المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 66 - سورة التحريم - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 66 - سورة التحريم

وَأَمَّا يُونُسُ عليه السلام فَإِنَّهُ ذَهَبَ فَرَكِبَ مَعَ قَوْمٍ فِي سَفِينَةٍ، فَلَجَّجَتْ بِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فَاقْتَرَعُوا عَلَى رَجُلٍ يُلْقُونَهُ مِنْ بينهم يتخففون منه، فوقععت الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَأَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ، ثُمَّ أعادوها فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَأَبَوْا، ثُمَّ أَعَادُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين} ، فَقَامَ يُونُسُ عليه السلام وَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الله سبحانه حُوتًا يَشُقُّ الْبِحَارَ، حَتَّى جَاءَ فَالْتَقَمَ (يُونُسَ) حِينَ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ السَّفِينَةِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلى ذلك الحوت أن لا تَأْكُلَ لَهُ لَحْمًا وَلَا تُهَشِّمَ لَهُ عَظْمًا، فَإِنَّ يُونُسَ لَيْسَ لَكَ رِزْقًا، وَإِنَّمَا بَطْنُكَ تكون

له سِجْنًا، وَقَوْلُهُ:{وَذَا النُّونِ} يَعْنِي الْحُوتَ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ، وَقَوْلُهُ:{إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} قَالَ الضَّحَّاكُ لِقَوْمِهِ: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي نضيّق (هذا التفسير مروي عن ابن عباس ومجاهد وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} أي ضيّق عليه في الرزق) عليه في بطن الحوت، وقال عطية العوفي: أي نقضي عليه، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: قَدَرَ وَقَدَّرَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قدر} : أَيْ قُدِّرَ، وَقَوْلُهُ:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنتَ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ البحر، وظلمة الليل، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ الْحُوتُ فِي الْبِحَارِ يَشُقُّهَا حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الْبَحْرِ، فَسَمِعَ يُونُسُ تَسْبِيحَ الْحَصَى فِي قَرَارِهِ، فَعِنْدَ ذلك قَالَ: {لَاّ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ

إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} وقيل: مكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقوله:{فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} أَخْرَجْنَاهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ وَتِلْكَ الظُّلُمَاتِ {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ إِذَا كَانُوا فِي الشَّدَائِدِ ودعونا منيبين إلينا. وقال صلى الله عليه وسلم: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لَاّ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مسلم ربه في شيء إلا استجاب له"(هذا الحديث جزء من حديث طويل ذكره الإمام أحمد وورواه الترمذي والنسائي). وفي الحديث: «مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ اسْتُجِيبَ لَهُ» ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ يُرِيدُ بِهِ {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} . وعن سعد بن أبي وقاص، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قال: "هي ليونس بن متى خاصة، ولجماعة المؤمنين عَامَّةً إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}، فَهُوَ شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لمن دعاه به"(أخرجه ابن جرير عن سعيد بن أبي وقاص مرفوعاً ورواه ابن أبي حاتم بمثله).

ص: 519

- 89 - وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ

- 90 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ زَكَرِيَّا حِينَ طَلَبَ أَنْ يَهَبَهُ اللَّهُ وَلَدًا يَكُونُ من بعده نبياً، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أَيْ خُفْيَةً عَنْ قَوْمِهِ {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً} أَيْ لَا وَلَدَ لِي وَلَا وَارِثَ يَقُومُ بَعْدِي فِي النَّاسِ {وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَسْأَلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أَيِ امْرَأَتَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ

ص: 519

وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ عَاقِرًا لَا تلد فولدت، وقال عطاء: كان في لسانها طول، فأصحلها اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ فِي خَلْقِهَا شَيْءٌ فأصحلها الله، وَالْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ؛ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} : أَيْ فِي عَمَلِ الْقُرُبَاتِ وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} قَالَ الثَّوْرِيُّ: رَغَبًا فِيمَا عِنْدَنَا، وَرَهَبًا مِمَّا عِنْدَنَا {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ مُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: خائفين، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ {خاشِعِينَ}: أَيْ مُتَذَلِّلِينَ لِلَّهِ عز وجل، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ. وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَتُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَتَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، وَتَجْمَعُوا الْإِلْحَافَ بِالْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَقَالَ:{إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ} .

ص: 520

- 91 - وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُوحِنَا وجعلناها وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ

هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام، مقرونة بِقِصَّةِ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى عليهما السلام، فَيَذْكُرُ أَوَّلًا قِصَّةَ زَكَرِيَّا، ثُمَّ يُتْبِعُهَا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ، لأن تلك مربوطة بهذه، فَإِنَّهَا إِيجَادُ وَلَدٍ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ قَدْ طَعَنَ فِي السِّنِّ، وَمِنَ امْرَأَةٍ عَجُوزٍ عَاقِرٍ، لَمْ تَكُنْ تَلِدُ فِي حَالِ شَبَابِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ قِصَّةَ مَرْيَمَ، وَهِيَ أَعْجَبُ، فَإِنَّهَا إِيجَادُ ولد من أثنى بلا ذكر، قال تعالى:{والتي أَحْصَنَتْ فرجها} (يراد من الفرج: فرج القميص: أي لم يعلق بثوبها ريبة، أي أنها طاهرة الأثواب، قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا من لطيف الكناية، لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظاً، وألطف إشارة، وأملح عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهلين، ولا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضعف القدس إلى القدوس ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس) يَعْنِي مَرْيَمَ عليها السلام، كَمَا قَالَ فِي سورة التحريم:{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا من روحنا} ، وَقَوْلُهُ:{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أَيْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأنه يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كن فيكون، وهذا كقوله:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لِّلْعَالَمِينَ} قَالَ: الْعَالَمِينَ الجن والإنس.

ص: 520

- 92 - إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ

- 93 - وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ

- 94 - فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ

قَالَ ابْنُ عباس {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يَقُولُ: دِينُكُمْ دين واحد، أَيْ هَذِهِ شَرِيعَتُكُمُ الَّتِي بَيَّنْتُ لَكُمْ وَوَضَّحْتُ لكم. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» ، يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِشَرَائِعَ مُتَنَوِّعَةٍ لِرُسُلِهِ، كَمَا قال تعالى:{لِكُلٍّ جعلنا شرعة ومنهاجا} ، وَقَوْلُهُ:{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أَيِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ عَلَى رُسُلِهَا فَمِنْ بَيْنِ مُصَدِّقٍ لَهُمْ وَمُكَذِّبٍ، وَلِهَذَا قَالَ:{كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أَيْ يَوْمَ

⦗ص: 521⦘

الْقِيَامَةِ فَيُجَازَى كُلٌّ بِحَسَبِ عَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِهَذَا قَالَ:{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مؤمن} أي قبله مُصَدِّقٌ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} ، كقوله:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ من أحس عملا} أَيْ لَا يُكْفَرُ سَعْيُهُ وَهُوَ عَمَلُهُ، بَلْ يُشْكَرُ فَلَا يُظْلَمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَإِنَّآ لَهُ كَاتِبُونَ} أَيْ يُكْتَبُ جَمِيعُ عَمَلِهِ فَلَا يَضِيعُ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ.

ص: 520

- 95 - وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ

- 96 - حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ

- 97 - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ

يقول تعالى: {وَحَرَامٌ على القرية} قال ابن عباس: وجب، يعني قد قدر أَنَّ أَهْلَ كُلِّ قَرْيَةٍ أُهْلِكُوا أَنَّهُمْ لَا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ عليه السلام، بَلْ هُمْ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ أيضاً من أولاد (يافث) أي أبي الترك، والترك شرذمة منهم، {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} أَيْ يُسْرِعُونَ فِي الْمَشْيِ إِلَى الْفَسَادِ، وَالْحَدَبُ هُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ)، وَهَذِهِ صِفَتُهُمْ فِي حَالِ خُرُوجِهِمْ، كَأَنَّ السَّامِعَ مُشَاهِدٌ لِذَلِكَ {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} هذا إخبار الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إلا هو، وقال ابن جرير: رَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ صِبْيَانًا يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ خُرُوجِهِمْ فِي أحاديث متعددة من السنّة النبوية، فروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فَيَغْشَوْنَ النَّاسَ وَيَنْحَازُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إِلَى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيَضُمُّونَ إِلَيْهِمْ مَوَاشِيَهُمْ، وَيَشْرَبُونَ مِيَاهَ الْأَرْضِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَيَمُرُّ بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً، حَتَّى أَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ لَيَمُرُّ بِذَلِكَ النَّهْرِ فيقول: قد كان ههنا مَاءٌ مَرَّةً، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا أَحَدٌ فِي حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ، قَالَ قَائِلُهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْأَرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ بَقِيَ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أَحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ ثُمَّ يَرْمِي بِهَا إِلَى السماء فترجع إليه مخضبة دَمًا لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عز وجل دُودًا فِي أَعْنَاقِهِمْ كَنَغَفِ الْجَرَادِ الَّذِي يَخْرُجُ فِي أَعْنَاقِهِ، فَيُصْبِحُونَ مَوْتًى لَا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: أَلَا رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ فَيَنْظُرُ مَا فعل هذا العدو، قال: فينحدر رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْتَسِبًا نَفْسَهُ قَدْ أَوْطَنَهَا عَلَى أَنَّهُ مَقْتُولٌ فَيَنْزِلُ، فَيَجِدُهُمْ مَوْتًى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَلَا أَبْشِرُوا إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ كَفَاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيُسَرِّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كَأَحْسَنِ مَا شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ أصابته قط"(أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري).

وفي حديث الدجال: "فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَى عيسى ابن مريم عليه السلام إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ

ص: 521

عِبَادًا مِنْ عِبَادِي لَا يَدَانِ لَكَ بِقِتَالِهِمْ، فحرر عِبَادِي إِلَى الطُّورِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عز وجل يأجوج ومأجوج، كما قال تعالى:{وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلى الله عز وجل، فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصحبون فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَيَهْبِطُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ بَيْتًا إِلَّا قَدْ مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى

الله عز وجل، فيرسل الله عَلَيْهِمْ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ البُخْت فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ"، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: فَحَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ السَّكْسَكِيُّ عَنْ كَعْبٍ أَوْ غَيْرِهِ قال: فتطرحهم بالمهيل، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا يَزِيدَ وأين المهيل؟ قَالَ: مَطْلَعُ الشَّمْسِ، قَالَ: "وَيُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كالزَّلَقَة، ويقال للأرض انبتي ثمرك ودري بَرَكَتَكِ، قَالَ: فيومئذٍ يَأْكُلُ النَّفَرُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، فيستظلون بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى إِنَّ اللَّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ تَكْفِي الْفَخِذَ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ تَكْفِي أَهْلَ الْبَيْتِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عز وجل رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُسْلِمٍ - أَوْ كما قال مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة" (أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح).

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مريم يحج البيت العتيق، وعن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ليحجن هذا البيت وليعتمرون بعد خروج يأجوج ومأجوج» . وَقَوْلُهُ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذا حصلت هَذِهِ الْأَهْوَالُ وَالزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ أَزِفَتِ السَّاعَةُ وَاقْتَرَبَتْ، فَإِذَا كَانَتْ وَوَقَعَتْ، قَالَ الْكَافِرُونَ: هَذَا يَوْمٌ عسر، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ مِنْ شِدَّةِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، {يَا وَيْلَنَا} أَيْ يَقُولُونَ يَا وَيْلَنَا {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} يَعْتَرِفُونَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ.

ص: 522

- 98 - إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ

- 99 - لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ

- 100 - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ

- 101 - إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ

- 102 - لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ

- 103 - لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ

يَقُولُ تَعَالَى: مُخَاطِبًا لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قريش {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ وَقُودُهَا، يَعْنِي كقوله:{وَقُودُهَا الناس والحجارة} . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} يَعْنِي حَطَبَ جهنم (وهو قول مجاهد وعكرمة وقتادة). وَقَالَ الضَّحَّاكُ {حَصَبُ جَهَنَّمَ} : أَيْ مَا يُرْمَى به فيها، وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ، وَقَوْلُهُ:{أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} : أَيْ دَاخِلُونَ، {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد آلهة صحيحة

ص: 522

لما وردوا النار وما دَخَلُوهَا، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}: أَيِ الْعَابِدُونَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ كُلُّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} كَمَا قال تعالى:{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وشهيق} ، وَالزَّفِيرُ: خُرُوجُ أَنْفَاسِهِمْ، وَالشَّهِيقُ وُلُوجُ أَنْفَاسِهِمْ {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عن ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقِيَ مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فِيهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَلَا عَبْدُ اللَّهِ:{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّحْمَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّعَادَةُ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ وَعَذَابَهُمْ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ من المؤمنين بالله ورسوله، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ وَأَسْلَفُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، وقال:{هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} ، فَكَمَا أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا أَحْسَنَ اللَّهُ مآبهم وثوابهم ونجاهم مِنَ الْعَذَابِ وَحَصَلَ لَهُمْ جَزِيلُ الثَّوَابِ، فَقَالَ:{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أَيْ حريقها في الأجساد، عَنِ أَبِي عُثْمَانَ {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} قَالَ: حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ تَلْسَعُهُمْ، فَإِذَا لَسَعَتْهُمْ قَالَ حَسَ حَسَ، وَقَوْلُهُ:{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} فَسَلَّمَهُمْ مِنَ الْمَحْذُورِ وَالْمَرْهُوبِ، وَحَصَلَ لهم المطلوب والمحبوب.

قال ابن عباس: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فَأُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ مَرًّا هُوَ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فِيهَا جِثِيًّا، فَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَعْبُودِينَ وَخَرَجَ مِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ كَمَا قَالَ ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لها وَارِدُونَ} ، ثُمَّ اسْتَثْنَى، فَقَالَ:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} فَيُقَالُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عز وجل، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَعُزَيْرٍ عليهما السلام. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قَالَ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ الضحّاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر. والآية إِنَّمَا نَزَلَتْ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا لِعَابِدِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فَكَيْفَ يُورِدُ عَلَى هَذَا الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَمْ يَرْضَ بِعِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُ؟ وَعَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يعقل عند العرب. وَقَوْلُهُ: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قِيلَ: الْمُرَادُ بذلك الموت، قاله عَطَاءٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ الْأَكْبَرِ النَّفْخَةُ فِي الصور، قاله ابن عباس وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقِيلَ: حِينَ يُؤْمَرُ بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ وَقِيلَ: حِينَ تُطْبِقُ النَّارُ عَلَى أَهْلِهَا، قَالَهُ سعيد بن جبير وابن جريج، وَقَوْلُهُ:{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} يَعْنِي تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ تُبَشِّرُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ {هَذَا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي فأملوا ما يسركم.

ص: 523

- 104 - يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ

يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يشركون} .

ص: 523

عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه» (أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعاً) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ يَطْوِي ذَلِكَ كُلَّهُ بِيَمِينِهِ يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ خَرْدَلَةٍ (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس). وَقَوْلُهُ: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} قِيلَ: الْمُرَادُ بِالسِّجِلِّ الكتاب، وقيل: المراد بالسجل ههنا ملك من الملائكة، وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجِلَّ هِيَ الصحيفة، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: يَوْمَ نَطْوِي السمآء كطي السجل للكتاب، أي على الْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ كَقَوْلِهِ:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للجبين} أَيْ عَلَى الْجَبِينِ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ:{كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} يَعْنِي هَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ يَوْمَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلَائِقَ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا بَدَأَهُمْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِعَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «إنكم محشورن إِلَى اللَّهِ عز وجل حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إنا كنا فاعلين» ، وذكر تمام الحديث (الحديث أخرجاه في الصحيحين ورواه الإمام أحمد عن ابن عباس)، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خلق نعيده} قال: يهلك كُلَّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

ص: 524

- 105 - وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ

- 106 - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ

- 107 - وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا حَتَّمَهُ وَقَضَاهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَوِرَاثَةِ الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا وَيَوْمَ يقوم الأشهاد} ، وقال:{وَعَدَ الله الذين آمكنوا مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لهم} ، وأخبر تعالى إِنَّ هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} . قَالَ مجاهد: الزبور الكتاب، وقال ابن عباس والحسن:{الزبور} الذي أنزل على داود و {الذكر} التوراة، وعن ابن عباس: الذكر الْقُرْآنُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الذِّكْرُ الَّذِي فِي السمآء، وقال مجاهد: الزبور الكتب، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ عِنْدَ اللَّهِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ هُوَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الزبور الكتب التي أنزلت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فيه الأشياء قبل ذلك، أخبر الله سبحانه وتعالى فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَن يُوَرِّثَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْأَرْضَ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ وهم الصالحون (رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ

ص: 524

الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قَالَ: أَرْضُ الْجَنَّةِ، وقال أبو الدرداء: نحن الصالحون، وقال السدي: هم المؤمنون (وقال أبو الدرداء: الأرض هي الشام، والصالحون: الأمة المحمدية). وَقَوْلُهُ {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي إن في هذا لقرآن الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {لَبَلَاغاً} لَمَنْفَعَةً وَكِفَايَةً {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} وهم الذين عبدوا الله فيما شَرَعَهُ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَآثَرُوا طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم. وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَيْ أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ، فَمَنْ قَبِلَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَشَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ رَدَّهَا وجحدها خسر الدينا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبئس القرار} .

وقال تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بعيد} . وقال مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ:«إِنِّي لَمْ أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:«إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» (أخرجه الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعاً، وسئل البخاري عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: كَانَ عِنْدَ حَفْصِ بن غياث مرسلاً، وروي عن ابن عمر مرفوعاً: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً مُهْدَاةً بُعِثْتُ بِرَفْعِ قوم وخفض آخرين»)، وفي الحديث الذي رواه الطبراني: "إِنِّي رَحْمَةٌ بَعَثَنِي اللَّهُ وَلَا يَتَوَفَّانِي حَتَّى يُظْهِرَ اللَّهُ دِينَهُ، لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا محمد، وأحمد، وأنا

الماحي الذي يمحو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قدمي، وأنا العاقب". وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد:«إيما رجل سببته فِي غَضَبِي أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً، فَإِنَّمَا أَنَا رجل من ولد آدم، أغضب كما تغضبون وإنما بعثني الله رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَاجْعَلْهَا صَلَاةً عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ولفظه عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خطب فقال

فذكره)، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ رَحْمَةٍ حَصَلَتْ لِمَنْ كَفَرَ به؟ فالجواب ما رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كُتِبَ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عُوِفِيَ مما أصاب الْأُمَمِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ.

ص: 525

- 108 - قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ

- 109 - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ

- 110 - إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ

- 111 - وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ

- 112 - قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ {إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} ؟ أَيْ مُتَّبِعُونَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ لَهُ، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ تَرَكُوا مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ {فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ} أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ أني حرب لكم كما أنتم حرب لي، بريء منكم كما أنتم بُرَآءُ مِنِّي، كَقَوْلِهِ:{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أنت برئيون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بريء مما تعملون} ، وَقَالَ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ

ص: 525

-‌

‌ 66 - سورة التحريم

.

ص: 519

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

- 2 - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

- 3 - وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ

- 4 - إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ

- 5 - عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا

أُختلف فِي سَبَبِ نُزُولِ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ (مَارِيَةَ) وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَرَّمَهَا فَنَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لك} الآية، روى النسائي، عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ أَمَة يَطَؤُهَا فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، حَتَّى حَرَّمَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى آخِرِ الآية (أخرجه النسائي في سننه)، وروى ابن جرير، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابَ أُم إِبْرَاهِيمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي؟ فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْكَ الْحَلَالُ؟ فَحَلَفَ لَهَا بِاللَّهِ لَا يُصِيبُهَا، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لك} (رواه ابن جرير)؟! وعن مَسْرُوقٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وحرم، فعوقب في التحريم، وأُمر بالكفارة باليمين (رواه ابن جرير أيضاً)، وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ

ص: 519

كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} يَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حرم جاريته، فقال الله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَكَفَّرَ يَمِينَهُ فَصَيَّرَ الْحَرَامَ يميناً (أخرجه ابن جرير، ورواه البخاري عن ابن عباس بنحوه)، ومن ههنا قال بعض الفقهاء بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ، أَوْ زوجته، أو طعاماً أو شراباً، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أحمد، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى

أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا عَدَا الزَّوْجَةَ وَالْجَارِيَةَ إِذَا حَرَّمَ عَيْنَيْهِمَا، فَأَمَّا إِنْ نَوَى بِالتَّحْرِيمِ طَلَاقَ الزَّوْجَةِ أَوْ عتق الأمَة نفذ فيهما، والآية نزلت في تحريمه العسل كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ (زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَتَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، قَالَ:«لَا وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تخبري بذلك أحداً» {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} (أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري).

وقال البخاري في «كتاب الطلاق» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَغِرْتُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ، فَسَقَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لنحتالنَّ لَهُ، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا فقولي: أكلت مغافير، فإنه سيقول لَا، فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أجد؟ سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي: جرست نحله العرفط وسأقول ذلك، وقولي له أنت يا صفية ذلك، قالت، تقول سودة: فوالله مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُنَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا، قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: «لَا» ، قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ؟ قَالَ: «سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ» ، قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَارَ إليَّ، قُلْتُ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَسْقِيَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: «لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي. هَذَا لفظ البخاري ولمسلم، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، يَعْنِي الرِّيحَ الْخَبِيثَةَ، وَلِهَذَا قُلْنَ لَهُ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ لِأَنَّ رِيحَهَا فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا قَالَ:«بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا» قُلْنَ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، أي رعث نَحْلُهُ شَجَرَ الْعُرْفُطَ الَّذِي صَمْغُهُ الْمَغَافِيرُ، فَلِهَذَا ظَهَرَ رِيحُهُ فِي الْعَسَلِ الَّذِي شَرِبْتَهُ، قَالَ الجوهري: جرست النحل العرفط إذا أكلته، ومنه قيل للنحل جوارس، وفي رواية عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ (زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) هِيَ التي سقته الْعَسَلَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ تَوَاطَأَتَا وَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُمَا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رضي الله عنهما هُمَا الْمُتَظَاهِرَتَانِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ

ص: 520

صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حتى جح عُمَرُ وَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ عُمَرُ، وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؟ فَقَالَ عُمَرُ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عباس، قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: هي (عائشة وحفصة). قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ، قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي دار أُميَّة بن زيد بالعوالي، فَغَضِبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أراجعك فوالله إِنَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتِ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَتَهْجُرُهُ إحداكنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَسَلِينِي مِنْ مَالِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ إِنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ (أي أجمل) وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْكِ - يُرِيدُ عَائِشَةَ -، قَالَ: وَكَانَ لِي جار من الأنصار، وكنا نتتاوب النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ: وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمًا، ثُمَّ أَتَى عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي، ثُمَّ نَادَانِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ، أَجاءت غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا كَائِنًا، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ شَدَدْتُ عليَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ، فَأَتَيْتُ غُلَامًا لَهُ أَسْوَدُ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ الْغُلَامُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمِنْبَرَ، فَإِذَا عِنْدَهُ رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عنده قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَخَرَجْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي، فَقَالَ: ادْخُلْ قَدْ أَذِنَ لَكَ، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ على رمال حصير وقد أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْتُ: أَطَلَّقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ:«لَا» ، فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومهم تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُلْتُ قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ منكن وخسرت، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رسول الله قد دخلت عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ أَوْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكِ، فَتَبَسَّمَ أُخْرى، فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، فَجَلَسْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلاّ أهب مقامه، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمتك، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا وقال:

ص: 521

«أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» ، فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَانَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مُوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ عز وجل.

وروى البخاري عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ عُمَرُ: اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وَافَقَ الْقُرْآنَ فِي أَمَاكِنَ مِنْهَا فِي نُزُولِ الْحِجَابِ وَمِنْهَا فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ الله تعالى:{واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مصلى} (أخرجه البخاري في صحيحه). وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا أَوْرَدْنَاهُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ:{مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ} ظاهر، وقوله تعالى:{سَائِحَاتٍ} أي صائمات قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد، وتقدم فيه حديث مرفوع، وَلَفْظُهُ «سِيَاحَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامُ» ، وَقَالَ زَيْدُ بن أسلم {سَائِحَاتٍ} أي مهاجرات، وتلا {السائحون} أَيْ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى:{ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أَيْ مِنْهُنَّ ثَيِّبَاتٍ، وَمِنْهُنَّ أَبْكَارًا، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فَإِنَّ التَّنَوُّعَ يَبْسُطُ النَّفْسَ، وَلِهَذَا قَالَ:{ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أي منهن ثيبات، ومنهن أبكار، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فَإِنَّ التَّنَوُّعَ يَبْسُطُ النَّفْسَ، وَلِهَذَا قَالَ:{ثَيِّبَاتٍ وأبكار} قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَبِالْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ (رواه الحافظ الطبراني في المعجم الكبير)، وذكر الحافظ ابن عساكر، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فمرت خديجة فقال: «إن الله يقرؤها السَّلَامَ وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ جَوْفَاءَ بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بنت عمران وأسية بنت مزاحم» (أخرجه ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مَرْيَمَ عليها السلام.

ص: 522

- 6 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَاّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ

- 7 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

- 8 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ على كل شيء قدير

قال عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُوْا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} يقول أدبوهم وعلموهم، وقال ابن عباس: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ يُنْجِيكُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ مجاهد: اتَّقُوا اللَّهَ وَأَوْصُوا أَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَقَالَ قتادة: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها، وقال الضحاك: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ مِنْ قرابته

ص: 522

وَإِمَائِهِ وَعَبِيدِهِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الحديث الشريف:«مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي)، قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَهَكَذَا فِي الصَّوْمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَمْرِينًا لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ لِكَيْ يَبْلُغَ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَتَرْكِ المنكر، وقوله تعالى:{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وَقُودُهَا: أَيْ حَطَبُهَا الَّذِي يُلْقَى فِيهَا جُثَثُ بَنِي آدَمَ، {وَالْحِجَارَةُ} قِيلَ: المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ، وقال ابن مسعود ومجاهد: هي حجارة من كبريت، أنتن من الجيفة، وقوله تعالى:{عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} أَيْ طِبَاعُهُمْ غَلِيظَةٌ قَدْ نُزِعَتْ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةُ بِالْكَافِرِينَ بِاللَّهِ {شِدَادٌ} أي تركبيهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج، كما روى ابن حاتم، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَصَلَ أَوَّلُ أَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَجَدُوا عَلَى الْبَابِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ سُودٌ وُجُوهُهُمْ، كَالِحَةٌ أَنْيَابُهُمْ، قَدْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةَ، لَيْسَ فِي قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، لَوْ طُيِّرَ الطَّيْرُ مِنْ مَنْكِبِ أَحَدِهِمْ لَطَارَ شَهْرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَنْكِبَهُ الْآخَرَ، ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى الْبَابِ التِّسْعَةَ عَشَرَ، عَرْضُ صَدْرِ أَحَدِهِمْ سَبْعُونَ خَرِيفًا، ثُمَّ يَهْوُونَ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا وَجَدُوا عَلَى الْبَابِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَنْتَهُوا إلى آخرها (أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة موقوفاً)، وَقَوْلُهُ:{لَاّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أَيْ مَهْمَا أَمَرَهُمْ بِهِ تَعَالَى يُبَادِرُوا إِلَيْهِ، لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ لَيْسَ بِهِمْ عَجْزٌ عنه، وهؤلاء هم الزبانية.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ يُقَالُ لِلْكَفَرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَعْتَذِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا تُجْزَوْنَ الْيَوْمَ بِأَعْمَالِكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} أَيْ تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا قَبْلَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَتَلُمُّ شَعَثَ التَّائِبِ وَتَجْمَعُهُ وَتَكُفُّهُ عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ من الدناءات، قال عمر (التَّوْبَةُ النَّصُوحُ) أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ، ثُمَّ لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه، وقال أبو الأحوص: سُئِلَ عُمَرَ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَقَالَ: أَنْ يتوب الرجل من العمل السيء، ثم لا يعود إليه أبداً، وقال ابن مسعود {تَوْبَةً نَصُوحًا} قَالَ: يَتُوبُ ثُمَّ لَا يَعُودُ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هُوَ أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْحَاضِرِ، وَيَنْدَمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي، وَيَعْزِمَ عَلَى أن لا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لآدمي رده إليه بطريقه، وفي الحديث الصحيح:«الندم توبة» (أخرجه أحمد وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً)، وعن أُبيّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قِيلَ لَنَا أَشْيَاءُ تَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ: مِنْهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي دُبُرِهَا، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَمِنْهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَمِنْهَا نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةٌ مَا أَقَامُوا عَلَى هَذَا حَتَّى يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، قَالَ زِرٌّ: فَقُلْتُ لأُبي بْنِ كَعْبٍ: فَمَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فَقَالَ: «هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ فَتَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاضِرِ ثم لا تعود إليه أبداً» (أخرجه ابن أبي حاتم).

ص: 523

وقال الحسن: «التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ تُبْغِضَ الذَّنْبَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ، وتستغفر منه إذا ذكرته» فأما إذا جزم بِالتَّوْبَةِ وَصَمَّمَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تجبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْخَطِيئَاتِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ:«الْإِسْلَامُ يجبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةُ تجبُّ مَا قَبْلَهَا» ، وَهَلْ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ وفي الأثر - ثم لَا يَعُودُ فِيهِ أَبَدًا، أَوْ يَكْفِي الْعَزْمُ على أن لا يَعُودَ فِي تَكْفِيرِ الْمَاضِي بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ضَارًّا فِي تَكْفِيرِ مَا تَقَدَّمَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام:«التَّوْبَةُ تجبُّ مَا قَبْلَهَا» ؟ وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عمل في الجاهلية، ومن أساء بالإسلام أُخذ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ التَّوْبَةِ، فَالتَّوْبَةُ بطريق الأولى، والله أعلم.

وقوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جنات تجري من تحتها الأنهار} وعسى مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ {يَوْمَ لَا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ} أَيْ وَلَا يُخْزِيهِمْ مَعَهُ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ:{يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ والضحّاك: هَذَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ يَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نور المنافقين قد طفئ. روى الإمام أحمد عن يحيى بن غسان عَنْ رجُل مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قَالَ: صلَّيت خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا تُخْزِنِي يوم القيامة» (رواه الإمام أحمد). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ فِي السُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِرَفْعِ رَأْسِهِ، فَأَنْظُرُ بَيْنَ يَدِي فَأَعْرِفُ أُمّتي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ وَأَنْظُرُ عَنْ يَمِينِي فَأَعْرِفُ أُمّتي من بني الْأُمَمِ، وَأَنْظُرُ عَنْ شِمَالِي فَأَعْرِفُ أُمّتي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ أُمّتك مِنْ بَيْنِ الأُمم؟ قَالَ: «غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الطُّهُورِ، وَلَا يَكُونُ أحد من الأمم كذلك غَيْرِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ يُؤْتَونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» (رواه محمد بن نصر المروزي عن أبي ذر وأبي الدرداء).

ص: 524

- 9 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

- 10 - ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ هَؤُلَاءِ بِالسِّلَاحِ وَالْقِتَالِ، وَهَؤُلَاءِ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ فِي مُخَالَطَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ لَهُمْ

أَنَّ ذَلِكَ لَا يجدي عنهم شيئاً، إذ لم يكن الإيمان خالصاً فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ فَقَالَ:{امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أَيْ نَبِيَّيْنِ رَسُولَيْنِ عِنْدَهُمَا فِي صحبتهما ليلاً ونهاراً، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشر والاختلاط،

ص: 524

{فَخَانَتَاهُمَا} أَيْ فِي الْإِيمَانِ لَمْ يُوَافِقَاهُمَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَا صَدَّقَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ، فَلَمْ يُجْدِ ذَلِكَ كُلُّهُ شَيْئًا وَلَا دَفَعَ عَنْهُمَا مَحْذُورًا، ولهذا قال تعالى:{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أَيْ لِكُفْرِهِمَا، {وَقِيلَ} أَيْ لِلْمَرْأَتَيْنِ {ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الداخلين} ، وليس المراد بقوله {فَخَانَتَاهُمَا} فِي فَاحِشَةٍ بَلْ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومَاتٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ لِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النُّورِ، قال ابن عباس {فَخَانَتَاهُمَا} قال: ما زنتا، أما خيانة امْرَأَةُ نُوحٍ فَكَانَتْ تُخْبِرُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ لُوطٍ فَكَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أضيافه، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا فِي الدين (وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم وهو الصحيح كما قال ابن عباس: خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما).

ص: 525

- 11 - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين

- 12 - وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ

وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُمْ لَا تَضُرُّهُمْ مُخَالَطَةُ الْكَافِرِينَ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إليهم، كما قال تعالى:{إلا أن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ فِرْعَوْنُ أَعْتَى أَهْلِ الْأَرْضِ وأكفرهم، فَوَاللَّهِ مَا ضَرَّ امْرَأَتَهُ كُفْرُ زَوْجِهَا حِينَ أطاعت ربها، ليعلموا إن الله تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ، وروى ابن جرير، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ فِي الشَّمْسِ، فَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة، فَقَوْلُهَا:{رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} قَالَ الْعُلَمَاءُ: اخْتَارَتِ الْجَارَ قَبْلَ الدَّارِ، {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أَيْ خَلِّصْنِي مِنْهُ فَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ عَمَلِهِ {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ (آسِيَةُ بِنْتُ مزاحم) رضي الله عنها، عذَّبها فرعون فشدَّ يديها ورجليها بالأوتاد وهي صابرة، فرأت بيتها في الجنة فضحكت حين رأته، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ جُنُونِهَا! إِنَّا نعذّبها وهي تضحك، فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها. وقوله تَعَالَى:{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أَيْ حَفِظَتْهُ وَصَانَتْهُ، وَالْإِحْصَانُ: هُوَ الْعَفَافُ وَالْحُرِّيَّةُ {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} أَيْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَهُوَ (جِبْرِيلُ) فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ إِلَيْهَا فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ بَشَرٍ سَوِيٍّ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْفُخَ فيه بفِيهِ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ فَوَلَجَتْ فِي فَرْجِهَا، فَكَانَ مِنْهُ الْحَمْلُ بِعِيسَى عليه السلام، ولهذا قال تعالى:{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وصدَّقت بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أَيْ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ، {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» (أخرجه الشيخان).

ص: 525