المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 52 - سورة الطور - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 52 - سورة الطور

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُتَّجَهٌ، وَكُلٌّ مِنَ السَّلَفِ رحمهم الله فسر بعض المشاركة، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أهله قال باسم الله، اللهم جنبا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقَتْنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ الشيطان أبداً» ، وقوله تعالى:{وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُوراً} كَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ يَقُولُ، إِذَا حَصْحَصَ الْحَقُّ يَوْمَ يُقْضَى بِالْحَقِّ:{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الآية. وقوله تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} إِخْبَارٌ بِتَأْيِيدِهِ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَحِفْظِهِ إِيَّاهُمْ وَحِرَاسَتِهِ لهم من الشيطان الرجيم، ولهذا قال تعالى:{وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي حافظاً ومؤيداً ونصيراً. وفي الحديث: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُنْضِي شَيَاطِينَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بعيره في السفر» (رواه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً) يُنْضِي أَيْ يَأْخُذُ بِنَاصِيَتِهِ وَيَقْهَرُهُ.

ص: 388

- 66 - رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي تَسْخِيرِهِ لعباده الفلك في البحر وتسهيله لِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، لِابْتِغَائِهِمْ مِنْ فَضْلِهِ فِي التِّجَارَةِ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} أَيْ إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا بِكُمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتِهِ بِكُمْ.

ص: 388

- 67 - وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً

يخبر تبارك وتعالى إن الناس إذا مسهم ضُرٌّ دَعَوْهُ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ولهذا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} أَيْ ذَهَبَ عنقلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى، كَمَا اتُّفِقَ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ لَمَّا ذَهَبَ فَارًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ، فَذَهَبَ هَارِبًا فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ لِيَدْخُلَ الْحَبَشَةَ فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ وَحْدَهُ، فقال عكرمة في نفسه، والله إن كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ لَكَ علي عهد لئن أخرجتني منه لَأَذْهَبْنَ فَلَأَضَعَنَّ يَدِي فِي يَدِ مُحَمَّدٍ فَلَأَجِدَنَّهُ رؤوفاً رَحِيمًا، فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسلامه رضي الله عنه وأرضاه، وقوله تعالى:{فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبِرِّ أَعْرَضْتُمْ} أَيْ نَسِيتُمْ مَا عَرَفْتُمْ مِنْ تَوْحِيدِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَعْرَضْتُمْ عَنْ دُعَائِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً} أَيْ سَجِيَّتُهُ هَذَا، يَنْسَى النِّعَمَ وَيَجْحَدُهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ.

ص: 388

- 68 - أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً

يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إِلَى الْبَرِّ، أَمِنْتُمْ مِنَ انْتِقَامِهِ وَعَذَابِهِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً، وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي فِيهِ حِجَارَةٌ (قَالَهُ مجاهد وغير واحد من السلف)، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَاّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} ، وقال:{وأمطرنا عليهم حجارة من طين} ، وَقَوْلُهُ:{ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أَيْ ناصراً يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.

ص: 388

- 69 - أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تبيعا

يقول تبارك وتعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ أَيُّهَا الْمُعْرِضُونَ عَنَّا، بَعْدَمَا اعْتَرَفُوا بِتَوْحِيدِنَا فِي الْبَحْرِ، وَخَرَجُوا إِلَى الْبَرِّ، أَنْ يُعِيدَكُمْ فِي الْبَحْرِ مَرَّةً ثَانِيَةً، {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ} أَيْ يَقْصِفُ الصَّوَارِيَ وَيُغْرِقُ الْمَرَاكِبَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْقَاصِفُ رِيحُ الْبِحَارِ الَّتِي تَكْسِرُ الْمَرَاكِبَ وَتُغْرِقُهَا، وَقَوْلُهُ {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ}: أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ وَإِعْرَاضِكُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ:{ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصِيرًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَصِيرًا ثَائِرًا، أَيْ يَأْخُذُ بِثَأْرِكُمْ بِعْدَكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَا نَخَافُ أَحَدًا يُتْبِعُنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 389

- 70 - وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَشْرِيفِهِ لبني آدم وتكريمهم إِيَّاهُمْ فِي خَلْقِهِ لَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْهَيْئَاتِ وأكملها، كقوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تقويم} أَيْ يَمْشِي قَائِمًا مُنْتَصِبًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيَأْكُلُ بِيَدَيْهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَيَأْكُلُ بِفَمِهِ، وَجَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَفُؤَادًا يَفْقَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية، {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} أَيْ عَلَى الدَّوَابِّ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ، وَفِي الْبَحْرِ أَيْضًا عَلَى السُّفُنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَلُحُومٍ وَأَلْبَانٍ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ الْمُشْتَهَاةِ اللَّذِيذَةِ، وَالْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ، وَالْمَلَابِسِ الرَّفِيعَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا مِمَّا يَصْنَعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَيَجْلِبُهُ إِلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَقَالِيمِ وَالنَّوَاحِي، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أَيْ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآية الكريمة عَلَى أَفْضَلِيَّةِ جِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبَّنَا! أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا، يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَلَا نَأْكُلُ وَلَا نَشْرَبُ وَلَا نَلْهُو، فَكَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ، قَالَ: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قلت له كن فكان"(رواه الحافظ الطبراني وأخرجه عبد الرزاق عن زيد بن مسلم موقوفاً وابن عساكر عن أنَس بن مالك مرفوعاً).

ص: 389

- 71 - يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً

- 72 - وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا

يُخْبِرُ تبارك وتعالى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ يُحَاسِبُ كُلَّ أُمَّةٍ بِإِمَامِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيْ بِنَبِيِّهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} الآية، وقال بعض

ص: 389

السَّلَفِ: هَذَا أَكْبَرُ شَرَفٍ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ إِمَامَهُمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ واختاره ابن جرير، وروى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: بِكُتُبِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون أراد ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي بكتاب أعمالهم (وهو قول أبي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ)، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَرْجَحُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الآية، ويحتمل أن المراد {بِإِمَامِهِمْ} أي كل قوم بمن يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم، كما قال:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} . وفي الصحيحين: «لتَّتبعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كان يعبد الطواغيت الطواغيت» الحديث، وقال تعالى:{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تعملون} . وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يُجَاءَ بِالنَّبِيِّ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَ أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها، كقوله تَعَالَى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بالنبيين والشهداء} .

وقوله تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيدا} ، ولكن المراد ههنا بِالْإِمَامِ هُوَ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بيمينه فأولئك يقرأون كِتَابَهُمْ} أَيْ مِنْ فَرْحَتِهِ وَسُرُورِهِ بِمَا فِيهِ من العمل الصالح يقرؤه ويحب قراءته، كقوله:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتبه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرأوا كتابيه} الآيات، وقوله تعالى:{وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الْفَتِيلَ: هُوَ الْخَيْطُ الْمُسْتَطِيلُ فِي شِقِّ النَّوَاةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِ الله تعالى:{يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} ، قَالَ:"يُدْعَى أَحَدُهُمْ فَيُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ، وَيُبَيَّضُ وَجْهُهُ، وَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ من لؤلؤة يتلألأ، فَيَنْطَلِقُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعِيدٍ فَيَقُولُونَ: اللهم أتنا بِهَذَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي هَذَا، فَيَأْتِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلَ هذا، وأما الكافرون فَيُسَوَّدُ وَجْهُهُ وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ، وَيَرَاهُ أَصْحَابُهُ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ شَرِّ هَذَا، اللَّهُمَّ لَا تَأْتِنَا بِهِ، فَيَأْتِيهِمْ فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أَخْزِهِ، فَيَقُولُ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ فإن لكل رجل منكم مثل هذا"(أخرج الحافظ أبو بكر البزار). وقوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى} أي في الحياة الدنيا {أعمى} أي عن حجة الله وآياته وبينانه، {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} أَيْ كَذَلِكَ يَكُونُ {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أَيْ وَأَضَلُّ مِنْهُ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 390

- 73 - وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا

- 74 - وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا

- 75 - إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا

يُخْبِرُ تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله وسلامه عليه وَتَثْبِيتِهِ وَعِصْمَتِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدِ الْفُجَّارِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَنَصْرَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَكِلُهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، بل هو وليه وحافظه وناصره، وَمُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ وَخَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

ص: 390

- 76 - وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا

- 77 - سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ رُّسُلِنَآ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا

قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حين أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَنَّكَ نَبِيٌّ فَالْحَقْ بِالشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ أَرْضُ المحشر، وأرض الأنبياء، فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه:{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: فِيهَا محياك ومماتك ومنها تبعث (أخرجه البيهقي عن عبد الله بن غنم، قال ابن كثير: وفي إسناده نَظَرٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غزا تبوك عن أمر الله لا عن أمر اليهود). وقيل: نزلت في كفار مكة لما هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ أَخْرَجُوهُ لَمَا لَبِثُوا بَعْدَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا يَسِيرًا، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ أَذَاهُمْ لَهُ إِلَّا سَنَةٌ وَنِصْفٌ، حَتَّى جَمَعَهُمُ الله وإياه ببدر على مِيعَادٍ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُمْ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ وَأَظْفَرَهُ بِهِمْ، فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم، ولهذا قال تعالى:{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا} الآية أَيْ هَكَذَا عَادَتُنَا فِي الَّذِينَ كَفَرُوا بِرُسُلِنَا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب، ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رَسُولُ الرَّحْمَةِ لَجَاءَهُمْ مِنَ النِّقَمِ فِي الدُّنْيَا ما لا قبل لأحد به، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} الآية.

ص: 391

- 78 - أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا

- 79 - وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً

يقول تبارك وتعالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم آمِرًا لَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قِيلَ: لِغُرُوبِهَا (قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ومجاهد وابن زيد)، وقال ابن عباس: دلوكها زوالها (رواه نافع عن ابن عمر، وبه قال الحسن والضحاك وقتادة وهو الأظهر)، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ دَخَلَ فِيهَا أوقات الصلوات الخمس، فَمِنْ قَوْلِهِ:{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهو ظلامه؛ أُخِذَ مِنْهُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعَشَاءُ، وَقَوْلُهُ:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ؛ وَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَاتُرًا مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ بِتَفَاصِيلَ هَذِهِ الأوقات على ما عليه أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ مِمَّا تَلَقَّوْهُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قَالَ: تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النهار، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صلاة الفجر» . يقول أبي هريرة: اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (أخرجه البخاري في صحيحه). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قَالَ: «تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وملائكة النهار» (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه).

ص: 391

وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَيَعْرُجُ بالذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وتركناهم وهم يصلون"(أخرجه البخاري ومسلم). وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَجْتَمِعُ الْحَرَسَانِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَيَصْعَدُ هَؤُلَاءِ وَيُقِيمُ هَؤُلَاءِ. وقوله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أَمْرٌ لَهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، كَمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ قال:«صلاة الليل» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة)، وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَاتِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّ التَّهَجُّدَ مَا كَانَ بَعْدَ نَوْمٍ (قَالَهُ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه كان يتهجد بعد نومه، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ مَا كَانَ بَعْدَ العشاء، ويحمل على ما كان بعد النوم، واختلف في معنى قوله تعالى:{نَافِلَةً لَّكَ} ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّكَ مَخْصُوصٌ بِوُجُوبِ ذَلِكَ وَحْدَكَ، فَجَعَلُوا قِيَامَ اللَّيْلِ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ دُونَ الْأُمَّةِ، رَوَاهُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَ قِيَامُ اللَّيْلَ فِي حَقِّهِ نَافِلَةً عَلَى الْخُصُوصِ، لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ عن صلواته النوافل الذنوب التي عليه.

وقوله تَعَالَى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} أَيْ افْعَلْ هَذَا الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ لِنُقِيمَكَ يوم القيامة مقاماً محموداً، يحمدك فِيهِ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ، وَخَالِقُهُمْ تبارك وتعالى، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، ذَلِكَ هو المقام الذي يقومه مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلشَّفَاعَةِ لِلنَّاسِ، لِيُرِيحَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَظِيمِ مَا هُمْ فيه من شدة ذلك اليوم، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، حُفَاةً عُرَاةً كَمَا خُلِقُوا، قِيَامًا لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، يُنَادَى: يَا مُحَمَّدُ، فَيَقُولُ:«لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، وَالْمَهْدِيُّ من هديت، وعبدك بين يديك ومنك وَإِلَيْكَ، لَا مَنْجَى وَلَا مَلْجَأَ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ» . فَهَذَا المقام المحمود ذكره الله عز وجل، وقال ابن عباس: المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا قال مجاهد والحسن الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأرض يوم القيامة وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّهُ المقام المحمود. قُلْتُ: لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَشْرِيفَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَتَشْرِيفَاتٌ لَا يُسَاوِيهِ فِيهَا أَحَدٌ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَيُبْعَثُ رَاكِبًا إِلَى الْمَحْشَرِ، وَلَهُ اللِّوَاءُ الَّذِي آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَلَهُ الْحَوْضُ الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَوْقِفِ أَكْثَرُ وَارِدًا مِنْهُ، وَلَهُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى عِنْدَ اللَّهِ لِيَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وذلك بعد ما يَسْأَلُ النَّاسُ آدَمَ ثُمَّ نُوحًا ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى، فَكَلٌّ يَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، حَتَّى يَأْتُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ:«أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا» ، كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إن شاء الله تعالى، ومن ذلك، أن يُشَفَّعُ فِي أَقْوَامٍ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَيُرَدُّونَ عَنْهَا، وَهُوَ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ يُقْضَى بَيْنَ أُمَّتِهِ، وَأَوَّلُهُمْ إِجَازَةً عَلَى الصِّرَاطِ بِأُمَّتِهِ، وهو أول شفيع في الجنة، وَهُوَ أَوَّلُ دَاخِلٍ إِلَيْهَا وَأُمَّتُهُ قَبْلَ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ، وَيُشَفَّعُ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ أَقْوَامٍ لَا تَبْلُغُهَا أَعْمَالُهُمْ، وَهُوَ صَاحِبُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا تَلِيقُ إِلَّا لَهُ، وَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَةِ للعصاة

ص: 392

شَفَّعَ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيُشَفَّعُ هُوَ فِي خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، وَلَا يُشَفَّعُ أَحَدٌ مِثْلَهُ وَلَا يُسَاوِيهِ فِي ذلك. ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحود وبالله المستعان.

روى البخاري، عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ الله مقاماً محموداً. وفي رواية:"إِنَّ الشَّمْسَ لَتَدْنُو حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، فَيَقُولُ: لست بصاحب ذَلِكَ، ثُمَّ بِمُوسَى فَيَقُولُ كَذَلِكَ، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَشْفَعُ بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ، فيومئذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يحمده أهل الجمع كلهم. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شفاعتي يوم القيامة" (أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله) وعن أُبي بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَنْتُ إِمَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَخَطِيبَهُمْ وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ غَيْرَ فخر» (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي بن كعب).

حديث أنَس بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيلهمون ذلك، فيقولون: لو شفعنا إِلَى رَبِّنَا فَأَرَاحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وعلَّمك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. فَيَقُولُ لَهُمْ آدَمُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ الَّذِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ عز وجل مِنْ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: ولكن ائتوا انوحاً فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَةَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فيستحيي ربه من ذلك، ويقول: ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتوه، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمُ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلَ بغير نفس، فيستحيي ربه من ذلك، ويقول: ولكن ائتوا عيسى، عبد الله وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ولكن اتئوا محمداً غفر الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي - قَالَ الْحَسَنُ هَذَا الْحَرْفُ - فَأَقُومُ فَأَمْشِي بَيْنَ سِمَاطَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ أنَس: حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ - أو خررت - ساجداً لربي، فيدعني مَا يَشَآءُ إِنَّ يَدَعَنِي، قَالَ، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قل تسمع، واشفَع تَشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثانيه، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ - أَوْ خَرَرْتُ - سَاجِدًا لِرَبِّي فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثم أعود الثَّالِثَةِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ - أَوْ خَرَرْتُ - سَاجِدًا لِرَبِّي، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وسل تعطيه، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثم أعود الرابعة فقال: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ". فَحَدَّثَنَا أنَس بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيْرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إله

ص: 393

إلا الله، وكان في قلبه مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً» (أخرجاه في الصحيحين ورواه أحمد واللفظ له).

(الثاني) حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي عز وجل حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أقول، فذلك المقام المحمود» (أخرجه الإمام أحمد عن كعب بن مالك).

(الثالث) حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِالسُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَأَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ يَدِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ، وَمِنْ خَلْفِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَمِينِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ شِمَالِي مِثْلَ ذَلِكَ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَعْرِفُ أُمتك مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ:«هُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، لَيْسَ أَحَدٌ كَذَلِكَ غَيْرُهُمْ، وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم» (أخرجه أحمد أيضاً عن أبي الدرداء).

(الرابع) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثُمَّ قَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ ممَّ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه مما قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم عليه السلام، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ نُوحٌ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله قط، وإنه قد كان لي دعوة دعوتها عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ؛ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، فَذَكَرَ كَذِبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى؛ فيأتون موسى عليه السلام فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مثله، وإني قد قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا،

ص: 394

نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى؛ فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منه، وكلمت الناس فِي المهد صبيا، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إلى محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ الأنبياء، وقد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَقُومُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عز وجل، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، فَيُقَالُ: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه، واشفه تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب؟ فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك مِنَ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المصراعين مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أو كما بين مكة وبصرى" (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة مرفوعاً).

وفي صحيح مسلم رحمه الله، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، وأول شافع وأول مشفع» . وعن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} قَالَ: «هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ لِأُمَّتِي فِيهِ» . وفي الحديث: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللَّهُ الْأَرْضَ مَدَّ الْأَدِيمِ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ الناس إلاّ موضع قدميه - قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ تبارك وتعالى والله ما رآه قبلها - فأقول: أي رَبِّ إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل صَدَقَ، ثُمَّ أُشَفَّعُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ عِبَادُكَ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ، قَالَ فَهُوَ الْمَقَامُ المحمود"(أخرجه عبد الرزاق وهو حديث مرسل).

ص: 395

- 80 - وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا

- 81 - وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} ، وقال الحسن البصري: إِنَّ كُفَّارَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا ائْتَمَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَقْتُلُوهُ أَوْ يطروده أو يوثقوه، فأراد الله قتال أهل مكة، أمره أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عز وجل:{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الآية. وقال قتادة: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يَعْنِي الْمَدِينَةَ {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} يَعْنِي مَكَّةَ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن زيد، وهذا القول هو أشهر الأقوال، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ:{وَاجْعَلْ لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَعَدَهُ رَبُّهُ لَيَنْزَعَنَّ مُلْكَ فَارِسَ وَعِزَّ فَارِسَ، وَلَيَجْعَلَنَّهُ لَهُ، وَمُلْكَ الرُّومِ وَعِزَّ الرُّومِ وَلَيَجْعَلَنَّهُ له. وقال قتادة: أن نبي

ص: 395

-‌

‌ 52 - سورة الطور

ص: 388

عن جبير بن مطعم قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً منه» (أخرجه الشيخان من طريق مالك). وروى البخاري، عَنْ أُم سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مسطور.

ص: 388

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 388

- 1 - وَالطُّورِ

- 2 - وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ

- 3 - فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ

- 4 - وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ

- 5 - وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ

- 6 - وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ

- 7 - إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ

- 8 - مَّا لَهُ مِنْ دَافِعٍ

- 9 - يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً

- 10 - وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً

- 11 - فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ

- 12 - الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ

- 13 - يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا

- 14 - هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ

- 15 - أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ

- 16 - اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

يُقْسِمُ تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، أَنَّ عَذَابَهُ وَاقِعٌ بِأَعْدَائِهِ وَأَنَّهُ لا دافع له عنهم، والطور هو الجبل الذي يكون فيها أَشْجَارٌ مِثْلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَجَرٌ لَا يُسَمَّى طُورًا، إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ جَبَلٌ، {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} قِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ الْمَكْتُوبَةُ، الَّتِي تُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ جِهَارًا، وَلِهَذَا قَالَ:{فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء:«ثُمَّ رُفِعَ بِي إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخر ما عليهم» (هو جزء من حديث طويل في الإسراء أخرجه الشيخان) يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، وهو كعبة أهل السماء السابعة، وَفِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ يَتَعَبَّدُ فِيهِ أَهْلُهَا وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، وَالَّذِي فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا يُقَالُ لَهُ بَيْتُ الْعِزَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عباس: البيت المعمور هُوَ بَيْتٌ حِذَاءَ

ص: 388

الْعَرْشِ تُعَمِّرُهُ الْمَلَائِكَةُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إليه، وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف. وقال قتادة والسدي: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ لَوْ خَرَّ لَخَرَّ عَلَيْهَا، يُصَلَّى فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لم يعودوا آخر ما عليهم» . وقوله تعالى: {والسقف المرفوع} عن علي قال: يعني السماء، ثُمَّ تَلَا:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} ، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: هُوَ الْعَرْشُ يَعْنِي أَنَّهُ سَقْفٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وقوله تعالى:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ الَّذِي يُنْزِلُ اللَّهُ منه المطر الذي تحيا بِهِ الْأَجْسَادَ فِي قُبُورِهَا يَوْمَ مَعَادِهَا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ هَذَا الْبَحْرُ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {الْمَسْجُورِ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يُوقَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا كَقَوْلِهِ، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي أضرمت فتصير تتأجج محيطة بأهل الموقف، وروي عن علي وابن عباس. وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ بَدْرٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَحْرَ الْمَسْجُورَ لِأَنَّهُ لَا يُشْرَبُ مِنْهُ مَاءٌ وَلَا يُسْقَى بِهِ زَرْعٌ، وَكَذَلِكَ الْبِحَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} يَعْنِي المرسل، وقال قتادة: المسجور المملوء، واختاره ابن جرير، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَسْجُورِ الْمَمْنُوعُ الْمَكْفُوفُ عَنِ الْأَرْضِ لئلا يغمرها فيغرق أهلها، قاله ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ يَقُولُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَلَيْهِ يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَسْتَأْذِنُ الله أن ينفضح عليهم فيكفه الله عز وجل» (رواه الإمام أحمد في المسند).

وقوله تعالى: {إن عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هذا هو القسم عليه أي لواقع بالكافرين، {ماله مِن دَافِعٍ} أَيْ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ، قَالَ الحافظ ابن أبي الدنيا: خَرَجَ عُمَرُ يَعِسُّ الْمَدِينَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَمَرَّ بِدَارِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَوَافَقَهُ قَائِمًا يُصَلِّي، فَوَقَفَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَقَرَأَ:{وَالطُّورِ - حَتَّى بَلَغَ - إِن عَذَابَ رَبِّكَ لواقع * ماله مِن دَافِعٍ} قَالَ: قَسَمٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ حَقٌّ، فَنَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ، وَاسْتَنَدَ إِلَى حَائِطٍ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنْزِلِهِ، فَمَكَثَ شَهْرًا يَعُودُهُ النَّاسُ لَا يَدْرُونَ مَا مَرَضُهُ رضي الله عنه (رواه ابن أبي الدنيا عن جعفر بن زيد العبدي). وقوله تعالى:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تتحرك تحريكاً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَدُورُ دَوْرًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتِدَارَتُهَا وتحركها لِأَمْرِ اللَّهِ وَمَوْجُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ التَّحَرُّكُ فِي اسْتِدَارَةٍ، قال وأنشد أبو عبيدة بيت الأعشى فقال:

كأنَّ مِشَيتها مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا * مَوْرُ السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ

{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} أَيْ تَذْهَبُ فَتَصِيرُ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَتُنْسَفُ نَسْفًا، {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ وَيْلٌ لَهُمْ ذَلِكَ اليوم من عذاب الله ونكاله، {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أَيْ هُمْ فِي الدُّنْيَا يَخُوضُونَ فِي الْبَاطِلِ وَيَتَّخِذُونَ دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا {يَوْمَ يُدَعُّون} أَيْ يُدْفَعُونَ وَيُسَاقُونَ {إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّا} ، قال مجاهد والسدي: يُدْفَعُونَ فِيهَا دَفْعًا {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الزَّبَانِيَةُ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا} أَيِ ادْخُلُوهَا دُخُولَ مَنْ تَغْمُرُهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} ، أَيْ سَوَاءٌ

ص: 389

صَبَرْتُمْ عَلَى عَذَابِهَا وَنَكَالِهَا أَمْ لَمْ تَصْبِرُوا، لَا مَحِيدَ لَكُمْ عَنْهَا وَلَا خَلَاصَ لَكُمْ مِنْهَا، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ أَحَدًا بَلْ يُجَازِي كُلًّا بعمله.

ص: 390

- 17 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ

- 18 - فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ

- 19 - كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

- 20 - مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مصفوفة وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ

أخبر الله تَعَالَى عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ فَقَالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} وَذَلِكَ بِضِدِّ مَا أُولَئِكَ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أَيْ يَتَفَكَّهُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّعِيمِ، مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَاذِّ مِنْ مَآكِلَ وَمَشَارِبَ، وَمَلَابِسَ وَمَسَاكِنَ وَمَرَاكِبَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أَيْ وَقَدْ نَجَّاهُمْ مِنْ عَذَابِ النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها، مَعَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، الَّتِي فِيهَا مِنَ السُّرُورِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر على قلب بشر، وقوله تعالى:{كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الخالية} أَيْ هَذَا بِذَاكَ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، وَقَوْلُهُ تعالى:{متكئين على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} قال ابن عباس: السرر في الحجال، وفي الحديث:«إن الرجل ليتكىء الْمُتَّكَأَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذات عينه» (أخرجه ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعاً). وعن ثابت قال: "بلغنا أن الرجل ليتكىء فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً عِنْدَهُ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وَمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ، فَإِذَا حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ، فَإِذَا أَزْوَاجٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ رَآهُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَقُلْنَ: قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ نَصِيبًا"(أخرجه ابن أبي حاتم أيضاً عن ثابت البناني موقوفاً) وَمَعْنَى {مَّصْفُوفَةٍ} أَيْ وُجُوهُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ كقوله: {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} ، {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي وجعلنا لهم قَرِينَاتٍ صَالِحَاتٍ، وَزَوْجَاتٍ حِسَانًا مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَزَوَّجْنَاهُمْ} أَنَكَحْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ، وَقَدْ تقدم وصفهن في غير وضع بما أغنى عن إعادته ههنا.

ص: 390

- 21 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ

- 22 - وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ

- 23 - يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ

- 24 - وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ

- 25 - وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ

- 26 - قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ

- 27 - فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ

- 28 - إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلُطْفِهِ بِخَلْقِهِ وَإِحْسَانِهِ، أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ، يُلْحِقُهُمْ بِآبَائِهِمْ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا عَمَلَهُمْ لِتَقَرَّ أعين الآباء بالأبناء، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ بِأَنْ يَرْفَعَ

ص: 390

النَّاقِصَ الْعَمَلِ بِكَامِلِ الْعَمَلِ، وَلَا يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ وَمَنْزِلَتِهِ لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَاكَ، وَلِهَذَا قَالَ:{أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} ، قال ابن عباس: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي دَرَجَتِهِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ لتقرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً ورواه البزار عنه مرفوعاً). وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قول الله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، قَالَ: هُمْ ذُرِّيَّةُ الْمُؤْمِنِ يَمُوتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُ آبَائِهِمْ أَرْفَعَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ أُلْحِقُوا بِآبَائِهِمْ وَلَمْ يَنْقُصُوا مِنْ أعمالهم التي عملوها شيئاً، وروى الحافظ الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَظُنُّهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الجنة سأل أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ، فَيُؤْمَرُ بِإِلْحَاقِهِمْ بِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ} الْآيَةَ، هَذَا فَضْلُهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبْنَاءِ بِبَرَكَةِ عَمَلِ الْآبَاءِ، وَأَمَّا فَضْلُهُ عَلَى الْآبَاءِ بِبَرَكَةِ عمل الأبناء، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فيقول: باستغفار ولدك لك" (أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة، قال ابن كثير: اسناده صحيح). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صدقةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له" (أخرجه مسلم عن أبي هريرة).

وقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مَقَامِ الْفَضْلِ وَهُوَ رَفْعُ دَرَجَةِ الذُّرِّيَّةِ إِلَى مَنْزِلَةِ الْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، أَخْبَرَ عَنْ مَقَامِ الْعَدْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، فقال تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أَيْ مُرَّتُهُنَّ بِعَمَلِهِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ أَبَا أَوِ ابْنًا، كَمَا قال تَعَالَى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَاّ أَصْحَابَ اليمين فِي جنات يتسألون عن المجرمين} ، وَقَوْلُهُ:{وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ وَأَلْحَقْنَاهُمْ بِفَوَاكِهَ وَلُحُومٍ مِنْ أَنْوَاعٍ شَتَّى مِمَّا يُسْتَطَابُ وَيُشْتَهَى، وَقَوْلُهُ:{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أَيْ يَتَعَاطَوْنَ فِيهَا كَأْسًا أَيْ مِنَ الْخَمْرِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ:{لَاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} أَيْ لا يتكلمون فيها بِكَلَامٍ لَاغٍ، أَيْ هَذَيَانٍ، وَلَا إِثْمٍ، أَيْ فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّغْوُ الْبَاطِلُ، وَالتَّأْثِيمُ الْكَذِبُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَسْتَبُّونَ وَلَا يُؤَثَّمُونَ؛ وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مَعَ الشَّيْطَانِ، فَنَزَّهَ

اللَّهُ خَمْرَ الْآخِرَةِ عَنْ قَاذُورَاتِ خَمْرِ الدُّنْيَا وأذاها، فنفى عنها صُدَاعَ الرَّأْسِ وَوَجَعَ الْبَطْنِ وَإِزَالَةَ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيء الْفَارِغِ عَنِ الْفَائِدَةِ الْمُتَضَمِّنِ هَذَيَانًا وَفُحْشًا، وَأَخْبَرَ بِحُسْنِ مَنْظَرِهَا وَطِيبِ طَعْمِهَا وَمَخْبَرِهَا فَقَالَ:{بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا ينزفون} وقال: {لَاّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ} . وقال ههنا: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} . وقوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} إِخْبَارٌ عَنْ خَدَمِهِمْ وَحَشَمِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ الرَّطْبُ الْمَكْنُونُ، فِي حُسْنِهِمْ وَبَهَائِهِمْ وَنَظَافَتِهِمْ وحسن ملابسهم، كما قال تعالى:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} . وقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ

ص: 391

بعضهم على بعض يتسألون} أَيْ أَقْبَلُوا يَتَحَادَثُونَ وَيَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ في الدنيا، كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خَائِفِينَ مِنْ رَبِّنَا، مُشْفِقِينَ مِنْ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ {فمنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أَيْ فَتَصَدَّقَ عَلَيْنَا وَأَجَارَنَا مِمَّا نَخَافُ، {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} أَيْ نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ فَاسْتَجَابَ لنا وأعطانا سؤالنا {إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} ، عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ اشْتَاقُوا إِلَى الْإِخْوَانِ فَيَجِيءُ سَرِيرُ هَذَا حَتَّى يُحَاذِيَ سَرِيرَ هَذَا فَيَتَحَدَّثَانِ، فَيَتَّكِئُ هَذَا وَيَتَّكِئُ هَذَا فَيَتَحَدَّثَانِ بِمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: يَا فُلَانُ تَدْرِي أَيَّ يَوْمٍ غَفَرَ اللَّهُ لَنَا؟ يَوْمَ كُنَّا فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَدَعَوْنَا اللَّهَ عز وجل فغفر لنا"(أخرجه الحافظ البزار عن أنَس وقال: لا نعرفه إلا بهذا الإسناد). وعن مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: {فمنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا، وَقِنَا عَذَابَ السَّمُومِ، إِنَّكَ أَنْتَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ: قِيلَ لِلْأَعْمَشِ: في الصلاة؟ قال: نعم (أخرجه ابن أبي حاتم).

ص: 392

- 29 - فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ

- 30 - أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ

- 31 - قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ

- 32 - أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ

- 33 - أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَاّ يُؤْمِنُونَ

- 34 - فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَفَى عَنْهُ مَا يَرْمِيهِ بِهِ أَهْلُ الْبُهْتَانِ وَالْفُجُورِ فَقَالَ:{فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} ، أَيْ لَسْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ بِكَاهِنٍ كَمَا تَقَوَّلَهُ الْجَهَلَةُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَالْكَاهِنُ الَّذِي يَأْتِيهِ الرِئي مِنَ الْجَانِّ بِالْكَلِمَةِ يَتَلَقَّاهَا مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، {وَلَا مَجْنُونٍ} وَهُوَ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عليهم في قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ؟ أي قوارع الدهر، والمنون الموت، يقولون: ننتظره وَنَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أَيِ انْتَظِرُوا، فَإِنِّي مُنْتَظِرٌ مَعَكُمْ وستعلمون لمن العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ: احتبسوه في وثاق وتربصوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ من كان قبله من الشعراء (زهير) و (النابغة) إنما هو كأحدهم، فأنزل الله تعالى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا} أَيْ عُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِهَذَا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الْبَاطِلَةِ، الَّتِي يَعْلَمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا كَذِبٌ وزور {أَمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي ولكن هم قوم طاغون ضُلَّالٌ مُعَانِدُونَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى ما قالوه فيك، وقوله تعالى:{أَمْ هم يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أَيِ اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ مِنْ عِنْدِ نفسه يعنون القرآن، قال تعالى:{بَل لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ كُفْرُهُمْ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ، تَقَوَّلَهُ وَافْتَرَاهُ: فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا هُمْ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ، مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَا جَاءُوا بِمِثْلِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.

ص: 392

- 35 - أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ

- 36 - أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَاّ يُوقِنُونَ

- 37 - أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ

- 38 - أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ

- 39 - أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ

- 40 - أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ

- 41 - أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ

- 42 - أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ

- 43 - أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ

هَذَا الْمَقَامُ فِي إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَقَالَ تَعَالَى:{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ؟ أَيْ أَوُجِدُوا مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ؟ أَمْ هُمْ أَوْجَدُوا أَنْفُسَهُمْ؟ أَيْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شيئاً مذكوراً، روى البخاري، عن جبير بن مطعم قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ:{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَاّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المصيطرون} ؟ كاد قلبي أن يطير (الحديث من رواية الشيخين، وجبير بن مطعم قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسرى وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا، وَكَانَ سَمَاعُهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَا حمله على الدخول في الإسلام). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَاّ يُوقِنُونَ} ؟ أَيْ أَهُمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} ؟ أَيْ أَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْمُلْكِ وَبِيَدِهِمْ مَفَاتِيحُ الخزائن {أَمْ هُمُ المصيطرون} أي هم المحاسبون للخلائق، بل الله عز وجل هو المالك التصرف الفعال لما يريد، وقوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} ؟ أَيْ مَرْقَاةٌ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أَيْ فَلْيَأْتِ الَّذِي يَسْتَمِعُ لَهُمْ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ، عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْفِعَالِ والمقال، ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ من البنات، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث، وَقَدْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ وَعَبَدُوهُمْ مَعَ اللَّهِ فَقَالَ:{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} ؟! وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} ؟ أَيْ أُجْرَةٌ عَلَى إِبْلَاغِكَ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ، أَيْ لستُ تَسْأَلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} أَيْ فَهُمْ مِنْ أَدْنَى شَيْءٍ يَتَبَرَّمُونَ مِنْهُ، وَيُثْقِلُهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ، {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً * فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} ، يَقُولُ تَعَالَى: أَمْ يُرِيدُ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِمْ هَذَا فِي الرَّسُولِ، وَفِي الدِّينِ غُرُورَ النَّاسِ وَكَيْدَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، فَكَيْدُهُمْ إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ، {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وَهَذَا إِنْكَارٌ شَدِيدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَالْأَنْدَادَ مَعَ اللَّهِ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَمَّا يَقُولُونَ وَيَفْتَرُونَ، وَيُشْرِكُونَ، فَقَالَ:{سُبْحَانَ اللَّهِ عما يشركون} .

ص: 393

- 44 - وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ

- 45 - فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ

- 46 - يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ

- 47 - وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ

ص: 393

أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

- 48 - وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ

- 49 - وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ لِلْمَحْسُوسِ {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً} أَيْ عَلَيْهِمْ يُعَذَّبُونَ بِهِ لَمَّا صَدَقُوا وَلَمَّا أَيْقَنُوا، بَلْ يَقُولُونَ هَذَا {سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} أَيْ متراكم، وهذا كقوله:{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} ، وقال اللَّهُ تَعَالَى {فَذَرْهُمْ} أَيْ دَعْهُمْ يَا مُحَمَّدُ {حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا، لا يجزي عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا، {وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}. ثم قال تعالى:{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} أَيْ قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لعلهم يرجعون} ، ولهذا قال تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ نُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَنَبْتَلِيهِمْ فِيهَا بِالْمَصَائِبِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَيُنِيبُونَ، فَلَا يَفْهَمُونَ مَا يُرَادُ بِهِمْ، بَلْ إِذَا جلي عنهم مما كانوا عليه فيه، عادوا إلى أسوأ مما كانوا كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ:«إِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ وَعُوفِيَ، مَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ الْبَعِيرِ لَا يَدْرِي فِيمَا عَقَلُوهُ وَلَا فِيمَا أرسوله» . وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ وَلَا تُبَالِهِمْ فَإِنَّكَ بِمَرْأًى مِنَّا وَتَحْتَ كَلَاءَتِنَا، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أَيْ إِلَى الصَّلَاةِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ ولا إله غيرك (قاله الضحّاك وعبد الرحمن بن أسلم)، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كان يقول: هذا ابتداء الصلاة، وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أَيْ مِنْ نَوْمِكَ مِنْ فِرَاشِكَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَتَأَيَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا رَوَاهُ الإمام أحمد، عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي - أَوْ قَالَ ثُمَّ دَعَا - اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ عَزَمَ فَتَوَضَّأَ ثم صلى قبلت صلاته"(أخرجه أحمد ورواه البخاري وأهل السنن). وقال مُجَاهِدٍ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قَالَ من كل مجلس، وقال الثوري {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قَالَ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَالَ سبحانك اللهم وبحمدك، وهذا القول كفارة المجالس، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك"(أخرجه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح). وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أَيِ اذْكُرْهُ وَاعْبُدْهُ بِالتِّلَاوَةِ والصلاة في الليل، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} ، وقوله تعالى:{وَإِدْبَارَ النجوم} قد تقدم عن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمَا الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ

ص: 394

قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُمَا مَشْرُوعَتَانِ عِنْدَ إِدْبَارِ النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة، لحديث:«لَا تَدَعُوهُمَا وَإِنْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْلُ، يَعْنِي رَكْعَتَيِ الفجر» (رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً). وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ:«رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها» .

ص: 395