المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 56 - سورة الواقعة - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 56 - سورة الواقعة

المشرق و (بحر الرُّومِ) مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ طَنْجَةَ، يَعْنِي فِي أَقْصَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ:{أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أَيْ وَلَوْ أَنِّي أَسِيرُ حُقُبًا مِنَ الزمان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: الْحُقُبُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَبْعُونَ خَرِيفًا، وقال ابن عباس {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} قال: دهراً، وَقَوْلُهُ:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِحَمْلِ حُوتٍ مَمْلُوحٍ مَعَهُ وَقِيلَ لَهُ مَتَى فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّةَ، فَسَارَا حَتَّى بَلَغَا مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ فِي مِكْتَلٍ مَعَ يُوشَعَ عليه السلام، وَطَفَرَ مِنَ الْمِكْتَلِ إِلَى الْبَحْرِ، فَاسْتَيْقَظَ يُوشَعُ عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء وَالْمَاءُ لَهُ مِثْلُ الطَّاقِ لَا يَلْتَئِمُ بَعْدَهُ، ولهذا قال تعالى:{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} أَيْ مِثْلَ السرب في الأرض، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ أَثَرُهُ كَأَنَّهُ حَجَرٌ، وقال قتادة: سرب من البحر حَتَّى أَفْضَى إِلَى الْبَحْرِ، ثُمَّ سَلَكَ فِيهِ فجعل لا يسلك فيه طريقاً إلاّ صار مَاءً جَامِدًا، وَقَوْلُهُ:{فَلَمَّا جَاوَزَا} : أَيِ الْمَكَانَ الذي نسيا الحوت فيه، {قَالَ} مُوسَى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا} أي المكان الذي جاوزا فيه المكان {نَصَباً} أي تَعَبًا، {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} أَيْ طَرِيقَهُ {فِي البحر عَجَباً قَالَ ذَلِكَ ما كنا نبغي} أي هذا هو الَّذِي نَطْلُبُ {فَارْتَدَّا} أَيْ رَجَعَا {عَلَى آثَارِهِمَا} أي طريقهما {قَصَصاً} أي يقصان آثار مَشْيِهِمَا، وَيَقْفُوَانِ أَثَرَهُمَا {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} ، وَهَذَا هُوَ الْخَضِرُ عليه السلام، كَمَا دلت الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

روى البخاري، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن موسى قاك خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ منك. قال موسى: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بِمِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حوتاً فجعله بمكتل وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فسقط في البحر، فاتخذ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} ، وَلَمْ يجد موسى النصب حتى جاوز الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، قَالَ لَهُ فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} ، قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَقَالَ:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} قَالَ، فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تعلمه أنت، وأنت على علم من اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ. فَقَالَ مُوسَى:{سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ:{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نوال، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَدْ حَمَلُونَا

ص: 427

بِغَيْرِ نَوْلٍ فَعَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟ قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} . قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وعلى آله - فكانت الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ، وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فوقع عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، ثُمَّ خرجا من السفينة فبينما هم يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى:{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، قَالَ وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي مائلاً فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ {فَأَقَامَهُ} فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا} "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وودنا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا» . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كان ابن عباس يقرأ: {وكان وراءهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا} ، وَكَانَ يَقْرَأُ:{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} (أخرجه البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهما.

وروى الزهري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى، الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "بينما مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ له: إذا فقدت الحوت فَارْجِعْ: فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا عَبْدَنَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كتابه.

ص: 428

- 66 - قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا

- 67 - قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً

- 68 - وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا

- 69 - قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً - 70 - قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قِيلِ مُوسَى عليه السلام، لِذَلِكَ الرَّجُلِ الْعَالِمِ، وَهُوَ الْخَضِرُ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِعِلْمٍ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مُوسَى، كَمَّا أَنَّهُ أَعْطَى مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُعْطِهِ الْخَضِرَ. {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ} سؤال تلطف لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ وَالْإِجْبَارِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ الْمُتَعَلِّمِ مِنَ الْعَالِمِ، وَقَوْلُهُ {أَتَّبِعُكَ} أي أصحبك وأرافقك، {على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} أَيْ مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ شَيْئًا أَسْتَرْشِدُ بِهِ فِي أَمْرِي مِنْ عِلْمٍ نَافِعٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَعِنْدَهَا

ص: 428

{قَالَ} الْخَضِرُ لِمُوسَى {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لِمَا تَرَى مِنِّي مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُخَالِفُ شَرِيعَتَكَ، لِأَنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا عَلَّمَكَهُ اللَّهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ، فَكُلٌّ مِنَّا مُكَلَّفٌ بِأُمُورٍ مِنَ اللَّهِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى صُحْبَتِي {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} فَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّكَ سَتُنْكِرُ عليَّ مَا أَنْتَ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَلَكِنْ مَا اطَّلَعَتْ عَلَى حِكْمَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ الْبَاطِنَةِ، التي اطلعت أنا عليها دونك، {قَالَ} أي مُوسَى {سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً} أَيْ عَلَى مَا أَرَى مِنْ أُمُورِكَ، {وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً} أَيْ وَلَا أُخَالِفُكَ فِي شَيْءٍ، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} أَيْ ابْتِدَاءً {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أَيْ حَتَّى أَبْدَأَكَ أَنَا بِهِ، قَبْلَ أَنْ تسألني. عن ابن عباس قَالَ: سَأَلَ مُوسَى عليه السلام رَبَّهُ عز وجل فقال: أي رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي، قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقَضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، قَالَ، أَيْ رَبٍّ: هَلْ فِي أَرْضِكَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قال: فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى السَّاحِلِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي يَنْفَلِتُ عِنْدَهَا الْحُوتُ، قَالَ، فَخَرَجَ مُوسَى يَطْلُبُهُ حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ وَانْتَهَى مُوسَى إِلَيْهِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صاحبه، فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ صُحْبَتِي. قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنْ صَحِبْتَنِي {فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} ، قَالَ فَسَارَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَجْمَعِ البحرين، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَكَانٌ أَكْثَرُ مَاءً مِنْهُ، قَالَ، وَبَعَثَ اللَّهُ الْخُطَّافَ، فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ لِمُوسَى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا أَقَلَّ مَا رَزَأَ، قَالَ: يَا مُوسَى فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَدْرِ مَا اسْتَقَى هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَمِنْ ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ، وَقَتْلِ الْغُلَامِ، وَإِصْلَاحِ الْجِدَارِ، وَتَفْسِيرِهِ له ذلك (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس).

ص: 429

- 71 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا

- 72 - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً

- 73 - قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى وَصَاحِبِهِ وَهُوَ الْخَضِرُ، أَنَّهُمَا انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ أَنْكَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِشَرْحِهِ وَبَيَانِهِ، فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ كَيْفَ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْخَضِرَ، فحملوهما بغير نول، يعني أُجْرَةٍ تَكْرِمَةً لِلْخَضِرِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ وَلَجَّجَتْ، أَيْ دَخَلَتِ اللُّجَّةَ، قَامَ الْخَضِرُ فَخَرَقَهَا، وَاسْتَخْرَجَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا، ثُمَّ رَقَعَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ مُوسَى عليه السلام نَفْسَهُ أَنْ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ. لَا لَامُ التَّعْلِيلِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ

{لَقَدْ جِئْتَ شيئا إمرا} قال مجاهد: منكرا، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَجَبًا، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ الْخَضِرُ مُذَكِّرًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْطِ

ص: 429

{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، يَعْنِي وَهَذَا الصَّنِيعُ فَعَلْتُهُ قَصْدًا، وَهُوَ مِنَ الأمور التي اشترطت معك أن لا تُنْكِرَ عَلَيَّ فِيهَا، لِأَنَّكَ لَمْ تُحِطْ بِهَا خبراً، ولها دخل هُوَ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ تَعْلَمْهُ أَنْتَ، {قَالَ} أَيْ مُوسَى {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}: أَيْ لَا تُضَيِّقُ عَلَيَّ ولا تشدد عَلَيَّ، وَلِهَذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا» .

ص: 430

- 74 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً

- 75 - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً

- 76 - قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا

يَقُولُ تَعَالَى {فَانْطَلَقَا} أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ} ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فِي قَرْيَةٍ مِّن الْقُرَى، وَأَنَّهُ عَمَدَ إِلَيْهِ من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم فقتله، وروي أنه اجتز رأسه، وقيل رضخه بحجر، وفي رواية اقتلعه بِيَدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا شَاهَدَ مُوسَى عليه السلام هَذَا أَنْكَرَهُ أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَبَادَرَ فَقَالَ {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً}: أَيْ صَغِيرَةً، لَمْ تعمل الحنث، ولا عملت إِثْمًا بَعْدُ، فَقَتَلْتَهُ {بِغَيْرِ نَفْسٍ}: أَيْ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ لِقَتْلِهِ {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} : أَيْ ظَاهِرَ النَّكَارَةِ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فَأَكَّدَ أَيْضًا فِي التِّذْكَارِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، فَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا}: أَيْ إِنِ اعْتَرَضْتُ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ {فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنِّي عُذْراً} : أَيْ قَدْ أَعْذَرْتَ إِلَيَّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، قَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ:"رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لَأَبْصَرَ الْعَجَبَ، لكنه قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنِّي عُذْراً".

ص: 430

- 77 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً

- 78 - قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمَا؛ إِنَّهُمَا {انْطَلَقَا} بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} ، روي عن ابن سيرين أنها الإيكة، وَفِي الْحَدِيثِ:«حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا» أَيْ بُخَلَاءَ؛ {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} إِسْنَادُ الْإِرَادَةِ ههنا إِلَى الْجِدَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْمُحْدَثَاتِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ؛ وَالِانْقِضَاضُ هُوَ السُّقُوطُ، وَقَوْلُهُ:{فَأَقَامَه} أَيْ فَرَدَّهُ إِلَى حَالَةِ الِاسْتِقَامَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَدَّهُ بِيَدَيْهِ وَدَعَمَهُ حَتَّى رَدَّ مَيْلَهُ، وَهَذَا خَارِقٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَهُ {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أَيْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُضَيِّفُونَا كان ينبغي أن لا تَعْمَلَ لَهُمْ مَجَّانًا {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ، أَيْ لِأَنَّكَ شَرَطْتَ عِنْدَ قَتْلِ الْغُلَامِ أَنَّكَ إِنْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، فَهُوَ فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} أَيْ بِتَفْسِيرِ {مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا} .

ص: 430

- 79 - أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا

هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على حكمة باطنة، فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها، لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صالحة أي جيدة {غَصْباً} فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل إنهم أيتام، وروى ابن جريج، أن اسم ذلك الملك، (هدد ابن بدد)، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.

ص: 431

- 80 - وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا

- 81 - فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً

عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخضر طبع يوم طبع كافراً» (أخرجه ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ)، وَلِهَذَا قَالَ:{فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} أَيْ يَحْمِلُهُمَا حُبُّهُ عَلَى متابعته الْكُفْرِ، قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَوْ بقي لكان فِيهِ هَلَاكُهُمَا، فَلْيَرْضَ امْرُؤٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قَضَائِهِ فِيمَا يُحِبُّ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ:«لا يقضي الله لمؤمن قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ» ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، وقوله:{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أَيْ وَلَدًا أَزْكَى مِنْ هَذَا، وهما أرحم به منه، وقال قتادة: أبر بوالديه، وَقِيلَ لَمَّا قَتَلَهُ الْخَضِرُ كَانَتْ أُمُّهُ حَامِلًا بغلام مسلم، قاله ابن جريج.

ص: 431

- 82 - وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا

فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْقَرْيَةِ عَلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا {حَتَّى إِذَا أتيا أهل قرية} ، وقال ههنا:{فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المدينة} (قال السيهلي في الغلامين اليتيمين: هما أصرم وصريم ابنا كاشح، والأب الصالح الذي حفظ كنزهما من أجله كان بينهما وبينه سبعة آباء، وقيل عشرة، ولم يكونا ابنيه من صلبه فيما ذكر عن ابن عباس، وذكر السيوطي: أن اسم الملك (هدد بن ندد) واسم أبوي الغلام المقتول (أبرأ) وأمه (سهواً) وقد أبدلهما الله خيراً منه بجارية ولدت نبياً كان بعد موسى اسمه (شمعون))، كما قال تعالى: فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أخرجتك} {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} يَعْنِي مَكَّةَ وَالطَّائِفَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الجدار إنما أصلحته لِأَنَّهُ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تحته كنز لهما. قال عكرمة: كان تحته مال مدفون لهما، وهو

ص: 431

ظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ جرير رحمة الله، وقال ابن عباس: كان تحته كنز علم، وعن الحسن البصري أنه قَالَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفَ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» (أخرجه ابن جرير في تفسيره عن الحسن البصري، وورد في حديث مرفوع رواه الحافظ البزار عن أبي ذر بمثله)، وَذُكِرَ أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْهُمَا صَلَاحٌ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الَّذِي حُفِظَا بِهِ سَبْعَةُ آبَاءٍ، وَكَانَ نَسَّاجًا، وَهَذَا الذي ذكر - وَإِنْ صَحَّ - لَا يُنَافِي قَوْلَ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ مَالًا، لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا من ذهب، وفيه مال جزيل أكثر، كَانَ مُودَعًا فِيهِ عِلْمٌ وَهُوَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ والله أعلم.

وقوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يَحْفَظُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَتَشْمَلُ بَرَكَةُ عِبَادَتِهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِشَفَاعَتِهِ فِيهِمْ، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِمْ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لِتَقَرَّ

عَيْنُهُ بِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، ووردت به السنّة، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ الْأَبُ السَّابِعُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كنزهما} ههنا أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ بُلُوغَهُمَا الْحُلُمَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ فِي الْغُلَامِ:{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً منه زكاة} وَقَالَ فِي السَّفِينَةِ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أَيْ هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثلاثة إنما هو رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَوَالِدَيِ الْغُلَامِ، وَوَلَدَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، لَكِنِّي أُمِرْتُ بِهِ وَوُقِفْتُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ قَالَ بِنُبُوَّةِ الْخَضِرِ عليه السلام مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ

مِن لَّدُنَّا علما}، وَذَهَبَ كَثِيرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا بل كان ولياً، فالله أعلم. وحكي فِي كَوْنِهِ بَاقِيًا إِلَى الْآنِ ثُمَّ إِلَى يوم القيامة قولان، ومال النووي وابن الصلاح إلى بقائه، وَرَجَّحَ آخَرُونَ مِنَ الْمُحْدَثِينَ وَغَيْرِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} ، وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ:«اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا حَضَرَ عِنْدَهُ وَلَا قَاتَلَ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ

الثَّقْلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقَدْ قَالَ:«لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمَا وَسِعَهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي» ، وَأَخْبَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَى مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ عَيْنٌ تَطْرِفُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ (أخرجه البخاري وأحمد ورواه أيضاً عبد الرزاق).

وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّمَا سُمِّي الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ من تحته خضراء» (الراجح قول أهل الحديث بموت الخضر للأدلة المذكورة) والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَجْهُ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ:{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أَيْ هَذَا تَفْسِيرُ مَا ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا، وَلَمْ تَصْبِرْ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهِ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا أَنْ فسره له بينه ووضحه وأزال المشكل قال:{تَسْطِع} وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْإِشْكَالُ قَوِيًّا ثَقِيلًا، فَقَالَ:{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} فَقَابَلَ الْأَثْقَلَ بِالْأَثْقَلِ، وَالْأَخَفَّ بِالْأَخَفِّ، كَمَا قال: {فَمَا

ص: 432

اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وَهُوَ الصُّعُودُ إِلَى أَعْلَاهُ {وَمَا استطاعوا له نقبا} وَهُوَ أَشَقُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ لَفْظًا وَمَعْنَى وَاللَّه أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُ فَتَى مُوسَى ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسِّيَاقِ إِنَّمَا هُوَ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَذِكْرُ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَفَتَى مُوسَى مَعَهُ تَبَعٌ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، أَنَّهُ (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَلِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد موسى عليه السلام.

ص: 433

- 83 - وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا

- 84 - إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {وَيَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّدُ {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} أَيْ عَنْ خَبَرِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ بَعَثَ كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى أهل الكتاب، يسألون منهم ما يمتحون بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ فتية ما يُدْرَى مَا صَنَعُوا، وَعَنِ الرُّوحِ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الكهف. وقد ذكر الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام أَوَّلُ مَا بَنَاهُ وَآمَنَ به، وتبعه، وكان وزيره الخضر عليه السلام، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً مِنْ أَخْبَارِهِ فِي كِتَابِ (الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ) بِمَا فيه كفاية والحمد لله. وقال بعض أهل الكتاب: سمي ذا القرنين لِأَنَّهُ مَلِكَ الرُّومَ وَفَارِسَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عن أبي الطفيل: سُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ ذِي القرنين فقال: كان عبداً ناصحاً لله فناصحه، دعا قومه لله فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، ويقال إنه سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّمْسِ وَيَغْرُبُ. وَقَوْلُهُ:{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ أَعْطَيْنَاهُ ملكاً عظيماً، ممكناً فيه مِنْ جَمِيعِ مَا يُؤْتَى الْمُلُوكُ مِنَ التَّمْكِينِ والجنود وآلات الحرب والحضارات، وَلِهَذَا مَلِكَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مِنَ الْأَرْضِ، وَدَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ وَخَضَعَتْ لَهُ مَلُّوكُ الْعِبَادِ، وَخَدَمَتْهُ الْأُمَمُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ إنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قَرْنَيِ الشَّمْسِ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَهَا، وَقَوْلُهُ:{وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} ، قال ابن عباس: يعني علماً (وبه قال مجاهد وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ والسُّدي وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم)، وقال قتادة: مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَأَعْلَامَهَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد، تعليم الألسنة، قال: كَانَ لَا يَغْزُو قَوْمًا إِلَّا كَلَّمَهُمْ بِلِسَانِهِمْ، وعن حبيب بن حماد قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَسَأَلَهُ رجُل عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كَيْفَ بَلَغَ المشرق والمغرب؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سَخَّرَ لَهُ السَّحَابَ وَقَدَّرَ له الأسباب وبسط له اليد (ذكره الضياء المقدسي عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ حماد).

ص: 433

- 85 - فَأَتْبَعَ سَبَبًا

- 86 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قلنا يا ذا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً

- 87 - قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ

ص: 433

عَذَاباً نُكْرًا

- 88 - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فَأَتْبَعَ سَبَباً} : يَعْنِي بِالسَّبَبِ الْمُنَزَّلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَأَتْبَعَ سَبَباً} : مُنَزَّلًا وطريقاً ما بين المشرق والمغرب، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ أَتْبَعَ مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَمَعَالِمَهَا. وقال سعيد بن جبير: علماً، وَقَالَ مَطَرٌ: مَعَالِمُ وَآثَارٌ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أَيْ فَسَلَكَ طَرِيقًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى مَا يَسْلُكُ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَهُوَ مَغْرِبُ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْوُصُولُ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنَ السَّمَاءِ فَمُتَعَذِّرٌ، وَمَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّهُ سَارَ فِي الْأَرْضِ مُدَّةً وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ مِنْ وَرَائِهِ، فَشَيْءٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ خُرَافَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاخْتِلَاقِ زَنَادِقَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، وَقَوْلُهُ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}: أَيْ رَأَى الشَّمْسَ فِي مَنْظَرِهِ تَغْرُبُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنِ انْتَهَى إِلَى سَاحِلِهِ، يَرَاهَا كَأَنَّهَا تغرب فيه، وَالْحَمِئَةُ مُشْتَقَّةٌ عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ الْحَمْأَةِ وَهُوَ الطِّينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}: أي من طِينٍ أَمْلَسَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَالَ ابْنُ جرير: كان ابن عباس يقول {فِي عَيْنٍ حمأة} ثُمَّ فَسَّرَهَا ذَاتُ حَمْأَةٍ، قَالَ نَافِعٌ: وَسُئِلَ عَنْهَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مني لكني أَجِدُهَا فِي الْكِتَابِ تَغِيبُ فِي طِينَةٍ سَوْدَاءَ. وبه قال مجاهد وغير واحد. وعن أُبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَهُ حَمِئَةٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَدَهَا تَغْرُبَ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ يَعْنِي حَارَّةً. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَأَيَّهُمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِمَا إِذْ قَدْ تَكُونُ حَارَّةً لِمُجَاوَرَتِهَا وَهْجِ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا وَمُلَاقَاتِهَا الشعاع بلا حائل، وحمئة فِي مَاءٍ وَطِينٍ أَسْوَدَ كَمَا قَالَ كَعْبُ الأحبار وغيره.

وقوله تعالى: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} : أَيْ أُمّة مِنَ الْأُمَمِ، ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً مِنْ بَنِي آدم (قال السهيلي: هم أهل جابرص، ويقال لها بالسريانية: جرجيا يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح)، وقوله:{قلنا يا ذا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} مَعْنَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مكَّنه مِنْهُمْ، وحكَّمه فِيهِمْ وَأَظْفَرَهُ بِهِمْ، وَخَيَّرَهُ إِنْ شَاءَ قَتَلَ وَسَبَى، وَإِنْ شَاءَ منَّ أَوْ فَدَى، فَعُرِفَ عَدْلُهُ وَإِيمَانُهُ، فِيمَا أَبْدَاهُ عَدْلَهُ وَبَيَانَهُ فِي قَوْلِهِ:{أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ بِرَبِّهِ {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} ، قَالَ قَتَادَةُ: بِالْقَتْلِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَحْمِي لهم النُّحَاسِ وَيَضَعُهُمْ فِيهَا حَتَّى يَذُوبُوا. وَقَالَ وَهْبُ ابن منبه: كان يسلط الظلمة فتدخل بيوتهم، وَتَغْشَاهُمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي شديداً بلغياً وجيعاً أليماً، وفي هذا إثبات المعاد والجزاء. وَقَوْلُهُ:{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أَيْ تَابَعَنَا عَلَى مَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عِندَ اللَّهِ عز وجل، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} قَالَ مُجَاهِدٌ: معروفاً.

ص: 434

- 89 - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً

- 90 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً

- 91 - كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً

ص: 434

يقول تعالى: ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا فَسَارَ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى مَطْلَعِهَا، وَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ بأُمّة قَهَرَهُمْ وَغَلَبَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل، فَإِنْ أَطَاعُوهُ وَإِلَّا أَذَلَّهُمْ وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الْإِقْلِيمِ الْمُتَاخِمِ لَهُمْ. وَذُكِرَ فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ عَاشَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ يَجُوبُ الْأَرْضَ، طُولَهَا وَالْعَرْضَ، حَتَّى بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ كما قال تَعَالَى:{وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} أَيْ أُمَّةٍ {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ بِنَاءٌ يُكِنَّهُمْ، وَلَا أَشْجَارٌ تُظِلُّهُمْ وَتَسْتُرُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا حُمْرًا قِصَارًا مَسَاكِنُهُمُ الْغِيرَانُ، أَكْثَرُ معيشتهم من السمك. وقال الحسن في قوله الله تَعَالَى:{لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} قَالَ: إِنَّ أَرْضَهُمْ لَا تَحْمِلُ الْبِنَاءَ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَغَوَّرُوا فِي الْمِيَاهِ، فَإِذَا غَرَبَتْ خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم (أخرجه أبو داود الطيالسي عن الحسن البصري)، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ بِأَرْضٍ لَا تُنْبِتُ لَهُمْ شَيْئًا، فَهُمْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا فِي أَسْرَابٍ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم. وقال ابن جرير: لَمْ يَبْنُوا فِيهَا بِنَاءً قَطُّ وَلَمْ يُبْنَ عَلَيْهِمْ فِيهَا بِنَاءٌ قَطُّ، كَانُوا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا أَسْرَابًا لَهُمْ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، أَوْ دَخَلُوا الْبَحْرَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْضَهُمْ لَيْسَ فيها جبل. وَقَوْلُهُ:{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: عِلْمًا، أَيْ نَحْنُ مُطَّلِعُونَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَأَحْوَالِ جَيْشِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أُمَمُهُمْ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} .

ص: 435

- 92 - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً

- 93 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا

- 94 - قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا

- 95 - قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً

- 96 - آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أَيْ ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَهُمَا جَبَلَانِ مُتَنَاوِحَانِ بَيْنَهُمَا ثَغْرَةٌ، يَخْرُجُ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ عَلَى بلاد الترك، فيعيثون فيها فَسَادًا وَيُهْلِكُونَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ عليه السلام كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا آدَمُ، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث فِي النَّارِ، فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فحينئذٍ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كل ذات حمل حملها، فقال: إِنَّ فِيكُمْ أُمَّتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ إلا كثّرتاه، يأجوج ومأجوج"(أخرجه البخاري ومسلم). وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"وَلَدَ نُوحٌ ثَلَاثَةً: سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ"، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَؤُلَاءِ مِنْ نَسْلِ يَافِثَ أَبِي التُّرْكِ، وقال، إنما سمي هَؤُلَاءِ تُرْكًا لِأَنَّهُمْ تُرِكُوا مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِلَّا فَهُمْ أَقْرِبَاءُ أُولَئِكَ، وَلَكِنْ كَانَ فِي أُولَئِكَ بَغْيٌ وَفَسَادٌ وَجَرَاءَةٌ، وقد ذكر ابن جرير ههنا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَثَرًا طَوِيلًا عَجِيبًا في

ص: 435

سَيْرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَبِنَائِهِ السَّدَّ وَكَيْفِيَّةِ مَا جَرَى لَهُ، وَفِيهِ طُولٌ وَغَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ فِي أَشْكَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَطُولِهِمْ وَقِصَرِ بَعْضِهِمْ وَآذَانِهِمْ. وَرَوَى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها، والله أعلم.

وقوله تعالى {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أَيْ لِاسْتِعْجَامِ كَلَامِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ النَّاسِ، {قَالُواْ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَجْراً عَظِيماً، يَعْنِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًا، فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعِفَّةٍ وَدِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ وَقَصْدٍ لِلْخَيْرِ {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أَيْ إِنَّ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّمْكِينِ خيرٌ لِي مِنَ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عليه السلام:{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} الآية. وَهَكَذَا قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ، الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَبْذُلُونَهُ، وَلَكِنْ سَاعِدُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ بِعَمَلِكُمْ وَآلَاتِ الْبِنَاءِ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَالزُّبَرُ، جَمْعُ (زُبْرَةٍ) وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْهُ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ) وَهِيَ كَاللَّبِنَةِ يُقَالُ كُلُّ لَبِنَةٍ زِنَةُ قِنْطَارٍ بِالدِّمَشْقِيِّ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أَيْ وَضَعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْأَسَاسِ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِهِ رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً (قال السيوطي عن الضحّاك: هما من قبل أرمينية وآذربيجان أخرجه ابن أبي حاتم) {قَالَ انْفُخُوا} أَيْ أَجَّجَ عَلَيْهِ النَّارَ، حَتَّى إذا صَارَ كُلُّهُ نَارًا {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} قال ابن عباس والسدي: هو النحاس (وهو قول مجاهد وعكرمة والضحّاك وقتادة)، زاد بَعْضُهُمْ الْمُذَابُ، وَيَسْتَشْهِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَأَيْتَ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. قَالَ: «انْعَتْهُ لِي» ، قَالَ كَالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ، طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ، وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، قَالَ:«قَدْ رأيته» (أخرجه ابن جرير وهو حَدِيثٌ مُرْسَلٌ)، وَقَدْ بَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ فِي دولته بعض امرائه وجهز مَعَهُ جَيْشًا سِرِّيَّةً لِيَنْظُرُوا إِلَى السَّدِّ وَيُعَايِنُوهُ وينعتونه لَهُ إِذَا رَجَعُوا، فَتَوَصَّلُوا مِنْ بِلَادٍ إِلَى بِلَادٍ،

وَمِنْ مُلْكٍ إِلَى مُلْكٍ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ، وَرَأَوْا بِنَاءَهُ مِنَ الْحَدِيدِ وَمِنَ النُّحَاسِ، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيمة، وَعَلَيْهِ أَقْفَالٌ عَظِيمَةٌ، وَرَأَوْا بَقِيَّةَ اللَّبَنِ وَالْعَمَلِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ، وَأَنَّ عِنْدَهُ حَرَسًا مِنَ الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف شَاهِقٌ، لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَا مَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَكَانَتْ غَيْبَتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَشَاهَدُوا أَهْوَالًا وَعَجَائِبَ، ثُمَّ قال تعالى:

ص: 436

- 97 - فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا

- 98 - قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا

- 99 - وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَنَّهُمْ مَا قدروا على أن يصعدوا من فَوْقَ هَذَا السَّدِّ، وَلَا قَدَرُوا عَلَى نَقْبِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَلَمَّا كَانَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ أَسْهَلَ مِنْ نَقْبِهِ قَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ، فَقَالَ:{فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى نَقْبِهِ وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَأُمَّا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ

ص: 436

أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ، ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَّغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ، حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فستثني فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ فَيَحْفِرُونَهُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فترجع وعليها كهيئة الدَّمِ فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«والذي نفس محمد بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكر شُكْرًا من لحومهم ودمائهم» (وأخرجه ابن ماجه أيضاً والترمذي، وقال الترمذي: إسناده جيد قوي، واختار ابن كثير أن يكون موقوفاً)، ففي رَفْعِهِ نَكَارَةٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ ارْتِقَائِهِ وَلَا مِنْ نَقْبِهِ لإحكام بنائه وصلابته، وشدته ويؤيد مَا قُلْنَاهُ، مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ نقبه، وَمِنْ نَكَارَةِ هَذَا الْمَرْفُوعِ، قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» .

{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} أَيْ لَمَّا بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} ، أَيْ بِالنَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حَائِلًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} أَيْ إِذَا اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أَيْ سَاوَاهُ بِالْأَرْضِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَاقَةٌ دَكَّاءُ إِذَا كَانَ ظَهْرُهَا مُسْتَوِيًا لَا سَنَامَ لَهَا، وَقَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} أَيْ مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ} قَالَ: طَرِيقًا كَمَا كَانَ، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} أَيْ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} أَيِ النَّاسَ {يَوْمَئِذٍ} أَيْ يَوْمَ يُدَكُّ هَذَا السَّدُّ وَيَخْرُجُ هَؤُلَاءِ فَيَمُوجُونَ فِي النَّاسِ، وَيُفْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ، وَيُتْلِفُونَ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، فِي قَوْلِهِ:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: ذَاكَ حِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَبَعْدَ الدجال، كما سيأتي بيانه عِنْدَ قَوْلِهِ:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الْآيَةَ. وهكذا قال ههنا، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، قال: إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن، وَقَوْلُهُ:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} ، وَالصُّورُ كَمَا جَاءَ في الحديث، قون يُنْفَخُ فِيهِ، وَالَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ عليه السلام، وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا:«كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَاسْتَمَعَ مَتَى يُؤْمَرُ» ، قَالُوا: كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» ، وَقَوْلُهُ:{فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} أَيْ أَحْضَرْنَا الْجَمِيعَ لِلْحِسَابِ {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} ، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ منهم أحدا} .

ص: 437

- 100 - وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا

- 101 - الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا

- 102 - أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَفْعَلُهُ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمَ، أَيْ يُبْرِزُهَا لَهُمْ وَيُظْهَرُهَا لِيَرَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ قَبْلَ دُخُولِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أبلغ في تعجيل الهم والجزن لَهُمْ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُقَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ ملك» (أخرجه مسلم عن ابن مسعود)، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي تغافلوا وتعاموا عَنْ قَبُولِ الْهُدَى وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ:{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ، وقال ههنا {وَكَانُواْ لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أَيْ لَا يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، ثُمَّ قَالَ:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ} أَيِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَصِحُّ لَهُمْ ذَلِكَ وينتفعون به {كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} ولهذا أخبر الله تعالى أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ منزلاً.

ص: 438

- 103 - قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا

- 104 - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا

- 105 - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً

- 106 - ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا

عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي، يَعْنِي سَعْدَ بن أبي وقاص، عن قول الله:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا النصارى فكفروا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم بالفاسقين (أخرجه البخاري في صحيحه في باب التفسير)، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ، وَمَعْنَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَشْمَلُ الْحَرُورِيَّةَ كَمَا تَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرَهُمْ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ مُخْطِئٌ وعمله مردود، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} ، وقال تعالى:{والذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يجده شيئا} ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم} أَيْ نُخْبِرُكُمْ {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ، ثُمَّ فَسَّرَهُمْ فَقَالَ:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ عَمِلُوا أَعْمَالًا بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ مَشْرُوعَةٍ مَرْضِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} أَيْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ مَحْبُوبُونَ، وَقَوْلُهُ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} :

ص: 438

أي جحدوا آيات الله في الدينا، وَبَرَاهِينَهُ الَّتِي أَقَامَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ وَكَذَّبُوا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} أَيْ لَا نُثْقِلُ مَوَازِينَهُمْ لِأَنَّهَا خالية عن الخير، روى الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يزن عند الله جناح بعوضة - وقال - اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}» ، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ الْعَظِيمِ فَيُوزَنُ بِحَبَّةٍ فلا يزنها» ، قال قَرَأَ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَخْطُرُ فِي حُلَّةٍ لَهُ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا بُرَيْدَةُ هذا ممن لا يقيم الله لَهُمْ يَوْمَ القيامة وزنا» (أخرجه الحافظ البزار)، وعن كَعْبٍ قَالَ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَظِيمٍ طَوِيلٍ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقرأوا:{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} (أخرجه ابن جرير في تفسيره). وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ} أَيْ إنما جازيناهم بهذا الجزاء بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَاتِّخَاذِهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلَهُ هُزُوًا استهزأوا بِهِمْ وَكَذَّبُوهُمْ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ.

ص: 439

- 107 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا

- 108 - خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ السُّعَدَاءِ، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ الفردوس، قال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الضحاك: هُوَ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ شَجَرُ الْأَعْنَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«الْفِرْدَوْسُ ربوة الجنة أوسطها وأحسنها» (أخرجه ابن جرير عن سمرة مرفوعاً). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الجنة» ، وقوله تعالى:{نُزُلاً} أي ضيافة فإن النزل الضِّيَافَةُ، وَقَوْلُهُ:{خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مُقِيمِينَ سَاكِنِينَ فِيهَا، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا أَبَدًا، {لَا يَبْغُونَ عنها حِوَلاً} اي لا يختارون عنها غَيْرَهَا، وَلَا يُحِبُّونَ سِوَاهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَحَلَّتْ سُوَيْدَا القَلْبِ لَا أنَا بَاغيًا * سِوَاهَا، ولا عن حبها أتحول.

وفي قوله تعالى: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} تَنْبِيهٌ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِيهَا وَحُبِّهِمْ لَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِيمَنْ هُوَ مُقِيمٌ فِي الْمَكَانِ دَائِمًا أَنَّهُ قد يَسْأَمُهُ أَوْ يَمَلُّهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الدَّوَامِ وَالْخُلُودِ السَّرْمَدِيِّ لَا يَخْتَارُونَ عَنْ مُقَامِهِمْ ذَلِكَ مُتَحَوَّلًا وَلَا انْتِقَالًا، وَلَا ظَعْنًا وَلَا رِحْلَةً وَلَا بَدَلًا.

ص: 439

- 109 - قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً

يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَوْ كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ مِدَادًا للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه،

ص: 439

لنفد البحر قبل أن يفرغ كِتَابَةِ ذَلِكَ {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أَيْ بِمِثْلِ الْبَحْرِ آخَرَ ثُمَّ آخَرَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، بُحُورٌ تَمُدُّهُ وَيُكْتَبُ بِهَا لَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ كُلِّهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ:{قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال، قالت قريش لليهود: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح - إلى - وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، وَقَالَ اليهود: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية) يقول: لو كانت تلك البحور مِدَادًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَالشَّجَرُ كُلُّهُ أَقْلَامٌ، لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ وَفَنِيَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قَائِمَةً لَا يُفْنِيهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدُرَ قَدْرَهُ وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَنْبَغِي، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، إِنَّ رَبَّنَا كَمَا يَقُولُ وَفَوْقَ ما نقول، إن مثل نعيم الدينا أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ كَحَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فِي خِلَالِ الْأَرْضِ كُلِّهَا.

ص: 440

- 110 - قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً

يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه {قُلْ} لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ إِلَيْهِمْ {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، فَمَنْ زَعَمَ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْمَاضِي، عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ فِي نَفْسِ الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وإنما أُخْبِرُكُمْ {أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ} الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ {إِلَهٌ وَاحِدٌ} لَاّ شَرِيكَ لَهُ، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} أَيْ ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللَّهِ، {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانَ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن طاووس قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} ، وجاء رَجُلٌ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَقَالَ أَنْبِئْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا يُصَلِّي يَبْتَغِي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ، فَقَالَ عُبَادَةُ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعِي شريك فهو له كله ولا حاجة لي فيه.

وروى الإمام أحمد، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبْكَانِي. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله!

ص: 440

أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بِأَعْمَالِهِمْ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ» (أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه). (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يرويه عن الله عز وجل أَنَّهُ قَالَ:«أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بريء منه وهو للذي أشرك» . (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَاّ رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عن الشرك"(رواه أحمد والترمذي وابن ماجه). (حديث آخر): عَنْ أنَس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، في صحف مختمة، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي، وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا ما أريد به وجهي"(أخرجه الحافظ أبو بكر البزار). وَعَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ عز وجل» (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي).

ص: 441

-‌

‌ 19 - سورة مريم

ص: 442

[مقدمة]

وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ مِنْ حَدِيثِ أُم سَلَمَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ إِلَى أرض الحشبة مِنْ مَكَّةَ، أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَرَأَ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ.

ص: 442

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

ص: 442

- 1 - كهيعص

- 2 - ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ

- 3 - إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً

- 4 - قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا

- 5 - وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً

- 6 - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً

أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ البقرة. وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} أي هذا ذكر رحمة الله عبده زكريا، وزكريا يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَكَانَ نَبِيًّا عَظِيمًا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده فِي النِّجَارَةِ، وَقَوْلُهُ:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا أَخْفَى دُعَاءَهُ لِئَلَّا يُنْسَبَ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ إِلَى الرُّعُونَةِ لكبره، حكاه الماوردي، وقال الآخرون: إِنَّمَا أَخْفَاهُ لِأَنَّهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً}: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ التَّقِيَّ، وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ عليه السلام وَقَدْ نَامَ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ يَقُولُ خُفْيَةً: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، فَقَالَ اللَّهُ له: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أَيْ ضَعُفَتْ وَخَارَتِ الْقُوَى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أَيِ اضْطَرَمَ الْمَشِيبُ فِي السَّوَادِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الإخبارُ عَنِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، وَدَلَائِلِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَقَوْلُهُ:{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أَيْ وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلَّا الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ فِيمَا سَأَلْتُكَ، وَقَوْلُهُ:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي} ، قال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة، ووجه خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا مِنْ بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا، فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدَا يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يُوحَى إِلَيْهِ، فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من ورائه عَصَبَاتِهِ لَهُ، وَيَسْأَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ليحوز ميراثه

ص: 442

-‌

‌ 56 - سورة الواقعة

ص: 427

رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود بسنده عَنْ أَبِي ظَبْيَةَ قَالَ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَعَادَهُ (عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) فَقَالَ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي، قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي، قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِطَبِيبٍ؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي، قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِعَطَاءٍ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، قَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ؟ إِنِّي أَمَرْتُ بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لم تصبه فاقة أبداً» (رواه ابن عساكر وأبو يعلى، وقال بعده: فكان أبو ظبية لا يدعها). وروى أحمد عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كَنَحْوٍ مِنْ صَلَاتِكُمُ، الَّتِي تُصَلُّونَ الْيَوْمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ كَانَتْ صَلَاتُهُ أَخَفَّ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَكَانَ يَقْرَأُ في الفجر الواقعة ونحوها من السور (رواه الإمام أحمد في المسند).

ص: 427

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 427

- 1 - إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ

- 2 - لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ

- 3 - خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ

- 4 - إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا

- 5 - وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً

- 6 - فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً

- 7 - وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً

- 8 - فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ

- 9 - وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ

- 10 - وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ

- 11 - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ

- 12 - فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

الْوَاقِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحَقُّقِ كَوْنِهَا وَوُجُودِهَا كَمَا قال تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} وقوله تعالى: {لَّيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أَيْ لَيْسَ لِوُقُوعِهَا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلَا دَافِعٌ يَدْفَعُهَا، كَمَا قَالَ:{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} ، وَقَالَ:{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دافع} ، ومعنى {كَاذِبَةٌ} أي لابد أن تكون، وقال قتادة: لَّيْسَ فيها ارْتِدَادٌ وَلَا رَجْعَةٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:

ص: 427

والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية، وقوله تعالى:{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي تخفض أَقْوَامًا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِلَى الْجَحِيمِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَعِزَّاءَ، وَتَرْفَعُ آخَرِينَ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَإِنْ كَانُوا في الدنيا وضعاء، وعن ابن عباس:{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} تخفض أقواماً وترفع آخرين، وقال عثمان بن سراقة: السَّاعَةُ خَفَضَتْ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، وَرَفَعَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: تَخْفِضُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ، وَتَرْفَعُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَخْفُوضِينَ، وَقَالَ السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين، وقوله تعالى:{إِذاً رُجَّتِ الْأَرْضُ رجَّاً} أَيْ حُرِّكَتْ تَحْرِيكًا فَاهْتَزَّتْ وَاضْطَرَبَتْ بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رجَّاً} أَيْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالًا، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: تُرَجُّ بِمَا فِيهَا كرج الغربال بما فيه، كقوله تعالى:{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زلزالها} ، وقال تعالى:{إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} ، وقوله تعالى:{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} أَيْ فُتِّتَتْ فَتًّا، قَالَهُ ابن عباس ومجاهد، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَارَتِ الْجِبَالُ كَمَا قَالَ الله تعالى {كثيباً مهيلاً} ، وقوله تعالى:{فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: هَبَاءً مُنْبَثًّا كَرَهَجِ الْغُبَارِ يَسْطَعُ ثُمَّ يَذْهَبُ فَلَا يَبْقَى منه شيء، وقال ابن عباس: الهباء الذي يطير من النار إذا اضرمت يَطِيرُ مِنْهُ الشَّرَرُ، فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شيئاً، وقال عكرمة: المنبث الذي قد ذَرَّتْهُ الرِّيحُ وَبَثَّتْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ:{هَبَاءً مُّنبَثّاً} كيابس الشَّجَرِ الَّذِي تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَأَخَوَاتِهَا الدَّالَةِ عَلَى زَوَالِ الْجِبَالِ عَنْ أَمَاكِنِهَا يَوْمَ القيامة، وذهابها وَنَسْفِهَا أَيْ قَلْعِهَا وَصَيْرُورَتِهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} أَيْ يَنْقَسِمُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: قَوْمٌ عَنْ يَمِينِ العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، وَهُمْ جُمْهُورُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَآخَرُونَ عَنْ يَسَارِ العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم وَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ النار، وطائفة سابقون بين يديه عز وجل وَهُمْ أحظى وأقرب من أصحاب اليمين، فِيهِمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ، وَهُمْ أَقَلُّ عدداً من أصحاب اليمين، لهذا قال تعالى:{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} ، وَهَكَذَا قَسَّمَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَقْتَ احْتِضَارِهِمْ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} الآية وَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ كما تقدم بيانه، قال ابن عباس {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} قَالَ: هِيَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} قَالَ: أَصْنَافًا ثَلَاثَةً، وقال مجاهد:{وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} يَعْنِي فِرَقًا ثَلَاثَةً، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أفواجاً ثَلَاثَةً، اثْنَانِ فِي الْجَنَّةِ وَوَاحِدٌ فِي النَّارِ، قال مُجَاهِدٍ:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَهْلُ عِلِّيِّينَ، وَقَالَ ابْنُ سيرين {والسابقون السابقون} الذين صلوا إلى القبلتين، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أَيْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ، أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ثُمَّ قَالَ: أَوَّلُهُمْ رَوَاحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَوَّلُهُمْ خُرُوجًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّابِقِينَ هُمُ الْمُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ الْخَيِّرَاتِ، كَمَا أُمِرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} ، وقال تَعَالَى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء

ص: 428

والأرض}، فمن سابق في هَذِهِ الدُّنْيَا وَسَبَقَ إِلَى الْخَيْرِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْكَرَامَةِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكَمَا تَدِينُ تُدان، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، وقال ابن أبي حاتم، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ جَعَلْتَ لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَرَاجَعُوا ثَلَاثًا، فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي، كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ؛ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو موقوفاً).

ص: 429

- 13 - ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ

- 14 - وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ

- 15 - عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ

- 16 - مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ

- 17 - يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ

- 18 - بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ

- 19 - لَاّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ

- 20 - وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ

- 21 - وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ

- 22 - وَحُورٌ عِينٌ

- 23 - كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ

- 24 - جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

- 25 - لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً

- 26 - إِلَاّ قِيلاً سَلَاماً سَلَامًا

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هؤلاء السابقين المقربين أَنَّهُمْ {ثُلَّةٌ} أَيْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ الأولين والآخرين فقيل: المراد بالأولين الأمم الماضية، وبالآخرين هذه الأمة، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَاسْتَأْنَسَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القيامة» ، ولم يحك غيره، وَمِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} شِقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوْ شَطْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُمُ النِّصْفَ الثَّانِي» (أخرجه ابن أبي حاتم والإمام أحمد). وهذا الذي اختاره ابن جرير فِيهِ نَظَرٌ بَلْ هُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرَّبُونَ فِي غَيْرِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَابَلَ مَجْمُوعُ الْأُمَمِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الرَّاجِحُ، وَهُوَ أن يكون المراد بقوله تعالى:{ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} أَيْ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، {وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أَيْ مِنْ هَذِهِ الأمة، قال ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ الْمُزَنِيُّ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فَقَالَ: أَمَّا السَّابِقُونَ فَقَدْ مَضَوْا، وَلَكِنِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أصحاب اليمين، ثم قَرَأَ الْحَسَنُ:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جنات النعيم * ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} قال: ثلة ممن مضى من هذه الأمة. وعن محمد بن سيرين أنه قال في هذاه الْآيَةِ {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ أَوْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. ولاشك أَنَّ أَوَّلَ كُلِّ أُمَّةٍ خَيْرٌ مِنْ آخِرِهَا، فيحتمل أن تعم الآية جَمِيعَ الْأُمَمِ كُلُّ أُمَّةٍ بِحَسْبِهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ

ص: 429

قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (أخرجه الشيخان) الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخره» (أخرجه الإمام أحمد) فهذا الحديث مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ كَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلى أول الأمة في إبلاغه كَذَلِكَ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْقَائِمِينَ بِهِ فِي أواخرها، والفضل للمتقدم، وكذلك الزرع هو محتاج إِلَى الْمَطَرِ الْأَوَّلِ وَإِلَى الْمَطَرِ الثَّانِي، وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ الْكُبْرَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَاحْتِيَاجُ الزَّرْعِ إِلَيْهِ آكَدُ، فَإِنَّهُ لَوْلَاهُ مَا نَبَتَ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَعَلَّقَ أَسَاسُهُ فِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام:«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمتي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خالفهم إلى قيام الساعة» (أخرجاه في الصحيحين).

وفي لفظ: «حتى يأتي أمر الله تعالى وَهُمْ كَذَلِكَ» ، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَالْمُقَرِّبُونَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا وَأَعْلَى مَنْزِلَةً لِشَرَفِ دِينِهَا وَعِظَمِ نَبِيِّهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَفِي لَفْظٍ:«مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا - وَفِي آخَرَ - مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ ألفاً» ؛ وقد روى الحافظ الطبراني، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أما والذي نفسي بِيَدِهِ لَيُبْعَثَنَّ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلَ اللَّيْلِ الْأَسْوَدِ زُمْرَةٌ جَمِيعُهَا يُحِيطُونَ الْأَرْضَ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَمَا جَاءَ مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مِمَّا جَاءَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام» (أخرجه الحافظ الطبراني). وقوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ يَعْنِي مَنْسُوجَةٌ بِهِ (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقتادة والضحّاك)، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ وَاللُّؤْلُؤِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِنْهُ يسمى وَضِينُ النَّاقَةِ الَّذِي تَحْتَ بَطْنِهَا وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ مَضْفُورٌ وَكَذَلِكَ السُّرُرُ فِي الجنة مضفورة بالذهب واللاليء.

وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أَيْ وُجُوهٌ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ لَيْسَ أَحَدٌ وَرَاءَ أَحَدٍ، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أَيْ مُخَلَّدُونَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لا يَشِيبُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أَمَّا الْأَكْوَابُ فَهِيَ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا خَرَاطِيمَ لَهَا وَلَا آذَانَ، وَالْأَبَارِيقُ الَّتِي جَمَعَتِ الوصفين، والكؤوس الْهَنَابَاتُ وَالْجَمِيعُ مِنْ خَمْرٍ مِنْ عَيْنٍ جَارِيَةٍ مَعِينٍ، لَيْسَ مِنْ أَوْعِيَةٍ تَنْقَطِعُ وَتُفْرَغُ بَلْ من عيون سارحة، وقوله تعالى:{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ} أَيْ لَا تصدع رؤوسهم وَلَا تُنْزَفُ عُقُولُهُمْ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ مَعَ الشدة المطربة واللذة الحاصلة، وروى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: «السكْر، وَالصُّدَاعُ، وَالْقَيْءُ، وَالْبَوْلُ» فَذَكَرَ اللَّهُ تعالى خَمْرَ الْجَنَّةِ وَنَزَّهَهَا عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ، وَقَالَ مجاهد وعكرمة {لَاّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} يَقُولُ: لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا صُدَاعُ رَأْسٍ، وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ {وَلَا يُنزِفُونَ} أي لا تذهب بعقولهم، وقوله تعالى:{وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ وَيَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَتَخَيَّرُونَ مِنَ الثِّمَارِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ على صفة التخير لها، روى الطبراني عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعَ ثمرة من الجنة عادت مكانها

ص: 430

أُخرى» (أخرجه الحافظ الطبراني)، وقوله تعالى:{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ طَيْرَ الْجَنَّةِ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ يَرْعَى فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَطَيْرٌ ناعمة، فقال:«آكلها أَنْعَمُ مِنْهَا - قَالَهَا ثَلَاثًا - وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تكون ممن يأكل منها» (أخرجه الإمام أحمد). وقال قتادة في قوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} وذكر لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إني لأرى طيرها ناعماً كأهلها ناعمون، قال:«ومن يَأْكُلُهَا وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ أَنْعَمُ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَأَمْثَالُ الْبُخْتِ وَإِنِّي لَأَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أن تأكل منها يا أبا بكر» . وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْكَوْثَرِ فَقَالَ:«نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عز وجل فِي الْجَنَّةِ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، فِيهِ طُيُورٌ أَعْنَاقُهَا يَعْنِي كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ» فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا» (أخرجه

ابن أبي الدنيا، ورواه الترمذي). وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَتَشْتَهِيهِ فَيَخِرُّ بين يديك مشوياً» (رواه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {وحورٌ عينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} بالرفع وتقديره: ولهم فيها حور عين، وقوله تعالى:{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أَيْ كَأَنَّهُنَّ اللُّؤْلُؤُ الرَّطْبُ في بياضه وصفائه كما تقدم، {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} ، وَلِهَذَا قَالَ:{جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَتْحَفْنَاهُمْ بِهِ مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى ما أحسنوا من العمل.

ص: 431

- 27 - وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابَ الْيَمِينِ

- 28 - فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ

- 29 - وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ

- 30 - وَظِلٍّ مَمْدُودٍ

- 31 - وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ

- 32 - وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ

- 33 - لَاّ مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ

- 34 - وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ

- 35 - إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً

- 36 - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً

- 37 - عُرُباً أَتْرَاباً

- 38 - لأَصْحَابِ الْيَمِينِ

- 39 - ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ

- 40 - وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَآلَ السَّابِقِينَ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ، عَطَفَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمُ الْأَبْرَارُ، كَمَا قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أصحاب اليمين منزلتهم دُونَ الْمُقَرَّبِينَ، فَقَالَ {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ اليمين} أي ما حَالُهُمْ وَكَيْفَ مَآلُهُمْ؟ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ تعالى:{فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ، وَعَنِ ابْنِ عباس: هو الموقر بالثمر، وقال قتادة: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ الْمُوقَرُ الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّ سِدْرَ الدُّنْيَا كَثِيرُ الشَّوْكِ قَلِيلُ الثَّمَرِ، وَفِي الآخرة على العكس مِنْ هَذَا لَا شَوْكَ فِيهِ، وَفِيهِ الثَّمَرُ الكثير الذي أثقل أصله، كما روى الحافظ أبو بكر النجار، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَنْفَعُنَا بِالْأَعْرَابِ وَمَسَائِلِهِمْ، قَالَ: أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَمَا هي؟» قال: السدر، فإن له شوكاً مؤذياً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أليس الله تعالى يَقُولُ: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} خَضَدَ اللَّهُ شَوْكَهُ، فَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً، فَإِنَّهَا لَتُنْبِتُ ثمراً

ص: 431

تَفَتَّقُ الثَّمَرَةُ مِنْهَا عَنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا مِنْ طَعَامٍ مَا فِيهَا لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ"، وَقَوْلُهُ:{وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} الطَّلْحُ: شَجَرٌ عِظَامٌ يَكُونُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، مِنْ شَجَرِ الْعِضَاةِ وَاحِدَتُهُ طَلْحَةٌ، وَهُوَ شَجَرٌ كَثِيرُ الشَّوْكِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ لِبَعْضِ الْحُدَاةِ:

بشَّرها دَلِيلُهَا وَقَالَا * غَدًا تَرَيْنَ الطلح والجبالا

قال مُجَاهِدٌ {مَّنضُودٍ} : أَيْ مُتَرَاكِمُ الثَّمَرِ، يُذَكِّرُ بِذَلِكَ قُرَيْشًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْجَبُونَ مِنْ وَجٍّ وَظِلَالِهِ من طلح وسدر، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُشْبِهُ طَلْحَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ لَهُ ثَمَرٌ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالطَّلْحُ لُغَةٌ فِي الطَّلْعِ، (قُلْتُ) وَقَدْ رَوَى أن علياً يقول هذا الحرف في {طلح مَّنضُودٍ} قَالَ: طَلْعٌ مَنْضُودٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ صِفَةِ السِّدْرِ، فَكَأَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَخْضُودٌ وَهُوَ الَّذِي لَا شَوْكَ لَهُ، وَأَنَّ طَلْعَهُ منضود، وهو كثرة ثمره والله أعلم. وعن أبي سعيد {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} قال: الموز (وهو قول ابن عباس وأبي هريرة والحسن وعكرمة وقتادة وغيرهم)، وأهل الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الْمَوْزَ: الطَّلْحَ، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جرير غير هذا القول، وقوله تعالى:{وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} روى البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شجرة يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها، اقرأوا إن شئتم {وَظِلٍّ ممدود} (رواه البخاري ومسلم). وقال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرأوا إن شئتم {وظل ممدود} (أخرجه أحمد ورواه الشيخان). وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضْمَرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يقطعها» (أخرجه الشيخان)، فَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وآله وَسَلَّمَ بَلْ مُتَوَاتِرٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ النُّقَّادِ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ وَقُوَّةِ أَسَانِيدِهِ وَثِقَةِ رجاله. وقال الترمذي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا فِي الْجَنَّةِ شجرة إلا ساقها من ذهب» (أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب). وقال الضحّاك والسدي في قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} لَا يَنْقَطِعُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا حَرٌّ مِثْلُ قَبْلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَالَ ابن مسعود: الجنة سَجْسَج (سَجْسَج: أي لا حر ولا برد) كَمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وقد تقدمت الآيات كقوله تعالى:{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} وقوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وظلها} ، وقوله {فِي ظِلَالٍ وعيون} إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى:{وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} قال الثوري: يَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية، بما أغنى عن إعادته ههنا.

وقوله تَعَالَى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَاّ مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} أَيْ وَعِنْدَهُمْ مِنَ الْفَوَاكِهِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي الْأَلْوَانِ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خطر على قلب بشر، كما قال تَعَالَى:{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} أَيْ يُشْبِهُ الشَّكْلُ الشَّكْلَ، وَلَكِنَّ الطَّعْمَ غَيْرُ الطَّعْمِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ

ص: 432

في ذكر سدرة المنتهى: فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَنَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هجر، وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ إِذْ تَقَدَّمُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَقَدَّمْنَا مَعَهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا لِيَأْخُذَهُ ثُمَّ تَأَخَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ الْيَوْمَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا مَا كُنْتَ تَصْنَعُهُ، قَالَ:«إِنَّهُ عُرِضَتْ عليَّ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ لِآتِيَكُمْ بِهِ فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا ينقص منه» (أخرجه الحافظ أبو يعلى وأخرجه مسلم بنحوه). وقوله تعالى: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} أَيْ لَا تَنْقَطِعُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، بَلْ أُكُلُهَا دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا، مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ بقدرة الله شيء، وقال قَتَادَةُ: لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَنَاوُلِهَا عُودٌ وَلَا شَوْكٌ وَلَا بُعْدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ:«إِذَا تَنَاوَلَ الرَّجُلُ الثَّمَرَةَ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى» .

وقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة، روى النسائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} قَالَ: «ارْتِفَاعُهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام» (أخرجه النسائي والترمذي وقال: حسن غريب). وعن الْحَسَنِ: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} قَالَ: ارْتِفَاعُ فِرَاشِ الرَّجُلِ من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة (أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري موقوفاً)، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} جَرَى الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، لَكَنْ لَمَّا دَلَّ السِّيَاقُ وَهُوَ ذِكْرُ الْفُرُشِ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي يُضَاجِعْنَ فِيهَا اكْتَفَى بِذَلِكَ عن ذكرهَّن وعاد الضمير عليهن، قال الأخفش في قوله تعالى {أنا أنشأهن} أضمرهن ولم يذكرن قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذُكِرْنَ فِي قوله تعالى:{وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} ، فقوله تعالى:{إنا أَنشَأْنَاهُنَّ} أي أعدناهن في النشأة الأُخرى بعد ما كُنَّ عَجَائِزَ رُمْصًا، صِرْنَ {أَبْكَاراً عُرُباً} أَيْ بعد الثيوبة عدن أبكاراً عرباً، مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْحَلَاوَةِ وَالظَّرَافَةِ وَالْمَلَاحَةِ، وَقَالَ بعضهم {عُرُباً} أي غنجات، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً قَالَ: نِسَاءٌ عَجَائِزُ كنَّ فِي الدُّنْيَا عمشاً رمصاً"(أخرجه الترمذي وابن أبي حاتم وقال الترمذي: غريب). وعن سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً} يَعْنِي الثَّيِّبَ وَالْأَبْكَارَ اللَّاتِي كُنَّ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: أَتَتْ عَجُوزٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادع الله تعالى أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلَانٍ إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ» قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي، قَالَ: أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا، وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنشآء فجعلناهن أبكاراً} (أخرجه التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ).

وعن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أخبرني عن قول الله تعالى: {حُورٌ عِينٌ} قَالَ: «حُورٌ» بِيضٌ «عِينٌ» ضِخَامُ الْعُيُونِ، شُفْرُ الْحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قوله تعالى: {كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} قَالَ: «صَفَاؤُهُنَّ صَفَاءُ الدَّرِّ الَّذِي فِي الْأَصْدَافِ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي» قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قَالَ: «خَيِّرَاتُ الْأَخْلَاقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ» ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عن قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} قال:

ص: 433

«رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الْجِلْدِ الَّذِي رَأَيْتَ فِي دَاخِلِ البيضة مما يلي القشر وهو الغرقيء» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: {عُرُباً أَتْرَاباً} قَالَ: «هُنَّ اللَّوَاتِي قُبِضْنَ فِي الدار الدُّنْيَا عَجَائِزَ رُمْصًا شُمْطًا خَلَقَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَجَعَلَهُنَّ عَذَارَى عُرُبًا مُتَعَشِّقَاتٍ مُحَبَّبَاتٍ أَتْرَابًا عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ أَمِ الْحُورُ الْعِينِ؟ قَالَ: «بَلْ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

وَبِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: "بِصَلَاتِهِنَّ وَصِيَامِهِنَّ وَعِبَادَتِهِنَّ اللَّهَ عز وجل، أَلْبَسَ اللَّهُ وُجُوهَهُنَّ النُّورَ، وَأَجْسَادَهُنَّ الْحَرِيرَ، بِيضُ الْأَلْوَانِ خُضْرُ الثِّيَابِ، صُفْرُ الْحُلِيِّ، مَجَامِرُهُنَّ الدُّرُّ، وَأَمْشَاطُهُنَّ الذَّهَبُ، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ أَبَدًا، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ أَبَدًا، وَنَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلَا نَظْعَنُ أَبَدًا، أَلَا وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا، طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَانَ لَنَا"، قُلْتُ: يَا رسول الله! المرأة منا تتزوج الزوجين وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ، ثُمَّ تَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ زَوْجَهَا؟ قَالَ:"يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، فَتَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا كَانَ أَحْسَنَ خُلُقًا مَعِي فَزَوِّجْنِيهِ، يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الخلق بخير الدنيا والآخرة"(رواه أبو القاسم الطبراني). وفي الحديث: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا جَامَعُوا نِسَاءَهُمْ عُدْنَ أبكاراً» (أخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَصِلُ إِلَى نِسَائِنَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصِلُ فِي الْيَوْمِ إِلَى مِائَةِ عذراء» (رواه الطبراني وقال الحافظ المقدسي: هو على شرط الصحيح).

وقوله تعالى: {عُرُباً} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى النَّاقَةِ الضُّبَعَةِ هِيَ كَذَلِكَ، وَقَالَ الضحّاك عنه: العرب العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون، وقال عكرمة: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ {عُرُباً} قَالَ: هي المَلِقة لزوجها، وقال عكرمة: هي الغنجة، وعنه: هي الشكلة، وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {عُرُباً} قَالَ: الشِّكِلَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْغَنِجَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ حَذْلَمٍ: هِيَ حسن التبعل، وقوله {أَتْرَاباً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِي سِنٍّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَتْرَابُ: الْمُسْتَوِيَاتُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْأَمْثَالُ، وَقَالَ عَطِيَّةُ: الْأَقْرَانُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {أَتْرَاباً} أَيْ فِي الْأَخْلَاقِ الْمُتَوَاخِيَاتُ بَيْنَهُنَّ، لَيْسَ بَيْنَهُنَّ تَبَاغُضٌ وَلَا تَحَاسُدٌ، يَعْنِي لَا كما كن ضرائر متعاديات، وقال ابن أبي حاتم، عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ {عُرُباً أَتْرَاباً} قَالَا: الْمُسْتَوَيَاتُ الْأَسْنَانِ يَأْتَلِفْنَ جَمِيعًا وَيَلْعَبْنَ جَمِيعًا، وَقَدْ رَوَى الترمذي، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمُجْتَمَعًا لِلْحُورِ الْعِينِ يَرْفَعْنَ أَصْوَاتًا لم تسمع الخلائق بمثلها - قال - يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ، وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ، طُوبَى لمن كان لنا وكنا له"(أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب). وعن أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْحُورَ الْعِينَ لَيُغَنِّينَ فِي الْجَنَّةِ يَقُلْنَ: نَحْنُ خَيِّرَاتٌ حِسَانٌ خُبِّئْنَا لِأَزْوَاجٍ كرام"(أخرجه الحافظ أبو يعلى). وقوله تعالى: {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ خُلِقْنَا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ أَوِ زُوِّجْنَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {إنآ أنشأناهن إنشآء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} فَتَقْدِيرُهُ أَنْشَأْنَاهُنَّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ ابْنِ جرير، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَتْرَاباً

ص: 434

لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ فِي أَسْنَانِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى ضَوْءِ أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يتفلون، ولا يتمخطون؛ أمشاطهم الذهب وريحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأرواحهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السماء» (أخرجه الشيخان). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَهُمْ عَلَى خَلْقِ آدَمَ سِتُّونَ ذراعاً في عرض سبعة أذرع» (أخرجه الطبراني ورواه الترمذي بنحوه). وروى ابن وهب، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ يُرَدُّونَ بَنِي ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَزِيدُونَ عليها أبداً وكذلك أهل النار» . وروى ابن أبي الدنيا، عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى طُولِ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْمَلِكِ! عَلَى حُسْنِ يُوسُفَ وَعَلَى مِيلَادِ عِيسَى ثَلَاثٍ وثلاثين وَعَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ» ، وَقَالَ أبو بكر بن أبي داود، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُبْعَثُ أَهْلُ الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ. ثُمَّ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَيُكْسَوْنَ مِنْهَا لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ» ، وَقَوْلُهُ تعالى:{ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أَيْ جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هما جميعاً من أُمتي» (أخرجه ابن جرير).

ص: 435

- 41 - وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ

- 42 - فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ

- 43 - وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ

- 44 - لَاّ بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ

- 45 - إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ

- 46 - وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ

- 47 - وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ

- 48 - أَوَ آبَآؤُنَا الْأَوَّلُونَ

- 49 - قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ

- 50 - لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ

- 51 - ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ

- 52 - لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ

- 53 - فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ

- 54 - فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ

- 55 - فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ

- 56 - هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، عَطَفَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ أَصْحَابِ الشِّمَالِ فَقَالَ:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ} أَيْ أيُّ شَيْءٍ هُمْ فِيهِ أَصْحَابُ الشِّمَالِ؟ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ: {فِي سَمُومٍ} وَهُوَ الْهَوَاءُ الْحَارُّ، {وَحَمِيمٍ} وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظل الدخان (وبه قال مجاهد وعكرمة وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ)، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْطَلِقُوا

ص: 435

إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَاّ ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهب} ولهذا قال ههنا: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} وَهُوَ الدُّخَّانُ الْأَسْوَدُ {لَاّ بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} أَيْ لَيْسَ طَيِّبَ الْهُبُوبِ، ولا حسن المنظر {وَلَا كَرِيمٍ} أَيْ وَلَا كَرِيمِ الْمَنْظَرِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ شَرَابٍ لَيْسَ بِعَذْبٍ فَلَيْسَ بِكَرِيمٍ، قال ابْنُ جَرِيرٍ: الْعَرَبُ تَتْبَعُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي النَّفْيِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا الطَّعَامُ لَيْسَ بِطَيِّبٍ وَلَا كَرِيمٍ، هَذَا اللَّحْمُ لَيْسَ بِسَمِينٍ وَلَا كَرِيمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِحْقَاقَهُمْ لِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أَيْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مُنَعَّمِينَ، مُقْبِلِينَ عَلَى لَذَّاتِ أنفسهم، {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ} أي يقيمون وَلَا يَنْوُونَ تَوْبَةً {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} ، وَهُوَ الكفر بالله، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحِنْثِ الْعَظِيمِ: الشِّرْكُ (وَكَذَا قال مجاهد وعكرمة والضحّاك وقتادة)، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ {وَكَانُواْ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الْأَوَّلُونَ} يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مُكَذِّبِينَ بِهِ مُسْتَبْعِدِينَ لِوُقُوعِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أَيْ أَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ سَيُجْمَعُونَ إِلَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ لا يغادر منهم أحد، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مشهود} ، ولهذا قال ههنا:{لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أَيْ هُوَ موقت بوقت محدود لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقْبَضُونَ وَيُسَجَّرُونَ حَتَّى يَأْكُلُوا مِنْ شجر الزقوم حتى يملأوا مِنْهَا بُطُونَهُمْ، {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} وَهِيَ الْإِبِلُ الْعِطَاشُ وَاحِدُهَا أَهْيَمُ وَالْأُنْثَى هَيْمَاءُ، وَيُقَالُ: هَائِمٌ وَهَائِمَةٌ، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: الهيم الإبل العطاش الظماء، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْهِيمُ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فَلَا تَرْوَى أَبَدًا حَتَّى تَمُوتَ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ جَهَنَّمَ لا يرون من الحميم أبداً، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أَيْ هَذَا الَّذِي وَصَفْنَا هُوَ ضِيَافَتُهُمْ عِنْدَ ربهم يوم حسابهم، كما قال تعالى في حق المؤمنين:{كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً} أَيْ ضِيَافَةً وَكَرَامَةً.

ص: 436

- 57 - نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ

- 58 - أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ

- 59 - أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ

- 60 - نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ

- 61 - عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ

- 62 - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ

يَقُولُ تعالى مقرراً للمعاد، وراداً على المكذبين به من أهل الزيع والإلحاد، {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أَيْ نَحْنُ ابْتَدَأْنَا خَلْقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، أَفَلَيْسَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى الْبَدَاءَةِ، بِقَادِرٍ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الأولى والأحرى؟ ولهذا قَالَ:{فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} ؟ أَيْ فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ! ثم قال تعالى مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ؟ أَيْ أَنْتُمْ تُقِرُّونَهُ فِي الْأَرْحَامِ وَتَخْلُقُونَهُ فِيهَا أَمِ اللَّهُ الْخَالِقُ لذلك؟ ثم قال تعالى {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أَيْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَكُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سَاوَى فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَيْ وَمَا نَحْنُ بِعَاجِزِينَ {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أَيْ نُغَيِّرُ خلقكم يوم القيامة، {وننشئكم فيما لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ، ثُمَّ قال تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} أَيْ قد علمتم

ص: 436

أَنَّ اللَّهَ أَنْشَأَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، فَخَلَقَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، فَهَلَّا تَتَذَكَّرُونَ وَتَعْرِفُونَ أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى هَذِهِ النَّشْأَةِ وَهِيَ الْبَدَاءَةُ قَادِرٌ عَلَى النَّشْأَةِ الأُخرى وَهِيَ الْإِعَادَةُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} ، وقال تعالى:{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} ، وقال تَعَالَى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ، وقال تعالى:{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يحيي الموتى} ؟

ص: 437

- 63 - أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ

- 64 - أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ

- 65 - لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ

- 66 - إِنَّا لَمُغْرَمُونَ

- 67 - بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ

- 68 - أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ

- 69 - أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ

- 70 - لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ

- 71 - أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ

- 72 - أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ

- 73 - نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ

- 74 - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ

يَقُولُ تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ؟ وَهُوَ شَقُّ الْأَرْضِ وَإِثَارَتُهَا وَالْبَذْرُ فِيهَا، {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} ؟ أَيْ تُنْبِتُونَهُ فِي الْأَرْضِ {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ؟ أَيْ بَلْ نَحْنُ الذي نقره قراره وننبته في الأرض، روى عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وَأَمْثَالَهَا، يَقُولُ: بل أنت يا رب، وقوله تعالى:{لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أَيْ نَحْنُ أَنْبَتْنَاهُ بِلُطْفِنَا وَرَحْمَتِنَا، وَأَبْقَيْنَاهُ لَكُمْ رَحْمَةً بِكُمْ، وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً، أَيْ لَأَيْبَسْنَاهُ قَبْلَ اسْتِوَائِهِ وَاسْتِحْصَادِهِ، {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{إنا لمغرومون * بل نحن محرمون} أَيْ لَوْ جَعَلْنَاهُ حُطَامًا لَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ فِي المقالة تنوعون كلامكم، فتقولون تارة {إن لمغرومون} أَيْ لَمُلْقَوْنَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِنَّا لَمُولَعٌ بِنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُعَذَّبُونَ، وَتَارَةً تَقُولُونَ:{بَلْ نَحْنُ محرمون} أَيْ لَا يَثْبُتُ لَنَا مَالٌ وَلَا يَنْتُجُ لَنَا رِبْحٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي مجدودون يعني لا حظ لنا، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تَعْجَبُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تُفْجَعُونَ وَتَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ زَرْعِكُمْ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ التَّعَجُّبُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُصِيبُوا فِي مَالِهِمْ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تُلَاوِمُونَ، وَقَالَ الحسن وقتادة {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تَنْدَمُونَ، وَمَعْنَاهُ إِمَّا عَلَى مَا أَنْفَقْتُمْ أَوْ عَلَى مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: تَفَكَّهَ مِنَ الْأَضْدَادِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: تَفَكَّهْتُ بِمَعْنَى تَنَعَّمْتُ، وَتَفَكَّهْتُ بِمَعْنَى حَزِنْتُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أنزلمتوه مِنَ المزن} ، يعني السحاب، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} ، يَقُولُ بَلْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي زعافاً مُرًّا لَا يَصْلُحُ لِشُرْبٍ وَلَا زَرْعٍ، {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} أَيْ فَهَلَّا تَشْكُرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ عَلَيْكُمْ عَذْبًا زُلَالًا، {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} روى ابن أبي حاتم، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ قَالَ:«الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي سَقَانَا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْحًا أُجَاجًا بذنوبنا» (أخرجه ابن أبي حاتم) ثُمَّ قَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أَيْ

ص: 437

تَقْدَحُونَ مِنَ الزِّنَادِ وَتَسْتَخْرِجُونَهَا مِنْ أَصْلِهَا {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشؤن} أَيْ بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ جَعَلْنَاهَا مُودَعَةً فِي مَوْضِعِهَا، وَلِلْعَرَبِ شَجَرَتَانِ: إِحْدَاهُمَا (الْمَرْخُ) والأُخْرى (الْعَفَارُ) إِذَا أُخِذَ مِنْهُمَا غُصْنَانِ أَخْضَرَانِ فَحُكَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ تَنَاثَرَ مِنْ بَيْنِهِمَا شَرَرُ النَّارِ، وَقَوْلُهُ تعالى:{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيْ تذكر النار الكبرى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن ناركم هذه جزء من سبعين جزء مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» (أخرجه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً)، وقال الإمام مالك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«نَارُ بَنِي آدَمَ التي يوقدون جزء من سبعين جزء مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، فَقَالَ:«إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً» ، وَفِي لَفْظٍ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» (أخرجه مالك ورواه البخاري ومسلم).

وقوله تعالى: {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} قال ابن عباس ومجاهد: يعني بالمقوين المسافرين، واختاره ابن جرير، وقال ابن أسلم: المقوي ههنا الجائع، وقال ليث، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ}: لِلْحَاضِرِ وَالْمُسَافِرِ، لِكُلٍّ طعام لا يصلحه إلا النار، وعنه {لِّلْمُقْوِينَ} يعني المستمتعين من الناس أجمعين، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ والبادي من غني وفقير، الجميع محتاجون إليها لِلطَّبْخِ وَالِاصْطِلَاءِ وَالْإِضَاءَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، ثم من لطف الله تعالى أَوْدَعَهَا فِي الْأَحْجَارِ وَخَالِصِ الْحَدِيدِ، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْمُسَافِرُ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ فِي مَتَاعِهِ وَبَيْنَ ثِيَابِهِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَنْزِلِهِ أَخْرَجَ زَنْدَهُ وَأَوْرَى وَأَوْقَدَ نَارَهُ فَأَطْبَخَ بِهَا واصطلى بها وَاشْتَوَى وَاسْتَأْنَسَ بِهَا، وَانْتَفَعَ بِهَا سَائِرَ الِانْتِفَاعَاتِ، فَلِهَذَا أُفْرِدَ الْمُسَافِرُونَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا في حق الناس كلهم، وفي الحديث:"الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: النَّارِ وَالْكَلَأِ وَالْمَاءِ"(أخرجه أحمد وأبو داود)، وفي رواية:"ثلاثة لا يمنعن: الماء والكلأ والنار"(أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن). وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بسم رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أَيِ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ خَلَقَ هَذِهِ الأشياء المختلفة المتضادة، الماء الزلال العذب الْبَارِدَ، وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ مِلْحًا أُجَاجًا كَالْبِحَارِ الْمُغْرِقَةِ، وَخَلَقَ النَّارَ الْمُحْرِقَةَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ، وَجَعَلَ هَذِهِ مَنْفَعَةً لَهُمْ فِي مَعَاشِ دنياهم، وزجراً لَهُمْ فِي الْمَعَادِ.

ص: 438

- 75 - فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ

- 76 - وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ

- 77 - إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ

- 78 - فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ

- 79 - لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ

- 80 - تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ

- 81 - أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ

- 82 - وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ

قال الضحّاك: إن الله تعالى لَا يُقْسِمُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتِفْتَاحٌ يَسْتَفْتِحُ بِهِ كَلَامَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، وَالَّذِي عليه الجمهور أنه قسم من الله تعالى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَتِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ:

ص: 438

(لا) ههنا زائدة، وتقديره: أقسم بمواقع النجوم، وَيَكُونُ جَوَابُهُ:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ، وَقَالَ آخَرُونَ: ليست (لا) زائدة بَلْ يُؤْتَى بِهَا فِي أَوَّلِ الْقَسَمِ إِذَا كان مقسماً به على منفي، تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ، وَقَالَ بعضهم: مَعْنَى قَوْلِهِ {فَلَا أُقْسِمُ} : فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تقولون، ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل اقسم (ذكره ابن جرير عن بعض أهل العربية)، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:{بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي نُجُومَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ جُمْلَةً لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَرَّقًا فِي السِّنِينَ بَعْدُ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ، وقال مجاهد:{مواقع النجوم} في السماء ويقال مطالعها ومشارقها، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ: مَوَاقِعُهَا: منازلها، وعن الحسن: أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة، وَقَوْلُهُ {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أَيْ وَإِنَّ هَذَا الْقَسَمَ الَّذِي أَقْسَمْتُ بِهِ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ، لَوْ تَعْلَمُونَ عَظَمَتَهُ لَعَظَّمْتُمُ الْمُقْسِمَ بِهِ، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أَيْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ لَكِتَابٌ عَظِيمٌ {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} أي معظم في كتاب محفوظ موقر، عن ابن عباس قال: الكتاب الذي فِي السماء، {لَاّ يَمَسُّهُ إِلَاّ المطهرون} يعني الملائكة، وقال ابن جرير، عَنْ قَتَادَةَ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قَالَ: لَا يَمَسُّهُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَمَسُّهُ الْمَجُوسِيُّ النَّجِسُ، وَالْمُنَافِقُ الرجس، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} لَيْسَ أَنْتُمْ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: زَعَمَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لمعزولون} ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ، وقال آخرون: ههنا الْمُصْحَفُ، كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مخافة أن يناله العدو» (أخرجه مسلم في صحيحه)، واحتجوا بما رواه الإمام مالك أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أن «لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَرَأْتُ في صحيفة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» ، وَهَذِهِ وِجَادَةٌ جَيِّدَةٌ قَدْ قَرَأَهَا الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي الْأَخْذُ به.

وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُونَ إِنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ شِعْرٌ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فيه، وليس وراءه حق نافع، وقوله تعالى:{أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} قال ابن عباس: أي مكذبون غير مصدقين، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{مُّدْهِنُونَ} أَيْ تُرِيدُونَ أَنْ تُمَالِئُوهُمْ فِيهِ وَتَرْكَنُوا إِلَيْهِمْ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال بعضهم: معنى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} بمعنى شكركم أنكم تكذبون بدل الشكر، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَتَجْعَلُونَ» رِزْقَكُمْ يَقُولُ: شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، تَقُولُونَ: مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا" (أخرجه أحمد وابن أبي حاتم، ورواه الترمذي وقال: حسن غريب)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}

ص: 439

قَالَ: قَوْلُهُمْ فِي الْأَنْوَاءِ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَبِنَوْءِ كَذَا يَقُولُ: قُولُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ رِزْقُهُ (وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا الْحَسَنُ فَكَانَ يَقُولُ: بِئْسَ مَا أَخَذَ قَوْمٌ لِأَنْفُسِهِمْ، لَمْ يُرْزَقُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا التَّكْذِيبَ،

فَمَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا وَتَجْعَلُونَ حَظَّكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ قَبْلَهُ:{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} .

ص: 440

- 83 - فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ

- 84 - وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ

- 85 - وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ

- 86 - فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ

- 87 - تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ

يَقُولُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ} أَيِ الرُّوحُ {الْحُلْقُومَ} أَيِ الْحَلْقَ وَذَلِكَ حِينَ الاحتضار كما قال تعالى: {كَلَاّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} ، ولهذا قال ههنا {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أَيْ إِلَى الْمُحْتَضَرِ وَمَا يُكَابِدُهُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أَيْ بِمَلَائِكَتِنَا {وَلَكِنْ لَاّ تُبْصِرُونَ} أَيْ ولكن لا ترونهم كما قال تعالى في الآية الأُخرى:{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} . وقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ} مَعْنَاهُ فَهَلَّا تَرْجِعُونَ هَذِهِ النَّفْسَ الَّتِي قَدْ بَلَغَتِ الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الْجَسَدِ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، قَالَ ابْنُ عباس: يعني محاسبين (وهو قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحّاك وقتادة)، وقال سعيد بن جبير {غَيْرَ مَدِينِينَ} غَيْرَ مُصَدِّقِينَ أَنَّكُمْ تُدَانُونَ وَتُبْعَثُونَ وَتُجْزَوْنَ فَرُدُّوا هَذِهِ النَّفْسَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ {غَيْرَ مَدِينِينَ} غَيْرَ مُوقِنِينَ، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: غَيْرَ مُعَذَّبِينَ مَقْهُورِينَ.

ص: 440

- 88 - فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ

- 89 - فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ

- 90 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ

- 91 - فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ

- 92 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ

- 93 - فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ

- 94 - وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ

- 95 - إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ

- 96 - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ

هَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَحْوَالُ النَّاسِ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ دُونَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من المكذبين بالحق، الضَّالِّينَ عَنِ الْهُدَى، الْجَاهِلِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَأَمَّآ إِن كَانَ} أَيِ الْمُحْتَضَرُ {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وَهُمُ الَّذِينَ فَعَلُوا الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَبَعْضَ الْمُبَاحَاتِ، {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أَيْ فَلَهُمْ رَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَتُبَشِّرُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ تَقُولُ: أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، كُنْتِ تُعَمِّرِينَهُ اخرجه إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَرَوْحٌ} يَقُولُ: رَاحَةٌ {وَرَيْحَانٌ} يَقُولُ: مُسْتَرَاحَةٌ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الرَّوْحَ الِاسْتِرَاحَةُ، وقال أبو حرزة: الرَّاحَةُ مِنَ الدُّنْيَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرَّوْحُ الْفَرَحُ، وَعَنْ

ص: 440

مُجَاهِدٍ: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فروح فرحمة. وقال ابن عباس ومجاهد {وَرَيْحَانٌ} : وَرِزْقٌ؛ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ صَحِيحَةٌ، فإن مَاتَ مُقَرَّبًا حَصَلَ لَهُ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّاحَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ {وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُفَارِقُ أَحَدٌ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ حَتَّى يُؤْتَى بِغُصْنٍ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ فَيُقْبَضَ رُوحُهُ فِيهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَعْلَمَ أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ هُوَ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَحَادِيثَ الِاحْتِضَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت} . وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية. روى الإمام أحمد، عن أم هانىء أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَتَزَاوَرُ إِذَا مُتْنَا وَيَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يكون النَّسَمُ طَيْرًا يَعْلُقُ بِالشَّجَرِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دَخَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ فِي جَسَدِهَا» ، هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ بِشَارَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَمَعْنَى «يَعْلَق» يَأْكُلُ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، عَنِ الإمام مالك، عن كعب بْنُ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجِرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» ، وَهَذَا إِسْنَادٌ عَظِيمٌ وَمَتْنٌ قَوِيمٌ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَرْوَاحَ الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ معلقة بالعرش» (الحديث مخرج في الصحيحين) الحديث. وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قَالَ: فَأَكَبَّ الْقَوْمُ يَبْكُونَ فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكُمْ؟» فَقَالُوا: إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ:«لَيْسَ ذَاكَ، ولكنه إذا احتضر {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}، فَإِذَا بُشِّرَ بِذَلِكَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ عز وجل، وَاللَّهُ عز وجل لِلِقَائِهِ أَحَبُّ {وَأَمَّآ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} فَإِذَا بُشِّرَ بذلك كره لقاء الله، والله تعالى للقائه أكره» (أخرجه الإمام أحمد في المسند).

وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُحْتَضَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ تُبَشِّرُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ تَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: سَلَامٌ لَكَ أَيْ لابأس عَلَيْكَ أَنْتَ إِلَى سَلَامَةٍ، أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين، وقال قتادة: سَلِمَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وسلَّمت عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ عِكْرِمَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَهَذَا مَعْنًى حسن، ويكون ذلك كقول اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} . وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فنزلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أَيْ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُحْتَضَرُ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْحَقِّ، الضَّالِّينَ عَنِ الْهُدَى {فَنُزُلٌ} أَيْ فَضِيَافَةٌ، {مِّنْ حَمِيمٍ} وَهُوَ الْمُذَابُ الَّذِي يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أَيْ وَتَقْرِيرٌ لَهُ فِي النَّارِ الَّتِي تَغْمُرُهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أَيْ إِنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ عنه، {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} . قال الإمام أحمد، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: لمْا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» ، وَلَمَّا نَزَلَتْ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)

ص: 441

وفي الحديث: «من قال سبحان ربي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» (رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب). وروى البخاري في آخر صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم".

ص: 442