الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بْنُ الْأَزْرَقِ) وَكَانَ كَثِيرَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: قِفْ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ غُلِبْتَ الْيَوْمَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنَّكَ تُخْبِرُ أن الهدهد يَرَى الْمَاءَ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ لَيَضَعُ لَهُ الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ، وَيَحْثُو عَلَى الْفَخِّ تُرَابًا فَيَجِيءُ الْهُدْهُدُ لِيَأْخُذَهَا فَيَقَعُ فِي الْفَخِّ فَيَصِيدُهُ الصَّبِيُّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ يَذْهَبَ هَذَا فَيَقُولُ رَدَدْتُ عَلَى ابْنِ عباس لما أجبته، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ إِنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ وَذَهَبَ الْحَذَرُ، فَقَالَ لَهُ نَافِعٌ: وَاللَّهِ لَا أُجَادِلُكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَبَدًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ سُلَيْمَانُ عليه السلام إِذَا غَدَا إِلَى مَجْلِسِهِ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ يَأْتِيهِ نُوَبٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الطَّيْرِ كُلَّ يَوْمٍ طَائِرٌ، فَنَظَرَ فَرَأَى مِنْ أَصْنَافِ الطَّيْرِ كُلِّهَا مَنْ حَضَرَهُ إِلَّا الْهُدْهُدَ {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أَخْطَأَهُ بَصَرِي مِنَ الطَّيْرِ أَمْ غَابَ فَلَمْ يَحْضُرْ؟ وَقَوْلُهُ:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} قال ابن عباس يعني نتف ريشه، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهُ نَتْفُ رِيشِهِ وَتَرْكُهُ مُلْقًى يَأْكُلُهُ الذَّرُّ وَالنَّمْلُ، وَقَوْلُهُ:{أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} يَعْنِي قَتْلَهُ {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بعذر بين واضح، وقال سفيان بن عيينه: لما أقدم الهدهد قالت لَهُ الطَّيْرُ: مَا خَلَّفَكَ فَقَدْ نَذَرَ سُلَيْمَانُ دمك، فقال: هل استثنى؟ قالوا: نَعَمْ، قَالَ:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} قال: نجوت إذاً.
- 22 - فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
- 23 - إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
- 24 - وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ
- 25 - أَلَاّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
- 26 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
يَقُولُ تَعَالَى: {فَمَكَثَ} الْهُدْهُدُ {غَيْرَ بَعِيدٍ} أَيْ غَابَ زَمَانًا يَسِيرًا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ لِسُلَيْمَانَ: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أَيْ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَا جُنُودُكَ {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أَيْ بخبر صدق حق يقين، وسبأ هم مُلُوكُ الْيَمَنِ، ثُمَّ قَالَ:{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} قال الحسن البصري: وهي بلقيس نبت شراحيل ملكة سبأ، وعن قتادة في قوله تعالى:{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} كَانَتْ مِنْ بَيْتِ مملكة وكان أولو مشورتها ثلثمائة وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَكَانَتْ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا (مأرب) على ثلاثة أميال من صنعاء، وَقَوْلُهُ:{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ مِنْ متاع الدنيا مما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الْمُتَمَكِّنُ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} يَعْنِي سَرِيرٌ تَجْلِسُ عَلَيْهِ عَظِيمٌ هَائِلٌ، مُزَخْرَفٌ بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ، قَالَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ: وَكَانَ هَذَا السَّرِيرُ فِي قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم، وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه، ومثلها من مغربه، وقد وُضِعَ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنْ تَدْخُلَ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ طَاقَةٍ وَتَغْرُبَ مِنْ مُقَابَلَتِهَا فَيَسْجُدُونَ لَهَا صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَلِهَذَا قَالَ:{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{أَلَاّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} أَيْ لَا يَعْرِفُونَ سَبِيلَ الْحَقِّ الَّتِي هِيَ إِخْلَاصُ السُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ دُونَ ما خلق مِنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تعبدون} .
وقوله تعالى: {الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ كُلَّ خَبِيئَةٍ فِي السَّمَاءِ والأرض، وقال سعيد بن المسيب: الخبء الماء، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خبء السماوات والأرض ما جعل فيهما مِنَ الْأَرْزَاقِ، الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّبَاتُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابن عباس وغيره أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ يَجْرِي فِي تُخُومِ الْأَرْضِ وداخلها، وَقَوْلُهُ:{وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أَيْ يَعْلَمُ مَا يُخْفِيهِ الْعِبَادُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ، وَقَوْلُهُ:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْهُدْهُدُ دَاعِيًا إِلَى الْخَيْرِ، وعبادة الله وحده، نهي عن قتله، كما رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ والهدهد والصرد (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه قال ابن كثير: وإسناده صحيح).
- 27 - قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
- 28 - اذْهَبْ بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
- 29 - قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ
- 30 - إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- 31 - أَلَاّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مسلمين
يقول تعالى مخبراً عن قيل سليمان للهدهد، حين أخبره عن أهل سبأ وملكهم {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أَيْ أَصْدَقْتَ فِي إِخْبَارِكَ هَذَا {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} في مقالتك لتتخلص مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي أَوْعَدْتُكَ؟ {اذْهَبْ بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} ، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام كَتَبَ كتاباً إلى بلقيس وقومها، وأعطاه ذلك الهدهد فحمله وَذَهَبَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَجَاءَ إِلَى قَصْرِ بِلْقِيسَ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا مِنْ كُوَّةٍ هُنَالِكَ بَيْنَ يَدَيْهَا، ثُمَّ تَوَلَّى نَاحِيَةً أَدَبًا وَرِيَاسَةً فَتَحَيَّرَتْ مِمَّا رَأَتْ وَهَالَهَا ذَلِكَ ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى الْكِتَابِ فأخذته ففتحت ختمه وقرأنه، فَإِذَا فِيهِ:{إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَاّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فَجَمَعَتْ عِنْدَ ذَلِكَ أُمَرَاءَهَا وَوُزَرَاءَهَا وَكُبَرَاءَ دولتها ثُمَّ قَالَتْ لَهُمْ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} تَعْنِي بِكَرَمِهِ مَا رأته من عجيب أمره، كون طائر ذهب بِهِ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهَا أَدَبًا وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُلُوكِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَاّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فَعَرَفُوا أَنَّهُ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام، وَأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ وَهَذَا الْكِتَابُ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالْوَجَازَةِ وَالْفَصَاحَةِ فَإِنَّهُ حَصَّلَ المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء: لم يَكْتُبْ أَحَدٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ سليمان عليه السلام. وقوله: {أَلَاّ تَعْلُواْ عَلَيَّ} قال قتادة يقول: لا تتجبروا علي {وأتوني مسلمين} ، وقال ابن أَسْلَمَ: لَا تَمْتَنِعُوا وَلَا تَتَكَبَّرُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُوَحِّدِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مُخْلِصِينَ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: طَائِعِينَ.
- 32 - قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ
- 33 - قَالُوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس
بحوافرها، وقيل: أسعرت الحرب بين ركبانهن، وَقِيلَ: هُوَ إِيقَادُ النَّارِ إِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ نِيرَانُ القبائل، قال ابن جرير: والصواب الأول: الخيل حين تقدح بحوافرها، وقوله تعالى:{فالمغيرات صُبْحاً} قال ابن عباس ومجاهد: يَعْنِي إِغَارَةَ الْخَيْلِ صُبْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ: مَنْ فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ هُوَ الدَّفْعُ صُبْحًا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، وَقَالُوا كُلُّهُمْ فِي قَوْلِهِ:{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ أَثَارَتْ بِهِ الْغُبَارَ إِمَّا فِي حج أو غزو، وقوله تعالى:{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} قال ابن عباس وعطاء: يَعْنِي جَمْعَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون فوسطن بذلك المكان جميعاً ويكون منصوباً على الحال المؤكدة، وقوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عليه، بمعنى أنه لنعم ربه لكفور جحود، قال ابن عباس ومجاهد: الكنود الكفور. قال الحسن: الكنود هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه، وقوله تعالى:{وَإِنَّهُ على على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قال قتادة والثوري: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لِشَهِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يعود الضمير على الإنسان فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى كَوْنِهِ كَنُودًا لَشَهِيدٌ، أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِ، أَيْ ظَاهِرٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أَيْ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ وَهُوَ الْمَالُ {لَشَدِيدٌ} ، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ:(أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لِلْمَالِ، (وَالثَّانِي): وَإِنَّهُ لَحَرِيصٌ بَخِيلٌ مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ، وَكِلَاهُمَا صحيح، ثم قال تبارك وتعالى مُزَهِّدًا فِي الدُّنْيَا، وَمُرَغِّبًا فِي الْآخِرَةِ، وَمُنَبِّهًا عَلَى مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالِ، وَمَا يَسْتَقْبِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَهْوَالِ {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ؟} أَيْ أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور} يَعْنِي أَبْرَزَ وَأَظْهَرَ مَا كَانُوا يُسِرُّونَ فِي نُفُوسِهِمْ، {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} أَيْ لعالم بجميع مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ، ومجازيهم عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
-
101 - سورة القارعة
.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - الْقَارِعَةُ
- 2 - مَا الْقَارِعَةُ
- 3 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ
- 4 - يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ
- 5 - وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ
- 6 - فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
- 7 - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ
- 8 - وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ
- 9 - فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ
- 10 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ
- 11 - نَارٌ حَامِيَةٌ
الْقَارِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَالْحَاقَّةِ وَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْغَاشِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ قال تعالى مُعَظِّمًا أَمْرَهَا وَمُهَوِّلًا لِشَأْنِهَا {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}؟ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} أَيْ فِي انْتِشَارِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ وَذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ، مِنْ حَيْرَتِهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ كأنهم فراش مبثوث، كما قال تعالى:{كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} ، وقوله تعالى:{وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} يعني صَارَتْ كَأَنَّهَا الصُّوفُ الْمَنْفُوشُ الَّذِي قَدْ شَرَعَ في الذهاب والمتزق، قال مجاهد:{العهن} الصوف، ثم أخبر تعالى عما يؤول إِلَيْهِ عَمَلُ الْعَامِلِينَ، وَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الكرامة والإهانة بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، فَقَالَ:{فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي رجحت حسناته على شيئاته، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أَيْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ على حسناته، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قِيلَ: مَعْنَاهُ فَهُوَ سَاقِطٌ هَاوٍ بِأُمِّ رَأْسِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بأمه يعني (دماغه)، قَالَ قَتَادَةُ: يَهْوِي فِي النَّارِ عَلَى رَأْسِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَأُمُّهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَصِيرُ فِي الْمَعَادِ إِلَيْهَا {هَاوِيَةٌ} وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْهَاوِيَةِ أُمُّهُ لِأَنَّهُ لَا مَأْوَى لَهُ غَيْرَهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْهَاوِيَةُ النَّارُ هِيَ أُمَّهُ وَمَأْوَاهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَأْوِي إِلَيْهَا، وَقَرَأَ:{وَمَأْوَاهُمُ النار} . وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ النَّارُ وَهِيَ مَأْوَاهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُفَسِّرًا لِلْهَاوِيَةِ:{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} ، روى ابن جرير عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْمَى قَالَ: إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ ذُهِبَ بِرُوحِهِ إِلَى أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُونَ: رَوِّحُوا أَخَاكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غم الدنيا، قال: ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول: مات أو ما جَاءَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ (أخرجه ابن جرير)، وقوله تعالى:{نَارٌ حَامِيَةٌ} أَيْ حَارَّةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ، قَوِيَّةُ اللهب والسعير، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً؟ فَقَالَ: «إِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جزءاً» (أخرجه مالك ورواه البخاري ومسلم بنحوه). وفي رواية: «كلهن مثل حرها» . وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» (أخرجه الإمام أحمد). وروى الترمذي وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ» (أخرجه الترمذي وابن ماجة). وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ، فَأَشُدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الشِّتَاءِ مِنْ بَرْدِهَا، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الصَّيْفِ من حرها"(أخرجاه في الصحيحين). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحُرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» .