المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 58 - سورة المجادلة - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 58 - سورة المجادلة

بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ الأوزاعي: إِنَّمَا أَضَاعُوا الْمَوَاقِيتَ وَلَوْ كَانَ تَرْكًا كَانَ كفراً. وقيل لابن مسعود: إِنَّ اللَّهَ يُكْثِرُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، وَ {عَلَى صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} ، و {على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، فقال ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا، قَالُوا: مَا كُنَّا نرى ذلك إلاّ على الترك، قال: ذلك الْكُفْرُ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: لَا يُحَافِظُ أَحَدٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَيُكْتَبُ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَفِي إِفْرَاطِهِنَّ الْهَلَكَةُ؛ وَإِفْرَاطِهِنَّ إِضَاعَتُهُنَّ عَنْ وَقْتِهِنَّ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قرأ عمر بن عبد العزيز: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة} ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ تَكُنْ إِضَاعَتُهُمْ تَرْكَهَا وَلَكِنْ أضاعوا الوقت، وقال مجاهد: ذلك عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَهَابِ صَالِحِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بعض في الأزقة. وقال ابن جرير عَنْ مُجَاهِدٍ {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} قَالَ: هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَتَرَاكَبُونَ تَرَاكُبَ الْأَنْعَامِ وَالْحُمُرِ فِي الطُّرُقِ، لَا يَخَافُونَ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا يَسْتَحْيُونَ من الناس في الأرض. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَجِدُ صِفَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل: شرَّابين للقهوات، ترَّاكين للصلوات، لعَّابين بالكعبات، رقَّادين على العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجماعات، قَالَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عطَّلوا الْمَسَاجِدَ ولزموا الضعيات. وقال أبو الأشهب: أوحى الله إلى داود عليه السلام: يَا دَاوُدُ حَذِّرْ وَأَنْذِرْ أَصْحَابَكَ أَكْلَ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ الْمُعَلَّقَةَ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عُقُولُهَا عَنِّي مَحْجُوبَةٌ، وَإِنَّ أَهْوَنَ مَا أَصْنَعُ بِالْعَبْدِ مِنْ عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه طاعتي، وقوله:{فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} ، قال ابن عباس: أي خسراناً، وقال قتادة شراً، وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} قَالَ: وادٍ فِي جَهَنَّمَ بَعِيدُ الْقَعْرِ خَبِيثُ الطَّعْمِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيًّا} قَالَ: وادٍ في جهنم من قيح ودم. وقوله {إِلَاّ مَن تَابَ وآمن وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ إِلَّا مَنْ رَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ وَيَجْعَلُهُ مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ:{فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} ذلك لأنَّ التَّوْبَةَ تجبُّ مَا قَبْلَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» (أخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود والحكيم الترمذي عن أبي سعيد الخدري) وَلِهَذَا لَا يُنْقَصُ هَؤُلَاءِ التَّائِبُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا شَيْئًا وَلَا قُوبِلُوا بِمَا عَمِلُوهُ قَبْلَهَا فَيُنْقَصُ لَهُمْ مِمَّا عَمِلُوهُ بَعْدَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ ذَهَبَ هَدَرًا وَتُرِكَ نِسْيًا، وَذَهَبَ مَجَّانًا مِنْ كَرَمِ الْكَرِيمِ وَحِلْمِ الْحَلِيمِ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ ههنا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بالحق - إلى قوله - وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} .

ص: 458

- 61 - جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا

- 62 - لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا

- 63 - تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا

يَقُولُ تَعَالَى: الْجَنَّاتُ الَّتِي يدخلها التائبون هِيَ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أَيْ إِقَامَةٍ {الَّتِي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} بظهر الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَا رَأَوْهُ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ إِيقَانِهِمْ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ

ص: 458

وَعْدُهُ مأتيا} تأكيداً لِحُصُولِ ذَلِكَ وَثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُبَدِّلُهُ، كَقَوْلِهِ {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي كائناً لا محالة، وقوله ههنا {مَأْتِيّاً} أَيِ الْعِبَادُ صَائِرُونَ إِلَيْهِ وَسَيَأْتُونَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ {مَأْتِيّاً} بِمَعْنَى آتِيًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَتْ عليَّ خَمْسُونَ سَنَةً وَأَتَيْتُ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً كِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} ، أَيْ هَذِهِ الْجَنَّاتُ لَيْسَ فِيهَا كَلَامٌ سَاقِطٌ تَافِهٌ لَا مَعْنًى لَهُ، كَمَا قد يوجد في الدينا، وَقَوْلُهُ {إِلَاّ سَلَاماً} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِهِ:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً إِلَّا قليلا سلاما سلاما} ، وَقَوْلُهُ:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أَيْ فِي مِثْلِ وَقْتِ البُكُرَاتِ وَوَقْتِ العَشِيَّاتِ، لَا أن هناك ليلاً ونهاراً، وَلَكِنَّهُمْ فِي أَوْقَاتٍ تَتَعَاقَبُ يَعْرِفُونَ مُضِيَّهَا بِأَضْوَاءٍ وأنهار، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَتَمَخَّطُونَ فِيهَا، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمُ الذهب والفضة، ومجامرهم الأَلوَّة ورشهم الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يَرَى مُخَّ ساقها مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبِّحون الله بكرة وعيشاً» (الحديث أخرجه البخاري ومسلم ورواه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رزقهم من الجنة بكرة وعيشاً» (رواه الإمام أحمد في المسند". وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قَالَ: مَقَادِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وقال ابن جرير، عن الوليد بن أسلم قَالَ: سَأَلْتُ زُهَيْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قَالَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ، هُمْ فِي نور أبداً مِقْدَارُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ. وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ، بِرَفْعِ الحجب وبفتح الأبواب. وقال قتادة: فِيهَا سَاعَتَانِ بَكَرَةٌ وَعَشِيٌّ، لَيْسَ ثَمَّ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ. وَقَالَ مجاهد: ليس بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيٌّ، وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِهِ عَلَى ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقوله:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفْنَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ هِيَ الَّتِي نُورِثُهَا عِبَادَنَا المتقين، وهم الميطعون لِلَّهِ عز وجل فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكَاظِمُونَ الْغَيْظَ وَالْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى في سورة المؤمنين:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

ص: 459

- 64 - وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً

- 65 - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سميا

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لجبرائيل:«ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا؟» قَالَ، فَنَزَلَتْ:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} (أخرجه البخاري في باب التفسير ورواه الإمام أحمد). وقال العوفي عن ابن عباس: احتبس جبرائيل عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيل وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية. وَقَوْلُهُ: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} ، قِيلَ: الْمُرَادُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا أَمْرُ الدُّنْيَا، وَمَا خَلْفَنَا أَمْرُ الْآخِرَةِ {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} ما بين النفختين، وهذا قول عكرمة ومجاهد والسدي، وقيل {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا}: ما يستقبل مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، {وَمَا خَلْفَنَا}

ص: 459

أَيْ مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أي ما بين الدنيا والآخرة، واختاره ابن جرير، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} ، قَالَ مُجَاهِدٌ والسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ:{وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} ، وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ يَرْفَعُهُ قَالَ:«مَا أَحَلَّ اللَّهُ في كتابه فهو حلال وما حرمه فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا» ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (رواه ابن أبي حاتم)، وَقَوْلُهُ:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ خَالِقٌ ذَلِكَ وَمُدَبِّرُهُ، وَالْحَاكِمُ فِيهِ وَالْمُتَصَرِّفُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ تَعْلَمُ لِلرَّبِّ مَثَلًا أَوْ شبيهاً (وهو قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وَغَيْرُهُمْ). وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ يُسَمَّى الرَّحْمَنَ غَيْرَهُ تبارك وتعالى وَتَقَدَّسَ اسمه.

ص: 460

- 66 - وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً

- 67 - أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا

- 68 - فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا

- 69 - ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا

- 70 - ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ، أَنَّهُ يَتَعَجَّبُ وَيَسْتَبْعِدُ إِعَادَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا ترابا أئنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، وَقَالَ:{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وهي رميم} ، وقال ههنا:{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} ، يَسْتَدِلُّ تَعَالَى بِالْبَدَاءَةِ عَلَى الْإِعَادَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً، أَفَلَا يُعِيدُهُ؟ وَقَدْ صَارَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، وَفِي الصَّحِيحِ:"يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عليَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ"(أخرجه البخاري في صحيحه)، وَقَوْلُهُ:{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أَقْسَمَ الرَّبُّ تبارك وتعالى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يحشرهم جميعاً، وشياطينهم الذي كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قُعُودًا كَقَوْلِهِ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جاثية} وقال السدي في قوله {جِثِيّاً} يعني قياماً، وروي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ:{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} يَعْنِي مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} قال الثوري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَحْبِسُ الْأَوَّلَ عَلَى الْآخِرِ، حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتِ الْعِدَّةُ أَتَاهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ بَدَأَ بِالْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ جُرْمًا، وَهُوَ قَوْلُهُ:{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ قَادَتَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ فِي الشَّرِّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ

ص: 460

رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النار}، وَقَوْلُهُ:{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً} ، المراد أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَصْلَى بِنَارِ جَهَنَّمَ وَيُخَلَّدَ فِيهَا، وَبِمَنْ يستحق تضيف الْعَذَابِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ:{قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَاّ تَعْلَمُونَ} .

ص: 461

- 71 - وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً

- 72 - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظالمين فيها جثيا

روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ: يَرِدُونَهَا جَمِيعًا، وأهوى بأصبعه إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا ويذر الظالمين فِيهَا جِثِيّاً» . وعن قيس ابن أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَاضِعًا رَأْسَهُ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ فَبَكَى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ، قَالَ إِنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} فلا أدري أنجو منها أم لا؟ وكان مريضاً (أخرجه عبد الرزاق). وقال ابن جرير عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: كَانَ أَبُو مَيْسَرَةَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: يَا لَيْتَ أُمِّي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا مَيْسَرَةَ؟ فَقَالَ: أُخْبِرْنَا أَنَّا وَارِدُوهَا وَلَمْ نُخْبَرْ أَنَّا صَادِرُونَ عَنْهَا، وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ لِأَخِيهِ: هَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ وَارِدٌ النَّارَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ صَادِرٌ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَفِيمَ الضَّحِكُ، قَالَ: فَمَا رُئِيَ ضَاحِكًا حتى لحق بالله، وقال عبد الرزاق خاصم ابن عباس نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، فَقَالَ نَافِعٌ: لَا، فَقَرَأَ ابْنَ عَبَّاسٍ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنتُمْ لها واردون} وَرَدُوا أَمْ لَا؟ وَقَالَ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} أوردهم أَمْ لَا؟ أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ وَمَا أَرَى الله مخرجك منها بتكذيبك، فضحك نافع. وقال: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو رَاشِدٍ، وَهُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ. فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أرأيتِ قَوْلَ اللَّهِ:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} ، قَالَ: أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ يَا أَبَا رَاشِدٍ فَسَنَرِدُهَا فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ وعن عبد الله بن مَسْعُودٍ {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَرِدُ النَّاسُ كلهم ثم يصدون عنها بأعمالهم» (رواه أحمد والترمذي). وَقَدْ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَرِدُ النَّاسُ جَمِيعًا الصِّرَاطَ، وَوُرُودُهُمْ قِيَامُهُمْ حَوْلَ النَّارِ، ثم يصدون عَنِ الصِّرَاطِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الطَّيْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَعَدْوِ الرجُل، حَتَّى إِنَّ آخرهم مراً رجل نوره على موضع قدميه يمر فيتكفأ بِهِ الصِّرَاطَ، وَالصِّرَاطُ دَحْضُ مَزَلَّةٍ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ الْقَتَادِ، حَافَّتَاهُ مَلَائِكَةٌ مَعَهُمْ كَلَالِيبُ مِنْ نار يختطفون بها الناس (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابن جرير، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ

ص: 461

{وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} قَالَ: الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ، فَتَمُرُّ الطَّبَقَةُ الْأُولَى كَالْبَرْقِ، وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيحِ، وَالثَّالِثَةُ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعَةُ كَأَجْوَدِ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَلِهَذَا شَوَاهِدُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَقَالَ:«لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» ، قَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} الآية، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ القسم» يعني الورود. وقال قتادة قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} هُوَ الْمَمَرُّ عَلَيْهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد. ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها، والزالون والزالات يومئذٍ كثير، وقد أحاط يومئذٍ سِمَاطَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ دُعَاؤُهُمْ يَا أَللَّهُ سلم سلم" وقال السدي، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} قَالَ: قَسَمًا وَاجِبًا، وَقَالَ مجاهد: حتماً، قال قضاء، وَقَوْلُهُ:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيْ إِذَا مر الخلائق كلهم إلى النار، وسقط من سقط من الكفار، والعصاة، نَجَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِنْهَا بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، فَجَوَازُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَسُرْعَتُهُمْ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُشَفَّعُونَ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ والمؤمنون، قيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلاّ دارت وجوههم، وهي مواضع السجود، وَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} .

ص: 462

- 73 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً

- 74 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْيًا

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ حِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ بَيِّنَةَ الْحُجَّةِ وَاضِحَةَ الْبُرْهَانِ، أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ ويعرضون عن ذلك، وَيَقُولُونَ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا مُفْتَخِرِينَ عَلَيْهِمْ وَمُحْتَجِّينَ عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} أَيْ أَحْسَنُ مَنَازِلَ، وَأَرْفَعُ دُوْرًا، وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، وَهُوَ مجتمع الرِّجَالِ لِلْحَدِيثِ، أَيْ نَادِيهِمْ أَعْمَرُ وَأَكْثَرُ وَارِدًا وطارقاً، يعنون فكيف نكون نحن بهذه المثابة على باطل؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} ، وَقَالَ قَوْمُ نُوحٍ، {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بالشاكرين} ؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى، رَادًّا عَلَيْهِمْ شُبْهَتَهُمْ:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} : أَيْ وَكَمْ مِنْ أمة وقرن من المكذبين، وقد أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْيًا} أَيْ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَمْوَالًا وَأَمْتِعَةً وَمَنَاظِرَ وأشكالاً. قال ابن عباس {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} الْمَقَامُ: الْمَنْزِلُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ، وَالْأَثَاثُ: الْمَتَاعُ، وَالرِّئْيُ: المنظر، وهو كما قال الله تَعَالَى:{كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} فَالْمَقَامُ الْمَسْكَنُ وَالنَّعِيمُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ، وَالْمَجْمَعُ، الَّذِي كانوا يجتمعون فيه، وقال تعالى فِيمَا قَصَّ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْرِ قَوْمِ لوط {وَتَأْتُونَ في ناديكم المنكر} وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَجْلِسَ النَّادِي، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة وفيهم

ص: 462

قشافة، فعرض أهل الشرك ما تَسْمَعُونَ {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْأَثَاثِ هُوَ الْمَالُ، ومنهم من قال الثياب، ومنهم من قال المتاع، والرئي المنظر كما قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَعْنِي الصوَر، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ {أَثَاثًا وَرِئْيًا} أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَحْسَنُ صُوَرًا، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ صحيح.

ص: 463

- 75 - قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً

يَقُولُ تَعَالَى {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمُ، الْمُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّكُمْ عَلَى الْبَاطِلِ {مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ} أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} أي فليمهله الرَّحْمَنُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ وينقضي أجله، {إِمَّا العذاب} يصيبه، و {إما السَّاعَةَ} بَغْتَةً تَأْتِيهِ، {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} فِي مُقَابَلَةِ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ خَيْرِيَّةِ الْمَقَامِ وَحُسْنِ النَّدِيِّ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ:{فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} فليدعه في ظيغانه، هَكَذَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رحمه الله.

ص: 463

- 76 - وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا

لَمَّا ذكر تَعَالَى إِمْدَادَ مَنْ هُوَ فِي الضَّلَالَةِ فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَزِيَادَتَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، أخبره بِزِيَادَةِ الْمُهْتَدِينَ هُدًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا} الآيتين. وقوله: {والباقيات الصالحات} قد تقدم تفسيرها فِي سُورَةِ الْكَهْفِ {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أَيْ جَزَاءً {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} أَيْ عَاقِبَةً وَمَرَدًّا على صاحبها. عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فَحَطَّ وَرَقَهُ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَحُطُّ الْخَطَايَا كَمَا تَحُطُّ وَرَقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ، خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ، هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» . قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ لَأُهَلِّلَنَّ اللَّهَ وَلَأُكَبِّرَنَّ اللَّهَ وَلَأُسَبِّحَنَّ اللَّهَ، حَتَّى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون (رواه عبد الرزاق وظاهره أنه مرسل ولكن وقع في سنن ابن ماجه عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكره وهو حديث مرفوع).

ص: 463

- 77 - أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا

- 78 - أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا

- 79 - كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا

- 80 - وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فردا

روى الإمام أحمد، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، وَكَانَ لِي عَلَى (الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ) دين فأتيته أتقاضاه منه، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ

ص: 463

تُبْعَثَ، قَالَ: فَإِنِّي إِذَا مُتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جئتني ولي ثمَّ مال وولد فأعطيك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً - إِلَى قَوْلِهِ - وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (أخرجه الشيخان والإمام أحمد عن خباب بن الأرت)، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سَيْفًا، فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قال: موثقاً.

وروى عبد الرزاق، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَكُنْتُ أَعْمَلُ لِلْعَاصِ بْنِ وائل، فاجتمعت لي عليه دارهم، فجئت لأتقاضاها، فَقَالَ لِي: لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: فَإِذَا بُعِثْتُ كَانَ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ، قَالَ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} الآيات. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَطْلُبُونَ (العاص بن وائل) بِدَيْنٍ، فَأَتَوْهُ يَتَقَاضُونَهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَحَرِيرًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْآخِرَةُ فَوَاللَّهِ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، وَلَأُوتَيَنَّ مِثْلَ كِتَابِكُمُ الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا - إِلَى قوله - وَيَأْتِينَا فَرْداً} ، وَقَوْلُهُ:{لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} ، قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْوَاوِ مِنْ {وَلَداً} وَقَرَأَ آخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُوَ بمعناه، وَقِيلَ: إِنَّ الْوُلْدَ بِالضَّمِّ جَمْعٌ، وَالْوَلَدَ بِالْفَتْحِ مُفْرَدٌ، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} إِنْكَارٌ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ أَعَلِمَ ماله فِي الْآخِرَةِ، حَتَّى تَأَلَّى وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} أَمْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ سَيُؤْتِيهِ ذَلِكَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عند البخاري أنه الموثق، وقال ابن عباس:{أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: لَا إله إلا الله فيرجو بها، وقال القرظي: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قرأ {ألا من اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ، وَقَوْلُهُ:{كَلَاّ} هِيَ حَرْفُ رَدْعٍ لِمَا قَبْلَهَا، وَتَأْكِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أَيْ مِنْ طَلَبِهِ ذَلِكَ، وحكمه بنفسه، بما يتمناه وَكَفْرِهِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى قَوْلِهِ ذلك وكفره بالله في الدينا، {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أَيْ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، نَسْلُبُهُ مِنْهُ عَكْسَ مَا قَالَ إِنَّهُ يُؤْتَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَالًا وَوَلَدًا، زِيَادَةً عَلَى الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا، بَلْ فِي الْآخِرَةِ يُسْلَبُ مِنَ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، ولهذا قال تعالى:{وَيَأْتِينَا فَرْداً} أَيْ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، قَالَ مجاهد {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}: ماله وولده، وقال قَتَادَةَ {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قَالَ: مَا عِنْدَهُ، وهو قوله:{لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} {وَيَأْتِينَا فَرْداً} لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، وقال عبد الرحمن بن زيد {وَنَرِثُهُ مَا يقول} قال: من جمع من الدنيا وما عمل فيها، {وَيَأْتِينَا فَرْداً} قَالَ: فَرْدًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَتْبَعُهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.

ص: 464

- 81 - وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً

- 82 - كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً

- 83 - أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً

- 84 - فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ، أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لِتَكُونَ لهم تِلْكَ الْآلِهَةُ {عِزّاً} يَعْتَزُّونَ بِهَا وَيَسْتَنْصِرُونَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا يَكُونُ مَا طَمِعُوا، فَقَالَ {كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ}: أي

ص: 464

يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أَيْ بِخِلَافِ ما ظنوا فيهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ}: أَيْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَقَوْلُهُ:{وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أَيْ بِخِلَافِ ما رجوا منهم. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} قَالَ: أَعْوَانًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: عَوْنًا عَلَيْهِمْ تُخَاصِمُهُمْ وَتُكَذِّبُهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قُرَنَاءَ فِي النَّارِ، يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ويكفر بعضهم ببعض، وَقَالَ الضَّحَّاكُ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} قَالَ: أَعْدَاءً. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: تُغْوِيهِمْ إِغْوَاءً، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: تُحَرِّضُهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً، وَقَالَ قَتَادَةُ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا إِلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً وَتَسْتَعْجِلُهُمُ استعجالاً، وقال السدي: تطغيهم طيغاناً، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ، وَقَوْلُهُ:{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أَيْ لَا تَعْجَلْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ، {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أَيْ إِنَّمَا نُؤَخِّرُهُمْ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ومضبوط، وَهُمْ صَائِرُونَ لَا مَحَالَةَ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ ونكاله، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} ، {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لي ليزداوا إثما} ، {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} ، {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} ، وقال السُّدِّيُّ:{إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} السِّنِينَ وَالشُّهُورَ والأيام والساعات، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ:{إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} قَالَ: نعد أنفاسهم في الدينا.

ص: 465

- 85 - يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً

- 86 - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا - 87 - لَاّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ خَافُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ، وَصَدَّقُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ وأطاعوهم فينا أمروهم به، وانتهوا عما زَجَرُوهُمْ أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفْدًا إِلَيْهِ، وَالْوَفْدُ هُمُ الْقَادِمُونَ رُكْبَانًا وَمِنْهُ الْوُفُودُ، وَرُكُوبُهُمْ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ نُورٍ مِنْ مَرَاكِبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُمْ قَادِمُونَ عَلَى خَيْرِ مَوْفُودٍ إِلَيْهِ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَأَمَّا الْمُجْرِمُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يُسَاقُونَ عُنْفًا إِلَى النَّارِ {وِرْداً} عطاشاً (قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد)، وقال ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ وَحَسَّنَ وَجْهَكَ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا، فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي فَيَرْكَبُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} (أخرجه ابن أبي حاتم)، قال ابن عباس: ركباناً، وقال أبو هُرَيْرَةَ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قال: على الإبل. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ، وَقَالَ قَتَادَةُ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قَالَ: إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ

ص: 465

نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عليها حتى يضربوا أبواب الجنة (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَزَادَ: عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد).

وقوله تعالى {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} أَيْ عِطَاشًا، {لَاّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ كَمَا يَشْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ:{فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ، وَقَوْلُهُ:{إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} هذا اسثناء مُنْقَطِعٌ، بِمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، والقيام بحقها. قال ابن عباس: الْعَهْدُ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وَيَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهِ عز وجل. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَرَأَ عَبْدُ الله بن مَسْعُودٍ هَذِهِ الْآيَةَ {إِلَاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} ثُمَّ قَالَ: اتَّخِذُوا عِندَ اللَّهِ عَهْداً، فإن الله يقول الْقِيَامَةِ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ فَلْيَقُمْ، قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَعَلِّمْنَا، قَالَ قُولُوا: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الحياة الدنيا، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُؤَدِّيهِ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: وَكَانَ يُلْحِقُ بِهِنَّ: خَائِفًا مُسْتَجِيرًا مُسْتَغْفِرًا رَاهِبًا راغباً إليك.

ص: 466

- 88 - وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً

- 89 - لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً

- 90 - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً

- 91 - أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً

- 92 - وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً

- 93 - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً

- 94 - لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا

- 95 - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا

لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ عُبُودِيَّةَ عِيسَى عليه السلام، وَذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ مَرْيَمَ بِلَا أَبٍ، شَرَعَ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَقَالَ:{وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ} أَيْ فِي قَوْلِكُمْ، هَذَا {شَيْئاً إِدّاً} ، قال ابن عباس: أي عظيماً، وَقَوْلُهُ:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} أَيْ يَكَادُ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ فجَرَة بَنِي آدَمَ إِعْظَامًا لِلرَّبِّ وَإِجْلَالًا، لِأَنَّهُنَّ مَخْلُوقَاتٌ وَمُؤَسَّسَاتٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَأَنَّهُ لا إله إِلَاّ هُوَ، قال ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ فَزِعَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إلاّ الثقلين، وكادت تَزُولَ مِنْهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَكَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الْمُوَحِّدِينَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا عند موته وجبت له الجنة» ، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَهَا فِي صِحَّتِهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ أَوْجَبُ وَأَوْجَبُ» ، ثُمَّ قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ جِيءَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَا تَحْتَهُنَّ فَوُضِعْنَ فِي كفة الميزان ووضعا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى لَرَجَحَتْ بِهِنَّ» (هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، وقال

ص: 466

الضَّحَّاكُ {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أَيْ يَتَشَقَّقْنَ فَرَقًا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن زيد {وَتَنشَقُّ الأرض} أي غضباً له عز وجل، {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَدْمًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَدًّا ينكسر بَعْضَهَا على بَعْضٍ متتابعات. عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِنَّ الجبل لينادي بِاسْمِهِ: يَا فُلَانُ هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ ذكر اللَّهَ عز وجل؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ وَيَسْتَبْشِرُ، قَالَ عَوْنٌ: لَهِيَ لِلْخَيْرِ أَسْمَعُ، أَفَيَسْمَعْنَ الزُّورَ وَالْبَاطِلَ، إِذَا قِيلَ وَلَا يَسْمَعْنَ غَيْرَهُ؟ ثُمَّ قَرَأَ {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} (أخرجه ابن أبي حاتم) الآية وعن أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ إِن يشرك به ويُجعل له ولد، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» . وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} أَيْ لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا كُفْءَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ عَبِيدٌ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} أَيْ قَدْ عَلِمَ عَدَدَهُمْ، مُنْذُ خَلْقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ وَصَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، {وَكُلُّهُمْ

آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} أي لا ناصر وَلَا مُجِيرَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، فيحكم في خلقه بما يشاء، هو الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَلَا يظلم أحداً.

ص: 467

- 96 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً

- 97 - فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا

- 98 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً

يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَغْرِسُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وجه فروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ - قَالَ - فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يحب فلاناً فأحبوه، قَالَ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِن اللَّهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ فَيَبْغَضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ، فَيَبْغَضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يوضع له البغضاء في الأرض"(أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ لأحمد). وعن ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مرضاة الله عز وجل، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل لِجِبْرِيلَ إِنَّ فُلَانًا عَبْدِي يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُمْ، حَتَّى يَقُولَهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثم يهبط إلى الأرض (أخرجه الإمام أحمد) وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ يُنَزِّلُ لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ

ص: 467

آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (ورواه مسلم والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح)، وقال ابن عباس:{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قَالَ: حُبًّا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْهُ {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قَالَ: محبة في الناس في الدينا. وقال سعيد بن جبير: يحبهم ويحببهم يعني إلى خلقه المؤمنين، وقال العوفي، عن ابن عباس: الْوُدُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ وَاللِّسَانُ الصَّادِقُ، وَقَالَ قَتَادَةُ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} إِي والله في قلوب أهل الإيمان، وذكر لَنَا أَنَّ هَرَمَ بْنَ حَيَّانَ كَانَ يَقُولُ: مَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا أَقْبَلَ اللَّهُ بِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَرْزُقَهُ مَوَدَّتَهُمْ وَرَحْمَتَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا كَسَاهُ الله عز وجل رداء عمله.

وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {بِلِسَانِكَ} : أَيْ يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ الْفَصِيحُ الْكَامِلُ، {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أَيِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ الْمُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً}: أَيْ عُوَّجًا عن الحق مائلين إلى الباطل، وقال مُجَاهِدٍ {قَوْماً لُّدّاً} لَا يَسْتَقِيمُونَ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً}: عوجاً عن الحق. وقال الضحّاك: الألد الخصيم، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: الْأَلَدُّ الْكَذَّابُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {قَوْماً لُّدّاً} صُمًّا، وَقَالَ غَيْرُهُ: صُمُّ آذَانِ القلوب، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {قَوْمًا لُدًّا}: فُجَّارًا، وَكَذَا رَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَلَدُّ الظَّلُومُ، وقرأ قوله تعالى:{وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} ، وَقَوْلُهُ:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} : أَيْ مِنْ أُمَّةٍ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} : أَيْ هَلْ تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأبو العالية وعكرمة: يَعْنِي صَوْتًا، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: هَلْ تَرَى عَيْنًا أَوْ تَسْمَعُ صَوْتًا وَالرِّكْزُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا * عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سقامها.

ص: 468

-‌

‌ 58 - سورة المجادلة

.

ص: 458

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُكَلِّمُهُ، وَأَنَا فِي ناحية البيت ما أسمع ماتقول، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إِلَى آخَرِ الآية (أخرجه البخاري تعليقاً، ورواه النسائي وابن ماجه) وفي رواية عنها أَنَّهَا قَالَتْ: تَبَارَكَ الَّذِي أَوْعَى سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ (خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ) وَيَخْفَى عليَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ تقول: يا رسول الله أكل مالي، وأفنى شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كبرتْ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، قَالَتْ: فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} ، قالت: وزوجها أوس بن الصامت (أخرجه ابن أبي حاتم من حديث عائشة رضي الله عنها وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد قَالَ: "لقيتْ امرأةٌ عُمَرَ يُقَالُ لَهَا (خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ) وَهُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّاسِ، فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا وَدَنَا مِنْهَا وَأَصْغَى إِلَيْهَا رَأْسَهُ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْهَا، حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا وَانْصَرَفَتْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَبَسْتَ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ، قَالَ: وَيْحَكَ وَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ لَا، قَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ سَمِعَ اللَّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَنْصَرِفْ عَنِّي إِلَى اللَّيْلِ مَا انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها، إلا أَنْ تَحْضُرَ صَلَاةٌ فَأُصَلِّيَهَا، ثُمَّ أَرْجِعَ إِلَيْهَا حتى تقضي حاجتها" (أخرجه ابن أبي حاتم وهو مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي يَزِيدَ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كما قاله ابن كثير) وعن عَامِرٍ قَالَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي جَادَلَتْ فِي زَوْجِهَا خولة امرأة (أوس بن الصامت) وأمها معاذة.

ص: 458

- 2 - الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَاّ اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

- 3 - وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ

ص: 458

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

- 4 - فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ

روى الإمام أحمد، عن خولة بنت ثغلبة، قَالَتْ: فِيَّ وَاللَّهِ وَفِي أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ، فدخل عليّ يوماً فراجعته بشئ فَغَضِبَ، فَقَالَ: أنتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، قَالَتْ: ثم خرج فلبس فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَنْ نَفْسِي، قَالَتْ، قُلْتُ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لَا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ الله ورسوله فينا بحكمه، قالت فواثبني فامتنعت بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي، قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابًا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ وَجَعَلْتُ

أَشْكُو إِلَيْهِ مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ، قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَا خُوَيْلَةُ ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ» قَالَتْ: فوالله ما برحت، حتى نزل فيّ قرآن، فتغشى رسول الله ماكان يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ لِي:«يَا خُوَيْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ قرآناً» ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} إلى قوله تعالى {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً» ، قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ، قَالَ:«فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» ، قَالَتْ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لشيخ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ:«فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ» ، قَالَتْ، فَقُلْتُ: والله يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَاكَ عِنْدَهُ، قَالَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فإنا سنعينه بفرق مِنْ تَمْرٍ" قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وأنا سأعينه بفرق آخر، قال:«قد أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي بِهِ عَنْهُ ثُمَّ استوصي بابن عمك خيراً» قالت: ففعلت (أخرجه أحمد وأبو داود) هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَنْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ (أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ) أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَامْرَأَتُهُ (خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكٍ) فَلَمَّا ظَاهَرَ مِنْهَا خَشِيَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ طَلَاقًا، فأتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَوْسًا ظَاهَرَ مِنِّي، وَإِنَّا إِنِ افْتَرَقْنَا هَلَكْنَا، وَقَدْ نَثَرْتُ بَطْنِي مِنْهُ وَقَدُمَتْ صُحْبَتُهُ، وَهِيَ تَشْكُو ذَلِكَ وَتَبْكِي، وَلَمْ يَكُنْ جَاءَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، فأنزل الله تَعَالَى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} إلى قوله تعالى {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَتَقْدِرُ عَلَى رَقَبَةٍ تُعْتِقُهَا» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا، قَالَ، فَجَمَعَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَعْتَقَ عتقه، ثم راجع أهله (رواه ابن جرير، قال ابن كثير: وإلى ماذكرناه ذهب ابن عباس والأكثرون).

وقوله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ} أَصْلُ الظِّهَارِ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كانوا إذا ظاهر أحدهم مِنِ امْرَأَتِهِ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أمي، وَكَانَ الظِّهَارُ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ طَلَاقًا فَأَرْخَصَ اللَّهُ لهذه

ص: 459

الْأُمَّةِ وَجَعَلَ فِيهِ كَفَّارَةً وَلَمْ يَجْعَلْهُ طَلَاقًا كَمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، هَكَذَا قَالَ غير واحد من السلف، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ مِنْ طَلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ فَوَقَّتَ اللَّهُ الْإِيلَاءَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم)، وقوله تعالى:{ما هن أمهاتكم إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَاّ اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} أَيْ لَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ عَلَيَّ كأُمّي، أَوْ مِثْلُ أُمي، أَوْ كَظَهْرِ أُمي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَا تَصِيرُ أُمه بِذَلِكَ إِنَّمَا أمه التي ولدته، ولهذا قال تعالى:{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} أَيْ كَلَامًا فَاحِشًا بَاطِلًا، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أَيْ عَمَّا كَانَ مِنْكُمْ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَكَذَا أَيْضًا عَمَّا خَرَجَ مِنْ سَبْقِ اللِّسَانِ ولم يقصد إليه المتكلم، كما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُختي، فَقَالَ:«أُختك هي زوجتك؟» (رواه أبو داود) فَهَذَا إِنْكَارٌ، وَلَكِنْ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَلَوْ قَصَدَهُ لَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عَلَى الصَّحِيحِ بَيْنَ الأُم وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمَحَارِمِ مِنْ أُخت وعمَّة وَخَالَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تعالى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْعَوْدُ هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَيُكَرِّرَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حزم، وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد المظاهرة زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ فَلَا يُطَلِّقَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجِمَاعِ أَوْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ بِهَذِهِ الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوِ الْإِمْسَاكِ وَعَنْهُ أَنَّهُ الْجِمَاعُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الظِّهَارِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَرَفْعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَتَى ظاهر الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ فَقَدْ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا لَا يرفعه إلا الكفارة، وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} يَعْنِي يُرِيدُونَ أَنْ يَعُودُوا فِي الْجِمَاعِ الَّذِي حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي الْغِشْيَانَ فِي الْفَرْجِ وَكَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُغْشَى فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ قَبْلَ أَنْ يكفر. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} وَالْمَسُّ النِّكَاحُ (وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ)، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَلَا يَمَسَّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ:«مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟» قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، قَالَ:«فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أمرك الله عز وجل» (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أَيْ فَإِعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ مِنْ قبل أن يتمآسا، فههنا الرَّقَبَةُ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْإِيمَانِ، وَفِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِالْإِيمَانِ، فَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله ما أطلق ههنا عَلَى مَا قُيِّدَ هُنَاكَ لِاتِّحَادِ الْمُوجَبِ، وَهُوَ عتق الرقبة، وقوله تعالى:{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أَيْ تُزْجَرُونَ بِهِ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ خَبِيرٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ {عَلِيمٌ} بأحوالكم، وقوله تعالى:{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} قد تقدمت الأحاديث الآمرة بِهَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ الَّذِي جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ شَرَعْنَا هَذَا لهذا، وقوله تعالى:{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أَيْ مَحَارِمُهُ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا. وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا الْتَزَمُوا بِأَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْبَلَاءِ، كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

ص: 460

- 5 - إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ

- 6 - يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ

- 7 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَانَدُوا شَرْعَهُ {كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ أُهِينُوا وَلُعِنُوا وَأُخْزُوا كَمَا فُعِلَ بِمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، {وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أي واضحات لا يعاندها ولا يخالفها إلاّ كافر فاجر مكابر، {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ شَرْعِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ وَالْخُضُوعِ لَدَيْهِ، ثُمَّ قال تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} وَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يجمع الله الأولين الآخرين فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أَيْ فيخبرهم بِالَّذِي صَنَعُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} أَيْ ضَبَطَهُ اللَّهُ وَحَفِظَهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ قد نسوا ما كانوا عملوا، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى وَلَا يَنْسَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِخَلْقِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ وَسَمَاعِهِ كَلَامَهُمْ وَرُؤْيَتِهِ مَكَانَهُمْ حيث كانوا وأين كانوا، فقال تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلَاثَةٍ} أي من سر ثلاثة {إلاهو رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ، وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أينما كَانُواْ} ، أي مطلع عَلَيْهِمْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَسِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، وَرُسُلُهُ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ تَكْتُبُ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ مَعَ علم الله به وسمعه له، كما قال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلَاّمُ الغيوب} ، وقال تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم. بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يكتبون} ، وَلِهَذَا حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ المراد بهذه معية علمه تَعَالَى، وَلَا شَكَّ فِي إِرَادَةِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ سَمْعَهُ أَيْضًا مَعَ عِلْمِهِ مُحِيطٌ بِهِمْ وَبَصَرَهُ نافذ فيهم، فهو سبحانه وتعالى مُطَّلِعٌ عَلَى خَلْقِهِ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أمورهم شيء، ثم قال تعالى:{ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: افتتح الآية واختتمها بالعلم.

ص: 461

- 8 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ

- 9 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْاْ بِالْإِثْمِ والعدوان ومعصية الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

- 10 - إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ

ص: 461

الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْيَهُودِ مُوَادَعَةٌ، وَكَانُوا إِذَا مَرَّ بِهِمْ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَلَسُوا يَتَنَاجَوْنَ بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَظُنَّ الْمُؤْمِنُ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ بِقَتْلِهِ أَوْ بِمَا يَكْرَهُ الْمُؤْمِنُ، فَإِذَا رأى ذَلِكَ خَشِيَهُمْ فَتَرَكَ طَرِيقَهُ عَلَيْهِمْ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّجْوَى، فَلَمْ ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عنه} (روي هذا عن مجاهد ومقاتل بن حيان) وقوله تعالى: {وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان ومعصية الرَّسُولِ} أَيْ يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْإِثْمِ وَهُوَ ما يختص بهم، {العدوان} وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُ مَعْصِيَةُ الرَّسُولِ ومخالفته، يصرون عليها ويتواصون بها، وقوله تَعَالَى:{وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} . عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَهُودُ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْكُمُ السام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ياعائشة إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ» ، قُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أو سمعتِ ما أقول وعليكم؟» ، فأنزل الله تَعَالَى:{وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} (أخرجه ابن أبي حاتم). وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُمْ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَالذَّامُ وَاللَّعْنَةُ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّهُ يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا» وروى ابن جرير، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ أَتَى عَلَيْهِمْ يَهُودِيٌّ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ؟» قَالُوا: سَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"بَلْ قَالَ: سَامٌ عَلَيْكُمْ" أَيْ تُسَامُونَ دِينَكُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ردوه» ، فردوه عَلَيْهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَقُلْتَ سَامٌ عَلَيْكُمْ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا: عَلَيْكَ" (أصله في الصحيحين، وهذا الحديث

روي عن عائشة في الصحيح بنحوه)، أي عليك ما قلت. وقوله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} أي يفعلون هذا وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْ كَانَ هَذَا نبِيًّا لَعَذَّبَنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ لَهُ فِي الْبَاطِنِ لَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا نُسِرُّهُ، فَلَوْ كَانَ هَذَا نبياً حقاً لأوشك الله أن يعاجلنا بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أَيْ جَهَنَّمُ كِفَايَتُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَامٌ عَلَيْكَ. ثُمَّ يَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ: لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ * حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (أخرجه الإمام أحمد). وقال ابن عباس: كان المنافقون يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا حيوه: سام عليك، قال الله تعالى:{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، ثُمَّ قَالَ تعالى مؤدبا عباده المؤمنين أن لا يَكُونُوا مِثْلَ الْكَفَرَةِ وَالْمُنَافِقِينَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ومعصية الرَّسُولِ} أَيْ كَمَا يَتَنَاجَى بِهِ الْجَهَلَةُ مِنْ كَفَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ مَالَأَهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، {وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى

ص: 462

وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أَيْ فَيُخْبِرُكُمْ بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها، روى الإمام أحمد عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِيَدِ ابْنِ عُمَرَ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي النَّجْوَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عليه كتفه وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنْ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ"(أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ إِنَّمَا النَّجْوَى وَهِيَ الْمُسَارَّةُ حَيْثُ يَتَوَهَّمُ مُؤْمِنٌ بِهَا سُوءًا، {مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} يَعْنِي إِنَّمَا يَصْدُرُ هَذَا مِنَ الْمُتَنَاجِينَ عَنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ لِيَسُوءَهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ {بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلِيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَةُ بِالنَّهْي عَنِ التَّنَاجِي حَيْثُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ تَأَذٍّ عَلَى مؤمن، كما روى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه» (أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود).

ص: 463

- 11 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

يَقُولُ تَعَالَى مُؤَدِّبًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَآمِرًا لَهُمْ أَنْ يُحْسِنَ بَعْضُهُمْ إِلَى بعض في المجلس:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ، قَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا رَأَوْا أَحَدَهُمْ مُقْبِلًا ضَنُّوا بِمَجَالِسِهِمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأمرهم الله تعالى أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يوم الجمعة، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ فِي الصُّفَّةِ، وَفِي الْمَكَانِ ضِيقٌ، وَكَانَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ سَبَقُوا إِلَى الْمَجَالِسِ، فَقَامُوا حِيَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم، ثُمَّ سَلَّمُوا عَلَى الْقَوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَقَامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ، فَلَمْ يُفْسَحْ لَهُمْ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ

الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ: «قُمْ يَا فُلَانُ وَأَنْتَ يَا فُلَانُ» فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُهُمْ بِعِدَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ هُمْ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ المهاجرين والأنصار أَهْلِ بَدْرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَن أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَرَاهَةَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ؟ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَاهُ قَبْلُ عَدَلَ عَلَى هَؤُلَاءِ، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيّهم، فَأَقَامَهُمْ، وَأَجْلَسَ مَنْ أَبْطَأَ عَنْهُ، فَبَلَغَنَا أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«رحم الله رجلاً يفسح لأخيه» ، فجعلوا يقومون بعد ذلك

ص: 463

سراعاً فيفسح الْقَوْمُ لِإِخْوَانِهِمْ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (رواه ابن أبي حاتم). وقد ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يُقِمِ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ فَيَجْلِسَ فِيهِ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وتوسعوا» (أخرجه الشيخان وأحمد). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«لايقم الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسْ فِيهِ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم» (أخرجه الإمام أَحْمَدُ). وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْقِيَامِ لِلْوَارِدِ إِذَا جَاءَ عَلَى أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِحَدِيثِ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِحَدِيثِ:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: يَجُوزُ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ سَفَرٍ، وَلِلْحَاكِمِ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قِصَّةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَإِنَّهُ لِمَا اسْتَقْدَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَاكِمًا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَرَآهُ مُقْبِلًا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ:«قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَكُونَ أَنْفَذَ لِحُكْمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَأَمَّا اتِّخَاذُهُ دَيْدَنًا فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْعَجَمِ، وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَنِ أنه لم يكن شخص أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ إِذَا جَاءَ لَا يَقُومُونَ لَهُ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، وَلَكِنْ حَيْثُ يَجْلِسُ يَكُونُ صَدْرُ ذَلِكَ المجلس؛ فكان الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يَجْلِسُونَ مِنْهُ عَلَى مراتبهم، فالصديق رضي الله عنه يُجْلِسُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِهِ؛ وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَالِبًا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ لِأَنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ يكتب الوحي، وكان يأمرهما بذلك؛ كما روى مسلم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقول:«ليلني مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثم الذين يلونهم» (أخرجه مسلم في صحيحه)، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنْهُ مَا يَقُولُهُ صلوات الله وسلامه عليهم، وفي الحديث الصحيح: بينا رسول الله جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَمَّا أَحَدُهُمْ فَوَجَدَ فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَدَخَلَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ وَرَاءَ النَّاسِ، وَأَدْبَرَ الثَّالِثُ ذَاهِبًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَبَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَآوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ الله عنه» . وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بإذنهما» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قِيلَ لَكُمُ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ} يَعْنِي فِي مَجَالِسِ الْحَرْبِ، قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وإذا قيل لكم انْشُزُوا فَانشُزُواْ} أَيِ انْهَضُوا لِلْقِتَالِ، وَقَالَ قَتَادَةُ:{وَإِذَا قِيلَ لكم انْشُزُوا فَانشُزُواْ} أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى خَيْرٍ فأجيبوا، وقال مقاتل: إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها، وقوله تَعَالَى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّهُ إِذَا فَسَحَ أَحَدٌ مِنْكُمْ لأخيه أن ذلك يكون نقصاً في حقه، بل هو رفعة ورتبة عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُضَيِّعُ ذَلِكَ لَهُ، بَلْ يَجْزِيهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِأَمْرِ اللَّهِ رَفَعَ اللَّهُ قدره ونشر ذكره، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ

ص: 464

الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، أَيْ خَبِيرٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ وَبِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، روى الإمام أحمد، عن أبي الطفيل أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أَبْزَى رجل من موالينا، فقال عمر: اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَاضٍ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» (أخرجه أحمد ورواه مسلم من غير وجه عن الزهريّ)، وَقَدْ ذَكَرْتُ فَضْلَ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مُسْتَقْصَاةً فِي «شَرْحِ كِتَابِ الْعِلْمِ» مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

ص: 465

- 12 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

- 13 - أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُنَاجِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ يُسَارُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُ وَتُزَكِّيهِ وَتُؤَهِّلُهُ لأن يصلح لهذا المقام، ولهذا قال تعالى:{ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} ، ثم قال تعالى:{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} أَيْ إِلَّا مِنْ عَجَزَ عن ذلك لفقره، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فَمَا أَمَرَ بِهَا إلاّ من قدر عليها، ثم قال تعالى:{ءَأَشفقتم أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} أَيْ أَخِفْتُمْ مِنَ اسْتِمْرَارِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَيْكُمْ مِنْ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ، {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وتاب عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فَنُسَخَ وُجُوبُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ نَسْخِهَا سِوَى عَلِيِّ بْنِ أبي طالب رضي الله عنه، قال مجاهد: نُهُوا عَنْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَتَصَدَّقُوا فَلَمْ يُنَاجِهِ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَدَّمَ دِينَارًا صَدَقَةً تَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ نَاجَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ عَشْرِ خِصَالٍ، ثُمَّ أُنْزِلَتِ الرخصة، وقال عَلِيٌّ رضي الله عنه: آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، كَانَ عِنْدِي دِينَارٌ فَصَرَفْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَكُنْتُ إِذَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصَدَّقْتُ بِدِرْهَمٍ، فَنُسِخَتْ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (هذه رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد) الآية. وقال ابن عباس {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ عليه السلام، فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين، وَكَفُّوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا:{أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وتاب عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} فَوَسَّعَ اللَّهُ عليهم ولم يضيق، وقال قتادة ومقاتل: سَأَلَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، ففطمهم اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذا كَانَتْ لَهُ الْحَاجَةُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْضِيَهَا، حَتَّى يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَدَقَةً، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ بَعْدَ ذَلِكَ:{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

ص: 465

- 14 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

- 15 - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

- 16 - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ

- 17 - لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

- 18 - يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ

- 19 - اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ

يقول الله تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي مُوَالَاتِهِمُ الْكُفَّارَ فِي الْبَاطِنِ، وَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا مَعَهُمْ وَلَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هؤلاء} ، وقال ههنا:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يمالئونهم ويوالونهم في الباطن، ثم قال تعالى:{مَّا هُم مِّنكُمْ ولامنهم} أي هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، وَلَا مِنَ الذين يوالونهم وهم اليهود، ثم قال تعالى:{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا حَلَفُوا وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ حَالِهِمُ اللَّعِينِ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا لَهُ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِيمَا حَلَفُوا بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ صِدْقَ مَا قَالُوهُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُطَابِقًا، وَلِهَذَا شَهِدَ اللَّهُ بِكَذِبِهِمْ في أيمانهم وشهادتهم لذلك، ثم قال تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ أَرْصَدَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَهِيَ مُوَالَاةُ الْكَافِرِينَ وَنُصْحُهُمْ وَمُعَادَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَغِشُّهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ وَاتَّقَوْا بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، فَظَنَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ صِدْقَهُمْ فَاغْتَرَّ بِهِمْ فَحَصَلَ بِهَذَا صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِبَعْضِ النَّاسِ {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ، أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا امْتَهَنُوا مِنَ الْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ فِي الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ الْحَانِثَةِ، ثُمَّ قَالَ تعالى:{لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً} ، أَيْ لَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بَأْسًا إِذَا جَاءَهُمْ:{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أَيْ يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ آخِرِهِمْ فَلَا يُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا، {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أَيْ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ عز وجل أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى وَالِاسْتِقَامَةِ كَمَا كَانُوا يَحْلِفُونَ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ وَبُعِثَ عَلَيْهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ النَّاسِ فَيُجْرُونَ عَلَيْهِمُ الْأَحْكَامَ الظَّاهِرَةَ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أَيْ حَلِفُهُمْ ذَلِكَ لِرَبِّهِمْ عز وجل، ثُمَّ قَالَ تعالى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ حُسْبَانَهُمْ {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فأكد الخبر عنهم بالكذب، روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حدَّثه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِهِ وَعِنْدَهُ نفر من المسلمين، قد كاد يَقْلِصُ عَنْهُمُ الظِّلَّ، قَالَ:«إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ يَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ فَإِذَا أَتَاكُمْ فَلَا تُكَلِّمُوهُ» . فجاء

ص: 466

رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ» نَفَرٌ دَعَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَدَعَاهُمْ فَحَلَفُوا لَهُ وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه أحمد وابن جرير)، ثم قال تعالى:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أَيِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الشَّيْطَانُ حَتَّى أَنْسَاهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عز وجل، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِمَنِ استحوذ عليه، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لاتقام فيهم الصلاة إلاّ وقد اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذئب القاصية» (أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء مرفوعاً). قَالَ السَّائِبُ: يَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} يَعْنِي الَّذِينَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخاسرون} .

ص: 467

- 20 - إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ

- 21 - كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ

- 22 - لَاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ يَعْنِي الَّذِينَ هُمْ فِي حَدٍّ وَالشَّرْعُ فِي حَدٍّ، أَيْ مُجَانِبُونَ لِلْحَقِّ مُشَاقُّونَ لَهُ، هُمْ فِي نَاحِيَةٍ وَالْهُدَى فِي نَاحِيَةٍ {أُولَئِكَ فِي الأذلين} أي في الأشقياء المبعدين الْأَذَلِّينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} أَيْ قَدْ حَكَمَ وَكَتَبَ فِي كتابه الأول، وقدره الذي لايخالف ولايمانع ولايبدل، بأن النصرة له ولكُتُبه وَرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِّلْمُتَّقِينَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ، وقال ههنا:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أَيْ كَتَبَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أَنَّهُ الْغَالِبُ لِأَعْدَائِهِ، وَهَذَا قَدْرٌ مُحْكَمٌ وَأَمْرٌ مُبْرَمٌ أَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالنُّصْرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{لَاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أَيْ لَا يُوَادُّونَ الْمُحَادِّينَ وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْأَقْرَبِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ والله لَا يَهْدِي القوم الفاسقين} أنزلت هذه الآية {لاتجد قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِلَى آخِرِهَا، في (أبي عبيدة بْنِ الْجَرَّاحِ) حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ جُعِلَ الْأَمْرُ شُورَى بَعْدَهُ فِي أولئك الستة رضي الله عنهم: ولم كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَيًّا لَاسْتَخْلَفْتُهُ، وَقِيلَ: فِي قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَآءَهُمْ} نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ،

ص: 467

{أَوْ أَبْنَآءَهُمْ} فِي الصِّدِّيقِ، همَّ يومئذٍ بِقَتْلِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} فِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يومئذٍ، {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فِي عُمَرَ قَتَلَ قَرِيبًا لَهُ يومئذٍ أَيْضًا، وَفِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد

ابن عتبة يومئذٍ، والله أعلم.

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أَيْ مَنِ اتَّصَفَ بِأَنَّهُ لَا يُوَادُّ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَبَاهُ أَوْ أَخَاهُ فَهَذَا مِمَّنْ كَتَبَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ، أَيْ كَتَبَ لَهُ السَّعَادَةَ وَقَرَّرَهَا في قلبه، وزين الإيمان في بصيرته، قال السُّدِّيُّ:{كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي قواهم، وقوله تعالى:{وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهم ررضوا عَنْهُ} كُلُّ هَذَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.

وفي قوله تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} سِرٌّ بَدِيعٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا سَخِطُوا عَلَى الْقَرَائِبِ وَالْعَشَائِرِ في الله تعالى عَوَّضَهُمُ اللَّهُ بِالرِّضَا عَنْهُمْ، وَأَرْضَاهُمْ عَنْهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ، وَالْفَضْلِ العميم، وقوله تعالى:{أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ هَؤُلَاءِ حِزْبُ اللَّهِ أَيْ عباد الله وأهل كرامته، وقوله تعالى:{إِلَاّ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تَنْوِيهٌ بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة.

وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ» ، فَهَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ:{أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المفلحون} (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال الْحَسَنُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ وَلَا لِفَاسِقٍ عِنْدِي يَدًا وَلَا نِعْمَةً، فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أَوْحَيْتَهُ إِلَيَّ: {لَاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} "(أخرجه أبو أحمد العسكري).

ص: 468