المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 72 - سورة الجن - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 72 - سورة الجن

ذرة، فليخلقوا شعيرة" (أخرجاه في الصحيحين ورواه الإمام أحمد)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى أَيْضًا:{وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أَيْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَالِانتِصَارِ مِنْهُ، لَوْ سَلَبَهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي عَلَيْهَا مِنَ الطِّيبِ، ثم أرادت أن تستنفذه مِنْهُ لَمَا قَدَرَتْ عَلَى ذَلِكَ، هَذَا وَالذُّبَابُ مِنْ أَضْعَفِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَأَحْقَرِهَا، وَلِهَذَا قَالَ:{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّالِبُ الصنم، والمطلوب الذباب؛ واختاره ابن جرير، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الطَّالِبُ الْعَابِدُ وَالْمَطْلُوبُ الصَّنَمُ، ثُمَّ قَالَ:{مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ مَا عَرَفُوا قَدْرَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ حِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ هَذِهِ الَّتِي لَا تُقَاوِمُ الذُّبَابَ لِضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أَيْ هُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، وَقَوْلُهُ {عَزِيزٌ} أَيْ قَدْ عزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، فَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، لِعَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.

ص: 556

- 75 - اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

- 76 - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً فِيمَا يَشَاءُ مِنْ شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَمِنَ النَّاسِ لإبلاغ رسالته، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ بِهِمْ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، وَقَوْلُهُ:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَيْ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ بِرُسُلِهِ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، فَلَا يَخْفَى عليه شيء من أمورهم، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ عَلَى مَا يُقَالُ لَهُمْ، حَافِظٌ لَهُمْ، نَاصِرٌ لِجَنَابِهِمْ.

ص: 556

- 77 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

- 78 - وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ

اختلف في هذه السجدة الثانية على قولين وقد قدمنا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» ، وَقَوْلُهُ:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أَيْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ تعالى:{اتقوا الله حَقَّ تقاته} ، وَقَوْلُهُ:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أَيْ يَا هَذِهِ الْأُمَّةُ اللَّهُ اصْطَفَاكُمْ وَاخْتَارَكُمْ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفَضَّلَكُمْ وَشَرَّفَكُمْ وَخَصَّكُمْ بِأَكْرَمِ رَسُولٍ وَأَكْمَلِ شَرْعٍ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَيْ مَا كَلَّفَكُمْ مَا لَا تُطِيقُونَ، وَمَا أَلْزَمَكُمْ بشيء يشق عَلَيْكُمْ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، ولهذا قال عليه السلام:«بعثت بالحنيفة السَّمْحَةِ» وَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا أَمِيرَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا» ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

ص: 556

يَعْنِي مِنْ ضِيقٍ، وَقَوْلُهُ:{مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} قال ابن جرير: نصب على تقدير {ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَيْ مِنْ ضِيقٍ بَلْ وسَّعه عَلَيْكُمْ كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ إبراهيم، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْزَمُوا مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.

(قُلْتُ): وَهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} الآية، وَقَوْلِهِ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:

{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} قال: الله عز وجل. وقال ابن أَسْلَمَ {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلَ وَفِي هَذَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: اللَّهُ سماكم المسلمين في قَبْلُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي الذِّكْرِ، {وَفِي هَذَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. (قُلْتُ): وهذه هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ثم حثهم وأغراهم على ماجاء بِهِ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ملة إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِمَا نَوَّهَ بِهِ مِنْ ذِكْرِهَا وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فِي سَالِفِ الدَّهْرِ وَقَدِيمِ الزَّمَانِ، فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ يُتْلَى عَلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، فَقَالَ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ {وَفِي هذا} ، روى النسائي عن الْحَارِثُ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِثِيِّ جَهَنَّمَ» ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: «نَعَمْ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى» فَادْعُوَا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (أخرجه النسائي في سننه)، وَلِهَذَا قَالَ:{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} أَيْ إِنَّمَا جَعَلْنَاكُمْ هَكَذَا أُمَّةً وَسَطًا، عُدُولًا خِيَارًا مَشْهُودًا بِعَدَالَتِكُمْ عِنْدَ جَمِيعِ الأُمم لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ مُعْتَرِفَةٌ يومئذٍ بِسِيَادَتِهَا وَفَضْلِهَا عَلَى كُلِّ أُمّة سِوَاهَا، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، وَالرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ بلَّغها ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطا} ، وقوله:{أقيموا الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} أَيْ قَابِلُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ، وَتَرْكِ مَا حَرَّمَ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إِقَامُ الصلاة وإيتاء الزكاة، {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أَيِ اعْتَضِدُوا بِاللَّهِ وَاسْتَعِينُوا بِهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَتَأَيَّدُوا بِهِ، {هُوَ مَوْلَاكُمْ} أَيْ حَافِظُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ وَمُظَفِّرِكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}: يَعْنِي نِعْمَ الْوَلِيُّ، وَنِعْمَ النَّاصِرُ من الأعداء.

ص: 557

-‌

‌ 23 - سورة المؤمنون

ص: 558

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

- 2 - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ

- 3 - وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ

- 4 - وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ

- 5 - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ

- 6 - إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ

- 7 - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ

- 8 - وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ

- 9 - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ

- 10 - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ

- 11 - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كدوي النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال:"اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وارض علينا وأرضِنا، ثم قال: لقد أنزل عليَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ" ثُمَّ قَرَأَ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حَتَّى خَتَمَ العشر (أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي). وقال النسائي في تفسيره عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ، قَالَ، قُلْنَا لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتِ: كَانَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ، فَقَرَأَتْ:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حَتَّى انتَهَتْ إِلَى - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"خلق اللَّهُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ لَبِنَةً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، مِلَاطُهَا الْمِسْكُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَحَشِيشُهَا الزَّعْفَرَانُ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: انطِقِي، قَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، فَقَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يُجَاوِرُنِي فِيكِ بَخِيلٌ"؛ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (أخرجه ابن أبي الدنيا ورواه الحافظ البزار والطبراني بنحوه)، وقوله تَعَالَى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ قَدْ فَازُوا وَسَعِدُوا وَحَصَلُوا عَلَى الْفَلَاحِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال ابن عباس: {خَاشِعُونَ}

ص: 558

خائفون ساكنون، وعن علي: الخشوع خشوع القلب، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ خُشُوعُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، فَغَضُّوا بِذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ، وَخَفَضُوا الْجَنَاحَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فَرَّغَ قَلْبَهُ لَهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا عَمَّا عَدَاهَا وَآثَرَهَا عَلَى غَيْرِهَا، وحينئذٍ تَكُونُ رَاحَةً لَهُ وَقُرَّةَ عَيْنٍ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«حُبِّبَ إليَّ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصلاة» (الحديث أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أنس بن مالك مرفوعاً) وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «يا بلال، أرحنا بالصلاة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند).

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} أَيْ عَنِ الْبَاطِلِ وَهُوَ يَشْمَلُ الشِّرْكَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْمَعَاصِي كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كراما} ، قَالَ قَتَادَةُ: أَتَاهُمْ وَاللَّهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ما وقفهم عَنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ بِالْمَدِينَةِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ من الهجرة، والظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ:{وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حصاده} ؛ وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زَكَاةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنَسِ، كَقَوْلِهِ:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادًا، وَهُوَ زَكَاةُ النُّفُوسِ وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ مِنْ جملة زكاة النفوس، المؤمن الكامل هو الذي يفعل هَذَا وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أَيْ وَالَّذِينَ قَدْ حَفِظُوا فُرُوجَهُمْ مِنَ الْحَرَامِ فَلَا يَقَعُونَ فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط، لا يَقْرَبُونَ سِوَى أَزْوَاجَهُمُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ السَّرَارِيِّ، وَمَنْ تَعَاطَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ وَلَا حَرَجَ، وَلِهَذَا قَالَ:{فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ} أَيْ غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ {فأولئك هُمُ العادون} أي المعتدون. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قَالَ: فَهَذَا الصَّنِيعُ خَارِجٌ عَنْ هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الله تعالى:{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أَيْ إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا بَلْ يُؤَدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا عَاهَدُوا أَوْ عَاقَدُوا أَوْفَوْا بِذَلِكَ، لَا كَصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤتمن خَانَ"، وَقَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أَيْ يُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا كَمَا قَالَ ابن مسعود: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ)، وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ قَالَ:«الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ

ص: 559

يُحَافِظُونَ} يعني مواقيت الصلاة، وقال قتادة: على مواقيتها وروكوعها وَسُجُودِهَا، وَقَدِ افْتَتَحَ اللَّهُ ذِكْرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ بِالصَّلَاةِ وَاخْتَتَمَهَا بِالصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مؤمن» . ولما وصفهم تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَفْعَالِ الرَّشِيدَةِ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وثبت في الصَّحِيحَيْنِ:«إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِنْ مات ودخل النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أولئك هم الوارثون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة) ". وقال مجاهد: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُبْنَى بَيْتُهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَيُهْدَمُ بَيْتُهُ الَّذِي فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُهْدَمُ بَيْتُهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَيُبْنَى بَيْتُهُ الَّذِي فِي النار، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم أَطَاعُوا رَبَّهُمْ عز وجل بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيُقَالُ هَذَا فِكَاكُكَ من النار» ، فاستخلف عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبَا بُرْدَةَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: فحلف له (أخرجه مسلم عن أبي بردة عن أبيه مرفوعاً). قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} ، وَكَقَوْلِهِ:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقد قال مجاهد: الجنة هِيَ الْفِرْدَوْسُ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يُسَمَّى البستان الفردوس إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ عِنَبٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 560

- 12 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ

- 13 - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ

- 14 - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ

- 15 - ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ

- 16 - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِن سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ آدَمُ عليه السلام خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ صَلْصَالٍ من حمإ مسنون، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} قَالَ: من صَفْوَةُ الْمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ سُلَالَةٍ أَيْ من مني بني آدم، وقال ابن جرير: إنما سمي طِينًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتُلَّ آدَمُ مِنَ الطِّينِ، وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى وَأَقْرَبُ إِلَى السِّيَاقِ، فَإِنَّ آدَمَ عليه السلام خلق مِّن طِينٍ لَاّزِبٍ، وهو الصلصال الْحَمَأِ الْمَسْنُونِ، وَذَلِكَ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ). {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} هَذَا الضَّمِيرُ عائد

ص: 560

عَلَى جِنْسِ الْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} أَيْ ضَعِيفٍ كَمَا قَالَ: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} يَعْنِي الرَّحِمُ مُعَدٌّ لِذَلِكَ مُهَيَّأٌ لَهُ {إِلَى قَدَرٍ

مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} أي مدة معلومة وأجل معين، حتى استحكم ونقل مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَصِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، ولهذا قال ههنا {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أَيْ ثُمَّ صَيَّرْنَا النُّطْفَةَ وَهِيَ الْمَاءُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ ظَهْرُهُ، وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة، فَصَارَتْ عَلَقَةً حَمْرَاءَ عَلَى شَكْلِ الْعَلَقَةِ مُسْتَطِيلَةً، قَالَ عِكْرِمَةُ، وَهِيَ دَمٌ {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} وَهِيَ قِطْعَةٌ كَالْبَضْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ لَا شَكْلَ فِيهَا وَلَا تَخْطِيطَ {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} يَعْنِي شَكَّلْنَاهَا ذَاتَ رَأْسٍ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ بِعِظَامِهَا وَعَصَبِهَا وعروقها. وفي الصحيح:«كُلُّ جَسَدِ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْب (ما استدق في مؤخره) الذَّنَب، منه خلق وفيه يركب» . {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} أي جعلنا عَلَى ذَلِكَ مَا يَسْتُرُهُ وَيَشُدُّهُ وَيُقَوِّيهِ، {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أَيْ ثُمَّ نَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ فَتَحَرَّكَ وَصَارَ خَلْقًا آخَرَ ذَا سَمْعٍ وبصر وإدراك وحركة واصظراب {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}. عن ابن أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: إِذَا أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليهاً ملكاً فنفخ فيها الروح فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} يَعْنِي نفخنا فيه الروح، وقال ابن عباس: يعني فنفخنا فيه الروح (وكذا روي عن أبي سعيد الخدري، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، والضحاك، والحسن البصري)؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}: يَعْنِي نَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ خَرَجَ طِفْلًا، ثُمَّ نَشَأَ صَغِيرًا، ثُمَّ احْتَلَمَ، ثُمَّ صَارَ شَابًّا، ثُمَّ كَهْلًا، ثُمَّ شَيْخًا، ثُمَّ هرماً، وفي الصحيح:"إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَهَلْ هُوَ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ له بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا"(أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ورواه الإمام أحمد).

وقال عبد الله بن مَسْعُودٍ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ طَارَتْ فِي كُلِّ شَعْرٍ وَظُفْرٍ، فَتَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يوماً، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة (رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً)، وفي الصحيح:«يدخل الملك على النطفة بعدما تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ يَا رب ماذا؟ شقي أَمْ سَعِيدٌ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ فَيَكْتُبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَمُصِيبَتُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا فِيهَا ولا ينقص» (الحديث رواه مسلم والإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد الغفاري مرفوعاً). وروى الحافظ أبو بكر البزار عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خلقها قَالَ: أَيْ رَبِّ ذَكَرٍ أَوْ أَنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ؟ قَالَ: فَذَلِكَ يكتب في

بطن أمه" (الحديث أخرجاه في الصحيحين ورواه الحافظ البزار واللفظ له). وقوله: {فَتَبَارَكَ

ص: 561

-‌

‌ 72 - سورة الجن

.

ص: 556

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً

- 2 - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا

- 3 - وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا

- 4 - وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا

- 5 - وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا

- 6 - وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا

- 7 - وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُخْبَرَ قَوْمَهُ أَنَّ الْجِنَّ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ، فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ فَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ أُوحِيَ إليَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} أَيْ إِلَى السَّدَادِ وَالنَّجَاحِ {فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} كقوله تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن} ، وقوله تعالى:{وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} قال ابن عباس {جَدُّ رَبِّنَا} ألاؤه وقدرته ونعمته على خلقه، وقال مجاهد: جَلَالُ رَبِّنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَعَالَى جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ وأمره، وقال السدي: تعالى أمر ربنا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:{تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أي تعالى ربنا، وقوله تعالى:{مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً} أَيْ تَعَالَى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد، أي قالت الجن: تنزه الرب جل جلاله عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، ثُمَّ قَالُوا:{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} ، قَالَ مجاهد {سَفِيهُنَا} يعنون إبليس، {شَطَطاً} أي جوراً، وقال ابن زيد: أي ظُلْمًا كَبِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: سَفِيهُنَا اسْمَ جِنْسٍ لِكُلِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا، وَلِهَذَا قَالُوا:{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أَيْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، {عَلَى الله شَطَطاً} أي باطلاً وزوراً، ولهذا قالوا:{وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أَيْ مَا حَسِبْنَا أَنَّ الإنس والجن، يتمالأون على الكذب على الله تعالى، فِي نِسْبَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَآمَنَّا بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يكذبون على الله في ذلك. وقوله تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} ، كانت عَادَةُ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَعُوذُونَ بِعَظِيمِ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ الْجَانِّ، أَنْ يُصِيبَهُمْ بِشَيْءٍ يَسُوؤُهُمْ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِنُّ أَنَّ الْإِنْسَ يَعُوذُونَ

ص: 556

بهم من خوفهم منهم {زَادُوهُمْ رَهَقاً} أي خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى بقوا أَشَدَّ مِنْهُمْ مَخَافَةً وَأَكْثَرَ تَعَوُّذًا بِهِمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أَيْ إِثْمًا، وَازْدَادَتِ الجن عليهم بذلك جراءة، وقال الثوري {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أَيِ ازْدَادَتِ الْجِنُّ عَلَيْهِمْ جُرْأَةً، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ بِأَهْلِهِ فَيَأْتِي الْأَرْضَ فَيَنْزِلُهَا فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي من الجن أن أضر أنا فيه ومالي أو ولدي أو ماشيتي، قال قتادة: فَإِذَا عَاذَ بِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ رَهِقَتْهُمُ الجن الأذى عند ذلك، وعن عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَفْرَقُونَ مِنَ الْإِنْسِ كما يفرق الإنس منهم أو أشد، فكان الْإِنْسُ إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا هَرَبَ الْجِنُّ، فَيَقُولُ سَيِّدُ الْقَوْمِ: نَعُوذُ بِسَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، فَقَالَ الْجِنُّ: نَرَاهُمْ يَفْرَقُونَ مِنَّا كَمَا نَفْرَقُ مِنْهُمْ، فَدَنَوْا مِنَ الْإِنْسِ، فَأَصَابُوهُمْ بِالْخَبَلِ وَالْجُنُونِ، فذلك قول الله عز وجل:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أي إثماً (أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة)، وقال أبو العالية {رَهَقاً} أي خوفاً، وقال ابن عباس: أي إثماً، وقال مجاهد: زاد الكفار طغياناً. روى ابن أبي حاتم، عَنْ كَرْدِمِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي مِنَ الْمَدِينَةِ فِي حَاجَةٍ، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى راعي غنم، فلما انتهى صف اللَّيْلُ جَاءَ ذِئْبٌ، فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي، فَقَالَ: يَا عَامِرَ الْوَادِي جَارَكَ فَنَادَى مُنَادٍ لَا نَرَاهُ، يَقُولُ: يَا سِرْحَانُ أَرْسِلْهُ، فَأَتَى الْحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ فِي الْغَنَمِ لَمْ تُصِبْهُ كَدْمَةٌ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ بِمَكَّةَ:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (أخرجه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} أَيْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ بَعْدَ هذه المدة رسولاً.

ص: 557

- 8 - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً

- 9 - وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً

- 10 - وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْجِنِّ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مِنْ حِفْظِهِ لَهُ أَنَّ السَّمَاءَ مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا، وَحُفِظَتْ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا، وطردت الشياطين عن مقاعدها لئلا يسترقون شيئاً من القرآن، وهذا من لطف الله تعالى بِخَلْقِهِ، وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذَا قَالَ الْجِنِّ:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أَيْ مَنْ يَرُومُ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ الْيَوْمَ، يَجِدْ لَهُ شِهَاباً مُرْصِدًا لَهُ، لَا يَتَخَطَّاهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ بَلْ يَمْحَقُهُ وَيُهْلِكُهُ، {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أَيْ مَا نَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ، لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، وَهَذَا مِنْ أَدَبِهِمْ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ أَسْنَدُوا الشَّرَّ إِلَى غَيْرِ فَاعِلٍ، وَالْخَيْرَ أَضَافُوهُ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ:«وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» وَقَدْ كَانَتِ الْكَوَاكِبُ يُرْمَى بها قبل ذلك، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَطَلُّبِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، فَأَخَذُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي حُفِظَتْ مِنْ أَجْلِهِ السَّمَاءُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ،

ص: 557

وَتَمَرَّدَ فِي طُغْيَانِهِ مَنْ بَقِيَ، كَمَا تَقَدَّمَ حديث ابن عباس عِنْدَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ:{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ وَالرَّمْيُ بِهَا، هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له، وظنوا أن ذلك لخراب العالم، فَأَتَوْا إِبْلِيسَ فحدَّثوه بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ أَشُمُّهَا، فَأَتَوْهُ، فَشَمَّ فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نُصَيْبِينَ فَقَدِمُوا فوجدوا نبي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ تُصِيبُهُ، ثم أسلموا فأنزل اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم (هذه بعض رواية ذكرها السدي).

ص: 558

- 11 - وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً

- 12 - وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُعْجِزَهُ هَرَبًا

- 13 - وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقًا

- 14 - وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا

- 15 - وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا

- 16 - وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً

- 17 - لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عذابا صعدا

يقول تعالى مخبراً عن الْجِنُّ {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أَيْ غَيْرُ ذَلِكَ، {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} أَيْ طَرَائِقَ مُتَعَدِّدَةً مُخْتَلِفَةً وَآرَاءَ مُتَفَرِّقَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} أَيْ مِنَّا الْمُؤْمِنُ وَمِنَّا الكافر، وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ الدِّمَشْقِيِّ قَالَ، سَمِعْتُ بَعْضَ الْجَنِّ وَأَنَا فِي مَنَزَلٍ لِي بِاللَّيْلِ يُنْشِدُ:

قُلُوبٌ بَرَاهَا الْحُبُّ حَتَّى تَعَلَّقَتْ * مَذَاهِبُهَا فِي كُلِّ غَرْبٍ وَشَارِقِ.

تَهِيمُ بِحُبِّ اللَّهِ وَاللَّهُ رَبُّهَا * معلقة بالله دون الخلائق.

وقوله تعالى: {وَإِنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} أَيْ نَعْلَمُ أَنَّ قدرة الله حاكمة علينا، وأنا لانعجزه وَلَوْ أَمْعَنَّا فِي الْهَرَبِ، فَإِنَّهُ عَلَيْنَا قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنَّا، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَهُوَ مَفْخَرٌ لَهُمْ وَشَرَفٌ رَفِيعٌ، وَصِفَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَوْلُهُمْ:{فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} قال ابن عباس وقتادة: فَلَا يَخَافُ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ غَيْرَ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هضماً} ، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أَيْ مِنَّا الْمُسْلِمُ وَمِنَّا الْقَاسِطُ، وَهُوَ الْجَائِرُ عَنِ الْحَقِّ النَّاكِبُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمُقْسِطِ، فَإِنَّهُ الْعَادِلُ، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أَيْ طَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمُ النَّجَاةَ، {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أَيْ وقوداً تسعر بهم، {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ:(أَحَدُهُمَا): وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ القاسطون على طريقة الإسلام، وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهَا {لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} أَيْ كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ سِعَةُ الرِّزْقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ

ص: 558

مِّنَ السمآء والأرض}، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ:{لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم مَنْ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْهِدَايَةِ مِمَّنْ يَرْتَدُّ إِلَى الغواية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَإِنَّ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} يعني بالاستقامة الطاعة، وقال مجاهد: يعني الإسلام (وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والسدي وابن المسيب وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ). وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} يَقُولُ: لَوْ آمَنُوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا. قال مقاتل: نزلت فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ مُنِعُوا الْمَطَرَ سَبْعَ سِنِينَ، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي):{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطريقة} الضلال {لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} أَيْ لَأَوْسَعْنَا عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ استدراجاً، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} وهذا من قول أبي مجلز، وحكاه البغوي عن الربيع، وزيد بن أسلم، والكلبي، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ، وَقَوْلُهُ:{وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} أي عذاباً مشقاً موجعاً مؤلماً، قال ابن عباس ومجاهد {عَذَاباً صَعَداً} أَيْ مَشَقَّةً لَا رَاحَةَ مَعَهَا، وعن ابن عباس: جبل في جهنم.

ص: 559

- 18 - وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا

- 19 - وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا

- 20 - قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكَ بِهِ أَحَدًا

- 21 - قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَدًا

- 22 - قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً

- 23 - إِلَاّ بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً

- 24 - حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وأقل عددا

قال قتادة في قوله تعالى: {وَإِن الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً} قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ وَبِيَعَهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَحْدَهُ، وقال ابن عباس: لَمْ يَكُنْ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَمَسْجِدَ إِيلِيَّا بيت المقدس (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ، قَالَتِ الْجِنُّ لِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَ الْمَسْجِدَ ونحن ناؤون؟ أي بعيدون عنك، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناؤون عَنْكَ؟ فَنَزَلَتْ:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أحداً} (أخرجه ابن جرير). وقال عكرمة: نزلت في المساجد كلها، وقوله تعالى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتْلُو الْقُرْآنَ، كَادُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْحِرْصِ لَمَّا سَمِعُوهُ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَدَنَوْا مِنْهُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ الرَّسُولُ فَجَعَلَ يُقْرِئُهُ:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجن} يَسْتَمِعُونَ القرآن، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمْ كَادَتِ الْعَرَبُ تلبد عليه جميعا، وقال قتادة: تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُمْضِيَهُ وَيُظْهِرَهُ على من ناوأه (هذا القول مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وهو اختيار ابْنِ جَرِيرٍ)، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ:{قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكَ بِهِ أَحَداً} أَيْ قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَمَّا آذَوْهُ وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِ لِيُبْطِلُوا مَا جَاءَ بِهِ

ص: 559

من الحق واجتمعوا على عداوته {إنما أدعوا رَبِّي} أَيْ إِنَّمَا أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَسْتَجِيرُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ {وَلَا أُشْرِكَ بِهِ أَحَداً} .

وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً} أي إنما أنا عبد مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، لَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فِي هِدَايَتِكُمْ وَلَا غَوَايَتِكُمْ، بَلِ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُجِيرُهُ مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، أَيْ لَوْ عَصَيْتُهُ، فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي ممن عَذَابِهِ {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} قَالَ مجاهد: لا ملجأ، وقال قتادة: أَيْ لَا نَصِيرَ وَلَا مَلْجَأَ، وَفِي رِوَايَةٍ: لا ولي ولا مؤئل، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{إِلَاّ بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} مستثنى من قوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً إلا بلاغاً} ويحتمل أن يمون اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ: {لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} أَيْ لَا يُجِيرُنِي مِنْهُ وَيُخَلِّصُنِي إِلَّا إِبْلَاغِي الرِّسَالَةَ الَّتِي أَوْجَبَ أَدَاءَهَا عَلَيَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يِا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رسالته} ، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي أنا رسول الله أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ فَمَنْ يعصِ بَعْدَ ذَلِكَ فله جزاء {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، وقوله تعالى:{حتى إذا رأى المشركون مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} أَيْ حَتَّى إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَا يُوعِدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَسَيَعْلَمُونَ يومئذٍ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} هُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ الموحدون لله تعالى، أَيْ بَلِ الْمُشْرِكِينَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُمْ أَقَلُّ عَدَدًا مِنْ جُنُودِ اللَّهِ عز وجل.

ص: 560

- 25 - قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا

- 26 - عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً

- 27 - إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا

- 28 - لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِوَقْتِ السَّاعَةِ، وَلَا يَدْرِي أَقَرِيبٌ وَقْتُهَا أَمْ بَعِيدٌ {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} أي مدة طويلة، {عَالِمُ الغيب والشهادة فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} هَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَآءَ} وَهَذَا يَعُمُّ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ وَالْبَشَرِيَّ، ثُمَّ قَالَ تعالى:{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} أي يخصه بِمَزِيدِ مُعَقِّبَاتٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَيُسَاوِقُونَهُ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ:{لِّيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ:{لِيَعْلَمَ} إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، روى ابن جرير، عن سعيد بن جبير في قوله:{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} قَالَ: أَرْبَعَةُ حَفَظَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ جِبْرِيلَ {لِيَعْلَمَ} مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شيء عدداً} (حكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير)، وقال قَتَادَةَ:{لِّيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} قَالَ: لِيَعْلَمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ

ص: 560

بَلَّغَتْ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَفِظَتْهَا وَدَفَعَتْ عنها (رواه عبد الرزاق عن معمر بن قتادة، واختاره ابن جرير)، وقيل المراد لِيَعْلَمَ أَهْلُ الشِّرْكِ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ ربهم، قال مجاهد: لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رسالات ربهم، وفي هذا نظر، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ عز وجل (حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (زَادِ الْمَسِيرِ))، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْفَظُ رُسُلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ لِيَعْلَمَ أَنَّ قَدْ أَبْلَغُوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عقبيه} ، وكقوله تعالى:{وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا قَطْعًا لَا مَحَالَةَ، ولهذا قال بعد ذلك:{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} .

ص: 561