الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} .
- 30 - وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ
- 31 - جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فيها ما يشاؤون كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ
- 32 - الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
هَذَا خَبَرٌ عَنِ السُّعَدَاءِ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْأَشْقِيَاءِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ قِيلَ لَهُمْ:{مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} قَالُواْ: مُعْرِضِينَ عَنِ الْجَوَابِ، لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا إِنَّمَا هَذَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: خَيْرًا أَيْ أَنْزَلَ خَيْرًا، أَيْ رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به، ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله، فقال:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} الآية، كقوله تَعَالَى:{مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طيبة} أَيْ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْسَنَ الله إليه عمله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّ دَارَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، أَيْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْجَزَاءُ فيها أتم من الجزاء
في الدنيا، كقوله:{وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} ، وقال تعالى:{والآخرة خَيْرٌ وأبقى} ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ من الأولى} ، ثم وصف الدار الآخرة فقال:{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} ، وَقَوْلُهُ:{جَنَّاتُ عَدْنٍ} بَدَلٌ من دار المتقين، أي لهم في الآخرة جنات عدن أي مقام يَدْخُلُونَهَا، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ بَيْنَ أشجارها وقصورها، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ} ، كقوله تَعَالَى:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وَفِي الْحَدِيثِ:"إِنَّ السَّحَابَةَ لَتَمُرُّ بِالْمَلَأِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَرَابِهِمْ، فَلَا يشتهي أحد منهم شيئاً إلا أمطرته عليه، حتى إن منهم ليقول: أَمْطِرِينَا كَوَاعِبَ أَتْرَابًا فَيَكُونُ ذَلِكَ"، {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} ، أَيْ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ وَأَحْسَنَ عَمَلَهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِهِمْ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ أَنَّهُمْ طَيِّبُونَ، أَيْ مُخَلَّصُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنَسِ وَكُلِّ سُوءٍ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَتُبَشِّرُهُمْ بِالْجَنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أن لا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ توعدون} . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي قَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ وَرُوحِ الْكَافِرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بالقول الثابت} . الآية.
- 33 - هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا
ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
- 34 - فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
يقول تعالى مهدداً لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَاغْتِرَارِهِمْ بِالدُّنْيَا: هَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ لقبض أَرْوَاحِهِمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ، {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أَيْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَمَا يُعَايِنُونَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ. وَقَوْلُهُ:{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ هَكَذَا تَمَادَى فِي شِرْكِهِمْ أَسْلَافُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَ
⦗ص: 330⦘
اللَّهِ، وَحَلُّوا فيما هم مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ وَأَقَامَ حُجَجَهُ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ، وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ بِمُخَالَفَةِ الرُّسُلِ وَالتَّكْذِيبِ بِمَا جَاءُوا بِهِ؛ فَلِهَذَا أَصَابَتْهُمْ عُقُوبَةُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، {وَحَاقَ بِهِم} أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ يَسْخَرُونَ مِنَ الرُّسُلِ إِذَا
تَوَعَّدُوهُمْ بِعِقَابِ اللَّهِ فَلِهَذَا يُقال لهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} .
- 35 - وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
- 36 - وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
- 37 - إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا كَانُوا ابْتَدَعُوهُ وَاخْتَرَعُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُنَزِّلِ به سطاناً، وَمَضْمُونُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعَالَى كَارِهًا لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ولما أمكننا منه، قال تعالى رَادًّا عَلَيْهِمْ شُبْهَتَهُمْ:{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ أنه لم ينكره عليكم، بَلْ قَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْكُمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ آكَدَ النَّهْيِ، وَبَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ في كل قرن وطائفة من الناس رسولاً، فَلَمْ يَزَلْ تَعَالَى يُرْسِلُ إِلَى النَّاسِ الرُّسُلَ بِذَلِكَ مُنْذُ حَدَثَ الشِّرْكُ فِي بَنِي آدَمَ فِي قَوْمِ نُوحٍ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَى أَنْ خَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي طَبَّقَتْ دَعْوَتُهُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ في المشارق والمغارب. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَقُولَ:{لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} ؟ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منفية لِأَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ؛ وَأَمَّا مَشِيئَتُهُ الْكَوْنِيَّةُ وَهِيَ تَمْكِينُهُمْ مِنْ ذَلِكَ قَدَرًا فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ النَّارَ وَأَهْلَهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ وَهُوَ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ وَحِكْمَةٌ قَاطِعَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قد أخبر أنه أنكر عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ إِنْذَارِ الرُّسُلِ، فَلِهَذَا قَالَ:{فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أَيِ اسْأَلُوا عَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ وَكَذَّبَ الْحَقَّ، كَيْفَ {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أمثالها} ، فقال:{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكير} ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ حِرْصَهُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ لَا يَنْفَعُهُمْ، إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَرَادَ إِضْلَالَهُمْ، كقوله تَعَالَى:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شيئا} ، وَقَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ:{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يغويكم} ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:{إِنَّ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ} . كما قال الله: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ
ويذرهم في طيغانهم يعمهون}، وقوله:{فَإِنَّ الله} أي شأنه وأمره، {لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ} أَيْ مَنْ أَضَلَّهُ، فمن ذا الَّذِي يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ أَيْ لَا أحد {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي ينقذونه مِنْ عَذَابِهِ وَوَثَاقِهِ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالمين} .
- 38 - وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مِن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- 39 - لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ
- 40 - إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عن المشركين إنهم خلفوا فَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَيِ اجْتَهَدُوا فِي الحلف وغلظوا الأيمان أَنَّهُ لَا يَبْعَثَ اللَّهُ مِن يَمُوتُ، أَيِ استبعدوا ذلك وكذبوا الرُّسُلَ فِي إِخْبَارِهِمْ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَحَلَفُوا عَلَى نقيضه. فقال تعالى مكذباً لهم وراداً عَلَيْهِمْ:{بَلَى} أَيْ بَلَى سَيَكُونُ ذَلِكَ، {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أَيْ لَا بُدَّ مِنْهُ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ فَلِجَهْلِهِمْ يُخَالِفُونَ الرُّسُلَ وَيَقَعُونَ فِي الْكُفْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي الْمَعَادِ وَقِيَامِ الْأَجْسَادِ يَوْمَ التَّنَادِ فَقَالَ:{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} أَيْ لِلنَّاسِ، {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي من كل شيء، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} أَيْ فِي أَيْمَانِهِمْ وَأَقْسَامِهِمْ
لَا يَبْعَثَ اللَّهُ مِن يموت. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ ولا في السماء، وَالْمَعَادُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ كَوْنُهُ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ كَمَا يَشَاءُ كقوله {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} ، وَقَالَ:{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يمانع، ولا يخالف، لأنه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، الْعَظِيمُ الَّذِي قَهَرَ سُلْطَانُهُ وَجَبَرُوتُهُ وَعِزَّتُهُ كُلَّ شَيْءٍ فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
- 41 - وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
- 42 - الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَزَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، الَّذِينَ فَارَقُوا الدَّارَ والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه، وقد وعدهم تَعَالَى بِالْمُجَازَاةِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ:{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَدِينَةُ، وَقِيلَ: الرِّزْقُ الطَّيِّبُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا مَسَاكِنَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَعَوَّضَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ بِمَا هو خير له منه، وكذلك وقع، فإن الله مكن لَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَحَكَّمَهُمْ عَلَى رِقَابِ الْعِبَادِ، وصاروا أُمَرَاءَ حُكَّامًا وَكُلٌّ مِنْهُمْ لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ:{وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} أَيْ مِمَّا أَعْطَيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أَيْ لَوْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْهِجْرَةِ مَعَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا ادَّخَرَ اللَّهُ لِمَنْ أطاعه واتبع رسوله، وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ
بن الخطاب رضي الله عنه إِذَا أَعْطَى الرَّجُلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءَهُ يَقُولُ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ تَعَالَى فَقَالَ:{الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أَيْ صَبَرُوا على الأذى مِنْ قَوْمِهِمْ مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ الَّذِي أَحْسَنَ لَهُمُ الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
- 43 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ
- 44 - بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَسُولًا أَنْكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ أَوْ مِن أَنْكَرَ مِنْهُمْ وَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أنذر الناس} الآية، وَقَالَ:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ} يَعْنِي أَهْلَ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ أَبَشَرًا كانت الرسل إليهم أَمْ مَلَائِكَةً؟ فَإِنْ كَانُوا مَلَائِكَةً أَنْكَرْتُمْ، وَإِنْ كَانُوا بَشَرًا فَلَا تُنْكِرُوا أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رسولاً، والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضيين قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانُوا بَشَرًا كَمَا هُوَ بَشَرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَاّ بَشَراً رسولا} ، وَقَالَ:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} ، ثُمَّ أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَكَّ فِي كَوْنِ الرُّسُلِ كَانُوا بَشَرًا إِلَى سُؤَالِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ سَلَفُوا، هَلْ كَانَ أَنْبِيَاؤُهُمْ بَشَرًا أَوْ مَلَائِكَةً، ثُمَّ ذَكَرَ تعالى أنه أرسلهم {بالبينات} أي بالحجج والدلائل {وَالزُّبُرِ} وَهِيَ الْكُتُبُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ؛ وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبْتُهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} ، وَقَالَ:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} يَعْنِي القرآن {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عَلَيْكَ، وَحِرْصِكَ عَلَيْهِ وَاتِّبَاعِكَ لَهُ، وَلِعِلْمِنَا بِأَنَّكَ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فَتُفَصِّلَ لَهُمْ ما أجمل وتبين لهم ما أشكل والمراد بأهل الذكر أهل الكتاب (قاله ابن عباس ومجاهد والأعمش وعبد الرحمن بن زيد)، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي ينظرون لأنفسهم فيتهدون فَيَفُوزُونَ بِالنَّجَاةِ فِي الدَّارَيْنِ.
- 45 - أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
- 46 - أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ
- 47 - أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
يخبر تعالى عن حلمه وَإِنْظَارِهِ الْعُصَاةَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا، وَيَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّاهُمْ وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا مع قدرته على أن يخسف بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ مجئيه إليهم، كقوله تعالى:{أفأمنتم مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تمور} ، وقوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ
فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أَسْفَارٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَشْغَالِ الْمُلْهِيَةِ، قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: تَقَلُّبِهِمْ أَيْ أَسْفَارِهِمْ؛ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} فِي الليل والنهار، كقوله:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وهو نائمون} ، وَقَوْلُهُ:{فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} أَيْ لَا يُعْجِزُونَ على اللَّهَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:{أَوِ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أَيْ أَوْ يَأْخُذَهُمُ اللَّهُ فِي حَالِ خَوْفِهِمْ مِنْ أَخْذِهِ لَهُمْ، فإنه يكون أبلغ وأشد، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف الشديد، ولهذا قال ابْنِ عَبَّاسٍ:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} : يَقُولُ: إِنْ شِئْتُ أَخَذْتُهُ عَلَى أَثَرِ مَوْتِ صَاحِبِهِ وتحوفه بذلك (وكذا روي عن مجاهد وقتادة والضحّاك). ثم قال تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم} أَيْ حَيْثُ لَمْ يُعَاجِلْكُمْ بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ ويعافيهم» ، وقال تعالى:{وكأي مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير} .
- 48 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ
- 49 - وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَآبَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
- 50 - يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ الَّذِي خَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها، جماداتها وَحَيَوَانَاتُهَا وَمُكَلَّفُوهَا مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَا لَهُ ظِلٍّ يَتَفَيَّأُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، أَيْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَإِنَّهُ سَاجِدٌ بِظِلِّهِ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ عز وجل، وَقَوْلُهُ:{وَهُمْ دَاخِرُونَ} أَيْ صَاغِرُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أيضاً: سجود كل شيء فيؤه، وأمواج البحر صلاته، ونزلهم منزلة من يعقل إذا أسند السجود إليهم، فقال:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ} ، كَمَا قَالَ:{وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} ، وَقَوْلُهُ:{وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ تَسْجُدُ لِلَّهِ أَيْ غَيْرَ مُسْتَكْبِرِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} أَيْ يَسْجُدُونَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِنَ الرَّبِّ جل جلاله، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أَيْ مُثَابِرِينَ عَلَى طَاعَتِهِ تَعَالَى وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وترك زواجره.
- 51 - وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
- 52 - وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ
- 53 - وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
- 54 - ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
- 55 - لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تعلمون
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ مَالِكُ كُلُّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَرَبُّهُ {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} ، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: أي دائماً، وعن ابن عباس أيضاً: أي واجباً، وقال مجاهد: أي خالصاً له، أَيْ لَهُ الْعِبَادَةُ وَحْدَهُ مِمَّنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض، كقوله:{أَلَا لِلَّهِ الدين الخالص} ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَالِكُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَأَنَّ ما بالعباد مِنْ رِزْقٍ وَنِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ وَنَصْرٍ فَمِنْ فَضْلِهِ عليهم، وإحسانه إليهم، {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} أَيْ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَتِهِ إِلَّا هو، فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه، وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به، كقوله تَعَالَى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} ، وقال ههنا:{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} قِيلَ اللام ههنا لام العاقبة، وقيل: لام التعليل. بمعنى قضينا لَهُمْ ذَلِكَ لِيَكْفُرُوا أَيْ يَسْتُرُوا وَيَجْحَدُوا نِعَمَ الله عليهم، مع أنه الْمُسْدِي إِلَيْهِمُ النِّعَمَ، الْكَاشِفُ عَنْهُمُ النِّقَمَ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ قَائِلًا:{فَتَمَتَّعُواْ} أَيِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ قَلِيلًا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أَيْ عاقبة ذلك.
- 56 - وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
- 57 - وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ
- 58 - وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
- 59 - يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
- 60 - لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم وجعلوا للأوثان نَصِيبًا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، فَقَالُواْ:{هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا} أي جعلوا لآلهتم نصيباً مع الله وفضلوها عَلَى جَانِبِهِ، فَأَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه ائتفكوه، وَلَيُقَابِلَنَّهُمْ عَلَيْهِ وَلَيُجَازِيَنَّهُمْ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَقَالَ:{تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ إناثاً وجعلوها بنات الله، فعبدوها معه، فنسبوا إليه تعالى الولد وَلَا وَلَدَ لَهُ، ثُمَّ أَعْطَوْهُ أَخَسَّ الْقِسْمَيْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَهُوَ الْبَنَاتُ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} ، وقوله ههنا:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} أَيْ عَنْ قَوْلِهِمْ وإفكهم، {أَلَا إنهم ليقولن وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى البنين؟ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ يَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الذُّكُورَ وَيَأْنَفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَنَاتِ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِنَّهُ {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} أَيْ كَئِيبًا مِنَ الْهَمِّ {وَهُوَ كَظِيمٌ} سَاكِتٌ مِنْ شِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} أَيْ يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ
أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أَيْ إِنْ أَبْقَاهَا أَبْقَاهَا مُهَانَةً لَا يُورِّثُهَا وَلَا يَعْتَنِي بِهَا، وَيُفَضِّلُ أَوْلَادَهُ الذُّكُورَ عَلَيْهَا، {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أَيْ يَئِدُهَا وَهُوَ أَنْ يَدْفِنَهَا فِيهِ حَيَّةً كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَفَمَنْ يَكْرَهُونَهُ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ وَيَأْنَفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَنْهُ يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ؟ {أَلَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ بِئْسَ مَا قَالُوا،
وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، كقوله تَعَالَى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} ، وقوله ههنا:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} أَيِ النَّقْصُ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أَيِ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
- 61 - وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ
- 62 - وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حِلْمِهِ بِخَلْقِهِ مَعَ ظُلْمِهِمْ، وَأَنَّهُ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِ الأرض مِن دَآبَّةٍ، أي لأهلك دواب الأرض ومعهم بنو آدَمَ، وَلَكِنَّ الرَّبَّ جل جلاله يَحْلُمُ وَيَسْتُرُ، وَيُنْظِرُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ إِذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ لَمَا أبقى أحداً. وفي الحديث:«إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهُ، وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْعُمُرِ بِالذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ يَرْزُقُهَا الله العبد فيدعون لَهُ مِن بَعْدِهِ، فليحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء مرفوعاً). وَقَوْلُهُ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أَيْ مِنَ البنات ومن الشركاء الذين هم عَبِيدِهِ وَهُمْ يَأْنَفُونَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ شَرِيكٌ لَهُ فِي مَالِهِ، وَقَوْلُهُ:{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أن لهم الحسنى} إنكاراً عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُمُ الحسنى في الدنيا، كقوله:{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} ، وَقَوْلُهُ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مالا وولدا} فَجَمَعَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ عَمَلِ السُّوءِ، وَتَمَنِّي الْبَاطِلَ بِأَنْ يُجَازَوْا عَلَى ذَلِكَ حُسْنًا وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ، يعملون السيئات ويجزون الحسنات؟ أيجتبى من الشوك العنب؟ ولهذا قال تعالى رداً عَلَيْهِمْ فِي تَمَنِّيهِمْ ذَلِكَ:{لَا جَرَمَ} أَيْ حَقًّا لَا بُدَّ مِنْهُ، {أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: مَنْسِيُّونَ فِيهَا مُضَيَّعُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا {مُّفْرَطُونَ} : أَيْ مُعَجَّلُونَ إِلَى النَّارِ مِنَ الْفَرَطِ وَهُوَ السَّابِقُ إِلَى الْوِرْدِ، وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُمْ يُعَجَّلُ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ وَيُنْسَوْنَ فِيهَا أَيْ يَخْلُدُونَ.
- 63 - تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- 64 - وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
- 65 - وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ رُسُلًا فَكُذِّبَتِ الرسل، فلك يا محمد فِي إخوتك من المرسلين أسوة فلا يهُمنَّك تَكْذِيبُ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لهم ما
فَعَلُوهُ. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أَيْ هُمْ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَالشَّيْطَانُ وَلِيُّهُمْ وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ خَلَاصًا، وَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَالْقُرْآنُ فَاصِلٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ، {وَهُدًى} أَيْ لِلْقُلُوبِ، {وَرَحْمَةً} أَيْ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وَكَمَا جَعَلَ سبحانه القرآن حياة القلوب الميتة بكفرها كذلك يُحْيِي الأرض بَعْدَ موتها بما أنزله عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ مِن مَاءٍ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أَيْ يَفْهَمُونَ الْكَلَامَ ومعناه.
- 66 - وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ
- 67 - وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِن لَكُمْ} أَيُّهَا النَّاسُ {فِي الْأَنْعَامِ} وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ {لَعِبْرَةً} أَيْ لَآيَةً وَدَلَالَةً عَلَى حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه، {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الْأَنْعَامَ حَيَوَانَاتٌ، أَيْ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بَطْنِ هَذَا الْحَيَوَانِ، وفي الآية الأُخْرى {مِّمَّا فِي بطونها} ويجوز هذا وهذا، كما في قوله:{كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} ، وَقَوْلُهُ:{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً} أَيْ يَتَخَلَّصُ الدَّمُ بَيَاضَهُ وَطَعْمَهُ وَحَلَاوَتَهُ، مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ، فَيَسْرِي كُلٌّ إِلَى مَوْطِنِهِ إِذَا نَضِجَ الْغِذَاءُ فِي معدته، فينصرف مِنْهُ دَمٌ إِلَى الْعُرُوقِ، وَلَبَنٌ إِلَى الضَّرْعِ، وَبَوْلٌ إِلَى الْمَثَانَةِ، وَرَوْثٌ إِلَى الْمَخْرَجِ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَا يَشُوبُ الْآخَرَ، وَلَا يُمَازِجُهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْهُ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ. وَقَوْلُهُ:{لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} أَيْ لَا يَغَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّبَنَ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ شَرَابًا لِلنَّاسِ سَائِغًا ثَنَّى بِذِكْرِ مَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ، وَلِهَذَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:
{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} ، قال ابن عباس: السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ
ثَمَرَتَيْهِمَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا أُحِلَّ مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا، وَفِي رِوَايَةٍ: السَّكَرُ حَرَامُهُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ حَلَالُهُ، يَعْنِي مَا يَبِسَ مِنْهُمَا مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ، وَمَا عُمِلَ مِنْهُمَا مِنْ طِلَاءٍ وَهُوَ الدِّبْسُ وَخَلٍّ وَنَبِيذٍ حَلَالٌ يُشْرَبُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، كَمَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرمه اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَشْرِبَةَ الْمُسْكِرَةَ صِيَانَةً لعقولها وقال اللَّهُ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أفلا يشكرون} ؟.
- 68 - وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
- 69 - ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لقوم يتفكرون
المراد بالوحي هنا (الإلهام) والهداية والإرشاد للنحل، أَنْ تَتَّخِذَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً تَأْوِي إِلَيْهَا، ومن الشجر ومما يعرشون، ثُمَّ أَذِنَ لَهَا تَعَالَى إِذْنًا قَدَرِيًّا تَسْخِيرِيًّا أَنْ تَأْكُلَ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ، وَأَنْ تَسْلُكَ الطرق التي جعلها الله تعالى
مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هَذَا الْجَوِّ الْعَظِيمِ وَالْبَرَارِي الشَّاسِعَةِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ، ثُمَّ تَعُودُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى بيتا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ فِرَاخٍ وَعَسَلٍ، فَتَبْنِي الشَّمْعَ مِنْ أَجْنِحَتِهَا، وَتَقِيءُ الْعَسَلَ مِنْ فِيهَا، ثم تصبح إلى مراعيها. وقوله تعالى:{فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} أَيْ فَاسْلُكِيهَا مُذَلَّلَةً لَكِ، نَصَّ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فيه شفآء للناس} مَا بَيْنَ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَحْمَرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْوَانِ الْحَسَنَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاعِيهَا وَمَأْكَلِهَا مِنْهَا، وَقَوْلُهُ:{فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} أَيْ فِي العسل شفاء للناس، أمِنْ أَدْوَاءٍ تَعْرِضُ لَّهُمْ. قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الطِّبِّ النَّبَوِيِّ: لَوْ قَالَ فِيهِ الشِّفَاءُ لِلنَّاسِ
لَكَانَ دَوَاءً لِكُلِّ دَاءٍ؛ وَلَكِنْ قال: فيه شفآء للناس (روي عن مجاهد وابن جرير في قوله: {فيه شفآء للناس} أن المراد به الْقُرْآنَ وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ ليس هو الظاهر ههنا من سياق الآية، فإن الآية ذكر فيها العسل فالضمير يعود إليه والله أعلم)، أَيْ يَصْلُحُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَدْوَاءٍ بَارِدَةٍ، فإنه حار، والشيء يداوى بضده. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أن رجلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ:«اسقه عسلاً» فذهب فَسَقَاهُ عَسَلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله سقيته عسلاً فما زاده اسْتِطْلَاقًا. قَالَ: «اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا» ، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا» ، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عسلاً فبرئ (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ فَضَلَاتٌ، فَلَمَّا سَقَاهُ عَسَلًا وَهُوَ حَارٌّ تحللت فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالاً، فَاعْتَقَدَ الْأَعْرَابِيُّ أَنَّ هَذَا يَضُرُّهُ وَهُوَ مَصْلَحَةٌ لِأَخِيهِ، ثُمَّ سَقَاهُ فَازْدَادَ التَّحْلِيلُ وَالدَّفْعُ، ثُمَّ سقاه فكذلك، فلما اندفعت
الفضلات لفاسدة الْمُضِرَّةُ بِالْبَدَنِ اسْتَمْسَكَ بَطْنُهُ وَصَلُحَ مِزَاجُهُ وَانْدَفَعَتِ الْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ بِبَرَكَةِ إِشَارَتِهِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أفضل الصلاة والسلام. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل. وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ".
وَقَالَ البخاري، عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كان فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ: فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ توافق الداء، وما أحب أن أكتوي". وفي الحديث: "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن"(رواه ابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعاً، قال ابن كثير: وإسناده جيد)، وعن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الشِّفَاءَ فَلْيَكْتُبْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي صَحْفَةٍ، وَلْيَغْسِلْهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَلْيَأْخُذْ مِنِ امْرَأَتِهِ دِرْهَمًا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، فَلْيَشْتَرِ بِهِ عَسَلًا فَلْيَشْرَبْهُ كذلك فَإِنَّهُ شِفَاءٌ، أَيْ مِنْ وُجُوهٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ ورحمة للمؤمنين} ، وقال:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مآء مباركا} ، وَقَالَ:{فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مريئا} ، وقال في العسل:{فيه شفآء للناس} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أَيْ إِنَّ فِي إِلْهَامِ اللَّهِ لِهَذِهِ الدَّوَابِّ الضَّعِيفَةِ الْخِلْقَةِ إِلَى السُّلُوكِ فِي هَذِهِ الْمَهَامَةِ وَالِاجْتِنَاءِ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ، ثُمَّ جَمْعِهَا لِلشَّمْعِ والعسل وهو أَطْيَبِ الْأَشْيَاءِ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَمُقَدِّرِهَا وَمُسَخِّرِهَا وَمُيَسِّرِهَا فَيَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْقَادِرُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْكَرِيمُ الرَّحِيمُ.
- 70 - وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَوَفَّاهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه {أَرْذَلِ العمر}: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَفِي هَذَا السِّنِّ يَحْصُلُ لَهُ ضَعْفُ الْقُوَى وَالْخَرَفُ وَسُوءُ الْحِفْظِ وَقِلَّةُ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا قَالَ:{لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} أي بعد ما كَانَ عَالِمًا أَصْبَحَ لَا يَدْرِي شَيْئًا مِنَ الْفَنَدِ وَالْخَرَفِ، وَلِهَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هذه الآية عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو:«أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» .
- 71 - وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
يُبَيِّنُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ جَهْلَهُمْ وَكُفْرَهُمْ فِيمَا زعموه لله من الشركاء، وهم يعترفون أنه عَبِيدٌ لَهُ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ فِي حَجِّهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَقَالَ تعالى منكراً عليهم: أنتم لَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُسَاوُوا عَبِيدَكُمْ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم؟ قال ابن عباس في هذه الآية: لَمْ يَكُونُوا لِيُشْرِكُوا عَبِيدَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ عَبِيدِي مَعِي فِي سُلْطَانِي؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} . وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ: فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ؟ وقال مجاهد: هذا مثل الآلهة الْبَاطِلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فهل منكم من أحد يشاركه مَمْلُوكَهُ فِي زَوْجَتِهِ وَفِي فِرَاشِهِ فَتَعْدِلُونَ بِاللَّهِ خَلْقَهُ وَعِبَادَهُ؟ فَإِنْ لَمْ تَرْضَ لِنَفْسِكَ هَذَا فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُنَزَّهَ مِنْكَ، وَقَوْلُهُ:{أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} أي كيف جحدوا نَعَمْتَهُ وَأَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: (وَاقْنَعْ بِرِزْقِكَ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الرَّحْمَنَ فَضَّلَ بَعْضَ عِبَادِهِ عَلَى بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلا، فيبتلي به مَنْ بَسَطَ لَهُ كَيْفَ شُكْرُهُ لِلَّهِ وَأَدَاؤُهُ الْحَقَّ الَّذِي افْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيمَا رَزَقَهُ وَخَوَّلَهُ)(رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).
- 72 - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى عَبِيدِهِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَزْوَاجًا مِنْ جِنْسِهِمْ وَشِكْلِهِمْ، ولو جعل الأزواج من نوع
-
47 - سورة محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 - الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
- 2 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
- 3 - ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
يَقُولُ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ بِآيَاتِ اللَّهِ {وَصَدُّواْ} غَيْرَهُمْ {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ أبطلها وأذهبها، ولم يجعل لها ثواباً ولا جزاء، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً منثوراً} ، ثم قال جلَّ وعلا {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وسرائرهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وبواطنهم، {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، وقوله تبارك وتعالى:{وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ حَسَنَةٌ، ولهذا قال جل جلاله:{كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ أَمْرَهُمْ؛ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَأْنَهُمْ، وَقَالَ قتادة: حالهم، والكل متقارب، وفي حَدِيثِ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ «يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» ، ثم قال عز وجل:{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} أَيْ إِنَّمَا أَبْطَلْنَا أَعْمَالَ الْكُفَّارِ، وَتَجَاوَزْنَا عَنْ سَيِّئَاتِ الأبرار، وأصلحنا شؤونهم؛ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ، أَيِ اخْتَارُوا الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أَيْ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَآلَ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يصيرون إليه في معادهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 4 - فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
- 5 - سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
- 6 - وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
- 7 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
- 8 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
- 9 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
يَقُولُ تَعَالَى مُرْشِدًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حُرُوبِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أَيْ إِذَا وَاجَهْتُمُوهُمْ فَاحْصُدُوهُمْ حصداً بالسيوف، {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} أي أهلكتموهم قتلاً، {فَشُدُّواْ الوثاق} الْأُسَارَى الَّذِينَ تَأْسِرُونَهُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ المعركة مخيرون في أمرهم، إن شئتم منتم عَلَيْهِمْ فَأَطْلَقْتُمْ أُسَارَاهُمْ مَجَّانًا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ بمال تأخذونه منهم، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بدر، فإن الله سبحانه وتعالى عَاتَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْأُسَارَى يومئذٍ ليأخذوا منهم الفداء فَقَالَ:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} ، ثُمَّ قد ادعى بعض العلماء أن الآية مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} الآية، روي عن ابن عباس والضحاك والسدي. وقال الأكثرون: ليست بمنسوخة، والإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته، وله أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ شَاءَ لِحَدِيثِ قَتْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ) و (عقبة بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ) مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَالَ الشافعي رحمه الله: الْإِمَامُ مخيَّر بَيْنَ قَتْلِهِ أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ أو مفادته أو استرقاقه، وقوله عز وجل:{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال» . وَهَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ بِعَدَمِ النَّسْخِ، كَأَنَّهُ شَرَّعَ هذا الحكم في الحرب إلى أن يبقى لا حَرْبٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله} ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا أَيْ أَوْزَارَ الْمُحَارِبِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِأَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَقِيلَ: أَوْزَارُ أَهْلِهَا بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى، وقوله عز وجل:{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أَيْ هَذَا وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَانْتَقَمَ مِنَ الْكَافِرِينَ بعقوبة ونكال من عنده {ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أَيْ وَلَكِنْ شَرَعَ لَكُمُ الْجِهَادَ وَقِتَالَ الْأَعْدَاءِ، لِيَخْتَبِرَكُمْ وَيَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ، كَمَا ذَكَرَ حكمته في شرعية الجهاد في قوله تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مؤمنين} ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْقِتَالِ أَنْ يُقْتَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ:{وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ لَنْ يُذْهِبَهَا بَلْ يُكَثِّرُهَا وَيُنَمِّيهَا وَيُضَاعِفُهَا، وَمِنْهُمْ من يجري عليه عمله طول برزخه، كما ورد بذلك الحديث عن المقدام بن معد يكرب الكِنْدي رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتَّ خِصَالٍ: أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أول دفقة مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ عذاب القبر، ويأمن الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ مرصع بالدر والياقوت، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ويزوج اثنتين وسبعين مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا من أقاربه"(أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ شيء إلا الدين» (أخرجه مسلم في صحيحه). وفي الصحيح: «يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» (أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء مرفوعاً)، وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الشَّهِيدِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ تبارك وتعالى: {سَيَهْدِيهِمْ} أي إلى الجنة {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أَيْ أَمْرَهُمْ وَحَالَهُمْ، {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أَيْ عَرَّفَهُمْ بِهَا وَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَهْتَدِي أَهْلُهَا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَحَيْثُ قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْهَا، لَا يُخْطِئُونَ كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يَعْرِفُونَ بُيُوتَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ كَمَا تَعْرِفُونَ بُيُوتَكُمْ إِذَا انْصَرَفْتُمْ من الجمعة، وقال مقاتل: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي كَانَ وُكِّلَ بِحِفْظِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْجَنَّةِ، وَيَتْبَعُهُ ابْنُ آدَمَ حَتَّى يَأْتِيَ أَقْصَى مَنْزِلٍ هُوَ
لَهُ فَيُعَرِّفُهُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَاهُ الله تعالى فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَقْصَى مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَانْصَرَفَ الملك عنه، وقد ورد في الحديث الصحيح بذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاضون مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا ذهبوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَهْدَى مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا» (أخرجه البخاري في صحيحه)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، كَقَوْلِهِ عز وجل:{وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن ينصره} فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى:{وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:«مَنْ بَلَّغَ ذَا سُلْطَانٍ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبلاغها، ثبَّت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة» ، ثم قال تبارك وتعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} عَكْسُ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ للمؤمنين. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ القطيفة، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» أَيْ فلا شفاه الله عز وجل، وقوله سبحانه وتعالى:{وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ أَحْبَطَهَا وَأَبْطَلَهَا، وَلِهَذَا قَالَ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أَيْ لَا يُرِيدُونَهُ وَلَا يُحِبُّونَهُ {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
- 10 - أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
- 11 - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ
- 12 - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ
- 13 - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ
يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ {فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي عاقبتهم بِتَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ أَيْ ونَّجى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِ أظهرهم، ولهذا قال تعالى:{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} ، ولهذا لما قال
أبو سفيان رئيس المشركين يوم أُحُد: اعلُ هُبَل، اعلُ هُبَل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ألا تجيبوه؟» فقالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا: «اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ» ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا تُجِيبُوهُ؟» ، قَالُوا: وَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ"، ثُمَّ قَالَ سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} أَيْ فِي دُنْيَاهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَيَأْكُلُونَ منها كأكل الأنعام، خضماً وقضماً ليس لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ:«الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعَى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» ، ثُمَّ قَالَ تعالى:{وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} أَيْ يَوْمَ جَزَائِهِمْ، وَقَوْلُهُ عز وجل:{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} يَعْنِي مَكَّةَ {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، فِي تَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَيِّدُ الرسل وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ عز وجل قد أهلك الذين كذبوا الرسل قبله، فما ظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الدنيا والأُخرى؟ وقوله تعالى:{مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} أَيِ الَّذِينَ أَخْرَجُوكَ من بين أظهرهم، روى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ مِنْ مكة إلى الغار وأتاه، فالتفت إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ:«أَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَيَّ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك» (أخرجه ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى فِي حَرَمِهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قتل بذُحول الجاهلية، فأنزل اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نبيِّه صلى الله عليه وسلم:{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} .
- 14 - أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
- 15 - مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أمعاءهم
يقول تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أَيْ عَلَى بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَدِينِهِ، بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، وَبِمَا جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}؟ أي ليس هذا كهذا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} ؟ ثم قال عز وجل: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} قَالَ عِكْرِمَةُ {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} أَيْ نَعْتُهَا، {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} يعني غير متغير، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَسِنَ الماءُ إِذَا تَغَيَّرَ رِيحُهُ، وفي حديث مرفوع {غَيْرِ آسِنٍ} يَعْنِي الصَّافِي الَّذِي لَا كَدَرَ فيه، وقال عبد الله رضي الله عنه: أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تُفَجَّرُ مِنْ جَبَلٍ مِنْ مِسْكٍ {وَأَنْهَارٌ مِّن لبن لم يتغير طَعْمُهُ} بَلْ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالْحَلَاوَةِ وَالدُّسُومَةِ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ:«لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ضُرُوعِ الْمَاشِيَةِ» ، {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أَيْ لَيْسَتْ كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة، {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} {لَاّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ولا ينزفون} ، وفي حديث مرفوع:«لم يعصرها الرجال بأقدامهم» {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} أَيْ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ وَحُسْنِ اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرِّيحِ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ:«لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ» . روى الإمام
أحمد عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ اللَّبَنِ وَبَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الْأَنْهَارُ منها بعد» (أخرجه أحمد، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح). وفي الصحيح: «إذا سألتم الله تعالى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» ، وقال الحافظ الطبراني عن عاصم أن لقيط ابن عَامِرٍ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله فعلى ما نطلع من الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «على أنهار من عَسَلٍ مُصَفًّى، وَأَنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ مَا بِهَا صداع ولا ندامة، زأنهار مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَفَاكِهَةٍ لَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَعْلَمُونَ، وَخَيْرٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَأَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أوَ لنا فِيهَا أَزْوَاجٌ مُصْلِحَاتٌ؟ قَالَ: «الصَّالِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ تَلَذُّونَهُنَّ مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير أن لا توالد» . وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي أُخْدُودٍ فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَتَجْرِي سَائِحَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَافَّاتُهَا قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ، وَطِينُهَا المسك الأذفر (أخرجه ابن أبي الدنيا موقوفاً، ورواه ابن مردويه مرفوعاً).
وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} كقوله عز وجل: {يدعون فيها بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} ، وقوله سبحانه وتعالى:{وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أَيْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وقوله سبحانه وتعالى:{كَمَنْ هُوَ خالد فِي النار؟} أي هؤلاء الَّذِينَ ذَكَرْنَا مَنْزِلَتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، كَمَنْ هُوَ خالد في النار؟ ليس هؤلاء كهؤلاء، وليس مَنْ هُوَ فِي الدَّرَجَاتِ كَمَنْ هُوَ فِي الدَّرَكَاتِ، {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً} أَيْ حَارًّا شَدِيدَ الْحَرِّ لَا يُسْتَطَاعُ، {فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} أَيْ قَطَّعَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الْأَمْعَاءِ وَالْأَحْشَاءِ، عِيَاذًا بالله تعالى من ذلك.
- 16 - وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
- 17 - وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
- 18 - فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
- 19 - فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي بَلَادَتِهِمْ وَقِلَّةِ فَهْمِهِمْ، حَيْثُ كَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فلا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ {قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم} مِن الصحابة رضي الله عنهم {مَاذَا قَالَ آنِفاً} ؟ أَيِ السَّاعَةَ لَا يَعْقِلُونَ ما قال، وَلَا يَكْتَرِثُونَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ فَلَا فَهْمٌ صَحِيحٌ وَلَا قَصْدٌ صَحِيحٌ، ثم قال عز وجل:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} أَيْ وَالَّذِينَ قَصَدُوا الهداية، وفقهم الله تعالى لَهَا، فَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا وَثَبَّتَهُمْ عَلَيْهَا وَزَادَهُمْ مِنْهَا، {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أي ألهمهم رشدهم. وقوله تعالى:{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} ؟ أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْهَا {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} أي أمارات اقترابها، كقوله تعالى:{أزفت الأزفة} ، وكقوله جلت عظمته: {اقتربت الساعة
وانشق القمر}، وقوله سبحانه وتعالى:{أتى أَمْرُ الله فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . فَبِعْثَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ، الَّذِي أكمل الله تعالى بِهِ الدِّينَ، وَأَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وقد أُخبر رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بأمارات الساعة وأشراطها وهو عليه السلام الحاشر الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَالْعَاقِبُ الَّذِي ليس بعده نبي، روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِأُصْبُعَيْهِ - هَكَذَا بِالْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا - «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} ؟ أَيْ فَكَيْفَ لِلْكَافِرِينَ بِالتَّذَكُّرِ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْقِيَامَةُ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذكرى} ، وقوله عز وجل:{فاعلم أَنَّهُ لَا إلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} هَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَا إله إلا الله، ولهذا عطف عليه قوله عز وجل:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمْ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي» ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمْ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وعليكم بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثِرُوا مِنْهُمَا، فإن إبليس قال: إنما أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ، وَأَهْلَكُونِي بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْأَهْوَاءِ، فهم يحسبون أنهم مهتدون"(أخرجه الحافظ أبو يعلى)، وَفِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ:"قَالَ إِبْلِيسُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي"، وَالْأَحَادِيثُ فِي فضل الاستغفار كثيرة جداً، وقوله تبارك وتعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أَيْ يَعْلَمُ تَصَرُّفَكُمْ في نهاركم، ومستقركم في ليلكم، كقوله تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} ، وقوله سبحانه وتعالى:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مبين} وهذا القول هو اختيار ابن جرير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما {متقلبكم} في الدنيا و {مثواكم} فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَمَثْوَاكُمْ فِي قُبُورِكُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أعلم.
- 20 - وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ
- 21 - طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
- 22 - فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
- 23 - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا شَرْعِيَّةَ الْجِهَادِ، فَلَمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ عز وجل وَأَمَرَ بِهِ، نَكَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كقوله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
وَقَالُواْ ربنا لما كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}؟ قال عز وجل ههنا: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أَيْ مشتملة على القتال {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أَيْ مِنْ فَزَعِهِمْ وَرُعْبِهِمْ وَجُبْنِهِمْ مِنْ لِقَاءِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ قال مشجعاًلهم:{فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} أَيْ وَكَانَ لهم الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا، أَيْ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أَيْ جَدَّ الْحَالُ، وَحَضَرَ الْقِتَالُ {فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ} أَيْ أَخْلَصُوا لَهُ النِّيَّةَ {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} ، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ} أَيْ عَنِ الْجِهَادِ وَنَكَلْتُمْ عَنْهُ {أَن تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ؟ أَيْ تَعُودُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ، تَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَتُقَطِّعُونَ الْأَرْحَامَ، ولهذا قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ عُمُومًا، وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ وَصِلَةِ الأرحام، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، روى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خلق الله تعالى الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بحقوي الرَّحْمَنِ عز وجل، فَقَالَ: مَهْ، فَقَالَتْ: هَذَا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: إِلَاّ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ، وَأَقْطَعَ من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك لك" قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} . وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ ذَنْبٍ أحرى أن يعجل الله تعالى عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة). وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ذَوِي أَرْحَامٍ: أَصِلُ وَيَقْطَعُونَ، وَأَعْفُو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم؟ قال صلى الله عليه وسلم:«لَا، إِذَنْ تُتْرَكُونَ جَمِيعًا، ولكنْ جُدْ بِالْفَضْلِ وَصِلْهُمْ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ ظَهِيرٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل مَا كُنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (أخرجه الإمام أحمد). وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، وَلَيْسَ الواصل بالمكافىء، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» (أخرجه البخاري والإمام أحمد)، وفي الحديث القدسي:«قَالَ اللَّهُ عز وجل أَنَا الرَّحْمَنُ خلقتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ يَصِلْهَا أَصِلْهُ، وَمَنْ يَقْطَعْهَا أقطعه فأبُّته» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وما تناكر منها اختلف» وفي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ وَخُزِّنَ الْعَمَلُ وَائْتَلَفَتِ الْأَلْسِنَةُ وَتَبَاغَضَتِ الْقُلُوبُ، وَقَطَعَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ رَحِمَهُ، فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم» (أخرجه الإمام أحمد)، والأحاديث في هذا كثيرة، والله أعلم.
- 24 - أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
- 25 - إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
- 26 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
- 27 - فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
- 28 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
يقول تعالى آمراً بتدبير الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ، وَنَاهِيًا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ فَقَالَ:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} أَيْ بَلْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، فَهِيَ مُطْبَقَةٌ لا يخلص إليها شيء من معانيه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} أَيْ فَارَقُوا الْإِيمَانَ وَرَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وحسَّنه {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أغرهم وَخَدَعَهُمْ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} أَيْ مالأوهم وناصحوهم عَلَى الْبَاطِلِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ عز وجل:{والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُخْفُونَ، اللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، عالم به، كقوله تبارك وتعالى:{والله يَكْتُبُ مَا يبيتون} ، ثم قال تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِقَبْضِ أرواحهم، وتعاصت الْأَرْوَاحُ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَاسْتَخْرَجَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْعُنْفِ وَالْقَهْرِ والضرب، كما قال سبحانه وتعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} الآية، وقال تَعَالَى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} أَيْ بِالضَّرْبِ {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تستكبرون} ، ولهذا قال ههنا:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
- 29 - أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
- 30 - وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
- 31 - وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ والصابرين ونبلوا أَخْبَارَكُمْ
يَقُولُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} ؟ أي أيعتقد الْمُنَافِقُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْشِفُ أَمْرَهُمْ لِعِبَادِهِ المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمه ذوو البصائر، وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة فبين فيها فضائحهم، ولهذا كَانَتْ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ، وَالْأَضْغَانُ جَمْعُ ضِغْنٍ وَهُوَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ لِلْإِسْلَامِ وأهله والقائمين بنصره، وقوله تعالى:{وَلَوْ نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم} ، يقول الله عز وجل: وَلَوْ نَشَاءُ يَا مُحَمَّدُ لَأَرَيْنَاكَ أَشْخَاصَهُمْ فَعَرَفْتَهُمْ عِيَانًا، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، سِتْرًا مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَحَمْلًا للأمور على ظاهر السلامة، ورداً للسرئر إِلَى عَالِمِهَا {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أَيْ فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامِهِمُ الدَّالِّ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ، يَفْهَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَيِّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ بِمَعَانِي كَلَامِهِ وَفَحْوَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَحْنِ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ
وَجْهِهِ، وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ:«مَا أَسَرَّ أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جِلْبَابَهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ» ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ تَعْيِينُ جَمَاعَةٍ مِنَ المنافقين، قال عقبة بن عمرو رضي الله عنه: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُ فَلْيَقُمْ - ثُمَّ قَالَ - قُمْ يَا فُلَانُ، قُمْ يَا فُلَانُ، قُمْ يَا فُلَانُ، حَتَّى سَمَّى سِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا. ثُمَّ قَالَ: - إن فيكم أو منكم - منافقين فاتقوا الله"، قال فمرّ عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنع كَانَ يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَحَدَّثَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: بعداً لك سائر اليوم (أخرجه الإمام أحمد). وقوله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي لنختبرنكم بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ} ، وَلَيْسَ فِي تَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بما هو كائن شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، فَالْمُرَادُ حَتَّى نَعْلَمَ وُقُوعَهُ، وَلِهَذَا يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مِثْلِ هَذَا: إلاّ نعلم، أي لنرى.
- 32 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
- 33 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ
- 34 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
- 35 - فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَالَفَ الرَّسُولَ وَشَاقَّهُ، وَارْتَدَّ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، أَنَّهُ لَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيَخْسَرُهَا يَوْمَ مَعَادِهَا، وَسَيُحْبِطُ اللَّهُ عَمَلَهُ، فَلَا يُثِيبُهُ عَلَى سَالِفِ مَا تقدم من عمله مِثْقَالَ بَعُوضَةٍ مِنْ خَيْرٍ، بَلْ يُحْبِطُهُ وَيَمْحَقُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ قال أبو العالية: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يرون أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ذَنْبٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ فَنَزَلَتْ: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فَخَافُوا أَنْ يُبْطِلَ الذَّنْبُ الْعَمَلَ (أخرجه الإمام أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة)، وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِلَّا مَقْبُولٌ، حَتَّى نَزَلَتْ:{أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فَقُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الموجبات الفواحش، حتى نزل قوله تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، فَكُنَّا نَخَافُ عَلَى مَنْ أَصَابَ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، ونرجو لمن لم يصبها، ثم أمر تبارك وتعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، الَّتِي هِيَ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِارْتِدَادِ الذي هو مبطل للأعمال، ولهذا قال تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} أَيْ بِالرِّدَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} ، كقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} الْآيَةَ، ثم قال جلَّ وعلا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ:{فَلَا تَهِنُوا} أَيْ لَا تَضْعُفُوا
عَنِ الْأَعْدَاءِ، {وَتَدْعُوا
إِلَى السَّلْمِ} أَيِ الْمُهَادَنَةِ وَالْمُسَالَمَةِ وَوَضْعِ الْقِتَالِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فِي حال قوتكم، ولهذا قال:{وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أَيْ فِي حَالِ عُلُوِّكُمْ عَلَى عَدُّوِكُمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ فِيهِمْ قُوَّةٌ وَكَثْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَأَى الْإِمَامُ في المهادنة والمعاهدة مَصْلَحَةً، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، كَمَا فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حين صَدَّهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنْ مَكَّةَ وَدَعَوْهُ إِلَى الصُّلْحِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَشْرَ سِنِينَ، فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وقوله جلت عظمته:{وَاللَّهُ مَعَكُمْ} فِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ على الأعداء، {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن يُحْبِطَهَا وَيُبْطِلَهَا وَيَسْلُبَكُمْ إِيَّاهَا، بَلْ يُوَفِّيكُمْ ثَوَابَهَا ولا ينقصكم منها شيئاً، والله أعلم.
- 36 - أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ
- 37 - إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
- 38 - هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَنْ يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم
يَقُولُ تَعَالَى تَحْقِيرًا لِأَمْرِ الدُّنْيَا وَتَهْوِينًا لِشَأْنِهَا {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لعبٌ وَلَهْوٌ} أَيْ حَاصِلُهَا ذَلِكَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ عز وجل، ولهذا قال تعالى:{وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي هوغني عَنْكُمْ لَا يَطْلُبُ مِنْكُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا فَرَضَ عَلَيْكُمُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، مُوَاسَاةً لِإِخْوَانِكُمْ الْفُقَرَاءِ، لِيَعُودَ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، وَيَرْجِعَ ثَوَابُهُ إِلَيْكُمْ، ثم قال جل جلاله:{إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} أَيْ يُحْرِجُكُمْ تَبْخَلُوا {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تعالى أَنَّ فِي إِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ إِخْرَاجُ الْأَضْغَانِ، وَصَدَقَ قَتَادَةُ، فَإِنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ وَلَا يُصْرَفُ إِلَّا فِيمَا هُوَ أَحَبُّ إليَّ الشَّخْصِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تعالى:{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ} أَيْ لَا يُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} أَيْ إِنَّمَا نَقَصَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} أَيْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إليه دائماً، {وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} أَيْ بِالذَّاتِ إِلَيْهِ، فَوَصْفُهُ بِالْغِنَى وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ، وَوَصْفُ الْخَلْقِ بِالْفَقْرِ وَصْفٌ لازم لهم لا ينفكون عنه، وقوله تعالى:{وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} أَيْ عَنْ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ، {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} أَيْ وَلَكِنْ يَكُونُونَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لَهُ وَلِأَوَامِرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتَبْدَلَ بِنَا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا؟ قَالَ: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه، ثُمَّ قَالَ:«هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» (أخرجه مسلم وابن أبي حاتم وابن جرير).