الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
- 34 - قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
- 35 - وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
لَمَّا قَرَأَتْ عَلَيْهِمْ كِتَابَ سُلَيْمَانَ اسْتِشَارَتْهُمْ فِي أَمْرِهَا وَمَا قَدْ نَزَلَ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَتْ:{يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} أَيْ حَتَّى تَحْضُرُونَ وتشيرون {قَالُواْ نحن أولوا قوة وأولوا بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي منّوا عليها بِعَدَدِهِمْ وَعَدَدِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، ثُمَّ فَوَّضُوا إِلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَالُوا:{وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} ؟ أي نحن أشداء إن شئت أن تقصديه أو تحاربيه فَمَا لَنَا عَاقَةٌ عَنْهُ، وَبَعْدَ هَذَا فَالْأَمْرُ إليك، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه، قال الحسن البصري: فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِلْجَةٍ تَضْطَرِبُ ثَدْيَاهَا، فَلَمَّا قَالُوا لَهَا مَا قَالُوا كَانَتْ هِيَ أَحْزَمَ رَأْيًا مِنْهُمْ وَأَعْلَمَ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهَا بِجُنُودِهِ وَجُيُوشِهِ وَمَا سُخِّرَ لَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، وَقَدْ شَاهَدَتْ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ مَعَ الْهُدْهُدِ أَمْرًا عَجِيبًا بَدِيعًا فَقَالَتْ لَهُمْ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ نُحَارِبَهُ وَنَمْتَنِعَ عَلَيْهِ، فَيَقْصِدَنَا بِجُنُودِهِ وَيُهْلِكَنَا بِمَنْ مَعَهُ، وَيَخْلُصَ إِلَيَّ وَإِلَيْكُمُ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ دُونَ غَيْرِنَا؛ وَلِهَذَا قَالَتْ:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إِذَا دَخَلُوا بَلَدًا عُنْوَةً أَفْسَدُوهُ أَيْ خَرَّبُوهُ، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} أَيْ وَقَصَدُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الْوُلَاةِ وَالْجُنُودِ فَأَهَانُوهُمْ غَايَةَ الْهَوَانِ إِمَّا بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْأَسْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَتْ بِلْقِيسُ:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} ، قَالَ الرَّبَّ عز وجل:{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة فَقَالَتْ:{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أَيْ سَأَبْعَثُ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ تَلِيقُ بمثله، وَأَنْظُرُ مَاذَا يَكُونُ جَوَابُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ يقبل ذلك منا وَيَكُفُّ عَنَّا، أَوْ يَضْرِبُ عَلَيْنَا خَرَاجًا نَحْمِلُهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَنَلْتَزِمُ لَهُ بِذَلِكَ ويترك قتالنا ومحاربتنا، قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، عَلِمَتْ أَنَّ الْهَدِيَّةَ تَقَعُ مَوْقِعًا مِنَ النَّاسِ، وقال ابن عباس: قَالَتْ لِقَوْمِهَا: إِنْ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ فَهُوَ مَلِكٌ فَقَاتِلُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ.
- 36 - فلما جاء سليمان قال أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
- 37 - ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المفسرين أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ عَظِيمَةٍ، مِنْ ذَهَبٍ وجواهر ولآلئ وغير ذلك، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِآنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فلم ينظر سليمان إِلَى مَا جَاءُوا بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا اعْتَنَى بِهِ بَلْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ؟} أَيْ أَتُصَانِعُونَنِي بِمَالٍ لِأَتْرُكَكُمْ عَلَى شركم وَمُلْكِكُمْ؟ {فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} أَيِ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَالْجُنُودِ، خَيْرٌ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} أي أنتم الذي تَنْقَادُونَ لِلْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَقْبَلُ منكم إلاّ الإسلام أو السيف، قال ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: أَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ فَمَوَّهُوا لَهُ أَلْفَ قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَلَمَّا رَأَتْ رُسُلُهَا ذَلِكَ قَالُوا: مَا يصنع هذا بهديتنا؟ وفي هذا جَوَازِ تَهَيُّؤِ الْمُلُوكِ وَإِظْهَارِهِمُ الزِّينَةَ لِلرُّسُلِ وَالْقُصَّادِ {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} أَيْ بِهَدِيَّتِهِمْ، {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أَيْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بقتالهم {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أذلة} أي ولنخرجهم من بلدتهم أَذِلَّةً، {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَيْ مُهَانُونَ مَدْحُورُونَ، فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهَا رُسُلُهَا بِهَدِيَّتِهَا وَبِمَا قَالَ سُلَيْمَانُ سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا، وَأَقْبَلَتْ تَسِيرُ إِلَيْهِ فِي جُنُودِهَا خَاضِعَةً
ذَلِيلَةً مُعَظِّمَةً لِسُلَيْمَانَ نَاوِيَةً مُتَابَعَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا تَحَقَّقَ سُلَيْمَانُ عليه السلام قُدُومَهُمْ عَلَيْهِ وَوُفُودَهُمْ إِلَيْهِ فَرِحَ بِذَلِكَ وَسَرَّهُ.
- 38 - قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
- 39 - قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ
- 40 - قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
قال محمد بن إسحاق: فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهَا الرُّسُلُ بِمَا قَالَ سُلَيْمَانُ قَالَتْ: قَدْ وَاللَّهِ عَرَفْتُ مَا هَذَا بِمَلِكٍ وَمَا لَنَا بِهِ مِنْ طَاقَةٍ، وَمَا نَصْنَعُ بمكابرته شَيْئًا، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ إِنِّي قَادِمَةٌ عَلَيْكَ بِمُلُوكِ قَوْمِي لِأَنْظُرَ مَا أَمْرُكَ وَمَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ دِينِكَ، ثُمَّ أَمَرَتْ بِسَرِيرِ مُلْكِهَا الَّذِي كَانَتْ تَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ مُفَصَّصٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ فَجُعِلَ فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ، ثُمَّ أَقْفَلَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: لِمَنْ خلفت على سطلنها احْتَفِظْ بِمَا قِبَلَكَ وَسَرِيرِ مُلْكِي، فَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَلَا يَرَيَنَّهُ أَحَدٌ حَتَّى آتِيَكَ، ثُمَّ شَخَصَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ في اثني عشر ألف فَجَعَلَ سُلَيْمَانُ يَبْعَثُ الْجِنَّ يَأْتُونَهُ بِمَسِيرِهَا وَمُنْتَهَاهَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، حَتَّى إِذَا دَنَتْ جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِمَّنْ تَحْتَ يده، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} . وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا بَلَغَ سُلَيْمَانَ أَنَّهَا جَائِيَةٌ وَكَانَ قَدْ ذُكِرَ لَهُ عَرْشُهَا فَأَعْجَبَهُ، وَكَانَ مَنْ ذَهَبٍ وَقَوَائِمُهُ لُؤْلُؤٌ وَجَوْهَرٌ، وَكَانَ مُسَتَّرًا بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ تِسْعَةُ مَغَالِيقَ فَكَرِهَ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَدْ عَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُمْ مَتَى أسلموا تحرم أموالهم ودمائهم، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ، وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ الخُراساني والسدي {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فَتَحْرُمُ عَلَيَّ أَمْوَالُهُمْ بإسلامهم، {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن} أي مارد مِنَ الْجِنِّ، {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَّقَامِكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَقْعَدِكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ للقضاء والحكومات مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أي قوي على حمله {أمين} على مافيه مِنَ الْجَوْهَرِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عليه السلام: أُرِيدُ أعجل من ذلك، وَمَن ههنا يظهر أن سُلَيْمَانَ أَرَادَ بِإِحْضَارِ هَذَا السَّرِيرِ إِظْهَارَ عَظَمَةِ ما وهب الله له من الملك، وما سخر لَهُ مِنَ الْجُنُودِ الَّذِي لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِيَتَّخِذَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَ بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا، لِأَنَّ هَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ، أَنْ يَأْتِيَ بِعَرْشِهَا كَمَا هُوَ مِنْ بِلَادِهَا قَبْلَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ حَجَبَتْهُ بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ وَالْحَفَظَةِ، فَلَمَّا قَالَ سُلَيْمَانُ أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ، {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} قَالَ ابن عباس: وهو (آصف) كاتب سليمان عليه السلام.
وكذا روي عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ (آصِفُ بْنُ بَرْخِيَاءَ) وَكَانَ صِدِّيقًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ مُؤْمِنًا مِنَ الْإِنْسِ وَاسْمُهُ آصِفُ (وكذا قال أبو صالح والضحاك وزاد قتادة: كان مؤمناً من بني إسرائيل) من بني إسرائيل، وَقَوْلُهُ:{أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أي ارفع
بصرك وانظر فإنه لَا يَكِلُّ بَصَرُكَ إِلَّا وَهُوَ حَاضِرٌ عِنْدَكَ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: امْدُدْ بَصَرَكَ فَلَا يبلغ مداه حتى آتيك به، ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى، قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ: يَا إِلَهَنَا وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ائتني بعرشها، قال: فمثل بين يديه، فَلَمَّا عَايَنَ سُلَيْمَانُ وَمَلَؤُهُ ذَلِكَ وَرَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي} أَيْ هذا من نعم
الله علي {ليبلوني} لِيَخْتَبِرَنِي {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} ، كَقَوْلِهِ:{مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} ، وكقوله:{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أَيْ هُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ وَعِبَادَتِهِمْ، كَرِيمٌ: أَيْ كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ، فَإِنَّ عَظَمَتَهُ لَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى أَحَدٍ، وَهَذَا كَمَا قَالَ مُوسَى:{إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:"يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومُنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".
- 41 - قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ
- 42 - فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ
- 43 - وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ
- 44 - قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لَمَّا جِيءَ سُلَيْمَانُ عليه السلام بِعَرْشِ بِلْقِيسَ قَبْلَ قُدُومِهَا، أَمَرَ بِهِ أَنْ يُغَيَّرَ بَعْضُ صِفَاتِهِ لِيَخْتَبِرَ مَعْرِفَتَهَا وَثَبَاتَهَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، هَلْ تُقْدِمُ عَلَى أَنَّهُ عَرْشُهَا أو أنه ليس بعرشها، فَقَالَ:{نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لَا يَهْتَدُونَ} قال مجاهد: أمر به فغير ما كان فيه أَحْمَرَ جُعِلَ أَصْفَرَ، وَمَا كَانَ أَصْفَرَ جُعِلَ أحمر، وما كان أخضر جعل أحمر، وغير كُلُّ شَيْءٍ عَنْ حَالِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: زَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا {فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} أَيْ عُرِضَ عَلَيْهَا عَرْشُهَا وَقَدْ غُيِّرَ وَنُكِّرَ فِيهِ وَنُقِصَ مِنْهُ فَكَانَ فِيهَا ثَبَاتٌ وَعَقْلٌ، وَلَهَا لُبٌّ وَدَهَاءٌ وَحَزْمٌ، فَلَمْ تُقْدِمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ لِبُعْدِ مَسَافَتِهِ عَنْهَا وَلَا أَنَّهُ غَيْرُهُ لِمَا رَأَتْ مِنْ آثَارِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ وَنُكِّرَ، فَقَالَتْ:{كَأَنَّهُ هُوَ} أَيْ يشبهه ويقاربه، وهذا في غاية الذَّكَاءِ وَالْحَزْمِ. وَقَوْلُهُ:{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} قال مجاهد: يقوله سليمان، وقوله تعالى:{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} ، هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ سُلَيْمَانَ عليه السلام فِي قَوْلِ مجاهد أي قال لسليمان {أوتينا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} ، وَهِيَ كَانَتْ قَدْ صَدَّهَا أَيْ مَنَعَهَا مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قوم كافرين} (هذا الذي قاله مجاهد هو قول سعيد بن جبير وقد اختاره ابن جرير وابن كثير).
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا إِنَّمَا أَظْهَرَتِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ دُخُولِهَا إِلَى الصَّرْحِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَوْلُهُ: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي
-
102 - سورة التكاثر
.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ
- 2 - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ
- 3 - كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
- 4 - ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
- 5 - كَلَاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ
- 6 - لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ
- 7 - ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ
- 8 - ثُمَّ لتسألن يومئذ عن النعيم
يقول تعالى: أشغلكم حُبُّ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا وَزَهْرَتُهَا عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ وَابْتِغَائِهَا، وَتَمَادَى بِكُمْ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَكُمُ الْمَوْتُ وزرتم المقابر، وصرتم من أهلها، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} عَنِ الطَّاعَةِ، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الموت» (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فِي الْأَمْوَالِ والأولاد، وعن أُبيّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يَعْنِي: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ» (رواه البخاري في الرقاق)، وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الشخير قَالَ: انْتَهَيْتُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: " {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَاّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ "(أخرجه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي). وروى مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، وَإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فأبلى، أو تصدّق فأمضى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ"(تَفَرَّدَ به مسلم). وروى البخاري عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عمله"(أخرجه البخاري ومسلم والترمذي). وعن أنَس أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يهرم ابن آدم ويبقى معه اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ"(أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ). وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْأَحْنَفِ بْنِ قيس أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَجُلٍ دِرْهَمًا فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الدِّرْهَمُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: لِي، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ لَكَ إِذَا أَنْفَقْتَهُ فِي أَجْرٍ، أَوِ ابْتِغَاءِ شُكْرٍ، ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَحْنَفُ مُتَمَثِّلًا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
أَنْتَ لِلْمَالِ إِذَا أَمْسَكْتَهُ * فَإِذَا أنفقته فالمال لك
وقال ابن بريدة: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار (بني حارثة) و (بني الْحَارِثِ) تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: فِيكُمْ مِثْلُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: مِثْلَ ذَلِكَ تَفَاخَرُوا بِالْأَحْيَاءِ، ثُمَّ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، تَقُولُ: فِيكُمْ مثل فلان يشيرون إلى القبور، وَمِثْلُ فُلَانٍ. وَفَعَلَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ الله:{أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر} (أخرجه ابن أبي حاتم) لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيمَا رَأَيْتُمْ عِبْرَةٌ وَشُغْلٌ، وقال قتادة: كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَكْثَرُ مَنْ بَنِي فُلَانٍ، ونحن أعد من بني فلان، حَتَّى صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ كُلُّهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:{زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أَيْ صِرْتُمْ إِلَيْهَا وَدُفِنْتُمْ فِيهَا، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ يَعُودُهُ، فَقَالَ:«لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، فَقَالَ، قُلْتَ: طَهُورٌ، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شيخ كبير، تزيره القبور، قال:«فنعم إذن» . وعن مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَرَأَ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حتى زُرْتُمُ المقابر} فلبث هنيهة ثم قال: يَا مَيْمُونُ مَا أَرَى الْمَقَابِرَ إِلَّا زِيَارَةً وَمَا لِلزَّائِرِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى منزله، يعني أن يرجع إلى منزله أي إلى جنة أو إلى نَارٍ، وَهَكَذَا ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ سَمِعَ رَجُلًا يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ:{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فَقَالَ: بُعِثَ الْيَوْمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أَيْ إِنَّ الزَّائِرَ سَيَرْحَلُ مِنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، وقوله تعالى:{كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ هَذَا وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، وقال الضحّاك {كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني أيها الْكُفَّارَ، {ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي أَيُّهَا المؤمنون، وقوله تعالى:{كَلَاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أَيْ لَوْ عَلِمْتُمْ حَقَّ الْعِلْمِ لَمَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ طَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ حَتَّى صِرْتُمْ إِلَى الْمَقَابِرِ ثُمَّ قَالَ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} هَذَا تَفْسِيرُ الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} توعدهم بهذا بهذا الحال وهو رؤية أهل النار، التي إذا زفرت زفرة واحدة، خَرَّ كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَنَبِيٍّ مُرْسَلٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، مِنَ الْمَهَابَةِ وَالْعَظَمَةِ وَمُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ، عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أَيْ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يومئذٍ عَنْ شُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ، مِنَ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالرِّزْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَا إِذَا قَابَلْتُمْ بِهِ نِعَمَهُ مِنْ شكره وعبادته. روى ابن جرير، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ جَالِسَانِ إِذْ جَاءَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَا اجلسكما ههنا؟» ، قَالَا: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجْنَا مِنْ بُيُوتِنَا إِلَّا الْجُوعُ، قَالَ:«وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ» ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَيْتَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَيْنَ فُلَانٌ؟» فَقَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مَاءً، فَجَاءَ صَاحِبُهُمْ يَحْمِلُ قِرْبَتَهُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا مَا زَارَ الْعِبَادَ شيء أفضل من نبي زَارَنِي الْيَوْمَ، فَعَلَّقَ قِرْبَتَهُ بِكَرْبِ نَخْلَةٍ، وَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ» ، فَقَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونُوا الَّذِينَ تَخْتَارُونَ عَلَى أَعْيُنِكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ الشفرة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ» فَذَبَحَ لَهُمْ يومئذٍ، فَأَكَلُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذا يوم القيامة أخرجكم الْجُوعُ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَبْتُمْ هَذَا، فَهَذَا من النعيم» (أخرجه ابن جرير ورواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة بنحوه). وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ رُطَبًا وَشَرِبُوا مَاءً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا من النعيم
الذي تسألون عنه» (أخرجه أحمد والنسائي). وروى الإمام أحمد عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ، وَسُيُوفُنَا عَلَى رِقَابِنَا، وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، فَعَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ قَالَ:«أَمَا إِنَّ ذَلِكَ سيكون» (أخرجه أحمد).
وروى الترمذي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أول ما يسأل عنه الْعَبْدُ مِنَ النَّعِيمِ، أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نصحّ لك بدنك، ونروك من الماء البارد» ؟ (أخرجه الترمذي وابن حيان) وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ، قَالَ الزُّبَيْرُ: لَمَّا نَزَلَتْ {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ؟ قالوا: «إن ذلك سيكون» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي وابن ماجة). وفي رواية عن عكرمة: قَالَتِ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّ نَعِيمٍ نَحْنُ فِيهِ؟ وَإِنَّمَا نَأْكُلُ فِي أَنْصَافِ بُطُونِنَا خبز الشعير؟ فأوحى إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْ لَهُمْ: أَلَيْسَ تَحْتَذُونَ النِّعَالَ، وَتَشْرَبُونَ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فهذا من النعيم. وعن ابن مسعود مرفوعاً:«الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ» . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {ثم لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} يَعْنِي شِبَعَ الْبُطُونِ، وَبَارِدَ الشَّرَابِ، وَظِلَالَ الْمَسَاكِنِ، وَاعْتِدَالَ الْخَلْقِ وَلَذَّةَ النوم، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ كُلِّ لَذَّةٍ مِنْ لَذَّاتِ الدنيا، وقال الحسن البصري: من النعيم الغداء والعشاء، وقول مجاهد أشمل هذه الأقوال، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالَ: النَّعِيمُ صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، يَسْأَلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيمَا اسْتَعْمَلُوهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} . وثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كثير من الناس: الصحة والفراغ"(أخرجه البخاري)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ فِي شُكْرِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ لَا يَقُومُونَ بِوَاجِبِهِمَا، وَمَنْ لَا يَقُومُ بحق ما وجب عليه فهو مغبون.