمِثْلِهِ مَعَهُ لِيَفْتَدِيَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا قُبِلَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تعالى:{مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أَيْ هِيَ مَصِيرُكُمْ وَإِلَيْهَا مُنْقَلَبُكُمْ، وقوله تعالى:{هِيَ مَوْلَاكُمْ} أَيْ هِيَ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ كُلِّ مَنْزِلٍ، عَلَى كُفْرِكُمْ وَارْتِيَابِكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

ص: 450

- 16 - أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ

- 17 - اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

ص: 450

يقول تَعَالَى: أَمَا آنَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، أَيْ تَلِينَ عِنْدَ الذِّكْرِ وَالْمَوْعِظَةِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَتَفْهَمَهُ وَتَنْقَادَ لَهُ وَتَسْمَعَ لَهُ وتطيعه، قال ابن عباس: أن الله استبطأ قلوب المؤمنين،

فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم). وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ إِلَّا أَرْبَعُ سنين (رواه مسلم والنسائي)، وقوله تعالى:{وَلَا يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} نَهَى اللَّهُ تعالى المؤمنين، أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قَبْلَهُمْ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فَلَا يَقْبَلُونَ مَوْعِظَةً، وَلَا تَلِينُ قُلُوبُهُمْ بِوَعْدٍ وَلَا وَعِيدٍ، {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أَيْ فِي الْأَعْمَالِ، فَقُلُوبُهُمْ فَاسِدَةٌ وأعمالهم باطلة، كما قال تَعَالَى:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عن مواضعه} أَيْ فَسَدَتْ قُلُوبُهُمْ فَقَسَتْ، وَصَارَ مِنْ سَجِيَّتِهِمْ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَتَرَكُوا الْأَعْمَالَ الَّتِي أُمروا بِهَا، وَارْتَكَبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ، وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شيء من الأمور الأصلية والفرعية.

روى أبو جعفر الطبري، عن ابن مسعود قَالَ: "إِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَقَسَتْ قُلُوبُهُمُ، اخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمُ اسْتَهْوَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحَلَّتْهُ أَلْسِنَتُهُمْ، وَقَالُوا: نعرض بني إسرائيل على هَذَا الْكِتَابَ، فَمَنْ آمَنَ بِهِ تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ قَتَلْنَاهُ، قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ فِي قَرْنٍ، ثُمَّ جَعَلَ الْقَرْنَ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيْهِ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِهَذَا؟ قَالَ: «آمَنْتُ بِهِ وَيُومِئُ إِلَى الْقَرْنِ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيْهِ، وَمَالِي لَا أُؤْمِنُ بِهَذَا الْكِتَابِ؟ فَمِنْ خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن» (أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود موقوفاً)، وقوله تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فِيهِ إشارة إلى أن الله يُلِينُ الْقُلُوبَ بَعْدَ قَسْوَتِهَا، وَيَهْدِي الْحَيَارَى بَعْدَ ضَلَّتِهَا، وَيُفَرِّجُ الْكُرُوبَ بَعْدَ شِدَّتِهَا، فَكَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ الْمُجْدِبَةَ الْهَامِدَةَ بِالْغَيْثِ الْهَتَّانِ الْوَابِلِ، كَذَلِكَ يَهْدِي الْقُلُوبَ الْقَاسِيَةَ بِبَرَاهِينِ الْقُرْآنِ وَالدَّلَائِلِ، ويولج إليها النور بعد أن كَانَتْ مُقْفَلَةً لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْوَاصِلُ، فَسُبْحَانَ الهادي لمن يشاء بعد الضلال، وَالْمُضِلِّ لِمَنْ أَرَادَ بَعْدَ الْكَمَالِ، الَّذِي هُوَ لما يشاء فعال، وهو الحكيم الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْفِعَالِ، اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْكَبِيرُ المتعال.

ص: 451

- 18 - إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ

- 19 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

ص: 451

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يُثِيبُ بِهِ {المُصَّدِقين والمُصَّدِقات} بأموالهم على أهل الحاجة والفكر وَالْمَسْكَنَةِ {وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} أَيْ دَفَعُوهُ بنية خالصة ابتغاء مرضاة اللَّهِ، لَا يُرِيدُونَ جَزَاءً مِمَّنْ أَعْطَوْهُ وَلَا شُكُورًا، وَلِهَذَا قَالَ:{يُضَاعَفُ لَهُمْ} أَيْ يُقَابِلُ لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويزاد إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَفَوْقَ ذَلِكَ، {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي ثواب جزيل ومآب كريم، وقوله تعالى:{والذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصديقون} هذا تمام الجملة، وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون، وقال ابن عباس:{أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} هَذِهِ مَفْصُولَةٌ، {وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، وَقَالَ أَبُو الضُّحَى {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} . ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ، فَقَالَ:{والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ} ، عن ابن مسعود قَالَ: هُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ يَعْنِي: (المُصَدقين، وَالصِّدِّيقِينَ، والشهداء) كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الذين أنعم عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} فَفَرَّقَ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا صنفان، ولا شك أن الصديق أعلى مقام من الشهيد، كما روى الإمام مالك، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَهْلَ الجنة ليترءون أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بينهم» قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بالله وصدقوا المرسلين» (أخرجه الشيخان والإمام مالك). وقال آخرون: بل المراد من قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ} فَأَخْبَرَ عن المؤمنين بالله ورسوله بأنهم صديقون وشهداء، وقوله تعالى:{وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حيث شاءت» الحديث. وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم عند الله أَجْرٌ جَزِيلٌ، وَنُورٌ عَظِيمٌ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَتَفَاوَتُونَ بِحَسَبِ مَا كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ، لَقِيَ العدو فصدق الله فقتل، فذاك الَّذِي يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهِ هَكَذَا «وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى سَقَطَتْ قَلَنْسُوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقلنسوة عُمَرَ،» وَالثَّانِي مُؤْمِنٌ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا يَضْرِبُ ظَهْرَهُ بِشَوْكِ الطَّلْحِ جَاءَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثُ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا لَقِيَ الْعَدُوَّ فصدق الله فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعُ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ إِسْرَافًا كَثِيرًا لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرابعة"(أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حسن غريب). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لَمَّا ذَكَرَ السُّعَدَاءَ وَمَآلَهُمْ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْأَشْقِيَاءِ وبين حالهم.

ص: 452

- 20 - اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ

- 21 - سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ العظيم

ص: 452

يقول تعالى موهناً أمر الحياة وَمُحَقِّرًا لَهَا: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} أَيْ إِنَّمَا حَاصِلُ أَمْرِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا هَذَا، كما قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} ، ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي أَنَّهَا زَهْرَةٌ فَانِيَةٌ وَنِعْمَةٌ زَائِلَةٌ فَقَالَ:{كَمَثَلِ غَيْثٍ} وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ قُنُوطِ الناس، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} ، وقوله تعالى:{أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أَيْ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ نَبَاتُ ذَلِكَ الزَّرْعِ الَّذِي نَبَتَ بِالْغَيْثِ، وَكَمَا يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ذَلِكَ، كَذَلِكَ تُعْجِبُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الْكُفَّارَ، فَإِنَّهُمْ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَأَمْيَلُ النَّاسِ إِلَيْهَا، {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} أَيْ يَهِيجُ ذَلِكَ الزَّرْعُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا بَعْدَ مَا كَانَ خَضِرًا نَضِرًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّهُ حُطَامًا، أَيْ يَصِيرُ يَبِسًا مُتَحَطِّمًا، هَكَذَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، تَكُونُ أَوَّلًا شَابَّةً، ثُمَّ تكتهل، ثم تكون عجوزاً شوهاء، والإنسان يكون كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ وَعُنْفُوَانِ شَبَابِهِ غَضًّا طرياً لين الأعطاف، بهي المنظر، ثُمَّ يَكْبَرُ فَيَصِيرُ شَيْخًا كَبِيرًا ضَعِيفَ الْقُوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قوة ضغفاً وشيبة} ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَثَلُ دَالًّا عَلَى زَوَالِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا وَفَرَاغِهَا لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، حَذَّرَ مِنْ أَمْرِهَا وَرَغَّبَ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، فَقَالَ:{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أَيْ وَلَيْسَ فِي الْآخِرَةِ الْآتِيَةِ الْقَرِيبَةِ إِلَّا عذاب شديد، أو مغفرة من الله ورضوان، وقوله تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} أَيْ هي متاع فانٍ، يغتر بها من يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا دَارَ سِوَاهَا وَلَا مَعَادَ وَرَاءَهَا، وَهِيَ حَقِيرَةٌ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ الآخرة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فيها، اقرأوا: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلَاّ مَتَاعُ الغرور} "(أخرجه ابن جرير، وهو في الصحيح ثابت بدون الزيادة).

وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَلْجنَّة أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» (أخرجه البخاري في الرقاق والإمام أحمد) فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اقْتِرَابِ الْخَيْرِ والشر من الإنسان، فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات فقال الله تَعَالَى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وَالْمُرَادُ جِنْسُ السَّمَاءِ والأرض كما قال تعالى في الآية الأُخْرى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، وقال ههنا:{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، أَيْ هَذَا الَّذِي أَهَّلَهُمُ اللَّهُ لَهُ هو من فضله عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ:«وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ قَالَ:«أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» ، قَالَ، فَرَجَعُوا فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ مَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ» .

ص: 453

- 22 - مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

- 23 - لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ

- 24 - الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَدَرِهِ السَّابِقِ فِي خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ الْبَرِيَّةَ فَقَالَ: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} أَيْ فِي الْآفَاقِ وَفِي نُفُوسِكُمْ، {إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نخلق الخليقة ونبرأ النسمة، وقال بعضهم: الضمير عَائِدٌ عَلَى النُّفُوسِ، وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَالْأَحْسَنُ عَوْدُهُ عَلَى الْخَلِيقَةِ وَالْبَرِيَّةِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عليها، كما روي عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ الْحَسَنِ فَقَالَ رَجُلٌ: سَلْهُ عَنْ قوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَآ} ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمَنْ يَشُكُّ فِي هَذَا؟ كُلُّ مُصِيبَةٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْرَأَ النَّسَمَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} قَالَ: هِيَ السُّنُونَ يَعْنِي الْجَدْبَ {وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ} يَقُولُ: الْأَوْجَاعُ وَالْأَمْرَاضُ، قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُصِيبُهُ خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلخال عَرَقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ نُفَاةِ الْعِلْمِ السَّابِقِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ -. روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سنة» (أخرجه مسلم وأحمد ورواه الترمذي بالزيادة، وقال: حسن صحيح)، وزاد ابن وهب:{وكان عرشه على الماء} ، وقوله تعالى:{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أَيْ أَنَّ علمه تعالى الأشياء قبل كونها سهل عليه عز وجل، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يكون، وقوله تعالى:{لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَآ آتَاكُمْ} أَيْ أَعْلَمْنَاكُمْ بِتَقَدُّمِ عِلْمِنَا وَسَبْقِ كِتَابَتِنَا لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا، وَتَقْدِيرِنَا الْكَائِنَاتِ قَبْلَ وُجُودِهَا لِتَعْلَمُوا أَنَّ مَا أَصَابَكُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكُمْ وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تيأسوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ {وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} أَيْ لَا تَفْخَرُوا عَلَى النَّاسِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَعْيِكُمْ ولا بكدكم، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ لَكُمْ، فَلَا تَتَّخِذُوا نِعَمَ اللَّهِ أَشَرًا وَبَطَرًا تَفْخَرُونَ بها على الناس، ولهذا قال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أَيْ مُخْتَالٍ فِي نَفْسِهِ مُتَكَبِّرٍ فَخُورٍ، أَيْ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:«لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا الْفَرَحَ شُكْرًا وَالْحُزْنَ صبراً» ، ثم قال تعالى:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أَيْ يَفْعَلُونَ الْمُنْكَرَ وَيَحُضُّونَ النَّاسَ عَلَيْهِ، {وَمَن يَتَوَلَّ} أَيْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغني الحميد} ، كما قال:{إِنَّ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حميد} .

ص: 454

- 25 - لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ

ص: 454

يَقُولُ تَعَالَى: {لَّقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} وهو النقل الصدق {والميزان} وهو العدل الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، الْمُخَالِفَةُ للآراء السقيمة كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} ، وقال تعالى:{فطرة الله التي فَطَرَ الناس عليها} ، وقال تعالى:{والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} ، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أَيْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوأوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} ، وقوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أَيْ وَجَعَلْنَا الْحَدِيدَ رَادِعًا لِمَنْ أَبَى الْحَقَّ وَعَانَدَهُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً تُوحَى إِلَيْهِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ وَكُلُّهَا جِدَالٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَبَيَانٌ وَإِيضَاحٌ لِلتَّوْحِيدِ، وبينات ودلالات، فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ خَالَفَ، شَرَعَ اللَّهُ الْهِجْرَةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ بِالسُّيُوفِ وَضَرْبِ الرِّقَابِ، وقد روى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجَعَلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تشبه بقوم فهو منهم» (أخرجه أحمد وأبو داود) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يَعْنِي السلاح كالسيوف والحراب والسنان وَنَحْوِهَا {وَمَنَافِعُ لِّلنَّاسِ} أَيْ فِي مَعَايِشِهِمْ كَالسِّكَّةِ والفأس والمنشار وَالْآلَاتِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحِرَاثَةِ وَالْحِيَاكَةِ والطبخ وغير ذلك، قال ابن عباس: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ نَزَلَتْ مَعَ آدَمَ: السَّنْدَانُ، وَالْكَلْبَتَانِ، والميقعة يعني المطرقة، وقوله تعالى:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أَيْ من نيته في حمل السلاح ونصرة الله ورسوله {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أَيْ هُوَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ يَنْصُرُ مَنْ نَصَرَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ مِنْهُ إِلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الْجِهَادَ لِيَبْلُوَ بعضكم ببعض.

ص: 455

- 26 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ

- 27 - ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنْذُ بَعَثَ نُوحًا عليه السلام، لَمْ يُرْسِلْ بَعْدَهُ رَسُولًا وَلَا نَبِيًّا إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، لَمْ يرسل رسولاً إلا وهو من سلالته، كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى:{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} حَتَّى كَانَ آخِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ {عِيسَى بن مَرْيَمَ} الَّذِي بَشَّرَ مِنْ بَعْدِهِ بِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وقفينا بعيسى بن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} وهم الحواريون {رَأْفَةً} أي رقة وَهِيَ الْخَشْيَةُ {وَرَحْمَةً}

ص: 455

بالخلق، وقوله:{وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} أي ابتدعها أُمَّةُ النَّصَارَى، {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أَيْ مَا شرعناها وَإِنَّمَا هُمُ الْتَزَمُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلُهُ تعالى:{إِلَاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فِيهِ قَوْلَانِ (أَحَدُهُمَا): أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ، (وَالْآخَرُ): مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ إِنَّمَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله، وقوله تعالى:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أَيْ فَمَا قَامُوا بِمَا الْتَزَمُوهُ حَقَّ الْقِيَامِ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ من وجهين:(أحدهما): الِابْتِدَاعِ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اللَّهُ، (وَالثَّانِي): فِي عَدَمِ قِيَامِهِمْ بِمَا الْتَزَمُوهُ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ قُرْبَةٌ يُقَرِّبُهُمْ إِلَى الله عز وجل. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ،

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا ابْنَ مَسْعُودٍ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«هَلْ علمت أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؟ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إِلَّا ثَلَاثُ فِرَقٍ، قَامَتْ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ بَعْدَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عليه السلام، فَدَعَتْ إِلَى دِينِ اللَّهِ ودين عيسى بن مَرْيَمَ، فَقَاتَلَتِ الْجَبَابِرَةَ فَقُتِّلَتْ فَصَبَرَتْ وَنَجَتْ، ثُمَّ قامت طائفة أُخْرَى لم تكن لَهَا قُوَّةٌ بِالْقِتَالِ فَقَامَتْ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى بن مَرْيَمَ فَقُتِّلَتْ وَقُطِّعَتْ بِالْمَنَاشِيرِ وَحُرِّقَتْ بِالنِّيرَانِ فَصَبَرَتْ وَنَجَتْ، ثُمَّ قَامَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ لها قوة وَلَمْ تُطِقِ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ فَلَحِقَتْ بِالْجِبَالِ فَتَعَبَّدَتْ وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عليهم}» (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير بطريق أُخْرَى ولفظ آخر). وروى الإمام أحمد، عن إياس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لِكُلِّ نَبِيٍّ رَهْبَانِيَّةٌ، وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل» . وفي رواية: «لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةٌ، وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ في سبيل الله» (أخرجه أحمد والحافظ أبو يعلى). وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: سَأَلْتَ عَمَّا سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَبْلِكَ، أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأَسُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ روحك في السماء وذكرك في الأرض" (أخرجه الإمام أحمد).

ص: 456

- 28 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

- 29 - لِّئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الفضل العظيم

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حقَّ اللَّهِ وحقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تأيبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران"(أخرجه البخاري ومسلم). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا افْتَخَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَنْزَلَ

اللَّهُ تعالى عليه هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي ضعفين {مِن رَّحْمَتِهِ} ، وَزَادَهُمْ {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يَعْنِي هُدًى يُتَبَصَّرُ بِهِ مِنَ الْعَمَى وَالْجَهَالَةِ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ففضلهم بالنور والمغفرة. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ

ص: 456

سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَثلكم وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ أَلَا فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَن يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الظهر إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ أَلَا فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَن يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عَمِلْتُمْ، فَغَضِبَتِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مَنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّمَا هُوَ فضلي أوتيه من أشاء"(أخرجه الإمام أحمد). وروى البخاري، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كمثل رجل استعمل قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا، يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنَا وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا، وَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ بِعْدَهُمْ، فَقَالَ: أكملوا يَوْمِكُمْ وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَّوُا الْعَصْرَ، قَالُوا: مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ، فإنما بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَأَبَوْا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، فَعَمِلُوا بقية يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجرة الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا من هذا النور"(رواه البخاري في صحيحه). وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِّئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ} أَيْ لِيَتَحَقَّقُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى رَدِّ ما أعطاه الله ولا إِعْطَاءِ مَا مَنَعَ اللَّهِ. {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ العظيم} . قال ابن جرير: {لِّئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} أي ليعلم، وعن ابن مسعود أنه قرأها: لكي يعلم لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ (لَا) صِلَةً فِي كُلِّ كلام دخل أوله أو آخره جَحْدٌ غَيْرُ مُصَرَّحٍ، فَالسَّابِقُ كَقَوْلِهِ:{مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ} ، {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

ص: 457