الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
21 - سورة الأنبياء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ
- 2 - مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
- 3 - لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
- 4 - قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- 5 - بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
- 6 - مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَدُنُوِّهَا، وَأَنَّ النَّاسَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، أَيْ لَا
يَعْمَلُونَ لَهَا وَلَا يَسْتَعِدُّونَ مِنْ أجلها، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} قال:«في الدنيا» (الحديث أخرجه النسائي عن أبي سعيد الخدري). وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . وقال أبو العتاهية:
الناس في غفلاتهم * ورحا المنية تطحن
وروي عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رجل من العرب، فأكرم مَثْوَاهُ وَكَلَّمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَقْطَعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَادِيًا فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْطَعَ لَكَ مِنْهُ قِطْعَةً تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ عَامِرٌ: لَا حَاجَةَ لِي فِي قَطِيعَتِكَ نَزَلَتِ الْيَوْمَ سُورَةٌ أَذْهَلَتْنَا عَنِ الدُّنْيَا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُصْغُونَ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، والخطابُ مَعَ قُرَيْشٍ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ فَقَالَ:{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِنْ رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} أَيْ جَدِيدٌ إِنْزَالُهُ {إِلَاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَمَّا بِأَيْدِيهِمْ وَقَدْ حرَّفوه وَبَدَّلُوهُ وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، وَكِتَابُكُمْ أَحْدَثُ الْكُتُبِ بالله تقرأونه محضاً لم يُشب (أخرجه البخاري بنحوه، ومعنى لم يُشَب: أي لم يخلط بغيره من الأباطيل والأضاليل). وَقَوْلُهُ: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أَيْ
قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خُفْيَةً {هَلْ هَذَا إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَبْعِدُونَ كَوْنَهُ نَبِيًّا لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فَكَيْفَ اخْتُصَّ بِالْوَحْيِ دُونَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أَيْ أَفَتَتْبَعُونَهُ فَتَكُونُونَ كمن يأتي السِّحْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى مجيباً لهم عما اقترفوه وَاخْتَلَقُوهُ مِنَ الْكَذِبِ {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: أَيِ الَّذِي يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى خَبَرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ إِلَّا الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ الْعَلِيمُ بأحوالكم، وفي هذا تهديد لكم وَوَعِيدٌ، وَقَوْلُهُ:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ} ، هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ تَعَنُّتِ الْكُفَّارِ وَإِلْحَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ وَحَيْرَتِهِمْ فِيهِ وَضَلَالِهِمْ عَنْهُ؛ فَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ سِحْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ شِعْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ مُفْتَرًى، كَمَا قَالَ:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} ، وَقَوْلُهُ:{فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} يَعْنُونَ كناقة صَالِحٍ وَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ:{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} (أخرج ابن جرير عن قتادة قال، قال أهل مكة للنبي عليه السلام: إن كان ما تقول حقاً ويسرك أن نؤمن، فحول لنا الصفا ذهباً، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك. فنزلت الآية: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}) أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيها الرسل آية على أيدي نَبِيِّهَا فَآمَنُوا بِهَا بَلْ كَذَّبُوا فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذَلِكَ أَفَهَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ لَوْ رَأَوْهَا دُونَ أُولَئِكَ؟ كَلَّا، بَلْ {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ العذاب الأليم} هَذَا كُلُّهُ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَجْلَى وَأَبْهَرُ وَأَقْطَعُ وَأَقْهَرُ مِمَّا شُوهِدَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليهم أجمعين.
- 7 - وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ
- 8 - وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَاّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ
- 9 - ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ
يَقُولُ تَعَالَى رَادًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} أَيْ جَمِيعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا كَانُوا رِجَالًا مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} ، وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} . وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ لأنهم أنكروا ذلك فقالوا: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ} ، أَيِ اسْأَلُوا أَهْلَ الْعِلْمِ مِنَ الْأُمَمِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ، هَلْ كَانَ الرُّسُلُ الَّذِينَ أَتَوْهُمْ بَشَرًا أَوْ مَلَائِكَةً؟ وَقَوْلُهُ:{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَاّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أَيْ بَلْ قَدْ كَانُوا أَجْسَادًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق}: أي
قَدْ كَانُوا بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مثل الناس، ويدخلون في الْأَسْوَاقَ لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَارٍّ لَهُمْ وَلَا نَاقِصٍ مِنْهُمْ شَيْئًا كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ في قولهم:{مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نذيراً} . وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا، بَلْ كَانُوا يَعِيشُونَ ثُمَّ يَمُوتُونَ {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} وَخَاصَّتُهُمْ أَنَّهُمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ عز وجل تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ عَنِ اللَّهِ بِمَا يحكمه فِي خَلْقِهِ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَقَوْلُهُ:{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} أَيِ الَّذِي وَعَدَهُمْ ربهم ليهلكن الظالمين، صدقهم الله وعده وفعل ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ:{فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ} أَيْ أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}: أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بما جاءت به الرسل.
- 10 - لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- 11 - وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ
- 12 - فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ
- 13 - لَا تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ
- 14 - قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
- 15 - فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى شَرَفِ الْقُرْآنِ وَمُحَرِّضًا لَهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَرَفُكُمْ، وقال مجاهد: حديثكم، وقال الحسن: دينكم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : أي هذه النعمة وتتلقونها بالقبول، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تسألون} ، وَقَوْلُهُ:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} هَذِهِ صِيغَةُ تَكْثِيرٍ، كَمَا قَالَ:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن القرون مِن بَعْدِ نوح} ، وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا
…
} الآية، وَقَوْلُهُ:{وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} أَيْ أُمَّةً أُخْرَى بَعْدَهُمْ، {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} أَيْ تَيَقَّنُوا أن العذاب واقع
بهم لا محالة كَمَا وَعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ {إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} أَيْ يَفِرُّونَ هَارِبِينَ، {لَا تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} هَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ نزراً، أي قيل لهم نزراً لَا تَرْكُضُوا هَارِبِينَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ وَارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ والمعيشة والمساكن الطيبة، قال قتاادة: اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} : أَيْ عَمَّا كُنْتُمْ فيه من أداء شكر النعم. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ}: أَيْ مَا زَالَتْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِالظُّلْمِ هِجَّيَراهم (دأبهم وعادتهم وشأنهم) حَتَّى حَصَدْنَاهُمْ حَصْدًا، وَخَمَدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ خُمُودًا.
- 16 - وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ
- 17 - لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ
- 18 - بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
- 19 - وَلَهُ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ
- 20 - يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بالحسنى، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا، كَمَا قَالَ:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذي كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِين} ، قَالَ مجاهد: يَعْنِي مِنْ عِنْدِنَا، يَقُولُ: وَمَا خَلَقْنَا جَنَّةً وَلَا نَارًا وَلَا مَوْتًا وَلَا بَعْثًا وَلَا حساباً. وقال الحسن وقتادة {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} اللَّهْوُ: الْمَرْأَةُ بلسان أهل اليمن، وقال إبراهيم النخعي {لَاّتَّخَذْنَاهُ} مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: والمراد باللهو ههنا الولد، وهذا الذي قَبْلَهُ مُتَلَازِمَانِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الواحد القهار} فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولا سِيَّمَا عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْإِفْكِ وَالْبَاطِلِ مِنَ اتخاذ عيسى أو الملائكة {سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كبيراً} ، وَقَوْلُهُ:{إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَيْ مَا كُنَّا فَاعِلِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ «إنْ» فَهُوَ إِنْكَارٌ. وَقَوْلُهُ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} أَيْ نُبَيِّنُ الْحَقَّ فَيَدْحَضُ الْبَاطِلَ وَلِهَذَا قَالَ: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أَيْ ذَاهِبٌ مُضْمَحِلٌّ، {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أَيْ أَيْهَا الْقَائِلُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ {مِمَّا تَصِفُونَ} أَيْ تَقُولُونَ وَتَفْتَرُونَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عُبُودِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَدَأْبِهِمْ فِي طَاعَتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَقَالَ:{وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} : أَيْ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْهَا كَمَا قَالَ: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلَا الملائكة المقربون} ، وقوله:{وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يتبعون وَلَا يَمَلُّونَ، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} فَهُمْ دَائِبُونَ فِي الْعَمَلِ لَيْلًا وَنَهَارًا مُطِيعُونَ قَصْدًا وَعَمَلًا، قَادِرُونَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَاّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يأمرون} . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَنَا غُلَامٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أرأيتِ قول الله تعالى لِلْمَلَائِكَةِ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} أَمَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ التَّسْبِيحِ الْكَلَامُ وَالرِّسَالَةُ وَالْعَمَلُ؟ فَقَالَ: من هَذَا الْغُلَامُ؟ فَقَالُوا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قال: فقبّل رأسي ثم قال: يَا بُنَيَّ إِنَّهُ جَعَلَ لَهُمُ التَّسْبِيحَ كَمَا جَعَلَ لَكُمُ النَّفَسَ، أَلَيْسَ تَتَكَلَّمُ وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ وَتَمْشِي وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ؟.
- 21 - أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ
- 22 - لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
- 23 - لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
يُنْكِرُ تَعَالَى عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِن دُونِهِ آلِهَةً فَقَالَ {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} أي يُحْيُونَ الْمَوْتَى وَيَنْشُرُونَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ؟ أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ جَعَلُوهَا لِلَّهِ نِدًّا وَعَبَدُوهَا مَعَهُ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْوُجُودِ آلِهَةٌ غَيْرُهُ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض، فقال {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله} أي في السماوات
وَالْأَرْضِ {لَفَسَدَتَا} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، وقال ههنا:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ عما يقولون أن له ولدا وشريكاً. وَقَوْلُهُ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وعدله {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أَيْ وَهُوَ سَائِلٌ خَلْقَهُ عَمَّا يَعْمَلُونَ، كَقَوْلِهِ:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
- 24 - أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ
- 25 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَاْ فاعبدون
يقول تعالى: {أَمْ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أَيْ دَلِيلَكُمْ عَلَى مَا تَقُولُونَ، {هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى خِلَافِ ما تقولونه وَتَزْعُمُونَ، فَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، نَاطِقٌ بِأَنَّهُ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَيْهَا الْمُشْرِكُونَ لَا تَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} ، كَمَا قَالَ:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ؟ فَكُلُّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْفِطْرَةُ شَاهِدَةٌ بذلك أيضاً، والمشركون لا برهان لهم، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.
- 26 - وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ
- 27 - لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
- 28 - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
- 29 - وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
يقول تعالى راداً على من زعم أن له وَلَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَقَالَ:{سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} أَيِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادُ اللَّهِ مُكْرَمُونَ عِنْدَهُ، فِي مَنَازِلَ عَالِيَةٍ وَمَقَامَاتٍ سَامِيَةٍ، وَهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الطَّاعَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أَيْ لَا يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرٍ وَلَا يُخَالِفُونَهُ فيما أمرهم بِهِ بَلْ يُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ تَعَالَى عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ، وَقَوْلُهُ:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} ، كَقَوْلِهِ:{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} ، وَقَوْلُهُ:{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي مَعْنَى ذَلِكَ {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ} أَيْ مِنْ خَوْفِهِ وَرَهْبَتِهِ {مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ} أي ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ مَعَ اللَّهِ، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أَيْ كُلُّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَلْزَمُ وُقُوعُهُ كَقَوْلِهِ:{قُلْ إِن كَانَ للرحمن ولداً فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} .
- 30 - أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ
- 31 - وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
- 32 - وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
- 33 - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، فِي خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ وَقَهْرِهِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَقَالَ:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيِ الجاهدون لِإِلَهِيَّتِهِ الْعَابِدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ الْمُسْتَبِدُّ بِالتَّدْبِيرِ، فَكَيْفَ يليق أن يعبد معه غيره أو يشرك به ما سواه؟ ألو يَرَوْا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ {كَانَتَا رَتْقًا} أَيْ كَانَ الْجَمِيعُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَلَاصِقٌ مُتَرَاكِمٌ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَفَتَقَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَجَعَلَ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا وَالْأَرْضَ سبعً، وفصل بين السماء الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ بِالْهَوَاءِ، فَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ وَأَنْبَتَتِ الْأَرْضُ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ تحدث شيئاً فشيئاً عياناً، وذلك كله دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْقَادِرِ على ما يشاء:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً * تَدُلُّ عَلَى أنه واحد
عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ، سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّيْلُ كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السماوت الأرض حِينَ كَانَتَا رَتْقًا هَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ظُلْمَةٌ؟ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّيْلَ قَبْلَ النَّهَارِ. وروى ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ يَسْأَلُهُ عن السماوات والأرض كانت رقتاً فَفَتَقْنَاهُمَا؟ قَالَ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخِ، فَاسْأَلْهُ، ثُمَّ تَعَالَ فَأَخْبِرْنِي بِمَا قَالَ لَكَ، قَالَ، فَذَهَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، كَانَتِ السَّمَاوَاتُ رَتْقًا لَا تُمْطِرُ وَكَانَتْ الْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَلَمَّا خَلَقَ لِلْأَرْضِ أَهْلًا فَتَقَ هَذِهِ بِالْمَطَرِ وَفَتْقَ هَذِهِ بِالنَّبَاتِ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فقال ابْنُ عُمَرَ، قَدْ كُنْتُ أَقُولُ: مَا يُعْجِبُنِي جراءة ابن عباس في تفسير القرآن فالآن عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أُوتِيَ فِي الْقُرْآنِ عِلْمًا، وقال عطية العوفي: كانت هذه رتقاً تُمْطِرُ فَأَمْطَرَتْ وَكَانَتْ هَذِهِ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ فأنبتت، وقال سعيد بن جبير: كَانَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ مُلْتَزِقَتَيْنِ فَلَمَّا رَفَعَ السَّمَاءَ وَأَبْرَزَ مِنْهَا الْأَرْضَ كَانَ ذَلِكَ فَتْقَهُمَا الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: كَانَتَا جَمِيعًا فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْهَوَاءِ، وَقَوْلُهُ:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أَيْ أصل كل الأحياء. عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ:«كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِن مَّآءٍ» قَالَ، قُلْتُ: أَنْبِئْنِي عَنِ أمرٍ إِذَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلَتُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَصِلِ الْأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بسلام» (الحديث أخرجه الإمام أحمد وإسناده على شرط الصحيحين، وأخرج ابن أبي حاتم بعضه).
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} أَيْ جِبَالًا أَرْسَى الأرض بها وَثَقَّلَهَا لِئَلَّا تَمِيدَ بِالنَّاسِ أَيْ تَضْطَرِبَ
وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها لِأَنَّهَا غَامِرَةٌ فِي الْمَاءِ إِلَّا مِقْدَارَ الرُّبْعِ، فَإِنَّهُ بَادٍ لِلْهَوَاءِ وَالشَّمْسِ لِيُشَاهِدَ أَهْلُهَا السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَالْحِكَمِ وَالدَّلَالَاتِ، ولهذا قال:{أَن تَمِيدَ بِهِمْ} : وَقَوْلُهُ {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} أَيْ ثَغْرًا فِي الْجِبَالِ يَسْلُكُونَ فِيهَا طُرُقًا، من قطر إلى قطر ومن إقليم إِلَى إِقْلِيمٍ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ الْجَبَلُ حَائِلًا بَيْنَ هَذِهِ الْبِلَادِ وَهَذِهِ الْبِلَادِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ فَجْوَةً ثَغْرَةً لِيَسْلُكَ الناس فيها من ههنا إلى ههنا، وَلِهَذَا قَالَ:{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} ، وَقَوْلُهُ {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً}: أَيْ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَالْقُبَّةِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ، وقال:{أفلم ينظرون إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فروج} ، وَالْبِنَاءُ هُوَ نَصْبُ الْقُبَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ
الْإِسْلَامُ على خمس» أي خمسة دَعَائِمَ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخِيَامِ كما تَعْهَدُهُ الْعَرَبُ، {مَّحْفُوظاً} أَيْ عَالِيًا مَحْرُوسًا أَنْ ينال، وقال مجاهد مرفوعاً، وَقَوْلُهُ:{وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} كَقَوْلِهِ: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ في السموات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أَيْ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا من الاتساع العظيم والاتفاع الْبَاهِرِ، وَمَا زُيِّنَتْ بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ والسيارات في ليلها ونهارها، مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ الَّتِي تَقْطَعُ الْفَلَكَ بِكَمَالِهِ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَتَسِيرُ غَايَةً لَا يَعْلَمُ قدرها إلاّ الله، الذي قدّرها وسخّرها وسيّرها، ثُمَّ قَالَ مُنَبِّهًا عَلَى بَعْضِ آيَاتِهِ {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ هَذَا فِي ظَلَامِهِ وَسُكُونِهِ، وَهَذَا بِضِيَائِهِ وَأُنْسِهِ، يَطُولُ هَذَا تَارَةً ثُمَّ يَقْصُرُ أُخْرَى وَعَكْسُهُ الْآخَرُ، {وَالشَّمْسَ والقمر} هذه لها نور يخصها وحركة وسير خاص، وهذا بنور آخَرَ وَفَلَكٍ آخَرَ وَسَيْرٍ آخَرَ وَتَقْدِيرٍ آخَرَ، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أَيْ يَدُورُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَدُورُونَ كَمَا يدرو المغزل في الفلكة، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا يَدُورُ الْمِغْزَلُ إِلَّا بِالْفَلْكَةِ وَلَا الْفَلْكَةُ إِلَّا بِالْمِغْزَلِ، كَذَلِكَ النُّجُومُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَدُورُونَ إِلَّا بِهِ وَلَا يَدُورُ إِلَّا بِهِنَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ العليم} .
- 34 - وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ
- 35 - كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَآ جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ} أَيْ يا محمد {الخلد} أي في الدنيا (أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فقال: «يا رب، فمن لأمتي»، فنزلت: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ} الآية) بَلْ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} ، وَقَوْلُهُ:{أَفَإِنْ مِّتَّ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ؟ أَيْ يُؤَمِّلُونَ أَنْ يَعِيشُوا بَعْدَكَ! لَا يكون هذا بل كلٍّ إلى الفناء، ولهذا قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ أَنْشَدَ وَاسْتَشْهَدَ بِهَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ * فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى * تهيأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فكأن قد
وقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أَيْ نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تارة، وبالنعم أخرى، فننظر من يشكر
ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، قال ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَنَبْلُوكُمْ} يَقُولُ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ والسَّقَم، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَقَوْلُهُ:{وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أَيْ فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
- 36 - وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ
- 37 - خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَشْبَاهِهِ {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً} أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِكَ، وينتقصونك؟؟؟ (أخرج ابن أبي حاتم: عن السدي قَالَ: مرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال: ما أراك منتهياً حتى يصيبك مَآ أَصَابَ مِن غيَّر عهده، فنزلت:{وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا} الآية)، يَقُولُونَ {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} ؟ يَعْنُونُ أَهَذَا الَّذِي يَسُبُّ آلِهَتَكُمْ وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَكُمْ، قَالَ تَعَالَى:{وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} أَيْ وَهُمْ كَافِرُونَ بِاللَّهِ وَمَعَ هَذَا يَسْتَهْزِئُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يتخذوك إِلَاّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} ؟ وقوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} كقوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} أي في الأمور، والحكمة في ذكر عجلة الإنسان ههنا، أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَعَ فِي النُّفُوسِ سُرْعَةُ الِانْتِقَامِ منهم واستعجلت ذلك، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} لِأَنَّهُ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، يُؤَجِّلُ ثُمَّ يُعَجِّلُ، وَيُنْظِرُ ثُمَّ لا يؤخر، ولهذا قال:{سأريكم آيَاتِي} أَيْ نَقْمِي وَحُكْمِي وَاقْتِدَارِي عَلَى مَنْ عَصَانِي {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} .
- 38 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 39 - لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ
- 40 - بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ أَيْضًا بِوُقُوعِ الْعَذَابِ بهم، تكذبياً وجحوداً وكفراً وعناداً فَقَالَ:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ} أَيْ لَوْ تَيَقَّنُوا أَنَّهَا واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ حِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ} ، فَالْعَذَابُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ {وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} أَيْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ:{وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} ، وَقَوْلُهُ:{بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً} أَيْ تَأْتِيهِمُ النَّارُ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً، {فَتَبْهَتُهُمْ}
أَيْ تَذْعَرُهُمْ فَيَسْتَسْلِمُونَ لَهَا، حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ حِيلَةٌ فِي ذَلِكَ، {وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} أَيْ وَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ ذَلِكَ سَاعَةً وَاحِدَةً.
- 41 - وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- 42 - قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ
- 43 - أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مسلياً لرسوله عَمَّا آذَاهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَعْنِي مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وأوذوا حاى أتاهم نصرنا} ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَتَهُ عَلَى عَبِيدِهِ فِي حِفْظِهِ لَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكِلَاءَتِهِ وَحِرَاسَتِهِ لَهُمْ بِعَيْنِهِ الَّتِي لَا تَنَامُ، فَقَالَ:{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} أَيْ بَدَلَ الرحمن يعني غيره، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي لا يعترفون بنعمة الله عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، بَلْ يُعْرِضُونَ عَنِ آيَاتِهِ وَآلَائِهِ، ثُمَّ قَالَ:{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} استفهام وَتَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، أَيْ
أَلَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ وَتَكْلَؤُهُمْ غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا، لا، وَلَا كَمَا زَعَمُوا، وَلِهَذَا قَالَ:{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ هَذِهِ الْآلِهَةُ الَّتِي اسْتَنَدُوا إِلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، وقوله:{وَلَا هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} قال ابن عباس: أَيْ يُجَارُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُصْحَبُونَ مِنَ الله بخير، وقال غيره {يُصْحَبُونَ} يُمنعون.
- 44 - بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ
- 45 - قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ
- 46 - وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
- 47 - وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا غَرَّهُمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ: أَنَّهُمْ مُتِّعُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنُعِّمُوا، وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فِيمَا هُمْ فِيهِ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ؛ ثُمَّ قَالَ وَاعِظًا لَهُمْ:{أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَأَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى: أَفَلَا يَعْتَبِرُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ؟ وَإِهْلَاكِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ وَالْقُرَى الظَّالِمَةَ وَإِنْجَائِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَهُمُ الغالبون} يعني بل هم المغلبون الْأَخْسَرُونَ الْأَرْذَلُونَ، وَقَوْلُهُ:{قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} أَيْ إِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ مَا أُنْذِرُكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، لَيْسَ ذَلِكَ
إِلَّا عَمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إليَّ وَلَكِنْ لَا يُجْدِي هَذَا عَمَّنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، أَيْ وَلَئِنْ مسَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لَيَعْتَرِفُنَّ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أَيْ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْعَدْلَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَعْمَالِ الْمَوْزُونَةِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ:{فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، كَمَا قَالَ تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، وَقَالَ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، وَقَالَ لُقْمَانُ:{يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ الله لَطِيفٌ خبير} .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقليتان فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده سبحان الله العظيم» (الحديث أخرجه الشيخان وختم البخاري رحمه الله صحيحه بهذا الحديث الشريف)، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنْ اللَّهَ عز وجل يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أمتي على رؤوس الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، قَالَ: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً لَا ظُلْمَ عليك اليوم، فَيُخْرِجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَيَقُولُ: أَحْضِرُوهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، قَالَ: فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، قال: ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم"(الحديث أخرجه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ)، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَضْرِبُهُمْ وَأَشْتُمُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عليك، وإن كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لك، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لهم منك الفضل الذي بقي قِبَلَكَ» ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَهْتِفُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ما له لا يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ فِرَاقِ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي عَبِيدَهُ - إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ (أخرجه الإمام أحمد في المسند).
- 48 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ
- 49 - الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ
- 50 - وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كثيراً ما يقرن بيم ذِكْرِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا وَبَيْنَ كِتَابَيْهِمَا وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْكِتَابَ، وَقَالَ قتادة: التوراة حلالهما وحرامهما وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي النَّصْرَ، وَجَامِعُ الْقَوْلِ فِي ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والظلال، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَعَلَى مَا يُحَصِّلُ نُورًا فِي الْقُلُوبِ، وَهِدَايَةً وَخَوْفًا، وَإِنَابَةً وَخَشْيَةً، وَلِهَذَا قَالَ:{الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} أَيْ تدبيراً لَهُمْ وَعِظَةً، ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ:{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} ، كَقَوْلِهِ:{مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ، {وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} يَعْنِي الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي لَاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أَيْ أَفَتُنْكِرُونَهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ؟.
- 51 - وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ
- 52 - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
- 53 - قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ
- 54 - قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
- 55 - قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ
- 56 - قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنَّهُ آتَاهُ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ، أَيْ مِنْ صِغَرِهِ أَلْهَمَهُ الْحَقَّ وَالْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} ، والمقصود أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ آتَى إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ:{وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أَيْ وَكَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} هَذَا هُوَ الرُّشْدُ الَّذِي أُوتِيهِ مِنْ صِغَرِهِ الْإِنْكَارُ عَلَى قَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عز وجل، فَقَالَ {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}: أَيْ مُعْتَكِفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: مرَّ علي رضي الله عنه على قوم يلعبون الشطرنج، فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ لَأَنْ يَمَسَّ أَحَدُكُمْ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَأَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا، {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ سِوَى صَنِيعِ آبَائِهِمُ الضُّلَّالِ، وَلِهَذَا قَالَ:{لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أَيِ الْكَلَامُ مَعَ آبَائِكُمُ الَّذِينَ احْتَجَجْتُمْ بِصَنِيعِهِمْ كَالْكَلَامِ مَعَكُمْ، فَأَنْتُمْ وَهُمْ فِي ضَلَالٍ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَمَّا سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ وَضَلَّلَ آبَاءَهُمْ وَاحْتَقَرَ آلِهَتَهُمْ {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}؟ يَقُولُونَ: هَذَا الْكَلَامُ الصَّادِرُ عَنْكَ تَقُولُهُ لَاعِبًا أَوْ مُحِقًّا فِيهِ فَإِنَّا لَمْ نَسْمَعْ بِهِ قَبْلَكَ، {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ} أَيْ رَبُّكُمْ الَّذِي لا إله غيره وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا حَوَتْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَهُنَّ وَهُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ {وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أَيْ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رب سواه
- 57 - وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ
- 58 - فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَاّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ
- 59 - قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ
- 60 - قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
- 61 - قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
- 62 - قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ
- 63 - قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يَنْطِقُونَ
ثُمَّ أَقْسَمَ الْخَلِيلُ قَسَمًا أَسْمَعَهُ بَعْضَ قَوْمِهِ لَيَكِيدَنَّ أَصْنَامَهُمْ، أَيْ ليحرضن عَلَى أَذَاهُمْ وَتَكْسِيرِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أَيْ إِلَى عِيدِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ، قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا اقْتَرَبَ وَقْتُ ذَلِكَ الْعِيدِ قَالَ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا لَأَعْجَبَكَ دِينُنَا، فَخَرَجَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيعٌ فَيَقُولُونَ: مَهْ، فَيَقُولُ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَلَمَّا جَازَ عَامَّتُهُمْ وَبَقِيَ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ:{تَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} ، فسمعه أولئك. وقال ابن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عِيدِهِمْ مَرُّوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَا تَخْرُجُ مَعَنَا؟ قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ وَقَدْ كَانَ بِالْأَمْسِ قَالَ: {تَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} فَسَمِعَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أَيْ حُطَامًا كَسَّرَهَا كُلَّهَا {إِلَاّ كَبِيراً لَّهُمْ} يَعْنِي إِلَّا الصَّنَمَ الْكَبِيرَ عِنْدَهُمْ، كَمَا قَالَ:{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} ، وَقَوْلُهُ:{لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} ذَكَرُوا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَدُومَ فِي يَدِ كَبِيرِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَارَ لِنَفْسِهِ، وَأَنِفَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ الصِّغَارُ فَكَسَّرَهَا، {قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} ؟ أَيْ حِينَ رَجَعُوا وَشَاهَدُوا مَا فَعَلَهُ الْخَلِيلُ بِأَصْنَامِهِمْ، مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا، وَعَلَى سَخَافَةِ عُقُولِ عَابِدِيهَا، {قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ فِي صنعيه هَذَا، {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أَيْ قَالَ مَنْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَيَكِيدَنَّهُمْ {سَمِعْنَا فَتًى} أَيْ شَابًّا يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ له إبراهيم. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا شَابًّا وَلَا أُوتِيَ الْعَلَمَ عَالِمٌ إِلَّا
وَهُوَ شَابٌّ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ له إبراهيم} (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَوْلُهُ: {قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي على رؤوس الْأَشْهَادِ فِي الْمَلَإِ الْأَكْبَرِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام، إن يبين فِي هَذَا الْمَحْفِلِ الْعَظِيمِ كَثْرَةُ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةُ عقلهم، في عبادة الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا ضَرًّا وَلَا تَمْلِكُ لَهَا نَصْرًا، فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} يَعْنِي الَّذِي تَرَكَهُ لَمْ يَكْسِرْهُ، {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يبادورا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَيَعْتَرِفُوا أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، وأن هَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ هَذَا الصَّنَمِ لِأَنَّهُ جماد.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لَمْ يَكْذِبْ غَيْرَ ثَلَاثٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وَقَوْلُهُ:{إِنِّي سَقِيمٌ} . قَالَ: وَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ فِي أَرْضِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَمَعَهُ (سَارَةُ) إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَأَتَى الْجَبَّارَ رَجُلٌ فَقَالَ: أنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاءه، فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: أُخْتِي، قَالَ: فَاذْهَبْ فَأَرْسِلْ بِهَا إِلَيَّ، فَانْطَلَقَ
إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سَأَلَنِي عَنْكِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي عِنْدَهُ، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَانْطَلَقَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَرَآهَا أَهْوَى إِلَيْهَا فَتَنَاوَلَهَا فأُخِذَ أَخْذًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا فَتَنَاوَلَهَا، فَأُخِذَ بِمِثْلِهَا أَوْ أَشَدَّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَأُخِذَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ فَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ، ثُمَّ دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتيني بإنسان ولكنك أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ أَخْرِجْهَا وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، فَأُخْرِجَتْ وَأُعْطِيَتْ هَاجَرَ فَأَقْبَلَتْ، فَلَمَّا أَحَسَّ إِبْرَاهِيمُ بِمَجِيئِهَا انْفَتَلَ من صلاته وقال: مَهْيَم (مَهْيَم: كلمة استفهام معناها: ما الخبر، ماذا حدث لك)، قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر فأخدمني هاجر"، قال محمد بن سيرين: فكان أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: تلك أمكم يا بني ماء السماء (أخرجه الشيخان عن أبي هريرة).
- 64 - فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ
- 65 - ثُمَّ نُكِسُواْ على رؤوسهم لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ
- 66 - قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ
- 67 - أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ مَا قال {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ} أي بالملامة، فَقَالُوا {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} ، أَيْ فِي تَرْكِكِمْ لَهَا مُهْمَلَةً لَا حَافِظَ عِنْدَهَا، {ثُمَّ نُكِسُواْ على رؤوسهم} أَيْ ثُمَّ أَطْرَقُوا فِي الْأَرْضِ فَقَالُوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} ، قَالَ قَتَادَةُ: أَدْرَكَتِ الْقَوْمَ حَيْرَةُ سُوءٍ فَقَالُوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رؤوسهم}: أي في الفتنة، وَقَوْلُ قَتَادَةَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْرَةً وَعَجْزًا، وَلِهَذَا قَالُوا لَهُ {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} فَكَيْفَ تَقُولُ لَنَا سَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْطِقُ، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ} ؟ أَيْ إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر فَلِمَ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؟! أَيْ أَفَلَا تَتَدَبَّرُونَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ الْغَلِيظِ، الَّذِي لَا يُرَوَّجُ إِلَّا عَلَى جَاهِلٍ ظَالِمٍ فَاجِرٍ؟ فَأَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَأَلْزَمَهُمْ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} الآية.
- 68 - قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
- 69 - قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ
- 70 - وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ
لَمَّا دُحِضَتْ حُجَّتُهُمْ وَبَانَ عَجْزُهُمْ وَظَهَرَ الْحَقُّ وَانْدَفَعَ الْبَاطِلُ، عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِ مُلْكِهِمْ
فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} فَجَمَعُوا حَطَبًا كَثِيرًا جِدًّا، قَالَ السُّدِّيُّ: حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْرَضُ فَتَنْذُرُ إِنْ عُوفِيَتْ أَنْ تَحْمِلَ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ جَعَلُوهُ في جَوَبة (حفرة من من الأرض) مِنَ الْأَرْضِ وَأَضْرَمُوهَا نَارًا فَكَانَ لَهَا شَرَرٌ عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مِثْلُهَا، وَجَعَلُوا إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ بِإِشَارَةِ رَجُلٍ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ مِنَ الأكراد، فَلَمَّا أَلْقَوْهُ قَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، روى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ {حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ في النار، وقالها محمد عليهما السلام حِينَ قَالُوا:«إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل» ، وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام فِي النَّارِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدُكَ"، وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا جَعَلُوا يُوثِقُونَهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ لَكَ الْحَمْدُ ولك الملك لا شريك لك، وكان عمره إذ ذاك ستة عشرة سنة.
وَذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ: أَلِكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أما إليك فلا، وأما من الله فلي. ويروى عن ابن عباس قَالَ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ جَعَلَ خَازِنُ الْمَطَرِ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ بِالْمَطَرِ فَأَرْسِلُهُ، قَالَ: فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ اللَّهُ:{يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} ، قَالَ: لَمْ يَبْقَ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طفئت، وقال كعب الأحبار: لم تُحْرِقِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ سِوَى وِثَاقِهِ، وَقَالَ ابن عباس: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ: {وَسَلَامًا} لآذى إبراهيم بردها، وقال أبو هريرة: إِنَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ الطَّبَقُ وَهُوَ فِي النَّارِ وَجَدَهُ يَرْشَحُ جَبِينُهُ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نِعْمَ الرَّبُّ ربك يا إبراهيم (رواه أبو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وأخرجه ابن أبي حاتم). وقال قتادة: لم يأت يؤمئذ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ إِلَّا الوَزَغ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بقتله وسماه فويسقا، وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ النَّارَ غَيْرَ الْوَزَغِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ (أخرجه ابن أبي حاتم وفي بعض الروايات أن امرأة دخلت على عائشة فوجدت عندها رمحاً فقالت: مَا
تَصْنَعِينَ بِهَذَا الرُّمْحِ؟ فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ الأوزاغ، وذكرت الحديث)، وَقَوْلُهُ:{وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} ، أَيِ الْمَغْلُوبِينَ الْأَسْفَلِينَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ كَيْدًا، فَكَادَهُمُ اللَّهُ وَنَجَّاهُ مِنَ النَّارِ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ جَاءَ مَلِكُهُمْ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فَوَقَعَتْ عَلَى إِبْهَامِهِ فَأَحْرَقَتْهُ مِثْلَ الصُّوفَةِ.
- 71 - وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ
- 72 - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ
- 73 - وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ
- 74 - وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ
- 75 - وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نَارِ قَوْمِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، مُهَاجِرًا إِلَى بلاد الشام
إلى الأرض المقدسة منها، عن أبي كعب قال: هي الشَّامُ، وَمَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا يَخْرُجُ من تحت الصخرة، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ إلى الشام، وكان يقال للشام أعقار دار الهجرة، وما نقص من الأرض يزيد فِي الشَّامِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ الشَّامِ زِيدَ فِي فِلَسْطِينَ، وَكَانَ يُقَالُ هِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام وبها يهلك المسيح الدجال، وقوله:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} النَّافِلَةُ: وَلَدُ الْوَلَدِ يَعْنِي أَنَّ يَعْقُوبَ وَلَدَ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ:{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ، وقال عبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ: سَأَلَ وَاحِدًا فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي من الصالحين} فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِسْحَاقَ وَزَادَهُ يَعْقُوبَ نَافِلَةً، {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أَيِ الْجَمِيعُ أَهْلُ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} أَيْ يُقْتَدَى بِهِمْ {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أَيْ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ}: أَيْ فَاعِلِينَ لِمَا يَأْمُرُونَ الناس به، وكان قد آمن إبراهيم عليه السلام وَاتَّبَعَهُ وَهَاجَرَ مَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} فَآتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَأَوْحَى إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا وَبَعَثَهُ إِلَى (سَدُومَ) وَأَعْمَالِهَا فَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ كَمَا قَصَّ خَبَرَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
- 76 - وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
- 77 - وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اسْتِجَابَتِهِ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عليه السلام حِينَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ لَمَّا كَذَّبُوهُ، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مغلوب فانتصر} ، وَقَالَ نُوحٌ:{رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديارا} ، ولهذا قال ههنا:{إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، كَمَا قَالَ:{وَأَهْلَكَ إِلَاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلَاّ قَلِيلٌ} ، وَقَوْلُهُ:{مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أَيْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى فَإِنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وكانوا يتصدون لِأَذَاهُ وَيَتَوَاصَوْنَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَوْلُهُ:{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أَيْ وَنَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ مُنْتَصِرًا مِنَ الْقَوْمِ {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ
قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}، أَيْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِعَامَّةٍ، وَلَمْ يُبْقِ على وجه الارض منهم أحد كما دَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ.
- 78 - وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
- 79 - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
- 80 - وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ
- 81 - وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ
إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
- 82 - وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
قال ابن عباس: النفش الرعي، وقال قتادة: النفش لا يكون إلا بالليل، والهمل بالنهار، وعن ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ:{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ، قَالَ: فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرُ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصب مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ، دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَدَفَعْتَ الْغَنَمَ إِلَى صاحبها، فذلك قوله:{فَفَهَّمْنَاهَا سليمان} (أخرجه ابن جرير، وكذا روي عن ابن عباس) وروى ابن أبي حاتم، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: الْحَرْثُ الَّذِي نَفَشَتْ فِيهِ الغنم إنما كان كرماً فَلَمْ تَدَعْ فِيهِ وَرَقَةً وَلَا عُنْقُودًا مِنْ عِنَبٍ إِلَّا أَكَلَتْهُ، فَأَتَوْا دَاوُدَ فَأَعْطَاهُمْ رِقَابَهَا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَا؛ بَلْ تُؤْخَذُ الْغَنَمُ فَيُعْطَاهَا أَهْلُ الْكَرْمِ، فَيَكُونُ لَهُمْ لَبَنُهَا وَنَفْعُهَا، وَيُعْطَى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حَتَّى يَعُودَ كَالَّذِي كَانَ لَيْلَةَ نَفَشَتْ فِيهِ الْغَنَمُ، ثُمَّ يُعْطَى أَهْلُ الْغَنَمِ غَنَمَهُمْ وَأَهْلُ الكرم كرمهم.
وقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} قَالَ ابن أبي حاتم: أَنَّ (إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ) لَمَّا اسْتَقْضَى أَتَاهُ الحسن فبكى، فقال: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ بَلَغَنِي أَنَّ الْقُضَاةَ: رَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَخَطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ مَالَ بِهِ الْهَوَى فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مَنْ نَبَأِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام وَالْأَنْبِيَاءِ حُكْمًا يَرُدُّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ عَنْ قَوْلِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَى سُلَيْمَانَ ولم يذم داود، ثم قال الحسن: أَنَّ الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فِيهِ أَحَدًا ثُمَّ تَلَا:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} ، وقال:{فَلَا تَخْشَوُاْ الناس واخشوني} ، وقال:{وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإذا اجتهد فأخطا فله أجر» ، وَفِي السُّنَنِ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ: رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابنان لهما إذ جَاءَ الذِّئْبُ فَأَخَذَ أَحَدَ الِابْنَيْنِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا، فَدَعَاهُمَا سُلَيْمَانُ، فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا لَا تشقه، فقضى به للصغرى"(الحديث أخرجه الإمام أحمد وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وبوَّب له النسائي في كتاب القضاء).
وقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مع داود الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} الآية، وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور، وكان
إِذَا تَرَنَّمَ بِهِ تَقِفُ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ فَتُجَاوِبُهُ، وَتَرُدُّ عَلَيْهِ الْجِبَالُ تَأْوِيبًا، وَلِهَذَا لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مِنَ اللَّيْلِ، وَكَانَ لَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ جَدًا، فَوَقَفَ واستمع لقراءته، وقال:«لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ داود» ، وقال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحَبَّرْتُه (حسنته وزينته) لك تحبيراً، وَقَوْلُهُ:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} يَعْنِي صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا كَانَتِ الدُّرُوعُ قَبْلَهُ صَفَائِحَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا حَلَقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وألنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي لا توسع الحلقة فتفلق الْمِسْمَارَ وَلَا تُغْلِظِ الْمِسْمَارَ فَتَقُدَّ الْحَلْقَةَ، وَلِهَذَا قَالَ:{لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} يَعْنِي فِي الْقِتَالِ، {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} أَيْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لِمَا أَلْهَمَ بِهِ عَبْدَهُ دَاوُدَ فَعَلَّمَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكُمْ، وَقَوْلُهُ:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الْعَاصِفَةَ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يَعْنِي أَرْضَ الشَّامِ {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِسَاطٌ مِنْ خَشَبٍ يُوضَعُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْمَمْلَكَةِ وَالْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْخِيَامِ وَالْجُنْدِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ أَنْ تحمله فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الْحَرِّ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَنْزِلُ وتوضع آلاته وحشمه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أصاب} ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ يُوضَعُ لِسُلَيْمَانَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ فَيَجْلِسُ مِمَّا يَلِيهِ مُؤْمِنُو الْإِنْسِ، ثُمَّ يَجْلِسُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ الريح فتحملهم صلى الله عليه وسلم (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ). وَقَوْلُهُ:{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ} أَيْ في الماء يستخرجون له اللآلئ والجواهر وَغَيْرَ ذَلِكَ، {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} أَيْ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} ، وَقَوْلُهُ:{وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أَيْ يَحْرُسُهُ اللَّهُ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِسُوءٍ، بَلْ كُلٌّ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الدُّنُوِّ إِلَيْهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، بل هو يحكم فِيهِمْ إِنْ شَاءَ أَطْلَقَ وَإِنْ شَاءَ حَبَسَ مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} .
- 83 - وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
- 84 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ
يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ أَيُّوبَ عليه السلام مَا كَانَ أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَسَدِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأَوْلَادٌ كَثِيرَةٌ وَمَنَازِلُ مَرْضِيَّةٌ، فَابْتُلِيَ في ذلك كله وذهب عن آخره. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَكَثَ فِي الْبَلَاءِ مُدَّةً طويلة ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ له، كان يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَلَّمْ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ عليه السلام: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يذكرا الله إلا في حق (رواه ابن أبي حاتم عن أنَس بن مالك مرفوعاً وفي رفعه نظر، كما قال ابن كثير: رفع هذا غريب جداً)، قال ابن عباس:
ورد عليه ماله عِيَانًا وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أوحى الله إلى أيوب: قد رردت عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قُرْبَانًا وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ أَمْطَرَ عليه جراداً من ذهب، فجعل يأخذ منه بِيَدِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي ثَوْبِهِ قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ؟ قَالَ: يَا رَبِّ ومن يشبع من رحمتك"(أصل هذا الحديث في الصحيحين). وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} قَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رُدُّوا عَلَيْهِ بأعينهم، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اسْمَ زَوْجَتِهِ (رَحْمَةُ) ويقال (ليا) بنت يعقوب عليه السلام، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ إِنْ أهلك فِي الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ أَتَيْنَاكَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْنَاهُمْ لَكَ فِي الْجَنَّةِ وَعَوَّضْنَاكَ مِثْلَهُمْ، قال: لا بل أتركهم فِي الْجَنَّةِ، فَتُرِكُوا لَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُوِّضَ مثلهم في الدنيا، وَقَوْلُهُ:{رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أَيْ فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِ {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أَيْ وَجَعَلْنَاهُ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً لِئَلَّا يَظُنَّ أَهْلُ الْبَلَاءِ أَنَّمَا فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْنَا، وَلِيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَقْدُورَاتِ اللَّهِ، وَابْتِلَائِهِ لِعِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ.
- 85 - وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ
- 86 - وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين
وأما إِسْمَاعِيلُ فَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليهما السلام، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وكذا إِدْرِيسُ عليه السلام. وَأَمَّا ذُو الْكِفْلِ فَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ مَا قُرِنَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَهُوَ نَبِيٌّ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَكَانَ مَلِكًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا؛ وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَذَا الْكِفْلِ} قَالَ: رَجُلٌ صالح غير نبي تكفل لبني قَوْمِهِ أَنْ يَكْفِيَهُ أَمْرَ قَوْمِهِ، وَيُقِيمَهُمْ لَهُ، وَيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ ذَا الكفل. وقال ابن أبي حاتم، عن كِنَانَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَشْعَرِيَّ وَهُوَ يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ: مَا كَانَ ذُو الْكِفْلِ بِنَبِيٍّ وَلَكِنْ كَانَ - يَعْنِي فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ - رَجُلٌ صَالِحٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذُو الْكِفْلِ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ فَسُمِّيَ ذا الكفل (أخرجه ابن أبي حاتم).
- 87 - وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
- 88 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ
هذه القصة مذكورة ههنا وفي الصَّافَّاتِ وَفِي سُورَةِ ن، وَذَلِكَ أَنَّ (يُونُسَ بْنَ مَتَّى) عليه السلام بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أهل نِينَوَى، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَدَعَاهُمْ إلى الله تعالى، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، وَتَمَادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُغَاضِبًا لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَلَمَّا تَحَقَّقُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكْذِبُ، خَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ بِأَطْفَالِهِمْ وأنعامهم ومواشيهم، ثُمَّ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَجَأَرُوا إليه فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .
وَأَمَّا يُونُسُ عليه السلام فَإِنَّهُ ذَهَبَ فَرَكِبَ مَعَ قَوْمٍ فِي سَفِينَةٍ، فَلَجَّجَتْ بِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فَاقْتَرَعُوا عَلَى رَجُلٍ يُلْقُونَهُ مِنْ بينهم يتخففون منه، فوقععت الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَأَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ، ثُمَّ أعادوها فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَأَبَوْا، ثُمَّ أَعَادُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين} ، فَقَامَ يُونُسُ عليه السلام وَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الله سبحانه حُوتًا يَشُقُّ الْبِحَارَ، حَتَّى جَاءَ فَالْتَقَمَ (يُونُسَ) حِينَ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ السَّفِينَةِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلى ذلك الحوت أن لا تَأْكُلَ لَهُ لَحْمًا وَلَا تُهَشِّمَ لَهُ عَظْمًا، فَإِنَّ يُونُسَ لَيْسَ لَكَ رِزْقًا، وَإِنَّمَا بَطْنُكَ تكون
له سِجْنًا، وَقَوْلُهُ:{وَذَا النُّونِ} يَعْنِي الْحُوتَ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ، وَقَوْلُهُ:{إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} قَالَ الضَّحَّاكُ لِقَوْمِهِ: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي نضيّق (هذا التفسير مروي عن ابن عباس ومجاهد وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} أي ضيّق عليه في الرزق) عليه في بطن الحوت، وقال عطية العوفي: أي نقضي عليه، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: قَدَرَ وَقَدَّرَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قدر} : أَيْ قُدِّرَ، وَقَوْلُهُ:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنتَ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ البحر، وظلمة الليل، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ الْحُوتُ فِي الْبِحَارِ يَشُقُّهَا حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الْبَحْرِ، فَسَمِعَ يُونُسُ تَسْبِيحَ الْحَصَى فِي قَرَارِهِ، فَعِنْدَ ذلك قَالَ: {لَاّ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} وقيل: مكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقوله:{فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} أَخْرَجْنَاهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ وَتِلْكَ الظُّلُمَاتِ {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ إِذَا كَانُوا فِي الشَّدَائِدِ ودعونا منيبين إلينا. وقال صلى الله عليه وسلم: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لَاّ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مسلم ربه في شيء إلا استجاب له"(هذا الحديث جزء من حديث طويل ذكره الإمام أحمد وورواه الترمذي والنسائي). وفي الحديث: «مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ اسْتُجِيبَ لَهُ» ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ يُرِيدُ بِهِ {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} . وعن سعد بن أبي وقاص، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قال: "هي ليونس بن متى خاصة، ولجماعة المؤمنين عَامَّةً إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}، فَهُوَ شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لمن دعاه به"(أخرجه ابن جرير عن سعيد بن أبي وقاص مرفوعاً ورواه ابن أبي حاتم بمثله).
- 89 - وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ
- 90 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ زَكَرِيَّا حِينَ طَلَبَ أَنْ يَهَبَهُ اللَّهُ وَلَدًا يَكُونُ من بعده نبياً، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أَيْ خُفْيَةً عَنْ قَوْمِهِ {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً} أَيْ لَا وَلَدَ لِي وَلَا وَارِثَ يَقُومُ بَعْدِي فِي النَّاسِ {وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَسْأَلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أَيِ امْرَأَتَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ عَاقِرًا لَا تلد فولدت، وقال عطاء: كان في لسانها طول، فأصحلها اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ فِي خَلْقِهَا شَيْءٌ فأصحلها الله، وَالْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ؛ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} : أَيْ فِي عَمَلِ الْقُرُبَاتِ وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} قَالَ الثَّوْرِيُّ: رَغَبًا فِيمَا عِنْدَنَا، وَرَهَبًا مِمَّا عِنْدَنَا {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ مُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: خائفين، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ {خاشِعِينَ}: أَيْ مُتَذَلِّلِينَ لِلَّهِ عز وجل، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ. وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَتُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَتَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، وَتَجْمَعُوا الْإِلْحَافَ بِالْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَقَالَ:{إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ} .
- 91 - وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُوحِنَا وجعلناها وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام، مقرونة بِقِصَّةِ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى عليهما السلام، فَيَذْكُرُ أَوَّلًا قِصَّةَ زَكَرِيَّا، ثُمَّ يُتْبِعُهَا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ، لأن تلك مربوطة بهذه، فَإِنَّهَا إِيجَادُ وَلَدٍ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ قَدْ طَعَنَ فِي السِّنِّ، وَمِنَ امْرَأَةٍ عَجُوزٍ عَاقِرٍ، لَمْ تَكُنْ تَلِدُ فِي حَالِ شَبَابِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ قِصَّةَ مَرْيَمَ، وَهِيَ أَعْجَبُ، فَإِنَّهَا إِيجَادُ ولد من أثنى بلا ذكر، قال تعالى:{والتي أَحْصَنَتْ فرجها} (يراد من الفرج: فرج القميص: أي لم يعلق بثوبها ريبة، أي أنها طاهرة الأثواب، قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا من لطيف الكناية، لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظاً، وألطف إشارة، وأملح عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهلين، ولا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضعف القدس إلى القدوس ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس) يَعْنِي مَرْيَمَ عليها السلام، كَمَا قَالَ فِي سورة التحريم:{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا من روحنا} ، وَقَوْلُهُ:{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أَيْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأنه يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كن فيكون، وهذا كقوله:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لِّلْعَالَمِينَ} قَالَ: الْعَالَمِينَ الجن والإنس.
- 92 - إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ
- 93 - وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ
- 94 - فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ
قَالَ ابْنُ عباس {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يَقُولُ: دِينُكُمْ دين واحد، أَيْ هَذِهِ شَرِيعَتُكُمُ الَّتِي بَيَّنْتُ لَكُمْ وَوَضَّحْتُ لكم. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» ، يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِشَرَائِعَ مُتَنَوِّعَةٍ لِرُسُلِهِ، كَمَا قال تعالى:{لِكُلٍّ جعلنا شرعة ومنهاجا} ، وَقَوْلُهُ:{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أَيِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ عَلَى رُسُلِهَا فَمِنْ بَيْنِ مُصَدِّقٍ لَهُمْ وَمُكَذِّبٍ، وَلِهَذَا قَالَ:{كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أَيْ يَوْمَ
⦗ص: 521⦘
الْقِيَامَةِ فَيُجَازَى كُلٌّ بِحَسَبِ عَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِهَذَا قَالَ:{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مؤمن} أي قبله مُصَدِّقٌ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} ، كقوله:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ من أحس عملا} أَيْ لَا يُكْفَرُ سَعْيُهُ وَهُوَ عَمَلُهُ، بَلْ يُشْكَرُ فَلَا يُظْلَمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَإِنَّآ لَهُ كَاتِبُونَ} أَيْ يُكْتَبُ جَمِيعُ عَمَلِهِ فَلَا يَضِيعُ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
- 95 - وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
- 96 - حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ
- 97 - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
يقول تعالى: {وَحَرَامٌ على القرية} قال ابن عباس: وجب، يعني قد قدر أَنَّ أَهْلَ كُلِّ قَرْيَةٍ أُهْلِكُوا أَنَّهُمْ لَا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ عليه السلام، بَلْ هُمْ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ أيضاً من أولاد (يافث) أي أبي الترك، والترك شرذمة منهم، {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} أَيْ يُسْرِعُونَ فِي الْمَشْيِ إِلَى الْفَسَادِ، وَالْحَدَبُ هُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ)، وَهَذِهِ صِفَتُهُمْ فِي حَالِ خُرُوجِهِمْ، كَأَنَّ السَّامِعَ مُشَاهِدٌ لِذَلِكَ {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} هذا إخبار الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إلا هو، وقال ابن جرير: رَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ صِبْيَانًا يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ خُرُوجِهِمْ فِي أحاديث متعددة من السنّة النبوية، فروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فَيَغْشَوْنَ النَّاسَ وَيَنْحَازُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إِلَى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيَضُمُّونَ إِلَيْهِمْ مَوَاشِيَهُمْ، وَيَشْرَبُونَ مِيَاهَ الْأَرْضِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَيَمُرُّ بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً، حَتَّى أَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ لَيَمُرُّ بِذَلِكَ النَّهْرِ فيقول: قد كان ههنا مَاءٌ مَرَّةً، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا أَحَدٌ فِي حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ، قَالَ قَائِلُهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْأَرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ بَقِيَ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أَحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ ثُمَّ يَرْمِي بِهَا إِلَى السماء فترجع إليه مخضبة دَمًا لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عز وجل دُودًا فِي أَعْنَاقِهِمْ كَنَغَفِ الْجَرَادِ الَّذِي يَخْرُجُ فِي أَعْنَاقِهِ، فَيُصْبِحُونَ مَوْتًى لَا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: أَلَا رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ فَيَنْظُرُ مَا فعل هذا العدو، قال: فينحدر رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْتَسِبًا نَفْسَهُ قَدْ أَوْطَنَهَا عَلَى أَنَّهُ مَقْتُولٌ فَيَنْزِلُ، فَيَجِدُهُمْ مَوْتًى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَلَا أَبْشِرُوا إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ كَفَاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيُسَرِّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كَأَحْسَنِ مَا شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ أصابته قط"(أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري).
وفي حديث الدجال: "فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَى عيسى ابن مريم عليه السلام إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ
عِبَادًا مِنْ عِبَادِي لَا يَدَانِ لَكَ بِقِتَالِهِمْ، فحرر عِبَادِي إِلَى الطُّورِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عز وجل يأجوج ومأجوج، كما قال تعالى:{وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلى الله عز وجل، فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصحبون فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَيَهْبِطُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ بَيْتًا إِلَّا قَدْ مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى
الله عز وجل، فيرسل الله عَلَيْهِمْ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ البُخْت فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ"، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: فَحَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ السَّكْسَكِيُّ عَنْ كَعْبٍ أَوْ غَيْرِهِ قال: فتطرحهم بالمهيل، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا يَزِيدَ وأين المهيل؟ قَالَ: مَطْلَعُ الشَّمْسِ، قَالَ: "وَيُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كالزَّلَقَة، ويقال للأرض انبتي ثمرك ودري بَرَكَتَكِ، قَالَ: فيومئذٍ يَأْكُلُ النَّفَرُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، فيستظلون بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى إِنَّ اللَّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ تَكْفِي الْفَخِذَ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ تَكْفِي أَهْلَ الْبَيْتِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عز وجل رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُسْلِمٍ - أَوْ كما قال مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة" (أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح).
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مريم يحج البيت العتيق، وعن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ليحجن هذا البيت وليعتمرون بعد خروج يأجوج ومأجوج» . وَقَوْلُهُ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذا حصلت هَذِهِ الْأَهْوَالُ وَالزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ أَزِفَتِ السَّاعَةُ وَاقْتَرَبَتْ، فَإِذَا كَانَتْ وَوَقَعَتْ، قَالَ الْكَافِرُونَ: هَذَا يَوْمٌ عسر، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ مِنْ شِدَّةِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، {يَا وَيْلَنَا} أَيْ يَقُولُونَ يَا وَيْلَنَا {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} يَعْتَرِفُونَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ.
- 98 - إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
- 99 - لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ
- 100 - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ
- 101 - إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ
- 102 - لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ
- 103 - لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: مُخَاطِبًا لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قريش {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ وَقُودُهَا، يَعْنِي كقوله:{وَقُودُهَا الناس والحجارة} . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} يَعْنِي حَطَبَ جهنم (وهو قول مجاهد وعكرمة وقتادة). وَقَالَ الضَّحَّاكُ {حَصَبُ جَهَنَّمَ} : أَيْ مَا يُرْمَى به فيها، وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ، وَقَوْلُهُ:{أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} : أَيْ دَاخِلُونَ، {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد آلهة صحيحة
لما وردوا النار وما دَخَلُوهَا، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}: أَيِ الْعَابِدُونَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ كُلُّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} كَمَا قال تعالى:{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وشهيق} ، وَالزَّفِيرُ: خُرُوجُ أَنْفَاسِهِمْ، وَالشَّهِيقُ وُلُوجُ أَنْفَاسِهِمْ {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عن ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقِيَ مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فِيهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَلَا عَبْدُ اللَّهِ:{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّحْمَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّعَادَةُ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ وَعَذَابَهُمْ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ من المؤمنين بالله ورسوله، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ وَأَسْلَفُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، وقال:{هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} ، فَكَمَا أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا أَحْسَنَ اللَّهُ مآبهم وثوابهم ونجاهم مِنَ الْعَذَابِ وَحَصَلَ لَهُمْ جَزِيلُ الثَّوَابِ، فَقَالَ:{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أَيْ حريقها في الأجساد، عَنِ أَبِي عُثْمَانَ {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} قَالَ: حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ تَلْسَعُهُمْ، فَإِذَا لَسَعَتْهُمْ قَالَ حَسَ حَسَ، وَقَوْلُهُ:{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} فَسَلَّمَهُمْ مِنَ الْمَحْذُورِ وَالْمَرْهُوبِ، وَحَصَلَ لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن عباس: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فَأُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ مَرًّا هُوَ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فِيهَا جِثِيًّا، فَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَعْبُودِينَ وَخَرَجَ مِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ كَمَا قَالَ ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لها وَارِدُونَ} ، ثُمَّ اسْتَثْنَى، فَقَالَ:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} فَيُقَالُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عز وجل، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَعُزَيْرٍ عليهما السلام. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قَالَ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ الضحّاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر. والآية إِنَّمَا نَزَلَتْ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا لِعَابِدِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فَكَيْفَ يُورِدُ عَلَى هَذَا الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَمْ يَرْضَ بِعِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُ؟ وَعَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يعقل عند العرب. وَقَوْلُهُ: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قِيلَ: الْمُرَادُ بذلك الموت، قاله عَطَاءٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ الْأَكْبَرِ النَّفْخَةُ فِي الصور، قاله ابن عباس وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقِيلَ: حِينَ يُؤْمَرُ بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ وَقِيلَ: حِينَ تُطْبِقُ النَّارُ عَلَى أَهْلِهَا، قَالَهُ سعيد بن جبير وابن جريج، وَقَوْلُهُ:{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} يَعْنِي تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ تُبَشِّرُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ {هَذَا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي فأملوا ما يسركم.
- 104 - يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يشركون} .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه» (أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعاً) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ يَطْوِي ذَلِكَ كُلَّهُ بِيَمِينِهِ يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ خَرْدَلَةٍ (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس). وَقَوْلُهُ: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} قِيلَ: الْمُرَادُ بِالسِّجِلِّ الكتاب، وقيل: المراد بالسجل ههنا ملك من الملائكة، وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجِلَّ هِيَ الصحيفة، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: يَوْمَ نَطْوِي السمآء كطي السجل للكتاب، أي على الْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ كَقَوْلِهِ:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للجبين} أَيْ عَلَى الْجَبِينِ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ:{كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} يَعْنِي هَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ يَوْمَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلَائِقَ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا بَدَأَهُمْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِعَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «إنكم محشورن إِلَى اللَّهِ عز وجل حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إنا كنا فاعلين» ، وذكر تمام الحديث (الحديث أخرجاه في الصحيحين ورواه الإمام أحمد عن ابن عباس)، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خلق نعيده} قال: يهلك كُلَّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
- 105 - وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ
- 106 - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ
- 107 - وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا حَتَّمَهُ وَقَضَاهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَوِرَاثَةِ الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا وَيَوْمَ يقوم الأشهاد} ، وقال:{وَعَدَ الله الذين آمكنوا مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لهم} ، وأخبر تعالى إِنَّ هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} . قَالَ مجاهد: الزبور الكتاب، وقال ابن عباس والحسن:{الزبور} الذي أنزل على داود و {الذكر} التوراة، وعن ابن عباس: الذكر الْقُرْآنُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الذِّكْرُ الَّذِي فِي السمآء، وقال مجاهد: الزبور الكتب، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ عِنْدَ اللَّهِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ هُوَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الزبور الكتب التي أنزلت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فيه الأشياء قبل ذلك، أخبر الله سبحانه وتعالى فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَن يُوَرِّثَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْأَرْضَ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ وهم الصالحون (رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قَالَ: أَرْضُ الْجَنَّةِ، وقال أبو الدرداء: نحن الصالحون، وقال السدي: هم المؤمنون (وقال أبو الدرداء: الأرض هي الشام، والصالحون: الأمة المحمدية). وَقَوْلُهُ {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي إن في هذا لقرآن الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {لَبَلَاغاً} لَمَنْفَعَةً وَكِفَايَةً {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} وهم الذين عبدوا الله فيما شَرَعَهُ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَآثَرُوا طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم. وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَيْ أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ، فَمَنْ قَبِلَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَشَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ رَدَّهَا وجحدها خسر الدينا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبئس القرار} .
وقال تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بعيد} . وقال مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ:«إِنِّي لَمْ أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:«إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» (أخرجه الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعاً، وسئل البخاري عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: كَانَ عِنْدَ حَفْصِ بن غياث مرسلاً، وروي عن ابن عمر مرفوعاً: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً مُهْدَاةً بُعِثْتُ بِرَفْعِ قوم وخفض آخرين»)، وفي الحديث الذي رواه الطبراني: "إِنِّي رَحْمَةٌ بَعَثَنِي اللَّهُ وَلَا يَتَوَفَّانِي حَتَّى يُظْهِرَ اللَّهُ دِينَهُ، لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا محمد، وأحمد، وأنا
الماحي الذي يمحو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قدمي، وأنا العاقب". وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد:«إيما رجل سببته فِي غَضَبِي أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً، فَإِنَّمَا أَنَا رجل من ولد آدم، أغضب كما تغضبون وإنما بعثني الله رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَاجْعَلْهَا صَلَاةً عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ولفظه عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خطب فقال
…
فذكره)، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ رَحْمَةٍ حَصَلَتْ لِمَنْ كَفَرَ به؟ فالجواب ما رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كُتِبَ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عُوِفِيَ مما أصاب الْأُمَمِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ.
- 108 - قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ
- 109 - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ
- 110 - إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ
- 111 - وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
- 112 - قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ {إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} ؟ أَيْ مُتَّبِعُونَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ لَهُ، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ تَرَكُوا مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ {فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ} أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ أني حرب لكم كما أنتم حرب لي، بريء منكم كما أنتم بُرَآءُ مِنِّي، كَقَوْلِهِ:{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أنت برئيون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بريء مما تعملون} ، وَقَالَ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ
خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سواء}، أي ليكن عملك وعملهم بنذ العهود على السواء وهكذا ههنا {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ} أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِبَرَاءَتِي مِنْكُمْ وَبَرَاءَتِكُمْ مِنِّي لِعِلْمِي بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ:{وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} أَيْ هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لِي بِقُرْبِهِ وَلَا بِبُعْدِهِ، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أَيْ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ جَمِيعَهُ، وَيَعْلَمُ مَا يُظْهِرُهُ الْعِبَادُ وَمَا يُسِرُّونَ، يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ وَالضَّمَائِرَ، وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَيَعْلَمُ مَا الْعِبَادُ عَامِلُونَ فِي أَجْهَارِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَلِيلِ وَالْجَلِيلِ. وَقَوْلُهُ:{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أَيْ وَمَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَعَلَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى (وحكي هذا القول عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أَيِ افْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قومنا المذكبين بالحق، قال قتادة: كانت الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام يَقُولُونَ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} ، وَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قَالَ: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} ، وَقَوْلُهُ:{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أَيْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَيَفْتَرُونَ مِنَ الْكَذِبِ، وَيَتَنَوَّعُونَ فِي مَقَامَاتِ التَّكْذِيبِ وَالْإِفْكِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ.
قَالَ: «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلَهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ زَمَنٍ وَكَثُرَ الناس، زاد النداء على الزوراء» (رواه البخاري) يعني يؤذن به على الدار التي تسمة بِالزَّوْرَاءِ، وَكَانَتْ أَرْفَعَ دَارٍ بِالْمَدِينَةِ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ. وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إِذَا نُودِيَ بِهِ، فَأَمَرَ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَنْ يُنَادَى قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ الرِّجَالُ الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان، ويعذر المسافر والمريض وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ كَمَا هُوَ مقرر في كتب الفروع.
وقوله تعالى: {وَذَرُواْ الْبَيْعَ} أَيِ اسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَاتْرُكُوا الْبَيْعَ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ بعد النداء الثاني، وقوله تعالى:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ تَرْكُكُمُ الْبَيْعَ وَإِقْبَالُكُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ {خَيْرٌ لَّكُمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} أَيْ فُرِغَ مِنْهَا {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} لَمَّا حجر عليهم من التَّصَرُّفِ بَعْدَ النِّدَاءِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ، أَذِنَ لَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ فِي الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ وَالِابْتِغَاءِ مِن فَضْلِ اللَّهِ، كَمَا كَانَ (عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَرُوِي عَنْ بَعْضِ السلف أنه قال: من باع واشترع فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ مَرَّةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله} ، وقوله تعالى:{واذكروا الله كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَلَا تَشْغَلْكُمُ الدُّنْيَا عَنِ الَّذِي يَنْفَعُكُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:"مَنْ دَخَلَ سُوقًا مِنَ الْأَسْوَاقِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حسنة ومحا عَنْهُ أَلْفُ أَلْفِ سَيِّئَةٍ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا حَتَّى يَذْكُرَ اللَّهَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا.
- 11 - وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان من وَقَعَ مِنْ الِانْصِرَافِ عَنِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى التِّجَارَةِ الَّتِي قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ يومئذٍ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} أَيْ عَلَى الْمِنْبَرِ تَخْطُبُ، عن جابر رضي الله عنه قال: قدمت عير مرة الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَخَرَجَ النَّاسُ، وَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ:{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (أخرجاه في الصحيحين). وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَابْتَدَرَهَا أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نَارًا» وَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} ، وَقَالَ: كَانَ فِي الاثني عشر للذين ثَبَتُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما (رواه الحافظ الموصلي)، وفي قوله تعالى:{وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صحيحه عن جابر بن سمرة قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بينهما يقرأ القرآن ويذكّر الناس، ولكن ههنا شَيْءٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ
وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْخُطْبَةِ، كَمَا رَوَاهُ أبو داود في كتاب المراسيل، عن مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ مِثْلَ الْعِيدَيْنِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَقَدْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ دَحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ قَدْ قَدِمَ بِتِجَارَةٍ، يَعْنِي فَانْفَضُّوا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ (أخرجه أبو داود)، وقوله تعالى:{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} أَيِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أَيْ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَطَلَبَ الرِّزْقَ فِي وقته.
-
63 - سورة المنافقون
.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لِرَسُولِهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
- 2 - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- 3 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ
- 4 - وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ المنافقين، أنهم إنما يتفهون بالإسلام ظاهراً فَأَمَّا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ بَلْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} أَيْ إِذَا حَضَرُوا عِنْدَكَ وَاجَهُوكَ بِذَلِكَ، وأظهروا لك ذلك، وليس كَمَا يَقُولُونَ وَلِهَذَا اعْتَرَضَ بِجُمْلَةٍ مُخْبِرَةٍ أَنَّهُ رسول الله فقال:{والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} . ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِيمَا أخبروا به لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ مَا يَقُولُونَ وَلَا صِدْقَهُ، وَلِهَذَا كَذَّبَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ، وقوله تَعَالَى:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة لِيُصَدَّقُوا فِيمَا يَقُولُونَ فَاغْتَرَّ بِهِمْ مَنْ لَا يعرف جلية أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، وَهُمْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ لا يألون الإسلام وأهله خيالاً، فَحَصَلَ بِهَذَا الْقَدْرِ ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، وقوله تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ، ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} أَيْ إِنَّمَا قُدِّرَ عَلَيْهِمُ النِّفَاقُ لِرُجُوعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرَانِ، واستبدالهم الضلالة بالهدى، {فَطُبِعَ الله عَلَى
قُلُوبِهمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} أَيْ فَلَا يَصِلُ إِلَى قُلُوبِهِمْ هُدًى، وَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهَا خير فلا تعي ولا تهتدي. وقوله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أي وكانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة، وإذا سَمِعَهُمُ السَّامِعُ يُصْغِي إِلَى قَوْلِهِمْ لِبَلَاغَتِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي
غاية الضعف والخور والهلع والجزع، ولهذا قال تعالى:{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أَيْ كُلَّمَا وَقَعَ أمر أَوْ خَوْفٌ، يَعْتَقِدُونَ لِجُبْنِهِمْ أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ، كما قال تعالى:{فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الموت} فَهُمْ جَهَامَاتٌ وَصُوَرٌ بِلَا مَعَانِي، وَلِهَذَا قَالَ تعالى:{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أَيْ كَيْفَ يُصرَفُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وفي الحديث:"إِنَّ لِلْمُنَافِقِينَ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا: تَحِيَّتُهُمْ لَعْنَةٌ، وَطَعَامُهُمْ نُهْبَةٌ، وَغَنِيمَتُهُمْ غُلُولٌ، وَلَا يَقَرَبُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا هَجْرًا، وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا دَبْرًا، مُسْتَكْبِرِينَ، لَا يَأْلَفُونَ وَلَا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ صُخب بالنهار"(أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً، وقال يزيد بن مرة: سُخُب بالنهار أي بالسين).
- 5 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رؤوسهم وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مستكبرون
- 6 - سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
- 7 - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تنفقوا على من عند رسول الله حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ
- 8 - يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ أنهم {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رؤوسهم} أَيْ صَدُّوا وَأَعْرَضُوا عَمَّا قِيلَ لَهُمُ اسْتِكْبَارًا عَنْ ذَلِكَ وَاحْتِقَارًا لِمَا قِيلَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قال تعالى:{وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} ثُمَّ جَازَاهُمْ عَلَى ذلك فقال تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي القوم الفاسقين} . عن سفيان {لوّوا رؤوسهم} حَوَّلَ سُفْيَانُ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ، وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ شزراً، ثم قال هو هذا (رواه عنه ابن أبي حاتم)، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ كُلَّهُ نَزَلَ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بن أبي سَلُولٍ) كَمَا سَنُورِدُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. قال قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي، وَذَلِكَ أَنَّ غُلَامًا مِنْ قَرَابَتِهِ انْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ عَنْهُ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ وَيَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا تَسْمَعُونَ، وَقِيلَ لِعَدُوِّ اللَّهِ: لَوْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ، أَيْ لَسْتُ فاعلاً.
وقال أبو إسحاق فِي قِصَّةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقِيمٌ هُنَاكَ اقْتَتَلَ عَلَى الْمَاءِ (جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيُّ) وَكَانَ أَجِيرًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ و (سنان بن يزيد)، فَقَالَ سِنَانٌ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْجَهْجَاهُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَنَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي) فَلَمَّا سَمِعَهَا قَالَ: قَدْ ثَاوَرُونَا فِي بِلَادِنَا وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَجَلَابِيبُ قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وَاللَّهِ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، ثُمَّ أَقْبَلُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَالَ: هَذَا مَا صَنَعْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بِلَادِكُمْ إِلَى غَيْرِهَا، فَسَمِعَهَا (زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) رضي الله عنه فَذَهَبَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهو غليم عنده عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مُرْ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَضْرِبْ عُنُقُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"فَكَيْفَ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ يَا عُمَرُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، لَا، وَلَكِنْ نَادِ يا عمر: الرَّحِيلِ"، فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي أَنَّ ذَلِكَ قَدْ بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَتَاهُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَ، مَا قَالَ عَلَيْهِ (زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) وَكَانَ عِنْدَ قَوْمِهِ بِمَكَانٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَن يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ أَوْهَمَ وَلَمْ يُثْبِتْ مَا قَالَ الرَّجُلُ، وَرَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهَجِّرًا فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَرُوحُ فِيهَا، فلقيه (أسيد بن الحضير) رضي الله عنه، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لقد رحت في ساعة مبكرة مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ ابْنُ اُبي؟ زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَيُخْرِجُ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» ، قَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعَزِيزُ وَهُوَ الذَّلِيلُ، ثم قال: ارفق به يا رسول الله، فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ، وَإِنَّا لَنَنْظِمُ لَهُ الْخَرَزَ لِنُتَوِّجَهُ، فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنْ قَدِ سلبته مُلْكًا، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ حتى أمسوا وليلته حَتَّى أَصْبَحُوا، وَصَدَرَ يَوْمَهُ حَتَّى اشْتَدَّ الضُّحَى، ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ لِيَشْغَلَهُمْ عَمَّا كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَأْمَنِ النَّاسُ أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الْأَرْضِ فَنَامُوا، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ الْحَافِظُ أبو بكر البيهقي، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رجُلاً مِنَ الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجرين: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» ، وَقَالَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي بْنِ سَلُولَ) وَقَدْ فَعَلُوهَا: وَاللَّهِ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل، قال جَابِرٌ: وَكَانَ الْأَنْصَارُ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«دَعْهُ لَا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (رواه البيهقي، ورواه أحمد والبخاري ومسلم بنحوه). وروى الإمام أحمد، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي: لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قَالَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ، فَلَامَنِي قَوْمِي وَقَالُوا: مَا أَرَدْتَ إِلَى هَذَا؟ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَنِمْتُ كَئِيبًا حَزِينًا، قَالَ، فَأَرْسَلَ إليَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عُذْرَكَ وَصَدَّقَكَ» ، قَالَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ} حَتَّى بَلَغَ {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل} (أخرجه الإمام أحمد ورواه البخاري عند هذه الآية).
طريق أُخْرَى: قال الإمام أحمد رحمه الله، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عَمِّي فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي بْنِ سَلُولٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَئِنْ رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَهُ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ إليَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عبد الله بن أُبي ابن سلول وأصحابه، فحلفوا بالله مَا قَالُوا، فكذَّبني رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وصدَّقه، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ
يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، وَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَّا أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَقَتَكَ! قَالَ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ} ، قَالَ، فَبَعَثَ إليَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي لَمَّا بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غيري فيقتله فلا تدعني أَنْظُرُ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي يَمْشِي فِي النَّاسِ، فَأَقْتُلُهُ فَأَقْتُلُ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فَأَدْخُلُ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«بَلْ نَتَرَفَّقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ ما بقي معنا» (رواه محمد بن إسحاق بن يسار)، وذكر عكرمة أَنَّ النَّاسَ لَمَّا قَفَلُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ وقف (عبد الله بن عبد الله) عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا جَاءَ أَبُوهُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي) قَالَ لَهُ ابْنُهُ: وَرَاءَكَ، فَقَالَ: مالك ويلك؟ فقال: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ الْعَزِيزُ وَأَنْتَ الذَّلِيلُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شكا إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي ابْنَهُ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لا يدخلها حتى تأذن له، فأذنه لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إذا أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فجز الآن، وقال الحميدي في مسنده: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سَلُولٍ لِأَبِيهِ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلِ الْمَدِينَةَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَعَزُّ وَأَنَا الْأَذَلُّ، قَالَ: وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي، فوالذي بعثل بالحق لئن شئت أو آتيك برأسه لأتيتك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي (رواه الحميدي في مسنده).
- 9 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذلك فأولئك هُمُ الخاسرون
- 10 - وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ
- 11 - وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَنَاهِيًا لَهُمْ عَنْ أَنْ تَشْغَلَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ ذَلِكَ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ مَنِ التهى بمتاع الدنيا وزينتها عن طَاعَةِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ حَثَّهُمْ على الإنفاق في طاعته فقال: {وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} ، فَكُلُّ مُفَرِّطٍ يَنْدَمُ عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} ، وقال تعالى:{حتى إِذَا جاءهم أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تركت} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
أَيْ لَا يَنْظُرُ أَحَدًا بَعْدَ حُلُولِ أَجْلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ بِمَنْ يَكُونُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَسُؤَالِهِ، مِمَّنْ لَوْ رُدَّ لَعَادَ إِلَى شر مما كان عليه، ولهذا قال تعالى:{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . روى الترمذي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ فَلَمْ يَفْعَلْ، سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ، فَقَالَ: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخاسرون * وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} إلى قوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ؟ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الْمَالُ مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا، قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالْبَعِيرُ (أخرجه الترمذي عن الضحاك عن ابن عباس، قال ابن كثير: ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع). وروى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزِّيَادَةَ فِي الْعُمْرِ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجْلُهَا، وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ الْعَبْدَ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً يَدْعُونَ لَهُ، فَيَلْحَقُهُ دُعَاؤُهُمْ فِي قبره» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء).
-
64 - سورة التغابن
.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- 2 - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
- 3 - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
- 4 - يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
هَذِهِ السُّورَةُ هِيَ آخِرُ الْمُسَبِّحَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَسْبِيحِ الْمَخْلُوقَاتِ لِبَارِئِهَا وَمَالِكِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا يخلقه ويقدره. وقوله تعالى:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ مَهْمَا أَرَادَ كَانَ بِلَا مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ، وَمَا لم يشأ لم يكن، وقوله تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} ، أَيْ هُوَ الْخَالِقُ لَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَهُوَ الْبَصِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَ، ولهذا قال تعالى:{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، ثم قال تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أَيْ أَحْسَنَ أَشْكَالَكُمْ، كَقَوْلِهِ تعالى:{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ ركبك} ، وكقوله تعالى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} الْآيَةَ، وقوله تعالى:{وَإِلَيْهِ المصير} أي المرجع والمآل. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ السمائية والأرضية والنفسية فقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
- 5 - أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- 6 - ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
⦗ص: 509⦘
يقول تعالى مخبراً عن الأُمم الماضيين، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فِي مُخَالَفَةِ الرسل والتكذيب بالحق، فقال تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ قَبْلُ} أي أخبرهم وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أَيْ وَخِيمَ تَكْذِيبِهِمْ وَرَدِيءَ أَفْعَالِهِمْ، وَهُوَ مَا حَلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْخِزْيِ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ فَقَالَ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أَيِ اسْتَبْعَدُوا أَنْ تَكُونَ الرِّسَالَةُ فِي الْبَشَرِ، وَأَنْ يَكُونَ هُدَاهُمْ عَلَى يَدَيْ بَشَرٍ مِثْلِهِمْ، {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ} أَيْ كَذَّبُوا بالحق ونكلوا عن العمل، {واستغنى} أَيْ عَنْهُمْ، {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
- 7 - زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
- 8 - فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
- 9 - يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
- 10 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنمهم لَا يُبْعَثُونَ {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عملتم} (هذه هي الآية الثالثة التي أُمر رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه على وقوع المعاد، فالأولى في يونس: {قُلْ إِي وربي إنه لحق} والثانية في سَبَأٍ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بلى وَرَبِّي لتأتينكم}، والثالثة هي هذه: {زَعَمَ الذين كفروا} الآية) أَيْ لَتُخْبَرُنَّ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أَيْ بَعْثُكُمْ ومجازاتكم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ خافية، وقوله تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مشهود} ، وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يوم معلوم} ، وقوله تعالى:{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أهل الجنة يغبنون أهل النار، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَا غَبْنَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُدْخَلَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُذْهَبَ بأولئك إلى النار.
- 11 - مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- 12 - وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
- 13 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون
يقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِأَمْرِ اللَّهِ يَعْنِي عَنْ قَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يهدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَيْ وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَصَبَرَ واحتسب عوّضه عَمَّا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا، هُدًى فِي قَلْبِهِ ويقيناً صادقاً، قال ابن عباس: يَعْنِي يهدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يكن ليصيبه، وقال الأعمش عن علقمة:{وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} قال: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عند الله فيرضى ويسلّم، وقال سعيد بن جبير: يَعْنِي يَسْتَرْجِعُ يَقُولُ: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ راجعون} ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ:«عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا للمؤمن» (أخرجه الشيخان)، وقوله تعالى:{وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} أَمْرٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهُ فِيمَا شَرَعَ، وَفِعْلُ مَا بِهِ أَمَرَ، وَتَرْكُ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، ثُمَّ قَالَ تعالى:{فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أَيْ إِنْ نَكَلْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ مِنَ الْبَلَاغِ، وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، ثُمَّ قال تعالى مخبراً أنه الأحد الصمد:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أَيْ وَحِّدُوا الْإِلَهِيَّةَ لَهُ وَأَخْلِصُوهَا لَدَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً} .
- 14 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
- 15 - أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
- 16 - فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- 17 - إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
- 18 - عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ، إِنَّ مِنْهُمْ مَن هُوَ عدوّ الزوج والولد، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُلْتَهَى بِهِ عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كقوله تعالى:{لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، ولهذا قال تعالى ههنا {فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي عَلَى دِينِكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ} قَالَ: يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، أَوْ مَعْصِيَةِ رَبِّهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ مَعَ حُبِّهِ إِلَّا أَنْ يُطِيعَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَأَلَهُ رجُل عَنْ هَذِهِ الآية:{يَا أيها الناس آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ: فَهَؤُلَاءِ رِجَالٌ أَسْلَمُوا مِنْ مَكَّةَ، فَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَوُا النَّاسَ قَدْ فَقِهُوا فِي الدِّينِ، فهمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى هَذِهِ الْآيَةَ:{وَإِنْ تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رحيم} (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح). وقوله تَعَالَى: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ {فِتْنَةٌ} أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لِخَلْقِهِ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَقَوْلُهُ تعالى:{وَاللَّهُ عِنْدَهُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {أَجْرٌ عَظِيمٌ} كما قال تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} . رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَخْطُبُ، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهما عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا، فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حتى قطعت حديثي ورفعتهما» (رواه أحمد وأهل السنن عن أبي بريدة). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَدُ ثَمَرَةُ الْقُلُوبِ، وَإِنَّهُمْ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ» (أخرجه الحافظ البزار).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أَيْ جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين: «إذا أمرتكم بشيء فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فاجتنبوه» ، وهذه الآية نَاسِخَةٌ لِلَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} ، قال: لما نزلت هذه الْآيَةُ اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ الْعَمَلُ، فَقَامُوا حَتَّى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى هذه الآية تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخت الآية الأولى، وقوله تعالى:{وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} أَيْ كُونُوا مُنْقَادِينَ لِمَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَلَا تَحِيدُوا عَنْهُ يَمْنَةً ولا يسرة، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} أَيْ وَابْذُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وأحسنوا إلى خلق الله كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكُمْ، يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وقوله تَعَالَى:{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تقدم تفسيره في سورة الحشر، وقوله تعالى:{إِنْ تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أَيْ مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَمَهْمَا تَصَدَّقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْقَرْضِ لَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:«مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ مظلوم ولا عديم» (أخرجه في الصحيحين)، ولهذا قال تعالى:{يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} ، كما قال تعالى:{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ، أي ويكفر عنكم السيئات، {وَاللَّهُ شَكُورٌ} أَيْ يَجْزِي عَلَى الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ، {حليم} أي يصفح ويغفر ويستر، ويتجاوز عن الذنوب والزلات، {عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم} (في اللباب: أخرج ابن جرير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه حتى يرق ويقيم) تقدم تفسيره غير مرة.
-
65 - سورة الطلاق
.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا
خُوطِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، ثُمَّ خاطب الأمة تبعاً فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وعن أنَس قَالَ: "طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَفْصَةَ فَأَتَتْ أَهْلَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا، فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة"(أخرجه ابن أبي حاتم). وروى البخاري أن عبد الله بن عمر طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَغَيَّظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أمر بها
الله عز وجل» (كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ومجاهد وعكرمة وغيرهم). وفي رواية لهم: «فتلك عدة الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . وقال عبد الله في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ: الطُّهْرُ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وقال ابن عباس: لَا يُطَلِّقْهَا وَهِيَ حَائِضٌ، وَلَا فِي طُهْرٍ قد جامعها فيه، ولكن يتركها حَتَّى إِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الْعِدَّةُ الطُّهْرُ، وَالْقُرْءُ الْحَيْضَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا حُبْلَى مُسْتَبِينًا حَمْلَهَا وَلَا يُطَلِّقَهَا وَقَدْ طَافَ عَلَيْهَا وَلَا يَدْرِي حُبْلَى هِيَ أم لا؟ ومن ههنا أَخَذَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ، وَقَسَّمُوهُ إِلَى طَلَاقِ سُنّة، وَطَلَاقِ بِدْعَةٍ، فَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طاهرة مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ حَامِلًا قَدِ اسْتَبَانَ حملها، والبدعي أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي حَالِ الحيضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، وَلَا يَدْرِي أَحَمَلَتْ أَمْ لَا؛ وَطَلَاقٌ ثَالِثٌ لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ وَهُوَ طَلاق الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَغَيْرِ المدخول بها، وتحرير الكلام مستقصى في كتب الفروع.
وقوله تعالى: {وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ} أَيِ احْفَظُوهَا وَاعْرِفُوا ابْتِدَاءَهَا وَانْتِهَاءَهَا لِئَلَّا تَطُولَ الْعِدَّةُ عَلَى
الْمَرْأَةِ فَتَمْتَنِعَ مِنَ الْأَزْوَاجِ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبُّكُمْ} أَيْ فِي ذَلِكَ، وقوله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} أَيْ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ لَهَا حَقُّ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ، فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُخْرِجَهَا وَلَا يَجُوزَ لَهَا أَيْضًا الْخُرُوجُ لأنها متعلقة لحق الزوج أيضاً، وقوله تعالى:{إِلَاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} أَيْ لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِلَّا أَنْ تَرْتَكِبَ الْمَرْأَةُ فاحشة مبينة، وَالْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ تَشْمَلُ الزِّنَا (كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وعكرمة وَغَيْرُهُمْ)، وَتَشْمَلُ مَا إِذَا نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ بَذَتْ عَلَى أَهْلِ الرَّجُلِ وَآذَتْهُمْ فِي الْكَلَامِ وَالْفِعَالِ (كَمَا قَالَهُ أُبي بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عباس وعكرمة وغيرهم)، وقوله تعالى:{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أَيْ شَرَائِعُهُ وَمَحَارِمُهُ {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} أَيْ يَخْرُجُ عَنْهَا وَيَتَجَاوَزُهَا إِلَى غَيْرِهَا وَلَا يَأْتَمِرُ بِهَا {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي بفعل ذلك، وقوله تعالى:{لَا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أي لَعَلَّ الزَّوْجَ يَنْدَمُ عَلَى طَلَاقِهَا وَيَخْلُقُ اللَّهُ تعالى في قلبه رجعتها، قال الزهري عن فاطمة بنت قيس في قوله تعالى:{لَا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} قالت: هي الرجعة (وكذا قال الشعبي وعطاء والضحّاك وقتادة ومقاتل بن حيان)، ومن ههنا ذهب من ذهب من السلف إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة أي المقطوعة، وَكَذَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَاعْتَمَدُوا أَيْضًا عَلَى حديث (فاطمة بِنْتِ قَيْسٍ) حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا (أَبُو عَمْرُو بْنُ حَفْصٍ) آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَكَانَ غَائِبًا عَنْهَا بِالْيَمَنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ يَعْنِي نَفَقَةً فَتَسَخَّطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَيْسَ لكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ» ، وَلِمُسْلِمٍ:«وَلَا سُكْنَى» ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُم شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ:«تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» (قصة طلاق فاطمة بنت قيس ذكرها الإمام أحمد والنسائي والطبراني وغيرهم) الحديث.
- 2 - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
- 3 - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
يَقُولُ تَعَالَى: فَإِذَا بَلَغَتِ الْمُعْتَدَّاتُ أَجَلَّهُنَّ، أَيْ شَارَفْنَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَارَبْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ تَفْرُغِ الْعِدَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، فحينئذٍ إِمَّا أَنْ يَعْزِمَ الزَّوْجُ عَلَى إِمْسَاكِهَا، وَهُوَ رَجْعَتُهَا إِلَى عِصْمَةِ نِكَاحِهِ وَالِاسْتِمْرَارُ بِهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُ {بِمَعْرُوفٍ} أَيْ مُحْسِنًا إِلَيْهَا فِي صُحْبَتِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى مُفَارَقَتِهَا {بِمَعْرُوفٍ} أَيْ مِنْ غَيْرِ مُقَابَحَةٍ وَلَا مُشَاتَمَةٍ وَلَا تَعْنِيفٍ، بَلْ يُطَلِّقُهَا عَلَى وَجْهٍ جميل وسبيل حسن، وقوله تعالى:{وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ} أَيْ عَلَى الرَّجْعَةِ إذا عزمتم عليها، كما روي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرجل يطلق المرأة، ثُمَّ يَقَعُ بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا، فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، وَرَجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رجعتها ولا تعد (أخرجه أبو داود وابن ماجة)،
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ} قَالَ: لَا يَجُوزُ فِي نِكَاحٍ وَلَا طَلَاقٍ وَلَا رِجَاعٍ إِلَّا شَاهِدَا عَدْلٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل إِلَّا أن يكون من عذر، وقوله تعالى:{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْإِشْهَادِ وَإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، إِنَّمَا يَأْتَمِرُ بِهِ مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر، وَمَنْ يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وقوله تَعَالَى:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ وَمَن يَتَّقِ الله فيما أمره به، وترك عما نَهَاهُ عَنْهُ، يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجاً {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ مِنْ جهة لا تخطر بباله.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} ، وإن أكبر آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَرَجًا:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} (رواه ابن أبي حاتم). وفي المسند، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمَنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حيث لا يحتسب» (رواه أحمد في المسند). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} يَقُولُ يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ، وقال الربيع بن خيثم:{يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضاق على الناس، {مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَقَالَ قَتَادَةُ {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} أَيْ مِنْ شُبُهَاتِ الْأُمُورِ وَالْكَرْبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} من حيث يرجو ولا يَأْمُلُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} يُطَلِّقْ لِلسُّنَّةِ، وَيُرَاجِعْ لِلسُّنَّةِ، وَزَعَمَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، كَانَ لَهُ ابْنٌ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوهُ فَكَانَ فِيهِمْ، وَكَانَ أَبُوهُ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَشْكُو إِلَيْهِ مَكَانَ
ابْنِهِ وَحَالِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا وَحَاجَتَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ، وَيَقُولُ لَهُ:«إِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لَكَ فَرَجًا» ، فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا يَسِيرًا أَنِ انْفَلَتَ ابْنُهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، فَمَرَّ بِغَنَمٍ مِنْ أَغْنَامِ الْعَدُوِّ فَاسْتَاقَهَا، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ وجاء معه بغنم قد أصابه من المغنم، فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ:{وَمِنَ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يحتسب} (رواه ابن جرير). وروى الإمام أحمد، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا البر» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه). وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنِ انْقَطَعَ إِلَى الله كفاه الله كل مؤنة وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنِ انْقَطَعَ إلى الدنيا وكله إليها» (رواه ابن أبي حاتم).
وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} روى الإمام أحمد، عن ابن عباس: أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بشيء قد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(رواه أحمد والترمذي، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نَزَلَ بِهِ حَاجَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ كَانَ قَمِنًا أَنْ لَا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله تعالى أَتَاهُ اللَّهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ بِمَوْتٍ آجِلٍ» (أخرجه الإمام أحمد).
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أَيْ مُنْفِذٌ قَضَايَاهُ وَأَحْكَامَهُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يُرِيدُهُ وَيَشَاؤُهُ {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} كقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} .
- 4 - وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا
- 5 - ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
يَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا لِعِدَّةِ الْآيِسَةِ، وَهِيَ الَّتِي قد انقطع عنها المحيض لِكِبَرِهَا، أَنَّهَا {ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} عِوَضًا عَنِ الثَّلَاثَةِ قروء في حق من تحيض، وَكَذَا الصِّغَارُ اللَّائِي لَمْ يَبْلُغْنَ سِنَّ الْحَيْضِ، أَنَّ عِدَّتَهُنَّ كَعِدَّةِ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَلِهَذَا قال تعالى:{واللائي لَمْ يَحِضْنَ} . وقوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ (كَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ) أَيْ إِنْ رَأَيْنَ دَمًا وَشَكَكْتُمْ فِي كَوْنِهِ حَيْضًا أَوِ اسْتِحَاضَةً وَارْتَبْتُمْ فِيهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن ارتبتم في حكم عدتهن ولن تعرفوه فهو ثلاثة أَشْهُرٍ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي المعنى لما روي عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ قَالَ، قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْبَقَرَةِ فِي عِدَّةِ النِّسَاءِ قَالُوا: لَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ النِّسَاءِ عِدَدٌ لَمْ يُذْكَرْنَ في البقرة: الصغار والكبار اللائي قد انقطع منهن الْحَيْضُ، وَذَوَاتُ الْحَمْلِ، قَالَ، فَأُنْزِلَتِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ الْقُصْرَى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لم يحضن} (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير بنحوه). وقوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} يَقُولُ تَعَالَى وَمَنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ، في قوله جمهور العلماء كما هو نص هذه الآية الكريمة، وكا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ (علي) و (ابن عباس) رضي الله عنهم أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع والأشهر، عملاً بهذه الآية والتي في سورة البقرة، روى البخاري، عن أبي سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رجُل إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ - فَقَالَ: أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ" آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، قُلْتُ: أَنَا {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي - يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ - فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُم سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: قُتِل زَوْجُ (سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ) وَهِيَ حُبْلَى، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فخطِبتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا"(هَكَذَا أورد البخاري هذا الحديث مُخْتَصَرًا، وَقَدْ رَوَاهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ الْكُتُبِ مطولاً من وجوه أُخر).
وروى البخاري ومسلم: أن سبيعة كَانَتْ تَحْتَ (سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ) وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ! إِنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عليَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا، ثم قال البخاري بعد روايته الحديث الأول عند هذه الآية، وقال أبو سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ، حدَّثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ قَالَ: كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا عبد الرحمن بن أبي ليلى، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُعَظِّمُونَهُ فَذَكَرَ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَحَدَّثْتُ بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبة قال: فضمز لي بعض أصحابه، قال مُحَمَّدٌ: فَفَطِنْتُ لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي لَجَرِيءٌ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، قَالَ: فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: لَكِنَّ عَمَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، فَلَقِيتُ أَبَا عَطِيَّةَ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ، فَسَأَلْتُهُ فَذَهَبَ يُحَدِّثُنِي بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ، فقلت: هل سمعت عن عبد الله فيها شَيْئًا؟ فَقَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ؟ فنزلت سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . وروى ابن جرير عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ، مَا نَزَلَتْ:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} إِلَّا بَعْدَ آيَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، قَالَ: وَإِذَا وَضَعَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَقَدْ حَلَّتْ يريد بآية المتوفى عنها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشرا} (رواه ابن جرير والنسائي). وقال ابن أبي حاتم، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَلَغَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ إِنَّ الَّتِي فِي النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه أبو داود وابن ماجه). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أَيْ يُسَهِّلُ لَهُ أَمْرَهُ وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ فَرَجًا قَرِيبًا وَمَخْرَجًا عَاجِلًا، ثُمَّ قال تعالى:{ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أَيْ حُكْمُهُ وَشَرْعُهُ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ بِوَاسِطَةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} أَيْ يُذْهِبْ عَنْهُ الْمَحْذُورَ، وَيُجْزِلْ لَهُ الثَّوَابَ عَلَى الْعَمَلِ اليسير.
- 6 - أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى
- 7 - لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ، إِذَا طَلَّقَ أَحَدُهُمُ الْمَرْأَةَ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلٍ، حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَقَالَ:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} أَيْ عِنْدَكُمْ {مِّن وُجْدِكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني سعتكم، وقال قَتَادَةُ: إِنْ لَمْ تَجِدْ إِلَّا جَنْبَ بَيْتِكَ فأسكنها فيه، وقوله تعالى:{وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي يُضَاجِرُهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَالِهَا أَوْ تخرج من مسكنه، وقال الثوري: يطلقها فإذا بقي يومان راجعها، وقوله تعالى:{وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قال كثير من العلماء: هَذِهِ فِي الْبَائِنِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا أَنْفَقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، قَالُوا: بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ السِّيَاقُ كُلُّهُ فِي
الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على أن الْحَامِلِ وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، لِأَنَّ الْحَمْلَ تَطُولُ مُدَّتُهُ غَالِبًا، فَاحْتِيجَ إِلَى النَّصِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ إِلَى الْوَضْعِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا تجب النفقة بمقدار مدة العدة، وقوله تعالى:{فَإِن أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أَيْ إِذَا وَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وهن طوالق فقد بنَّ بانقضاء عدتهن، فإن أرضعت استحقت أجر مثلها، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجورهن} ، وقوله تعالى:{وائتمروا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أَيْ وَلْتَكُنْ أُموركم فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالْمَعْرُوفِ، مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ وَلَا مُضَارَّةٍ، كَمَا قال تعالى:{ولا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} ، وقوله تعالى:{وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى} أَيْ وَإِنِ اختلف الرجل والمرأة، فطلبت المرأة في أُجْرَةَ الرَّضَاعِ كَثِيرًا وَلَمْ يُجِبْهَا الرَّجُلُ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ بَذَلَ الرَّجُلُ قَلِيلًا وَلَمْ تُوَافِقْهُ عَلَيْهِ، فَلْيَسْتَرْضِعْ لَهُ غَيْرَهَا، فَلَوْ رَضِيَتِ الْأُمُّ بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها، وقوله تعالى:{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} أَيْ لِيُنْفِقْ عَلَى الْمَوْلُودِ وَالِدُهُ أَوْ وَلِيُّهُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَآ آتَاهَا} ، كقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وسعها} ، روى ابن جرير، عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَلْبَسُ الْغَلِيظَ مِنَ الثِّيَابِ، وَيَأْكُلُ أَخْشَنَ الطَّعَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: انْظُرْ مَا يَصْنَعُ بِهَا إِذَا هُوَ أَخَذَهَا؟ فَمَا لَبِثَ أَن لَبِسَ اللَّيِّنَ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَكَلَ أَطْيَبَ الطَّعَامِ فَجَاءَهُ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} ، وقوله تعالى:{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} وَعْدٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَوَعْدُهُ حَقٌّ لَا يُخْلِفُهُ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسراً} ، وقد روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِّن الْحَاجَةِ خَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ قَامَتْ إِلَى الرَّحَى فَوَضَعَتْهَا وَإِلَى التَّنُّورِ فَسَجَرَتْهُ، ثُمَّ قَالَتِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا، فَنَظَرَتْ، فَإِذَا الْجَفْنَةُ قَدِ امْتَلَأَتْ، قَالَ، وَذَهَبَتْ إِلَى التَّنُّورِ فَوَجَدَتْهُ مُمْتَلِئًا، قال، فرجع الزوج فقال: أَصَبْتُمْ بَعْدِي شَيْئًا؟ قَالَتِ امْرَأَتُهُ: نَعَمْ مِنْ ربنا، فأمّ إِلَى الرَّحَى فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَرْفَعْهَا لَمْ تزل تدور إلى يوم القيامة» (أخرجه الإمام أحمد).
- 8 - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً
- 9 - فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً
- 10 - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا
- 11 - رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وكذَّب رُسُلَهُ وَسَلَكَ غَيْرَ مَا شَرَعَهُ، ومخبراً عما حل بالألم السابقة بسبب
ذلك فقال تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} أَيْ تَمَرَّدَتْ وَطَغَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ عَنِ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ وَمُتَابَعَةِ رُسُلِهِ، {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وعذَّبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي منكراً قطيعاً، {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أَيْ غِبَّ مُخَالَفَتِهَا وَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَعَ مَا عجَّل لَهُمْ من العذاب في الدنيا، ثم قال تعالى بَعْدَ مَا قَصَّ مِنْ خَبَرِ هَؤُلَاءِ:{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} أَيِ الْأَفْهَامِ الْمُسْتَقِيمَةِ لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، {الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} يَعْنِي القرآن، كقوله تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقوله تَعَالَى:{رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} ، قال بعضهم:{رَّسُولاً} بدل اشتمال؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي بَلَّغَ الذِّكْرَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ أَنَّ الرَّسُولَ تَرْجَمَةٌ عَنِ الذِّكْرِ يَعْنِي تَفْسِيرًا لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا بَيِّنَةً وَاضِحَةً جَلِيَّةً، {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النور} ، وَقَالَ تَعَالَى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلَهُ {نُوراً} لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْهُدَى، كَمَا سَمَّاهُ {رُوحاً} لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ فَقَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} الآية، وقوله تعالى:{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} قَدْ تَقَدَّمَ تفسير مثل هذا ولله الحمد والمنة.
- 12 - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى تَعْظِيمِ مَا شَرَعَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ، كَقَوْلِهِ تعالى:{أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} ؟، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أَيْ سَبْعًا أَيْضًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:«مَنْ ظَلَمَ قيد شبر في الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «خُسِفَ بِهِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» . وَقَدْ تقدم في سورة الحديد ذَكَرَ الْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَبُعْدَ مَا بَيْنَهُنَّ وَكَثَافَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:«مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ» ، وَقَالَ ابن جرير، عن ابن عباس في قوله تعالى:{سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قَالَ: لَوْ حدثتكم بتفسيرها لكفرتم، وكفركم تذيبكم بها" (رواه ابن جرير عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
-
66 - سورة التحريم
.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
- 2 - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
- 3 - وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ
- 4 - إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
- 5 - عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا
أُختلف فِي سَبَبِ نُزُولِ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ (مَارِيَةَ) وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَرَّمَهَا فَنَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لك} الآية، روى النسائي، عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ أَمَة يَطَؤُهَا فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، حَتَّى حَرَّمَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى آخِرِ الآية (أخرجه النسائي في سننه)، وروى ابن جرير، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابَ أُم إِبْرَاهِيمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي؟ فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْكَ الْحَلَالُ؟ فَحَلَفَ لَهَا بِاللَّهِ لَا يُصِيبُهَا، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لك} (رواه ابن جرير)؟! وعن مَسْرُوقٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وحرم، فعوقب في التحريم، وأُمر بالكفارة باليمين (رواه ابن جرير أيضاً)، وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} يَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حرم جاريته، فقال الله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَكَفَّرَ يَمِينَهُ فَصَيَّرَ الْحَرَامَ يميناً (أخرجه ابن جرير، ورواه البخاري عن ابن عباس بنحوه)، ومن ههنا قال بعض الفقهاء بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ، أَوْ زوجته، أو طعاماً أو شراباً، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أحمد، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى
أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا عَدَا الزَّوْجَةَ وَالْجَارِيَةَ إِذَا حَرَّمَ عَيْنَيْهِمَا، فَأَمَّا إِنْ نَوَى بِالتَّحْرِيمِ طَلَاقَ الزَّوْجَةِ أَوْ عتق الأمَة نفذ فيهما، والآية نزلت في تحريمه العسل كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ (زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَتَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، قَالَ:«لَا وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تخبري بذلك أحداً» {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} (أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري).
وقال البخاري في «كتاب الطلاق» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَغِرْتُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ، فَسَقَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لنحتالنَّ لَهُ، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا فقولي: أكلت مغافير، فإنه سيقول لَا، فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أجد؟ سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي: جرست نحله العرفط وسأقول ذلك، وقولي له أنت يا صفية ذلك، قالت، تقول سودة: فوالله مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُنَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا، قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: «لَا» ، قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ؟ قَالَ: «سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ» ، قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَارَ إليَّ، قُلْتُ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَسْقِيَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: «لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي. هَذَا لفظ البخاري ولمسلم، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، يَعْنِي الرِّيحَ الْخَبِيثَةَ، وَلِهَذَا قُلْنَ لَهُ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ لِأَنَّ رِيحَهَا فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا قَالَ:«بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا» قُلْنَ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، أي رعث نَحْلُهُ شَجَرَ الْعُرْفُطَ الَّذِي صَمْغُهُ الْمَغَافِيرُ، فَلِهَذَا ظَهَرَ رِيحُهُ فِي الْعَسَلِ الَّذِي شَرِبْتَهُ، قَالَ الجوهري: جرست النحل العرفط إذا أكلته، ومنه قيل للنحل جوارس، وفي رواية عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ (زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) هِيَ التي سقته الْعَسَلَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ تَوَاطَأَتَا وَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُمَا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رضي الله عنهما هُمَا الْمُتَظَاهِرَتَانِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حتى جح عُمَرُ وَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ عُمَرُ، وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؟ فَقَالَ عُمَرُ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عباس، قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: هي (عائشة وحفصة). قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ، قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي دار أُميَّة بن زيد بالعوالي، فَغَضِبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أراجعك فوالله إِنَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتِ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَتَهْجُرُهُ إحداكنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَسَلِينِي مِنْ مَالِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ إِنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ (أي أجمل) وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْكِ - يُرِيدُ عَائِشَةَ -، قَالَ: وَكَانَ لِي جار من الأنصار، وكنا نتتاوب النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ: وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمًا، ثُمَّ أَتَى عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي، ثُمَّ نَادَانِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ، أَجاءت غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا كَائِنًا، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ شَدَدْتُ عليَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ، فَأَتَيْتُ غُلَامًا لَهُ أَسْوَدُ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ الْغُلَامُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمِنْبَرَ، فَإِذَا عِنْدَهُ رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عنده قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَخَرَجْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي، فَقَالَ: ادْخُلْ قَدْ أَذِنَ لَكَ، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ على رمال حصير وقد أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْتُ: أَطَلَّقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ:«لَا» ، فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومهم تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُلْتُ قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ منكن وخسرت، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رسول الله قد دخلت عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ أَوْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكِ، فَتَبَسَّمَ أُخْرى، فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، فَجَلَسْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلاّ أهب مقامه، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمتك، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا وقال:
«أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» ، فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَانَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مُوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ عز وجل.
وروى البخاري عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ عُمَرُ: اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وَافَقَ الْقُرْآنَ فِي أَمَاكِنَ مِنْهَا فِي نُزُولِ الْحِجَابِ وَمِنْهَا فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ الله تعالى:{واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مصلى} (أخرجه البخاري في صحيحه). وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا أَوْرَدْنَاهُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ:{مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ} ظاهر، وقوله تعالى:{سَائِحَاتٍ} أي صائمات قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد، وتقدم فيه حديث مرفوع، وَلَفْظُهُ «سِيَاحَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامُ» ، وَقَالَ زَيْدُ بن أسلم {سَائِحَاتٍ} أي مهاجرات، وتلا {السائحون} أَيْ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى:{ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أَيْ مِنْهُنَّ ثَيِّبَاتٍ، وَمِنْهُنَّ أَبْكَارًا، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فَإِنَّ التَّنَوُّعَ يَبْسُطُ النَّفْسَ، وَلِهَذَا قَالَ:{ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أي منهن ثيبات، ومنهن أبكار، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فَإِنَّ التَّنَوُّعَ يَبْسُطُ النَّفْسَ، وَلِهَذَا قَالَ:{ثَيِّبَاتٍ وأبكار} قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَبِالْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ (رواه الحافظ الطبراني في المعجم الكبير)، وذكر الحافظ ابن عساكر، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فمرت خديجة فقال: «إن الله يقرؤها السَّلَامَ وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ جَوْفَاءَ بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بنت عمران وأسية بنت مزاحم» (أخرجه ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مَرْيَمَ عليها السلام.
- 6 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَاّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
- 7 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- 8 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ على كل شيء قدير
قال عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُوْا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} يقول أدبوهم وعلموهم، وقال ابن عباس: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ يُنْجِيكُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ مجاهد: اتَّقُوا اللَّهَ وَأَوْصُوا أَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَقَالَ قتادة: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها، وقال الضحاك: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ مِنْ قرابته
وَإِمَائِهِ وَعَبِيدِهِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الحديث الشريف:«مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي)، قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَهَكَذَا فِي الصَّوْمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَمْرِينًا لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ لِكَيْ يَبْلُغَ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَتَرْكِ المنكر، وقوله تعالى:{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وَقُودُهَا: أَيْ حَطَبُهَا الَّذِي يُلْقَى فِيهَا جُثَثُ بَنِي آدَمَ، {وَالْحِجَارَةُ} قِيلَ: المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ، وقال ابن مسعود ومجاهد: هي حجارة من كبريت، أنتن من الجيفة، وقوله تعالى:{عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} أَيْ طِبَاعُهُمْ غَلِيظَةٌ قَدْ نُزِعَتْ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةُ بِالْكَافِرِينَ بِاللَّهِ {شِدَادٌ} أي تركبيهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج، كما روى ابن حاتم، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَصَلَ أَوَّلُ أَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَجَدُوا عَلَى الْبَابِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ سُودٌ وُجُوهُهُمْ، كَالِحَةٌ أَنْيَابُهُمْ، قَدْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةَ، لَيْسَ فِي قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، لَوْ طُيِّرَ الطَّيْرُ مِنْ مَنْكِبِ أَحَدِهِمْ لَطَارَ شَهْرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَنْكِبَهُ الْآخَرَ، ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى الْبَابِ التِّسْعَةَ عَشَرَ، عَرْضُ صَدْرِ أَحَدِهِمْ سَبْعُونَ خَرِيفًا، ثُمَّ يَهْوُونَ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا وَجَدُوا عَلَى الْبَابِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَنْتَهُوا إلى آخرها (أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة موقوفاً)، وَقَوْلُهُ:{لَاّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أَيْ مَهْمَا أَمَرَهُمْ بِهِ تَعَالَى يُبَادِرُوا إِلَيْهِ، لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ لَيْسَ بِهِمْ عَجْزٌ عنه، وهؤلاء هم الزبانية.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ يُقَالُ لِلْكَفَرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَعْتَذِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا تُجْزَوْنَ الْيَوْمَ بِأَعْمَالِكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} أَيْ تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا قَبْلَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَتَلُمُّ شَعَثَ التَّائِبِ وَتَجْمَعُهُ وَتَكُفُّهُ عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ من الدناءات، قال عمر (التَّوْبَةُ النَّصُوحُ) أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ، ثُمَّ لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه، وقال أبو الأحوص: سُئِلَ عُمَرَ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَقَالَ: أَنْ يتوب الرجل من العمل السيء، ثم لا يعود إليه أبداً، وقال ابن مسعود {تَوْبَةً نَصُوحًا} قَالَ: يَتُوبُ ثُمَّ لَا يَعُودُ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هُوَ أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْحَاضِرِ، وَيَنْدَمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي، وَيَعْزِمَ عَلَى أن لا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لآدمي رده إليه بطريقه، وفي الحديث الصحيح:«الندم توبة» (أخرجه أحمد وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً)، وعن أُبيّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قِيلَ لَنَا أَشْيَاءُ تَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ: مِنْهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي دُبُرِهَا، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَمِنْهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَمِنْهَا نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةٌ مَا أَقَامُوا عَلَى هَذَا حَتَّى يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، قَالَ زِرٌّ: فَقُلْتُ لأُبي بْنِ كَعْبٍ: فَمَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فَقَالَ: «هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ فَتَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاضِرِ ثم لا تعود إليه أبداً» (أخرجه ابن أبي حاتم).
وقال الحسن: «التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ تُبْغِضَ الذَّنْبَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ، وتستغفر منه إذا ذكرته» فأما إذا جزم بِالتَّوْبَةِ وَصَمَّمَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تجبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْخَطِيئَاتِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ:«الْإِسْلَامُ يجبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةُ تجبُّ مَا قَبْلَهَا» ، وَهَلْ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ وفي الأثر - ثم لَا يَعُودُ فِيهِ أَبَدًا، أَوْ يَكْفِي الْعَزْمُ على أن لا يَعُودَ فِي تَكْفِيرِ الْمَاضِي بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ضَارًّا فِي تَكْفِيرِ مَا تَقَدَّمَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام:«التَّوْبَةُ تجبُّ مَا قَبْلَهَا» ؟ وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عمل في الجاهلية، ومن أساء بالإسلام أُخذ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ التَّوْبَةِ، فَالتَّوْبَةُ بطريق الأولى، والله أعلم.
وقوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جنات تجري من تحتها الأنهار} وعسى مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ {يَوْمَ لَا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ} أَيْ وَلَا يُخْزِيهِمْ مَعَهُ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ:{يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ والضحّاك: هَذَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ يَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نور المنافقين قد طفئ. روى الإمام أحمد عن يحيى بن غسان عَنْ رجُل مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قَالَ: صلَّيت خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا تُخْزِنِي يوم القيامة» (رواه الإمام أحمد). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ فِي السُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِرَفْعِ رَأْسِهِ، فَأَنْظُرُ بَيْنَ يَدِي فَأَعْرِفُ أُمّتي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ وَأَنْظُرُ عَنْ يَمِينِي فَأَعْرِفُ أُمّتي من بني الْأُمَمِ، وَأَنْظُرُ عَنْ شِمَالِي فَأَعْرِفُ أُمّتي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ أُمّتك مِنْ بَيْنِ الأُمم؟ قَالَ: «غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الطُّهُورِ، وَلَا يَكُونُ أحد من الأمم كذلك غَيْرِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ يُؤْتَونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» (رواه محمد بن نصر المروزي عن أبي ذر وأبي الدرداء).
- 9 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
- 10 - ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ هَؤُلَاءِ بِالسِّلَاحِ وَالْقِتَالِ، وَهَؤُلَاءِ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ فِي مُخَالَطَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ لَهُمْ
أَنَّ ذَلِكَ لَا يجدي عنهم شيئاً، إذ لم يكن الإيمان خالصاً فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ فَقَالَ:{امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أَيْ نَبِيَّيْنِ رَسُولَيْنِ عِنْدَهُمَا فِي صحبتهما ليلاً ونهاراً، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشر والاختلاط،
{فَخَانَتَاهُمَا} أَيْ فِي الْإِيمَانِ لَمْ يُوَافِقَاهُمَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَا صَدَّقَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ، فَلَمْ يُجْدِ ذَلِكَ كُلُّهُ شَيْئًا وَلَا دَفَعَ عَنْهُمَا مَحْذُورًا، ولهذا قال تعالى:{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أَيْ لِكُفْرِهِمَا، {وَقِيلَ} أَيْ لِلْمَرْأَتَيْنِ {ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الداخلين} ، وليس المراد بقوله {فَخَانَتَاهُمَا} فِي فَاحِشَةٍ بَلْ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومَاتٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ لِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النُّورِ، قال ابن عباس {فَخَانَتَاهُمَا} قال: ما زنتا، أما خيانة امْرَأَةُ نُوحٍ فَكَانَتْ تُخْبِرُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ لُوطٍ فَكَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أضيافه، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا فِي الدين (وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم وهو الصحيح كما قال ابن عباس: خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما).
- 11 - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين
- 12 - وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُمْ لَا تَضُرُّهُمْ مُخَالَطَةُ الْكَافِرِينَ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إليهم، كما قال تعالى:{إلا أن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ فِرْعَوْنُ أَعْتَى أَهْلِ الْأَرْضِ وأكفرهم، فَوَاللَّهِ مَا ضَرَّ امْرَأَتَهُ كُفْرُ زَوْجِهَا حِينَ أطاعت ربها، ليعلموا إن الله تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ، وروى ابن جرير، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ فِي الشَّمْسِ، فَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة، فَقَوْلُهَا:{رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} قَالَ الْعُلَمَاءُ: اخْتَارَتِ الْجَارَ قَبْلَ الدَّارِ، {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أَيْ خَلِّصْنِي مِنْهُ فَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ عَمَلِهِ {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ (آسِيَةُ بِنْتُ مزاحم) رضي الله عنها، عذَّبها فرعون فشدَّ يديها ورجليها بالأوتاد وهي صابرة، فرأت بيتها في الجنة فضحكت حين رأته، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ جُنُونِهَا! إِنَّا نعذّبها وهي تضحك، فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها. وقوله تَعَالَى:{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أَيْ حَفِظَتْهُ وَصَانَتْهُ، وَالْإِحْصَانُ: هُوَ الْعَفَافُ وَالْحُرِّيَّةُ {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} أَيْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَهُوَ (جِبْرِيلُ) فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ إِلَيْهَا فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ بَشَرٍ سَوِيٍّ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْفُخَ فيه بفِيهِ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ فَوَلَجَتْ فِي فَرْجِهَا، فَكَانَ مِنْهُ الْحَمْلُ بِعِيسَى عليه السلام، ولهذا قال تعالى:{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وصدَّقت بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أَيْ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ، {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» (أخرجه الشيخان).
-
67 - سورة الملك
.
ما ورد في فضلها: روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ له: تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك"(أخرجه أحمد وأهل السنن الأربعة وقال الترمذي: حديث حسن). وَعَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ خَاصَمَتْ عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الملك"(رواه الطبراني والحافظ المقدسي). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَرَبَ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قَبْرُ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ، وَأَنَا لَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ: تَبَارَكَ، حَتَّى خَتَمَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هِيَ الْمَانِعَةُ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» (رواه الترمذي، وقال غريب من هذا الوجه). وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ: «{الم تنزيل}، و {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ المُلْك}» (أخرجه الترمذي). وقال ليث، عن طاووس: يَفْضُلَانِ كُلَّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِسَبْعِينَ حَسَنَةً، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لرَجُل: أَلَا أُتْحِفُكَ بِحَدِيثٍ تَفْرَحُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: اقْرَأْ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْك} وَعَلِّمْهَا أَهْلَكَ وَجَمِيعَ وَلَدِكَ وَصِبْيَانَ بَيْتِكَ وَجِيرَانَكَ، فَإِنَّهَا الْمُنْجِيَةُ، وَالْمُجَادِلَةُ تُجَادِلُ أَوْ تُخَاصِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهَا لقارئها، وتطالب لَهُ أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَيُنْجِي بِهَا صَاحِبَهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمّتي» (أخرجه عبد بن حميد في مسنده).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- 2 - الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
- 3 - الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ