المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 62 - سورة الجمعة - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 62 - سورة الجمعة

وَلَا يَشْقَى

- 124 - وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى

- 125 - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتِنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا

- 126 - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى

يَقُولُ تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً: أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ كُلُّكُمْ {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَإِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَقَوْلُهُ:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْبَيَانُ، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَضِلُّ فِي الدينا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أَيْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي، أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَنَاسَاهُ وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي ضنكاً فِي الدُّنْيَا فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرَجٌ لِضَلَالِهِ وَإِنْ تَنَعَّمَ ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ وَأَكَلَ مَا شَاءَ وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قَلْبَهُ مَا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى الْيَقِينِ وَالْهُدَى فَهُوَ فِي قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ربية يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. قال ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قَالَ: الشقاء. وعنه: إِنْ قَوْمًا ضُلَّالًا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ، وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا مُتَكَبِّرِينَ، فَكَانَتْ مَعِيشَتُهُمْ ضنكاً، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يُكَذِّبُ بِاللَّهِ وَيُسِيءُ الظَّنَّ به والثقة به اشتدت عليه معشيته فذلك الضنك. وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث. وروى سفيان عن عيينة، عَنِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ {مَعِيشَةً ضَنكاً} قَالَ: يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ فيه.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ في روضة خضراء ويفسح لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ قَبْرُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}؟ أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ ويخدشونه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (الحديث رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً وفي رفعه نظر، قال ابن كثير: رفعه منكر جداً). وروى البزار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قَالَ:«الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ الذي قال الله أَنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً يَنْهَشُونَ لحمة حتى تقوم الساعة» . وَقَوْلُهُ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: لَا حُجَّةَ لَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عُمِّيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد أن يبعث أو يحشر إِلَى النَّارِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جهنم} الآية، وَلِهَذَا يَقُولُ:{رَبِّ لِمَ حَشَرْتِنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} ؟ أي في الدينا {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أَيْ لَمَّا أَعْرَضْتَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وتناسيتها وأعرضت عنها، كذلك اليوم نعاملك مُعَامَلَةَ مَنْ يَنْسَاكَ، {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَأَمَّا نِسْيَانُ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَعَ فَهْمِ مَعْنَاهُ وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْخَاصِّ، وَإِنْ كان متوعداً عليه من جهة أخرى، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَا مِنْ رَجُلٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَنَسِيَهُ إِلَّا لَقِيَ الله يوم يلقاه وهو أجذم» (الحديث أخرجه الإمام أحمد عن سعد بن عبادة).

ص: 497

- 127 - وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى

يَقُولُ تَعَالَى: وَهَكَذَا نُجَازِي الْمُسْرِفِينَ، الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} أَيْ أَشَدُّ أَلَمًا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَدْوَمُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَلَاعِنِينَ:«إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ» .

ص: 498

- 128 - أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى

- 129 - وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى - 130 - فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى

يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَهْدِ} لهؤلاء المكذبين بمل جِئْتَهُمْ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، كَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُمْ، فَبَادُوا فَلَيْسَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَمَا يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ مِنْ دِيَارِهِمُ الْخَالِيَةِ، الَّتِي خَلَّفُوهُمْ فِيهَا يَمْشُونَ فِيهَا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أَيِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَلْبَابِ الْمُسْتَقِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ، وقال:{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} الآية؛ ثم قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أَيْ لَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ

أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْأَجَلُ المسمى الذي ضر به اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ

الْمُكَذِّبِينَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ بَغْتَةً، وَلِهَذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ مُسَلِّيًا لَهُ:{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أَيْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يَعْنِي صلاة العصر، كما جاء في الصحيحين:«إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقبل غروبها» (رواه مسلم وأخرجه الإمام أحمد). وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ، يَنْظُرُ إِلَى أَقْصَاهُ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى أَدْنَاهُ، وَإِنَّ أَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى الله تعالى في اليوم مرتين» (الحديث أخرجه الإمام أحمد ورواه أصحاب السنن عن عبد الله بن عمر). وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} : أَيْ مِنْ ساعته فَتَهَجَّدْ بِهِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} فِي مُقَابَلَةِ آنَاءِ اللَّيْلِ {لَعَلَّكَ تَرْضَى} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} . وفي الصحيح: "يقول الله تعالى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".

ص: 498

- 131 - وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى

- 132 - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم، فَإِنَّمَا هُوَ زَهْرَةٌ زَائِلَةٌ وَنِعْمَةٌ حَائِلَةٌ لِنَخْتَبِرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ}: يعني الأغنياء، فقد آتاك خيراً مما آتاهم. ولهذا قال:{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى} (أخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه، عن أبي رافع قَالَ: أَضَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضيفاً، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لَا، إِلَّا بِرَهْنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت الآية: {وَلَا تَمُدَّنَّ عينيك

} كما في اللباب}. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ المَشْرُبة الَّتِي كَانَ قَدِ اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن، فَرَآهُ مُتَوَسِّدًا مُضْطَجِعًا عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، وَلَيْسَ في البيت إلاّ صُبْرة من قَرَظ (صبرة: مجموعة، قرظ: ورق السّلَم، وهو شجر شائك يستعمل ورقه في دبغ الجلود) واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ما يبكيك يا عمر؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خلقه! فقال: «أو في شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا» ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ يُنْفِقُهَا هَكَذَا وَهَكَذَا فِي عِبَادِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَّخِرْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِغَدٍ.

عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَّا يَفْتَحِ الله لكم مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا» ، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يا رسول الله؟ قال: «بركات الأرض» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً). وقال قتادة والسدي {زَهْرَةَ الحياة} : يَعْنِي زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: وَقَالَ قَتَادَةُ {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لِنَبْتَلِيَهُمْ، وَقَوْلُهُ:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أَيِ اسْتَنْقِذْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِإِقَامِ الصلاة واصبر أَنْتَ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} . وَقَوْلُهُ: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} يَعْنِي إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب} ، وَلِهَذَا قَالَ {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا: أَيْ لَا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا

أَصَابَهُ خَصَاصَةٌ نَادَى أَهْلَهُ يَا أَهْلَاهُ صَلُّوا، صَلُّوا. قَالَ ثَابِتٌ: وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصلاة. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» (الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة). وعن زيد بن ثابت قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وهي راغمة» ، وقوله {والعاقبة

ص: 499

لِلتَّقْوَى}: أَيْ وَحُسْنُ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ الْجَنَّةُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ كَأَنَّا فِي دَارِ (عُقْبَةَ بن نافع) وَأَنَّا أُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ، فأوَّلت ذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا وَالرِّفْعَةَ وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ» .

ص: 500

- 133 - وَقَالُواْ لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى

- 134 - وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى

- 135 - قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ {لَوْلَا} أَيْ هَلَّا يَأْتِيَنَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ؟ أَيْ بِعَلَامَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} يَعْنِي الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَمْ يُدَارِسْ أهل الكتاب، وهذه الآية كقوله تعالى:{أو لم يَكْفِهِمْ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِّنْ نَّبِيٍّ إِلَاّ وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مَثَلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ الله تعالى إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القيامة» (أخرجه البخاري ومسلم)، وإنما ذكر ههنا أَعْظَمَ الْآيَاتِ الَّتِي أُعْطِيَهَا عليه السلام وَهُوَ القرآن، وإلاّ فله مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا لَا يُحدُّ وَلَا يُحْصَرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} أَيْ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَ أَنْ نُرْسِلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ وَنُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ لَكَانُوا قَالُوا {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} قَبْلَ أَنْ تُهْلِكَنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِهِ وَنَتَّبِعَهُ، كَمَا قَالَ:{فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} ، يبيّن تعالىأن هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ لَا يُؤْمِنُونَ {وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يرواالعذاب الأليم} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وَقَالَ:{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بها} الآيتين؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ} : أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ كَذَّبَكَ وَخَالَفَكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ {كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ، {فَتَرَبَّصُواْ}: أَيْ فَانْتَظِرُوا، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ}: أَيِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، {وَمَنِ اهْتَدَى} إِلَى الْحَقِّ وَسَبِيلِ الرَّشَادِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ، وقال:{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} .

ص: 500

-‌

‌ 21 - سورة الأنبياء

ص: 501

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ

- 2 - مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ

- 3 - لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ

- 4 - قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

- 5 - بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ

- 6 - مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ

هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَدُنُوِّهَا، وَأَنَّ النَّاسَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، أَيْ لَا

يَعْمَلُونَ لَهَا وَلَا يَسْتَعِدُّونَ مِنْ أجلها، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} قال:«في الدنيا» (الحديث أخرجه النسائي عن أبي سعيد الخدري). وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . وقال أبو العتاهية:

الناس في غفلاتهم * ورحا المنية تطحن

وروي عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رجل من العرب، فأكرم مَثْوَاهُ وَكَلَّمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَقْطَعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَادِيًا فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْطَعَ لَكَ مِنْهُ قِطْعَةً تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ عَامِرٌ: لَا حَاجَةَ لِي فِي قَطِيعَتِكَ نَزَلَتِ الْيَوْمَ سُورَةٌ أَذْهَلَتْنَا عَنِ الدُّنْيَا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُصْغُونَ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، والخطابُ مَعَ قُرَيْشٍ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ فَقَالَ:{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِنْ رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} أَيْ جَدِيدٌ إِنْزَالُهُ {إِلَاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَمَّا بِأَيْدِيهِمْ وَقَدْ حرَّفوه وَبَدَّلُوهُ وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، وَكِتَابُكُمْ أَحْدَثُ الْكُتُبِ بالله تقرأونه محضاً لم يُشب (أخرجه البخاري بنحوه، ومعنى لم يُشَب: أي لم يخلط بغيره من الأباطيل والأضاليل). وَقَوْلُهُ: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أَيْ

ص: 501

قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خُفْيَةً {هَلْ هَذَا إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَبْعِدُونَ كَوْنَهُ نَبِيًّا لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فَكَيْفَ اخْتُصَّ بِالْوَحْيِ دُونَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أَيْ أَفَتَتْبَعُونَهُ فَتَكُونُونَ كمن يأتي السِّحْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى مجيباً لهم عما اقترفوه وَاخْتَلَقُوهُ مِنَ الْكَذِبِ {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: أَيِ الَّذِي يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى خَبَرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ إِلَّا الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ الْعَلِيمُ بأحوالكم، وفي هذا تهديد لكم وَوَعِيدٌ، وَقَوْلُهُ:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ} ، هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ تَعَنُّتِ الْكُفَّارِ وَإِلْحَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ وَحَيْرَتِهِمْ فِيهِ وَضَلَالِهِمْ عَنْهُ؛ فَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ سِحْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ شِعْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ مُفْتَرًى، كَمَا قَالَ:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} ، وَقَوْلُهُ:{فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} يَعْنُونَ كناقة صَالِحٍ وَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ:{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} (أخرج ابن جرير عن قتادة قال، قال أهل مكة للنبي عليه السلام: إن كان ما تقول حقاً ويسرك أن نؤمن، فحول لنا الصفا ذهباً، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك. فنزلت الآية: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}) أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيها الرسل آية على أيدي نَبِيِّهَا فَآمَنُوا بِهَا بَلْ كَذَّبُوا فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذَلِكَ أَفَهَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ لَوْ رَأَوْهَا دُونَ أُولَئِكَ؟ كَلَّا، بَلْ {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ العذاب الأليم} هَذَا كُلُّهُ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَجْلَى وَأَبْهَرُ وَأَقْطَعُ وَأَقْهَرُ مِمَّا شُوهِدَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليهم أجمعين.

ص: 502

- 7 - وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ

- 8 - وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَاّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ

- 9 - ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ

يَقُولُ تَعَالَى رَادًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} أَيْ جَمِيعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا كَانُوا رِجَالًا مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} ، وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} . وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ لأنهم أنكروا ذلك فقالوا: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ} ، أَيِ اسْأَلُوا أَهْلَ الْعِلْمِ مِنَ الْأُمَمِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ، هَلْ كَانَ الرُّسُلُ الَّذِينَ أَتَوْهُمْ بَشَرًا أَوْ مَلَائِكَةً؟ وَقَوْلُهُ:{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَاّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أَيْ بَلْ قَدْ كَانُوا أَجْسَادًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ

مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق}: أي

ص: 502

-‌

‌ 62 - سورة الجمعة

.

ص: 497

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ).

ص: 497

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

ص: 497

- 1 - يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ

- 2 - هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ

- 3 - وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

- 4 - ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَيْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ نَاطِقِهَا وَجَامِدِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ، ثم قال تعالى {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} أَيْ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، المتصرف فيها بحكمه، وهو المقدس أَيِ الْمُنَزَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ، الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، {العزيز الحكيم} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} ، الْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} ؟ وَتَخْصِيصُ الْأُمِّيِّينَ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَنْ عَدَاهُمْ، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ ولقومك} وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مِصْدَاقُ إِجَابَةِ اللَّهِ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، حِينَ دَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَبْعَثَ الله فيهم رسولاً منهم، فبعثه الله تعالى عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ، وَطُمُوسٍ مِنَ السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام فَبَدَّلُوهُ وغيّروه. وَاسْتَبْدَلُوا بِالتَّوْحِيدِ شِرْكًا، وَبِالْيَقِينِ شَكًّا، وَابْتَدَعُوا أَشْيَاءَ لم يأذن بها الله، وكذلك أَهْلَ الكتاب قَدْ بَدَّلُوا كُتُبَهُمْ وَحَرَّفُوهَا، وَغَيَّرُوهَا وَأَوَّلُوهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِشَرْعٍ عظيم كامل شامل، فيه هدايته والبيان لجميع ما يحتاج الناس إليه من أمر معاشهم ومعادهم، وجمع له تعالى

ص: 497

جَمِيعَ الْمَحَاسِنِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَأَعْطَاهُ مَا لم يعط أحداً من الأولين ولا يعيطه أَحَدًا مِنَ الْآخَرِينَ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وقوله تعالى:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم} . روى الإمام الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُمْ حَتَّى سُئِلَ ثَلَاثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ على سلمان الفارسي، ثُمَّ قَالَ:«لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لناله رجال - أو رجل - من هؤلاء» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي). ففي هذا الحديث دليل على عُمُومِ بَعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جميع الناس، لأنه فسَّر قوله تعالى:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} بفارس، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قَالَ: هُمُ الْأَعَاجِمُ وَكُلُّ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ العرب، وقوله تعالى:{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ ذُو الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ في شرعه وقدره، وقوله تعالى:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يَعْنِي مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنْ النُّبُوَّةِ العظيمة. وما خص به أُمته من بعثه صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ.

ص: 498

- 5 - مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

- 6 - قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ

صَادِقِينَ

- 7 - وَلَا يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ

- 8 - قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْيَهُودِ، الَّذِينَ أُعطوا التَّوْرَاةَ وَحَمَلُوهَا لِلْعَمَلِ بها، ثم لم يَعْمَلُوا بِهَا، مَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} أَيْ كَمَثَلِ الْحِمَارِ إِذَا حُمِّلَ كُتُبًا لَا يَدْرِي مَا فِيهَا، فَهُوَ يَحْمِلُهَا حَمْلًا حِسِّيًّا وَلَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ فِي حَمْلِهِمُ الْكِتَابَ الَّذِي أُوتُوهُ، حَفِظُوهُ لفظاً ولم يتفهموه، ولا عملوا بمقتضاه، فهم أسوأ حالاً من الحمار، لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا فَهْمَ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فهوم

لم يستعملوها، كما قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغافلون} ، وقال تعالى ههنا:{بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ، والله لَا يَهْدِي القوم الظالمين} . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ لَيْسَ لَهُ جمعة"(أخرجه الإمام أحمد)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى هُدًى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى الضَّالِّ مِنَ الْفِئَتَيْنِ {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي فِيمَا تَزْعُمُونَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَا يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أَيْ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُجُورِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة عَلَى هَذِهِ الْمُبَاهَلَةِ لِلْيَهُودِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ

ص: 498

اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} كَمَا تَقَدَّمَتْ مُبَاهَلَةُ النَّصَارَى فِي آلِ عِمْرَانَ {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ} الآية. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: إِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أهلاً ولا مالاً» (رواه البخاري والترمذي والنسائي)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، كَقَوْلِهِ تعالى في سورة النساء:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يدركم الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ، وفي معجم الطبراني عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا:"مَثَلُ الَّذِي يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ كَمَثَلِ الثَّعْلَبِ تَطْلُبُهُ الْأَرْضُ بِدَيْنٍ، فَجَاءَ يَسْعَى حَتَّى إِذَا أَعْيَا وَانْبَهَرَ دخل حجره: فَقَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ، يَا ثَعْلَبُ دَيْنِي، فَخَرَجَ لَهُ حِصَاصٌ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تَقَطَّعَتْ عُنُقُهُ فمات"(رواه الحافظ الطبراني).

ص: 499

- 9 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

- 10 - فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تفلحون

إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْجُمُعَةُ جُمُعَةً لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً بِالْمَعَابِدِ الْكِبَارِ، وَفِيهِ كَمُلَ جميع الخلائق، وفيه خلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيخ أُخرج منها، وفيه تقوم الساعة، كما ثبت بذلك الأحاديث الصحاح، وقد كان يقال له (يَوْمُ الْعُرُوبَةِ)، وَثَبَتَ أَنَّ

الْأُمَمَ قَبْلَنَا أُمروا بِهِ فَضَلُّوا عَنْهُ، وَاخْتَارَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ الذي لم يقع فيه خلق آدم، وَاخْتَارَ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ الْخَلْقُ، وَاخْتَارَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّذِي أَكْمَلَ اللَّهُ فِيهِ الْخَلِيقَةَ، كَمَا أَخْرَجَهُ البخاري ومسلم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قبلنا، ثم إن هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد» (هذا لفظ البخاري) ولمسلم: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتَ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأحد، فجاء الله بها فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ القيامة، المقضي بينهم قبل الخلائق» (أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم). وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاجْتِمَاعِ لِعِبَادَتِهِ يَوْمَ الجمعة فقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي ههنا الْمَشْيُ السَّرِيعُ وَإِنَّمَا هُوَ الِاهْتِمَامُ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مؤمن} ، فَأَمَّا الْمَشْيُ السَّرِيعُ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَلَا تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فصلوا وما فاتكم

ص: 499

فأتموا». وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ:«مَا شَأْنُكُمْ؟» قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: «فَلَا تفعلوا. إذا أتيتم الصلاة فامشكوا وَعَلَيْكُمُ السِّكِينَةُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلَّوْا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» (أَخْرَجَاهُ في الصحيحين). وفي رواية: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَلَكِنِ ائْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فصلوا وما فاتكم فأتموا» (رواه الترمذي)، قَالَ الْحَسَنُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَلَقَدْ نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ إِلَّا وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَكِنْ بِالْقُلُوبِ وَالنِّيَّةِ والخشوع، وقال قتادة في قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} يَعْنِي أَنْ تَسْعَى بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ وَهُوَ الْمَشْيُ إِلَيْهَا، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ قوله تعالى:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} أي المشي معه.

ويستحب لمن جاء إلى الْجُمُعَةَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ مَجِيئِهِ إِلَيْهَا، لِمَا ثبت في الصحيحين عن عبد الله ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» . وَلَهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«حَقٌّ الله عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وعن أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: من غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرُ سَنَةٍ صيامها وقيامها" (قال ابن كثير: هذا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ وَأَلْفَاظٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ جنابة ثم راح في الساعة الأولى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذكر» (أخرجه الشيخان)، ويستحب أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيَتَطَيَّبَ وَيَتَسَوَّكَ وَيَتَنَظَّفَ ويتطهر. لما روى الإمام أحمد عن أبي أيوب الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَسَّ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ إِنْ بَدَا لَهُ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى» (أخرجه الإمام أحمد). وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَأَى عَلَيْهِمْ ثِيَابَ النِّمَارِ، فَقَالَ:«مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ سَعَةً أَنْ يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوب مِهْنَتِهِ» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذاً نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الجمعة} الْمُرَادُ بِهَذَا النِّدَاءِ

هُوَ (النِّدَاءُ الثَّانِي) الَّذِي كَانَ يُفْعَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنَّهُ كَانَ حينئذٍ يُؤَذَّنُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ، فَأَمَّا النِّدَاءُ الْأَوَّلُ الَّذِي زَادَهُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) رضي الله عنه، فَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِكَثْرَةِ النَّاسِ، كما رواه البخاري رحمه الله، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ

ص: 500

قَالَ: «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلَهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ زَمَنٍ وَكَثُرَ الناس، زاد النداء على الزوراء» (رواه البخاري) يعني يؤذن به على الدار التي تسمة بِالزَّوْرَاءِ، وَكَانَتْ أَرْفَعَ دَارٍ بِالْمَدِينَةِ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ. وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إِذَا نُودِيَ بِهِ، فَأَمَرَ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَنْ يُنَادَى قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ الرِّجَالُ الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان، ويعذر المسافر والمريض وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ كَمَا هُوَ مقرر في كتب الفروع.

وقوله تعالى: {وَذَرُواْ الْبَيْعَ} أَيِ اسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَاتْرُكُوا الْبَيْعَ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ بعد النداء الثاني، وقوله تعالى:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ تَرْكُكُمُ الْبَيْعَ وَإِقْبَالُكُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ {خَيْرٌ لَّكُمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} أَيْ فُرِغَ مِنْهَا {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} لَمَّا حجر عليهم من التَّصَرُّفِ بَعْدَ النِّدَاءِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ، أَذِنَ لَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ فِي الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ وَالِابْتِغَاءِ مِن فَضْلِ اللَّهِ، كَمَا كَانَ (عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَرُوِي عَنْ بَعْضِ السلف أنه قال: من باع واشترع فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ مَرَّةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله} ، وقوله تعالى:{واذكروا الله كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَلَا تَشْغَلْكُمُ الدُّنْيَا عَنِ الَّذِي يَنْفَعُكُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:"مَنْ دَخَلَ سُوقًا مِنَ الْأَسْوَاقِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حسنة ومحا عَنْهُ أَلْفُ أَلْفِ سَيِّئَةٍ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا حَتَّى يَذْكُرَ اللَّهَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا.

ص: 501

- 11 - وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

يعاتب تبارك وتعالى على ما كان من وَقَعَ مِنْ الِانْصِرَافِ عَنِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى التِّجَارَةِ الَّتِي قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ يومئذٍ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} أَيْ عَلَى الْمِنْبَرِ تَخْطُبُ، عن جابر رضي الله عنه قال: قدمت عير مرة الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَخَرَجَ النَّاسُ، وَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ:{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (أخرجاه في الصحيحين). وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَابْتَدَرَهَا أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نَارًا» وَنَزَلَتْ

ص: 501

هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} ، وَقَالَ: كَانَ فِي الاثني عشر للذين ثَبَتُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما (رواه الحافظ الموصلي)، وفي قوله تعالى:{وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صحيحه عن جابر بن سمرة قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بينهما يقرأ القرآن ويذكّر الناس، ولكن ههنا شَيْءٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ

وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْخُطْبَةِ، كَمَا رَوَاهُ أبو داود في كتاب المراسيل، عن مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ مِثْلَ الْعِيدَيْنِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَقَدْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ دَحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ قَدْ قَدِمَ بِتِجَارَةٍ، يَعْنِي فَانْفَضُّوا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ (أخرجه أبو داود)، وقوله تعالى:{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} أَيِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أَيْ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَطَلَبَ الرِّزْقَ فِي وقته.

ص: 502