المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 70 - سورة المعارج - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 70 - سورة المعارج

عزَّ وجلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال، زاد أحمد: وهي أول آية نزلت في القتال (أخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن). وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَكِنْ هُوَ يُرِيدُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يبذلوا جهدهم في طاعته كما قال:{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ الله أعمالهم} ، وَقَالَ تَعَالَى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مؤمنين} ، وقال:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} ، وقال:{ولنبلوكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وقد فعل، وإنما شرع تَعَالَى الْجِهَادَ فِي الْوَقْتِ الْأَلْيَقِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِمَكَّةَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا، فلو أمر المسلمون وهم أقل بِقِتَالِ الْبَاقِينَ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ يَثْرِبَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا نَيِّفًا وَثَمَانِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَمِيلُ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، يَعْنُونَ أَهْلَ مِنًى لَيَالِيَ مِنًى فَنَقْتُلُهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إني لم أومر بِهَذَا» ، فَلَمَّا بَغَى الْمُشْرِكُونَ وَأَخْرَجُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَهَمُّوا بقتله وشردوا أصحابه، فلما استقروا بالمدينة وَصَارَتْ لَهُمْ دَارُ إِسْلَامٍ، وَمَعْقِلًا يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ، شَرَعَ اللَّهُ جِهَادَ الْأَعْدَاءِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {أُذِنَ

لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أُخْرِجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ يَعْنِي مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، {إِلَاّ أَن يَقُولُواْ رَبَّنَا اللَّهُ} أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ إساءة ولا ذنب، إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} ، وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ:{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلَاّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الحميد} .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أُنَاسٍ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِمَا يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ مِنَ الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف، {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} وهي المعابد للرهبان (قاله ابن عباس ومجاهد وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ)، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَعَابِدُ الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس، {وَبِيَعٌ} وهي أوسع منها وهي للنصارى أيضاً، وَحَكَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا كنائس اليهود، وعن ابن عباس: أنها كنائس اليهود، وقوله:{وَصَلَوَاتٌ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّلَوَاتُ الْكَنَائِسُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ وَهُمْ يُسَمُّونَهَا صلوات، وحكى السدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا كَنَائِسُ النَّصَارَى، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ: الصَّلَوَاتُ مَعَابِدُ الصَّابِئِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٍ: الصَّلَوَاتُ مَسَاجِدُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِأَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالطُّرُقِ، وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ فَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ:{يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} ، فَقَدْ قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {يُذْكَرُ فِيهَا} عَائِدٌ إِلَى الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْجَمِيعُ يُذْكَرُ فيها اللَّهِ كَثِيرًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ وَبِيَعُ النَّصَارَى وَصَلَوَاتُ الْيَهُودِ وَهِيَ كَنَائِسُهُمْ وَمَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله

ص: 547

كَثِيرًا، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا تَرَقٍ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَهِيَ أَكْثَرُ عُمّاراً وَأَكْثَرُ عبَّاداً، وَهُمْ ذَوُو الْقَصْدِ الصَّحِيحِ. وَقَوْلُهُ:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} ، كقوله تعالى:{إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ؛ فَبِقُوَّتِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَبِعِزَّتِهِ لَا يَقْهَرُهُ قَاهِرٌ، وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ ذَلِيلٌ لَدَيْهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ نَاصِرَهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ، وَعَدُوُّهُ هُوَ الْمَقْهُورُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} ، وَقَالَ تَعَالَى:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ لقوي عزيز} .

ص: 548

- 41 - الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ ولله عاقبة الأمور

قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: فِينَا نَزَلَتْ {الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ} فَأُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ قُلْنَا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ مُكِّنَّا فِي الْأَرْضِ، فَأَقَمْنَا الصَّلَاةَ وَآتَيْنَا الزَّكَاةَ، وَأَمَرْنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْنَا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، فَهِيَ لِي وَلِأَصْحَابِي (أخرجه ابن أبي حاتم عن عثمان رضي الله عنه. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} ، وَقَوْلُهُ:{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْعَاقِبَةُ للمتقين} ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ:{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ مَا صَنَعُوا.

ص: 548

- 42 - وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ

- 43 - وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ

- 44 - وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ

- 45 - فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ

- 46 - أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي تَكْذِيبِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَكُذِّبَ مُوسَى} أَيْ مَعَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الآيات وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أَيْ أَنْظَرْتُهُمْ وَأَخَّرْتُهُمْ، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أَيْ فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لقومه {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} وَبَيْنَ إِهْلَاكِ اللَّهِ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَفِي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ، ثُمَّ قرأ {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إذ أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شديد} (أخرجه البخاري ومسلم)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي كم

ص: 548

مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْتُهَا {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أَيْ مُكَذِّبَةٌ لرسلها، {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ، قَالَ الضَّحَّاكُ: سُقُوفُهَا، أَيْ قَدْ خُرِّبَتْ مَنَازِلُهَا وَتَعَطَّلَتْ حَوَاضِرُهَا، {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} أَيْ لَا يُسْتَقَى مِنْهَا وَلَا يَرِدُهَا أَحَدٌ، بَعْدَ كَثْرَةِ وَارِدِيهَا وَالِازْدِحَامِ عَلَيْهَا، {وَقَصْرٍ مشيد} قال عكرمة: يعني المبيض بالجص، وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الْمَنِيفُ الْمُرْتَفِعُ، وَقَالَ آخَرُونَ: المشيد الْمَنِيعُ الْحَصِينُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْمِ أهلَه شدةُ بِنَائِهِ وَلَا ارْتِفَاعُهُ وَلَا إِحْكَامُهُ وَلَا حَصَانَتُهُ عَنْ حُلُولِ بَأْسِ اللَّهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يدركم الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ، وَقَوْلُهُ:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ بِأَبْدَانِهِمْ وبفكرهم أيضاً، وذلك للاعتبار، أي انظروا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنَ النِّقَمِ وَالنَّكَالِ، {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أَيْ فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أَيْ لَيْسَ الْعَمَى عَمَى الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَى عَمَى الْبَصِيرَةِ، وَإِنْ كَانتِ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ سَلِيمَةً فَإِنَّهَا لَا تَنْفُذُ إِلَى الْعِبَرِ وَلَا تدري ما الخبر.

ص: 549

- 47 - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ

- 48 - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُلْحِدُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ واليوم الآخر، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كان هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم} ، {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} ، وَقَوْلُهُ:{وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أَيِ الَّذِي قَدْ وَعَدَ مِنْ إِقَامَةِ السَّاعَةِ، وَالِانتِقَامِ مِنْ أعدائه، والإكرام لأوليائه، وَقَوْلُهُ:{وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} أَيْ هُوَ تَعَالَى لَا يُعَجِّلُ فَإِنَّ مِقْدَارَ أَلْفِ سَنَةٍ عِنْدَ خَلْقِهِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُكْمِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الِانتِقَامِ قَادِرٌ، وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وإن أجّل وأنظر، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا:{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإليَّ المصير} . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» (أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ:

مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خلق فيها السماوات والأرض. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تعدون} .

ص: 549

- 49 - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ

- 50 - فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

- 51 - وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ طَلَبَ مِنْهُ الْكَفَّارُ وُقُوعَ الْعَذَابِ وَاسْتَعْجَلُوهُ بِهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْكُمْ نَذِيرًا لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنْ حِسَابِكُمْ مِنْ شَيْءٍ، أَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَجَّلَ لَكُمُ الْعَذَابَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ عَنْكُمْ، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَى مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَضَلَّ مَنْ كَتَبَ

ص: 549

عليه الشقاوة وهو الفعال لما يشاء، {إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَدَقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أَيْ مَغْفِرَةٌ لِمَا سَلَفَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَمُجَازَاةٌ حَسَنَةٌ عَلَى القليل من حسناتهم، قال القرظي (هو محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مُعَاجِزِينَ} مُرَاغِمِينَ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وَهِيَ النار الحارة الوجعة، الشديد عذابها ونكالها أجارنا الله منها.

ص: 550

- 52 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نبيٌّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

- 53 - لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ

- 54 - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مستقيم

قد ذكر كثير من المفسرين ههنا (قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ) وَمَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أن مشركي قريش قد أسلموا، وخلاصتها عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ «النَّجْمَ» فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَوْضِعَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} قَالَ: فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لسانه: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» ، قَالُوا: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمِ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل هَذِهِ الْآيَةُ:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نبيٌّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؛ وَقَدْ ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره ثم سأل ههنا سُؤَالًا: كَيْفَ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا مَعَ الْعِصْمَةِ المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ حَكَى أَجْوِبَةً عَنِ النَّاسِ، مِنْ أَلْطَفِهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْقَعَ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ من صنيع الشيطان، لا عن رَسُولِ الرَّحْمَنِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ أعلم. وَقَوْلُهُ:{إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلاة الله وسلامه عليه، قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فِي أُمْنِيَّتِهِ} إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{إِذَا تَمَنَّى} يَعْنِي إِذَا قَالَ؛ ويقال أمنيته قراءته {إِلَاّ أَمَانِيَّ} يقرؤون وَلَا يَكْتُبُونَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: {تَمَنَّى} أَيْ تَلَا وَقَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَيْ فِي تِلَاوَتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي عُثْمَانَ حِينَ قُتِلَ:

تمنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ * وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَام الْمَقَادِرِ

وَقَالَ الضَّحَّاكُ {إِذَا تَمَنَّى} : إِذَا تَلَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بتأويل الكلام.

وقوله تعالى: {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} حَقِيقَةُ النَّسْخِ لغة الإزالة والرفع، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ فَيُبْطِلُ

ص: 550

الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان (قال السيوطي بعدما ذكر هذه الروايات في اللباب: وكلها إما ضعيفة وإما منقطعة، قال الحافظ ابن حجر: لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، وقال ابن العربي: إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها)؛ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَسَخَ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ، وَقَوْلُهُ:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي بما يكون من الأمور والحوداث لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ {حَكِيمٌ} أَيْ فِي تَقْدِيرِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، لَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَلِهَذَا قَالَ:{لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أَيْ شَكٌّ وَشِرْكٌ وَكُفْرٌ وَنِفَاقٌ كَالْمُشْرِكِينَ حِينَ فَرِحُوا بِذَلِكَ واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ {لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هُمُ الْمُنَافِقُونَ، {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} هم المشركون، وقال مقاتل بن حيان: هم الْيَهُودُ، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أَيْ فِي ضَلَالٍ وَمُخَالَفَةٍ وَعِنَادٍ بَعِيدٍ أَيْ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أَيْ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ النَّافِعَ الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الحق والباطل، والمؤمنون بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَحِفْظِهِ، وَحَرَسَهُ أَنْ يَخْتَلِطَ بِهِ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ كتاب عَزِيزٌ {لَاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، وَقَوْلُهُ:{فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أَيْ يُصَدِّقُوهُ وَيَنْقَادُوا لَهُ {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخضع وتذل لَهُ قُلُوبُهُمْ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَيُوَفِّقُهُمْ لِمُخَالَفَةِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَهْدِيهِمْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوصِلِ إِلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّاتِ، وَيُزَحْزِحُهُمْ عَنِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالدَّرَكَاتِ.

ص: 551

- 55 - وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ

- 56 - الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

- 57 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ فِي {مِرْيَةٍ} أَيْ فِي شَكٍّ وَرَيْبٍ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ {مِّنْهُ} أَيْ مِمَّا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} قَالَ مُجَاهِدٌ: فَجْأَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ:{بَغْتَةً} بَغَتَ الْقَوْمَ أَمْرُ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قوماً إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، وَقَوْلُهُ:{أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال ابن أبي كعب: هو يوم بدر؛ وقال عكرمة ومجاهد: هُوَ يَوْمَ القيامة لا ليل له، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُوعِدُوا بِهِ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَلِهَذَا قَالَ:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ، كَقَوْلِهِ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وَقَوْلُهُ:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عسيرا} {فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَدَّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُواْ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمُوا مع توافق قلوبهم وأقوالهم {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أَيْ لَهُمُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَا يَبِيدُ، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا} أَيْ كَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ بالحق وجحدته، وَكَذَّبُوا بِهِ وَخَالَفُوا الرُّسُلَ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أَيْ

ص: 551

-‌

‌ 70 - سورة المعارج

.

ص: 547

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ

- 2 - لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ

- 3 - مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ

- 4 - تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ

- 5 - فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً

- 6 - إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً

- 7 - وَنَرَاهُ قَرِيبًا

{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي استعجل سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، كقوله تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وعده} . قال النسائي، عن ابن عباس في قوله تعالى:{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، قَالَ (النَّضْرُ بْنُ الحارث) وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قَالَ: ذَلِكَ سُؤَالُ الْكُفَّارِ عَنْ عذاب الله وهو واقع بهم، وقال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَأَلَ سَآئِلٌ} دَعَا دَاعٍ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً

مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم}، وقوله تعالى:{لِّلْكَافِرِينَ} أي مرصد معد لِّلْكَافِرِينَ، {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} أَيْ لَا دَافِعَ لَهُ إذا أراد الله كونه، ولهذا قال تعالى:{من الله ذي المعارج} قال ابن عباس: ذو الدرجات، وعنه: ذو الْعُلُوُّ وَالْفَوَاضِلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {ذِي الْمَعَارِجِ} مَعَارِجِ السَّمَاءِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذِي الْفَوَاضِلِ وَالنِّعَمِ، وَقَوْلُهُ تعالى:{تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} قال قتادة {تَعْرُجُ} تصعد، وأما الروح فيحتمل أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلَ، وَيَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ لِأَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّهَا إِذَا قُبِضَتْ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، كَمَا دل عليه حديث البراء، في قبض الروح الطيبة وفيه:«فَلَا يَزَالُ يُصْعَدُ بِهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا الله» .

وقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فيه أربعة أقوال: أحدها: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، وَهُوَ قَرَارُ الْأَرْضِ السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة. عن ابن عباس في قوله تعالى:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: مُنْتَهَى أَمْرِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْأَرَضِينَ، إِلَى منتهى أمره

ص: 547

من فوق السماوات خمسين ألف سنة (رواه ابن أبي حاتم). الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مُدَّةُ بَقَاءِ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْعَالَمَ إِلَى قيام الساعة، قَالَ: الدُّنْيَا عُمْرُهَا خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَذَلِكَ عمرها يوم سماها الله عز وجل يوماً. وعن عِكْرِمَةَ:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ كَمْ مَضَى وَلَا كَمْ بَقِيَ إِلَّا اللَّهُ عز وجل (أخرجه عبد الرزاق عن عكرمة). الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْيَوْمُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الدُّنْيَا والآخرة وهو قول غريب جداً، روي عن محمد بن كعب قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رواه ابن أبي حاتم). الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وبه قال الضحّاك وابن زيد وعكرمة، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكَافِرِينَ مِقْدَارَ خمسين ألف سنة، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مكتوبة يصليها في الدنيا» (أخرجه أحمد وابن جرير). وقال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ صَاحِبٍ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ إِلَّا جُعِلَ صَفَائِحَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ حهنم، فَتُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تُعِدُّونَ ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» (أخرجه الإمام أحمد).

وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} أَيِ اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ، وَاسْتِعْجَالِهِمُ الْعَذَابَ اسْتِبْعَادًا لوقوعه كقوله تَعَالَى:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} ، ولهذا قَالَ:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} أَيْ وُقُوعَ الْعَذَابِ، وَقِيَامَ السَّاعَةِ يَرَاهُ الْكَفَرَةُ بَعِيدَ الْوُقُوعِ بِمَعْنَى مُسْتَحِيلَ الْوُقُوعِ {وَنَرَاهُ قَرِيباً} أَيِ الْمُؤْمِنُونَ يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ قَرِيبًا وَإِنْ كَانَ لَهُ أَمَدٌ لَا يعلمه إلا الله عز وجل، ولكن كُلُّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ وَوَاقِعٌ لا محالة.

ص: 548

- 8 - يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ

- 9 - وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ

- 10 - وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا

- 11 - يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابٍ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ

- 12 - وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ

- 13 - وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ

- 14 - وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ

- 15 - كَلَاّ إِنَّهَا لَظَى

- 16 - نَزَّاعَةً للشوى

- 17 - تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى

- 18 - وَجَمَعَ فَأَوْعَى

يَقُولُ تَعَالَى الْعَذَابُ وَاقِعٌ بِالْكَافِرِينَ {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} ، قال ابن عباس ومجاهد: أي كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} أَيْ كَالصُّوفِ المنفوش، قاله مجاهد وقتادة، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَكُونُ

ص: 548

الجبال كالعهن المنفوش}، وقوله تعالى:{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} أَيْ لَا يسأل القريب قريبه عَنْ حَالِهِ، وَهُوَ يَرَاهُ فِي أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ فتشغله نفسه عن غيره. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بَعْدَ ذَلِكَ، يقول الله تعالى:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، وَهَذِهِ الآية الكريمة كقوله تعالى:{وَاخْشَوْا يَوْماً لَاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} ، وكقوله تَعَالَى:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، وقوله تعالى:{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابٍ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَاّ} أَيْ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءً وَلَوْ جَاءَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَبِأَعَزِّ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، أَوْ مِنْ وَلَدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا حُشَاشَةَ كَبِدِهِ، يَوَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا رَأَى الْأَهْوَالَ أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْ عذاب الله بِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ:{فَصِيلَتِهِ} قَبِيلَتِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَقَالَ عكرمة: فخذه الذي هو منهم، وقوله: تعالى: {إِنَّهَا لَظَى} يَصِفُ النَّارَ وَشِدَّةَ حَرِّهَا {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: جِلْدَةُ الرَّأْسِ، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ:{نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} الْجُلُودِ وَالْهَامِ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} يَعْنِي أَطْرَافَ الْيَدَيْنِ والرجلين، وقال الحسن البصري: تَحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ وَيَبْقَى فُؤَادُهُ يَصِيحُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَبْرِي اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ عَنِ الْعَظْمِ حتى لا تترك منه شيئاً، وقوله تعالى:{تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أَيْ تَدْعُو النَّارُ إِلَيْهَا أَبْنَاءَهَا الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللَّهُ لَهَا، فَتَدْعُوهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِسَانٍ طَلِقٍ ذَلِقٍ، ثُمَّ تَلْتَقِطُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، كَمَا يَلْتَقِطُ الطير الحب، وذلك أنهم كَانُوا مِمَّنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، أَيْ كَذَّبَ بِقَلْبِهِ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِجَوَارِحِهِ {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أَيْ جَمَعَ الْمَالَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَأَوْعَاهُ أَيْ أَوْكَاهُ وَمَنَعَ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ، مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَاتِ وَمِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ:«وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» ، وكان عبد الله ابن عكيم لا يربط له كيساً، يقول، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ:{وَجَمَعَ فَأَوْعَى} ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَا ابْنَ آدَمَ سَمِعْتَ وَعِيدَ اللَّهِ ثُمَّ أَوْعَيْتَ الدُّنْيَا، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ {وَجَمَعَ فأوعى} قال: كان جموعاً قموعاً للخبيث.

ص: 549

- 19 - إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً

- 20 - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً

- 21 - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً

- 22 - إِلَّا الْمُصَلِّينَ

- 23 - الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ

- 24 - وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ

- 25 - لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ

- 26 - وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ

- 27 - وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ

- 28 - إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ

- 29 - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ

- 30 - إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ

- 31 - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ

- 32 - وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ

- 33 - وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ

- 34 - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ

- 35 - أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ، وَمَا هُوَ مَجْبُولٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ:{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً} أَيْ إِذَا مسه الضُّرُّ فَزِعَ وَجَزِعَ، وَانْخَلَعَ قَلْبُهُ مِنْ شِدَّةِ الرعب، أيس أن يحصله

ص: 549

لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرٌ {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} أَيْ إِذَا حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بَخِلَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنَعَ حَقَّ الله تعالى فيها. وفي الحديث:{شر ما في الرجُل: شح هالع وجُبن خالع" (رواه أبو داود). ثم قال تعالى: {إِلَاّ المصلين} أي إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ وَهَدَاهُ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَهُ وَهُمُ الْمُصَلُّونَ {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ يُحَافِظُونَ على أوقاتها وواجباتها، قاله ابن مسعود، وقيل: المراد بالدوام ههنا السكون والخشوع كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قاله عقبة بن عامر، ومنه الماء الدائم وهو الساكن الراكد؛ وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الصلاة؛ فإن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده لم يسكن فيها ولم يدم، بل ينقرها نقر الغراب، فلا يفلح في صلاته؛ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الَّذِينَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا دَاوَمُوا عَلَيْهِ، وَأَثْبَتُوهُ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» ، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً داوم عليه، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} أَيْ فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيبٌ مُقَرِّرٌ لِذَوِي الْحَاجَاتِ، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أَيْ يُوقِنُونَ بِالْمَعَادِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ مَنْ يَرْجُو الثواب ويخاف العقاب، ولهذا قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ، {إِنَّ، عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} أي لا يأمنه أحد إِلَّا بِأَمَانٍ مِنَ اللَّهِ تبارك وتعالى، وَقَوْلُهُ تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أَيْ يَكُفُّونَهَا عَنِ الْحَرَامِ، وَيَمْنَعُونَهَا أَنْ تُوضَعَ فِي غَيْرِ مَا أذن الله فيه، ولهذا قال تعالى:{إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أَيْ مِنَ الْإِمَاءِ، {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وَقَدْ تقدم تفسير هذا بما أغنى عن إعادته ههنا (تقدم تفسيره في أول سورة {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون})، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أَيْ إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وَإِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَغْدِرُوا، {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} أَيْ مُحَافِظُونَ عَلَيْهَا لَا يَزِيدُونَ فِيهَا، وَلَا يَنْقُصُونَ مِنْهَا وَلَا يكتمونها {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ، ثم قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أَيْ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحِبَّاتِهَا، فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ، وَاخْتَتَمَهُ بِذِكْرِهَا، فَدَلَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا والتنويه بشرفها،

{أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} أَيْ مُكْرَمُونَ بِأَنْوَاعِ الملاذ والمسار.

ص: 550

- 36 - فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ

- 37 - عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ

- 38 - أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ

- 39 - كَلَاّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ

- 40 - فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ

- 41 - عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ

- 42 - فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ

- 43 - يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ

- 44 - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وهم مشاهدون لما أيده الله به من العجزات

ص: 550

الباهرات، ثم هم شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ من قسورة} ، قال تعالى:{فَمَا للذين كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أَيْ فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ عِنْدَكَ يَا مُحَمَّدُ {مُهْطِعِينَ} أَيْ مُسْرِعِينَ نافرين منك، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {مُهْطِعِينَ} ، أَيْ مُنْطَلِقِينَ، {عَنِ اليَمين وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} وَاحِدُهَا عِزَةٌ أَيْ متفرقين، وقال ابن عباس:{فما للذين كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} قَالَ: قَبِلَكَ يَنْظُرُونَ {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} الْعِزِينُ: الْعَصَبُ مِّنَ النَّاسِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ معرضين يستهزئون به، وعن الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} أي مُتَفَرِّقِينَ يَأْخُذُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا يَقُولُونَ: مَا قَالُ هذا الرجل؟ وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق فقال: «مالي أراكم عزين؟» (أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة، ورواه أحمد ومسلم والنسائي بنحوه). وقوله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَاّ} أَيْ أَيُطْمِعُ هَؤُلَاءِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ فِرَارِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَنِفَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، أَنْ يَدْخُلُوا جَنَّاتِ النَّعِيمِ؟ كَلَّا بل مأواهم جهنم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِوُقُوعِ الْمَعَادِ وَالْعَذَابِ بهم مستدلاً عليهم بالبداءة:{إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أَيْ مِنَ الْمَنِيِّ الضعيف، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَاءٍ مهين} ، وقال:{فَلْيَنظُرِ الإنسان مما خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب} ، ثم قال تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} أَيِ الَّذِي خلق السماوات والأرض، وسخَّر الْكَوَاكِبَ تَبْدُو مِنْ مَشَارِقِهَا وَتَغِيبُ فِي مغاربها، {إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُعِيدُهُمْ بِأَبْدَانٍ خَيْرٍ مِنْ هَذِهِ فَإِنَّ قُدْرَتَهُ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَيْ بِعَاجِزِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أن نسوي بنانه} ، وَقَالَ تَعَالَى:{نَّحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فيما لا تعلمون} ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ} أَيْ أُمَّةً تُطِيعُنَا وَلَا تَعْصِينَا وَجَعَلَهَا كَقَوْلِهِ:{وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يكونوا أَمْثَالَكُم} ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخَرِ عَلَيْهِ، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال تعالى:{فَذَرْهُمْ} أي يامحمد {يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} أَيْ دَعْهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، {حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أَيْ فَسَيَعْلَمُونَ غِبَّ ذَلِكَ وَيَذُوقُونَ وَبَالَهُ، {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أَيْ يَقُومُونَ مِنَ الْقُبُورِ، إِذَا دَعَاهُمُ الرَّبُّ تبارك وتعالى لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ، يَنْهَضُونَ سِرَاعاً {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قال ابن عباس: إلى علَم يسعون، وقال أبو العالية: إلى غاية يسعون إليها. {نُصُب} بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِّ وَهُوَ الصَّنَمُ، أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي إِسْرَاعِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ، كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُهَرْوِلُونَ إِلَى النُّصُبِ إِذَا عَايَنُوهُ، {يُوفِضُونَ} يَبْتَدِرُونَ أَيُّهُمْ يَسْتَلِمُهُ أَوَّلَ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عن مجاهد وقتادة والضحّاك وغيرهم، وقوله تعالى:{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أَيْ خَاضِعَةً {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَكْبَرُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ الطاعة {ذَلِكَ اليوم الذي كانوا يوعدون} .

ص: 551