المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 88 - سورة الغاشية - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 88 - سورة الغاشية

وقد جمع الله لِلْقُرْآنِ الصِّفَتَيْنِ مَعًا: فَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى أُنْزِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السماء الدنيا، ثم أنزل بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ والحوادث. روي عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ الله تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} ، وقال تعالى:{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تنزيلا} (أخرجه النسائي بإسناده عن ابن عباس).

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ سُوءِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي مَعَادِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَشْرِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ فِي أَسْوَأِ الْحَالَاتِ وَأَقْبَحِ الصِّفَاتِ، {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يمشيه على وجهه يوم القيامة» .

ص: 632

- 35 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا

- 36 - فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا

- 37 - وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا

- 38 - وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا

- 39 - وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً

- 40 - وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لَا يَرْجُونَ نُشُورًا

يَقُولُ تعالى متوعداً من كذب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من مشركي قومه وَمُحَذِّرَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، مِمَّا أَحَلَّهُ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ؛ فَبَدَأَ بِذِكْرِ مُوسَى وأنه بعث وَجَعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا أَيْ نَبِيًّا مُوَازِرًا وَمُؤَيِّدًا وَنَاصِرًا، فَكَذَّبَهُمَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَـ {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِقَوْمِ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُ نوحاً عليه السلام، ولهذا قال تعالى:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ} وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ إِلَّا نُوحٌ فَقَطْ، وَقَدْ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الله عز وجل وَيُحَذِّرُهُمْ نَقَمَهُ {فَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَاّ قَلِيلٌ} ، وَلِهَذَا أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أحداً، ولم يترك من بني آدم على وجه الارض سِوَى أَصْحَابِ السَّفِينَةِ فَقَطْ، {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أَيْ عِبْرَةٌ يَعْتَبِرُونَ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أَيْ وَأَبْقَيْنَا لَكُمْ مِنَ السُّفُنِ مَا تَرْكَبُونَ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، لِتَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ من إنجائكم من الغرق، وقوله تعالى:{وَعَاداً وثمود وَأَصْحَابَ الرس} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتَيْهِمَا فِي غَيْرِ ما سورة كسورة الْأَعْرَافِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الرس فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى ثمود، وقال عِكْرِمَةُ: أَصْحَابُ الرَّسِّ بِفَلْجٍ وَهُمْ أَصْحَابُ يس، وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة، وعن عِكْرِمَةَ: الرَّسُّ بِئْرٌ رَسَوْا فِيهَا نَبِيَّهَمْ، أَيْ دفنوه فيها.

ص: 632

وقوله تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} أي وأمماً - أَضْعَافِ مَنْ ذُكِرَ أَهْلَكْنَاهُمْ - كَثِيرَةً، وَلِهَذَا قَالَ:{وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الحجج، ووضحنا لهم الأدلة، وأزحنا الأعذار عنهم، {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أَيْ أَهْلَكْنَا إِهْلَاكًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نوح} ، وَالْقَرْنُ هُوَ الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ:{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} ، وحَدَّه بعضُهم بمائة، وقيل بثمانين، والأظهر أن القرن هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهو قرن آخر، كما ثبت في الصحيحين:«خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذين يلونهم» الحديث. {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} يعني قرية قوم لوط وهي (سدوم) التي أهلكها الله بالقلب والمطر من الحجارة التي مِنْ سِجِّيلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مطر المنذرين} ، وَقَالَ:{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تعقلون} ، وقال تعالى:{وَإِنَّهَا لبسبيل مقيم} ، وقال:{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مبين} ، وَلِهَذَا قَالَ:{أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا} ؟ أَيْ فَيَعْتَبِرُوا بِمَا حَلَّ بِأَهْلِهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِسَبَبِ تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله، {بَلْ كَانُواْ لَا يَرْجُونَ نُشُوراً} يَعْنِي الْمَارِّينَ بِهَا مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَعْتَبِرُونَ، لِأَنَّهُمْ {لَا يَرْجُونَ نُشُوراً} أَيْ مَعَادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ص: 633

- 41 - وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا

- 42 - إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا

- 43 - أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا

- 44 - أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اسْتِهْزَاءِ المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأوه، كما قال تعالى:{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هزوا} الآية، يعنونه بالعيب والنقص، وقال ههنا:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} ؟ أَيْ عَلَى سَبِيلِ التنقص والإزدراء، وقوله تعالى:{إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لَهُمْ وَمُتَهَدِّدًا:{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب} الآية، ثم قال تعالى لنبيه منبهاً: أنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ وَالضَّلَالَ فإنه لا يهديه أحد إلا الله عز وجل، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أَيْ مَهْمَا اسْتَحْسَنَ مِنْ شَيْءٍ وَرَآهُ حَسَنًا فِي هَوَى نَفْسِهِ كَانَ دِينَهُ وَمَذْهَبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} الآية، ولهذا قال ههنا:{أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُ الْحَجَرَ الْأَبْيَضَ زَمَانًا فَإِذَا رَأَى غَيْرَهُ أَحْسَنَ مِنْهُ عَبَدَ الثاني وترك الأول، ثم قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} ؟ الآية، أي هم أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَنْعَامِ السَّارِحَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ تفعل مَا خُلِقَتْ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ خُلِقُوا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وحده، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَيُشْرِكُونَ بِهِ، مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ.

ص: 633

- 45 - أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا

- 46 - ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا

- 47 - وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سباتا وَجَعَلَ النهار نُشُوراً

ص: 633

شرع سبحانه وتعالى فيَّ بيانه الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ، وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ عَلَى خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، فقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ؟ قال ابن عباس ومجاهد: هُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أَيْ دَائِمًا لا يزول، وقوله تعالى:

{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أَيْ لَوْلَا أن الشمس تطلع عليه لما عرف، وقال قتادة والسدي: دليلاً تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله، وقوله تعالى:{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أَيِ الظِّلَّ، وَقِيلَ الشَّمْسَ، {يَسِيراً} أَيْ سَهْلًا، قَالَ ابْنُ عباس: سريعاً، وقال مجاهد خَفِيًّا حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ ظِلٌّ إلاّ تحت سقف أو تحت شجرة. وقال أيوب بن موسى {قَبْضاً يَسِيراً}: قَلِيلًا قَلِيلًا. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً} أي يلبس الوجود ويغشاه، كما قال تعالى:{والليل إِذَا يغشى} ، {والنوم سُبَاتاً} أي قاطعاً لِلْحَرَكَةِ لِرَاحَةِ الْأَبْدَانِ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ وَالْجَوَارِحَ تَكِلُّ من كثرة الحركة، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ وَسَكَنَ سَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ فَاسْتَرَاحَتْ، فَحَصَلَ النَّوْمُ الَّذِي فِيهِ رَاحَةُ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَعًا، {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} أَيْ يَنْتَشِرُ النَّاسُ فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم.

ص: 634

- 48 - وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا

- 49 - لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً

- 50 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، أَيْ بِمَجِيءِ السَّحَابِ بَعْدَهَا. والرياح أنواع، فَمِنْهَا مَا يُثِيرُ السَّحَابَ، وَمِنْهَا مَا يَحْمِلُهُ، وَمِنْهَا مَا يَسُوقُهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ يدي السحاب مبشراً، وَمِنْهَا مَا يَلْقَحُ السَّحَابَ لِيُمْطِرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} أَيْ آلَةً يتطهر بها كالسحور. فهذا أصح ما يقال في ذلك، وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن يزيد قال: كنا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَذَكَرُوا الْمَاءَ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ: مِنْهُ مِنَ السَّمَاءِ، ومنه ما يسوقه الغيم من البحر فيذبه الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ؛ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْبَحْرِ فلا يكون منه نَبَاتٌ، فَأَمَّا النَّبَاتُ فَمِمَّا كَانَ مِنَ السَّمَاءِ؛ وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةً إِلَّا أَنْبَتَ بِهَا فِي الْأَرْضِ عُشْبَةً أَوْ فِي الْبَحْرِ لُؤْلُؤَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي البَرّ بُرٌّ، وَفِي الْبَحْرِ دُرٌّ. وقوله تعالى:{لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أَيْ أَرْضًا قَدْ طَالَ انْتِظَارُهَا لِلْغَيْثِ فَهِيَ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ، فَلَمَّا جاءها الحياء عَاشَتْ وَاكْتَسَتْ رُبَاهَا أَنْوَاعُ الْأَزَاهِيرِ وَالْأَلْوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وربت} الآية، {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} أَيْ وَلِيَشْرَبَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ مِنْ أَنْعَامٍ وَأَنَاسِيِّ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْحَاجَةِ لِشُرْبِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ، كَمَا قال تَعَالَى:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الآية.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} أَيْ أَمْطَرْنَا هَذِهِ الأرض دون هذه، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى، فيمطرها ويكفيها ويجعلها غَدَقًا وَالَّتِي وَرَاءَهَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ والحكمة القاطعة. قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: لَيْسَ عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً}: أَيْ لِيَذَّكَّرُوا بِإِحْيَاءِ اللَّهِ الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ والعظام الرفات، أو ليذكر من منع المطر أَنَّمَا أَصَابَهُ ذَلِكَ بِذَنْبٍ أَصَابَهُ فَيُقْلِعُ عَمَّا هو فيه. وَقَوْلُهُ:{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً} قَالَ

ص: 634

-‌

‌ 88 - سورة الغاشية

ص: 632

[مقدمة]

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسبح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ويوم الجمعة (أخرجه مسلم وأصحاب السنن).

ص: 632

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 632

- 1 - هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ

- 2 - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ

- 3 - عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ

- 4 - تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً

- 5 - تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ

- 6 - لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَاّ مِن ضَرِيعٍ

- 7 - لَاّ يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ

الغاشية من أسماء يوم القيامة، لأنها تغشى الناس وتعمهم، روي عن عمرو بن ميمون أنه قَالَ: مرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فَقَامَ يَسْتَمِعُ، وَيَقُولُ:«نَعَمْ قَدْ جَاءَنِي» . وَقَوْلُهُ تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي ذليلة، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَخْشَعُ وَلَا يَنْفَعُهَا عَمَلُهَا، وقوله تعالى:{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} أَيْ قَدْ عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا وَنَصَبَتْ فِيهِ، وَصَلِيَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا حَامِيَةً، عن أبي عمران الجوني قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عَنْهُ بِدَيْرِ رَاهِبٍ، قَالَ، فَنَادَاهُ: يَا رَاهِبُ، فَأَشْرَفَ، قَالَ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُبْكِيكَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل فِي كِتَابِهِ: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} فذاك الذي أبكاني، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} النَّصَارَى، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ: عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالْمَعَاصِي، نَاصِبَةٌ في النار بالعذاب والإهلاك. قال ابن عباس:{تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} أَيْ حَارَةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ، {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أَيْ قَدِ انْتَهَى حرها وغليانها (وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي)، وقوله تَعَالَى:{لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَاّ مِن ضَرِيعٍ} قَالَ ابن عباس: شجر من النار، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الزَّقُّومُ، وَعَنْهُ أنها الحجارة، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الضَّرِيعُ نَبْتٌ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ الضَّرِيعَ إِذَا يبس، وهو سم، وقال قَتَادَةَ: {لَّيْسَ

لَهُمْ طَعَامٌ إِلَاّ مِن ضَرِيعٍ} من شر الطعام وأبشعه وأخبثه، وقوله تعالى:{لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} يَعْنِي لَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودٌ وَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ محذور.

ص: 632

- 8 - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ

- 9 - لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ

- 10 - فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ

- 11 - لَاّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً

- 12 - فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ

- 13 - فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ

- 14 - وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ

- 15 - وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ

- 16 - وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ

لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْأَشْقِيَاءِ ثَنى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ فَقَالَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {نَّاعِمَةٌ} أَيْ يُعْرَفُ النَّعِيمُ فِيهَا، وإنما حصل لها ذلك بسعيها، {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} قد رضيت عملها، وقوله تعالى:{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أَيْ رَفِيعَةٌ بَهِيَّةٌ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ، {لَاّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} أَيْ لا تسمع فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا كَلِمَةَ لَغْوٍ، كما قال تعالى:{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إلا سلاماً} ، وقال تعالى:{لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تأثيم} ، {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي سارحة وليس المراد بها عين وَاحِدَةً وَإِنَّمَا هَذَا جِنْسٌ يَعْنِي فِيهَا عُيُونٌ جاريات، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفْجُرُ مِنْ تَحْتِ تِلَالِ - أَوْ مِنْ تَحْتِ جِبَالِ - المسك» (أخرجه ابن أبي حاتم)، {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} أَيْ عَالِيَةٌ نَاعِمَةٌ، كَثِيرَةُ الفرش مرتفعة السمك، عليها الحور العين، فَإِذَا أَرَادَ وَلِيُ اللَّهِ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى تِلْكَ السُّرُرِ الْعَالِيَةِ تَوَاضَعَتْ لَهُ، {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} يَعْنِي أَوَانِي الشُّرْبِ مُعَدَّةٌ مُرْصَدَةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا، {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّمَارِقُ الْوَسَائِدُ (وكذا قال عكرمة وقتادة والضحّاك والسدي وغيرهم)، وقوله تعالى:{وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّرَابِيُّ الْبُسُطُ، ومعنى مبثوثة: أي ههنا وههنا لمن أراد الجلوس عليها، عَنْ أُسامة بْنِ زَيْدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا هَلْ مِنْ مُشَمِّرٍ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٍ وَخُضْرَةٍ، وَحَبْرَةٍ وَنَعْمَةٍ، فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ!» ، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، قَالَ:"قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ" قال القوم إن شاء الله (أخرجه ابن ماجة).

ص: 633

- 17 - أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ

- 18 - وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ

- 19 - وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ

- 20 - وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ

- 21 - فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ

- 22 - لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ

- 23 - إِلَاّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ

- 24 - فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ

- 25 - إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ

- 26 - ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} ؟ فَإِنَّهَا خَلْقٌ عَجِيبٌ وَتَرْكِيبُهَا غَرِيبٌ، فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وهي مع ذلك تنقاد لِلْقَائِدِ الضَّعِيفِ، وَتُؤْكَلُ وَيُنْتَفَعُ بِوَبَرِهَا وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، ونبهوا إلى ذلك لِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبُ

دَوَابِّهِمْ كَانَتِ الْإِبِلُ، وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَقُولُ: اخْرُجُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ! أَيْ كَيْفَ رَفَعَهَا اللَّهُ عز وجل عَنِ الْأَرْضِ هَذَا الرَّفْعَ الْعَظِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} ، {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} أَيْ جُعِلَتْ مَنْصُوبَةً فإنها ثَابِتَةً رَاسِيَةً لِئَلَّا تَمِيدَ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا وَجَعَلَ

ص: 633

فِيهَا مَا جَعَلَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَعَادِنِ، {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ! أَيْ كَيْفَ بُسِطَتْ وَمُدَّتْ وَمُهِّدَتْ، فَنَبَّهَ الْبَدَوِيَّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ بَعِيرِهِ الَّذِي هُوَ رَاكِبٌ عَلَيْهِ، وَالسَّمَاءِ الَّتِي فَوْقَ رَأْسِهِ، وَالْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَهُ، وَالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ، عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِ ذَلِكَ وَصَانِعِهِ، وأنه الرب العظيم الخالق المالك المتصرف، وَأَنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، عَنْ أنَس قَالَ: كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن كل شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلُهُ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رجل من أهل البادية فقال: يامحمد إنا أَتَانَا رَسُولُكَ، فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ:«صَدَقَ» قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: «اللَّهُ» قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: «اللَّهُ» قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: «اللَّهُ» ، قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا؟ قَالَ: «صَدَقَ» ، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا؟ قَالَ: «صَدَقَ» ، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ من استطاع له سَبِيلًا؟ قَالَ: «صَدَقَ» ، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى، فَقَالَ: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئاً وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ» (أخرجه مسلم وأصحاب السنن والإمام أحمد، وجاء في بعض الروايات: «وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بن بكر»).

وقوله تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} أَيْ فَذَكِّرْ يَا مُحَمَّدُ النَّاسَ بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} ، وَلِهَذَا قَالَ:{لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} ؛ قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: لست عليهم بجبار، أي لست تخلق الإِيمان في قلوبهم، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَسْتَ بِالَّذِي تُكْرِهُهُمْ عَلَى الإيمان، عَنْ جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أُمرت أَنْ أُقاتل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عز وجل" ثُمَّ قرأَ: {فذكِّر إِنَّمَآ أَنتَ مذكِّر * لستَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (أخرجه أحمد ورواه مسلم والنسائي والترمذي). وقوله تعالى: {إِلَاّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} أَيْ تَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِأَرْكَانِهِ، وَكَفَرَ بِالْحَقِّ بِجِنَانِهِ وَلِسَانِهِ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا صدَّق وَلَا صلَّى * وَلَكِنْ كذَّب وَتَوَلَّى} ، ولهذا قال:{فسيعذبه الله العذاب الأكبر} ، وروى الإمام أحمد: أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ مرَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَلين كَلِمَةٍ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَلَا كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ البعير عن أهله» (تفرد بإخراجه الإمام أحمد). وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} أَيْ مَرْجِعَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أَيْ نَحْنُ نُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَنُجَازِيهِمْ بِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ.

ص: 634