المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 94 - سورة الشرح - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 94 - سورة الشرح

يَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الصَّدِيقَ إِذَا كَانَ صَالِحًا نَفَعَ، وَأَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ صَالِحًا شَفَعَ {لو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَذَلِكَ أنهم يتمنون أنهم يردون إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله تعالى يعلم أنهم لو ردوا إلى دار الدُّنْيَا لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أَيْ إِنَّ فِي محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد {لآيَةً} أي لدلالة واضحة جلية على أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .

ص: 652

- 105 - كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ

- 106 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ

- 107 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ

- 108 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ

- 109 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ

- 110 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ

هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عليه السلام، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد، فبعثه اللَّهُ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ وَمُحَذِّرًا مِنْ وَبِيلِ عقابه، فكذبه قومه فاستمروا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعَالِ الْخَبِيثَةِ في عبادتهم أصنامهم مَّعَ الله تَعَالَى، ونّزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل، فلهذا قال تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} أَيْ أَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ فِي عِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أَيْ إِنِّي رَسُولٌ مِّن اللَّهِ إِلَيْكُمْ، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي ولا أَزِيدُ فِيهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الآية، أَيْ لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ جَزَاءً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ بَلْ أَدَّخِرُ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ وَبَانَ صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمني عليه.

ص: 652

- 111 - قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ

- 112 - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

- 113 - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَاّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ

- 114 - وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ

- 115 - إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ

يَقُولُونَ: لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين، الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وَصَدَّقُوكَ وَهُمْ أَرَاذِلُنَا، وَلِهَذَا {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ وَأَيُّ شَيْءٍ يَلْزَمُنِي مِنَ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ لِي وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانُوا عَلَيْهِ، لَا يَلْزَمُنِي التَّنْقِيبُ عنهم وَالْبَحْثُ وَالْفَحْصُ، إِنَّمَا عَلَيَّ أَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ تَصْدِيقَهُمْ إِيَّايَ، وأَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل، {أن حسابهم إلى عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَنْهُ ويتابعوه فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالَ {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ إِنَّمَا بُعِثْتُ نَذِيرًا، فَمَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي كان مني وأنا منه، سواء كان شريفاً أو وضعياً، أَوْ جَلِيلًا أَوْ حَقِيرًا.

ص: 652

- 116 - قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ

- 117 - قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ

- 118 - فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

- 119 - فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ

- 120 - ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ

- 121 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ

- 122 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

ص: 652

لَمَّا طَالَ مُقَامُ نَبِيِّ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وَكُلَّمَا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ الْغَلِيظِ وَالِامْتِنَاعِ الشَّدِيدِ، وَقَالُوا فِي الْآخِرِ:{لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي إن لم تنته عن دعوتك إيانا على دينك {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أَيْ لَنَرْجُمَنَّكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةً اسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْهُ فَقَالَ:{رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} الآية، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} إلى آخر الآية، وقال ههنا {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين} والمشحون هو الملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فِيهَا مِن كُلِّ زوجين اثنين، أي أنجيا نوحاً ومن اتبعه كلهم وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .

ص: 653

- 123 - كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ

- 124 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ

- 125 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ

- 126 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ

- 127 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ

- 128 - أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ

- 129 - وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ

- 130 - وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ

- 131 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ

- 132 - وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ

- 133 - أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ

- 134 - وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ

- 135 - إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (هُودٍ) عليه السلام أنه دعا قومه عاداً، وكان قومه يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ، وَهِيَ جِبَالُ الرَّمَلِ قَرِيبًا مِنْ حضرموت متاخمة بلاد الْيَمَنِ، وَكَانَ زَمَانُهُمْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بسطة} ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنْ قُوَّةِ التركيب والقوة والبطش الشديد، والأموال والجنات والأنهار، وَالْأَبْنَاءِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ غير الله معه، فبعث الله هوداً إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ رَسُولَا وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا فَدَعَاهُمْ إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه، فقال لهم {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}؟ الريع: المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بيناناً محكماً هائلاً باهراً، وَلِهَذَا قَالَ:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} أَيْ معلماً بناء مشهوراً، {تَعْبَثُونَ} أي وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَبَثًا لَا لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ، وَلِهَذَا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ وَإِتْعَابٌ لِلْأَبْدَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُجْدِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: والمصانع الْبُرُوجُ الْمُشَيَّدَةُ وَالْبُنْيَانُ الْمُخَلَّدُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بُرُوجُ الْحَمَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَأْخَذُ الْمَاءِ، {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أَيْ لِكَيْ تُقِيمُوا فِيهَا أَبَدًا، وذلك ليس بِحَاصِلٍ لَكُمْ بَلْ زَائِلٌ عَنْكُمْ، كَمَا زَالَ عمن كان قبلكم، روي أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه لَمَّا رَأَى مَا أَحْدَثَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغُوطَةِ مِنَ البنيان ونصب الحجر، قَامَ فِي مَسْجِدِهِمْ فَنَادَى يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ، تَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَتَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتَأْمُلُونَ ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون

ص: 653

-‌

‌ 94 - سورة الشرح

.

ص: 652

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ

- 2 - وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ

- 3 - الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ

- 4 - وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ

- 5 - فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً

- 6 - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا

- 7 - فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ

- 8 - وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ

يَقُولُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يعني قد شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ أَيْ نَوَّرْنَاهُ، وَجَعَلْنَاهُ فَسِيحًا رَحِيبًا وَاسِعًا كَقَوْلِهِ:{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدره للإسلام} ، وَكَمَا شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ كَذَلِكَ جَعَلَ شَرْعَهُ فسيحاً سَمْحًا سَهْلًا، لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا إِصْرَ وَلَا ضِيقَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شرح صدره ليلة الإسراء، وهذا وإن كان واقعاً ليلة الإسراء، وَلَكِنْ لَا مُنَافَاةَ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ شَرْحِ صدره الحسي الشرح المعنوي أيضاً، وقوله تعالى:{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} بِمَعْنَى {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخر} ، {الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} الإنقاض الصوت أي أثقلك حمله، وقوله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا

اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»، وَقَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي بِهَا، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، روى ابن جرير عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«إِذَا ذكرتُ ذكرتَ معي» (رواه ابن جرير). وَحَكَى الْبَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ المراد بذلك الأذان، يعني ذكره فيه، كما قال حسان بن ثابت:

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه * إذ قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ

وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ * فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

وَقَالَ آخَرُونَ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَنَوَّهَ بِهِ حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَنْ يَأْمُرُوا أُممهم بِالْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ شَهَرَ ذِكْرَهُ فِي أُمَّتِهِ، فَلَا يُذْكَرُ اللَّهُ إِلَّا ذُكِرَ معه.

ص: 652

وقوله تَعَالَى: {فَإِن مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يوجد اليسر،

ثم أكد هذا الخبر، بقوله:{إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} ، قال الحسن: كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يَغْلِبُ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنِ اثنين، وعن قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فقال:«لن يغلب عسر يسرين» (رواه ابن جرير)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعُسْرَ مُعَرَّفٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَهُوَ مُفْرَدٌ، وَالْيُسْرُ مُنَكَّرٌ، فَتَعَدَّدَ، وَلِهَذَا قَالَ:«لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» يَعْنِي قَوْلَهُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فالعسر الاول عين الثاني، واليسر تعدّد، ومما يروى عن الشافعي أَنَّهُ قَالَ:

صَبْرًا جَمِيلًا مَا أَقْرَبَ الْفَرَجَا * مَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي الْأُمُورِ نَجَا

مَنْ صَدَقَ اللَّهَ لَمْ يَنَلْهُ أَذًى * وَمَنْ رَجَاهُ يكون حيث رجا

وقال الشاعر:

وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى * ذَرْعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ

كَمُلَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلْقَاتُهَا * فرجت وكان يظنها لا تفرج

وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أَيْ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أُمور الدُّنْيَا وَأَشْغَالِهَا، وَقَطَعْتَ علائقها فانصب إلى الْعِبَادَةِ، وَقُمْ إِلَيْهَا نَشِيطًا فَارِغَ الْبَالِ، وَأَخْلِصْ لربك النية والرغبة، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَقُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لربك. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فانصب في قيام الليل، وفي رواية عنه {فانصب} بَعْدَ فَرَاغِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَأَنْتَ جَالِسٌ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} يَعْنِي فِي الدعاء، وقال الضحّاك {فَإِذَا فَرَغْتَ} أَيْ مِنَ الْجِهَادِ {فَانْصَبْ} أَيْ فِي الْعِبَادَةِ {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قَالَ الثَّوْرِيُّ: اجْعَلْ نِيَّتَكَ وَرَغْبَتَكَ إِلَى اللَّهِ عز وجل.

ص: 653