الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
15 - سورة الحجر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ
- 2 - رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ
- 3 - ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أوائل السور، وقوله تعالى:{رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} إِخْبَارٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى مَا كَانُوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين، ونقل السدي عن ابن عباس، أن كفّار قريش لَمَّا عُرِضُوا عَلَى النَّارِ تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ يَوَدُّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا، وقيل: هذا إخبار عن يوم القيامة، كقوله تَعَالَى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ من المؤمنين} ، وقال بعضهم: يَحْبِسُ اللَّهُ أَهْلَ الْخَطَايَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: مَآ أَغْنَى عَنكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَيُخْرِجُهُمْ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ:{رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} (روى هذا القول ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وأنَس بْنِ مالك وقال: كانا يتأولان الآية: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} بذلك التأويل). وقال مجاهد: يَقُولُ أَهْلُ النَّارِ لِلْمُوَحِّدِينَ: مَآ أَغْنَى عَنكُمْ إيمانكم؟ فإذا قالوا ذلك قال الله: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمان، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ:{رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ، فَقَالَ الحافظ الطبراني، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ اللَّاتِ وَالْعُزَّى: مَآ أَغْنَى عَنكُمْ قَوْلُكُمْ: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وَأَنْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟ فَيَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ، فَيُخْرِجُهُمْ فَيُلْقِيهِمْ فِي نهر الحياة، فيبرؤون مِنْ حَرْقِهِمْ، كَمَا يَبْرَأُ الْقَمَرُ مِنْ خُسُوفِهِ، ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين".
(الحديث الثاني): عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم: "إذا اجتمع أهل
النَّارِ وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، قَالَ الْكُفَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ: أَلَمْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ؟ قَالُواْ: بَلَى، قَالُواْ: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمُ الْإِسْلَامُ وقد صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟ قَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذنوباً فَأُخِذْنَا بِهَا، فَسَمِعَ اللَّهُ مَا قَالُوا، فَأَمَرَ بِمَنْ كَانَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَأُخْرِجُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا كُنَّا مُسْلِمِينَ فَنَخْرُجَ كَمَا خَرَجُوا - قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} " (أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم).
وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} تهديد شديد لهم وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ
مَصِيرَكُمْ إلى النار}، وقوله:{كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إنكم مجرمون} ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أَيْ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ.
- 4 - وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ
- 5 - مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يستأخرون
يخبر تَعَالَى إِنَّهُ مَا أَهْلَكَ قَرْيَةً إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهَا وَانْتِهَاءِ أَجَلِهَا، وَإِنَّهُ لَا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم وَلَا يَتَقَدَّمُونَ عَنْ مُدَّتِهِمْ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِرْشَادٌ لَهُمْ، إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هَمْ عليه مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الهلاك.
- 6 - وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ
- 7 - لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- 8 - مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ
- 9 - إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عن كفرهم وَعِنَادِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} أي الذي تدعي ذَلِكَ، {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أَيْ فِي دُعَائِكَ إِيَّانَا إِلَى اتِّبَاعِكَ وَتَرْكِ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، {لَّوْ مَا} أَيْ هَلَّا، {تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} أَيْ يشهدون لك بصحة ما جئت به كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ:{فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائمة مقترنين} ، {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كبيرا} ، وَكَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ}. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ:{مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَاّ بِالْحَقِّ} : بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ، ثُمَّ قَرَّرَ تَعَالَى إِنَّهُ هُوَ الذي أنزل عليه الذِّكْرَ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْحَافِظُ لَهُ مِنَ التغيير والتبديل.
- 10 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَع الْأَوَّلِينَ
- 11 - وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- 12 - كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ
- 13 - لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ
يَقُولُ تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، إنه أرسل مِن قَبْلِهِ مِنَ الأمم الماضية، وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزؤوا بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَلَكَ التَّكْذِيبَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ عَانَدُوا
⦗ص: 309⦘
وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى، قَالَ أنَس وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} : يعني الشرك، وقوله:{قد خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} : أَيْ قَدْ عَلِمَ مَا فَعَلَ تَعَالَى بِمَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ مِنَ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَكَيْفَ أَنْجَى اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ فِي الدنيا والآخرة.
- 14 - وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ
- 15 - لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُوَّةِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ أَنَّهُ لَوْ فَتَحَ لَهُمْ بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَجَعَلُوا يَصْعَدُونَ فِيهِ لما صدقوا بذلك بل قالوا: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} قال مجاهد وَالضَّحَّاكُ: سُدَّتْ أَبْصَارُنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُخِذَتْ أَبْصَارُنَا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: شُبِّهَ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا سُحِرْنَا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عميت أبصارنا.
- 16 - وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ
- 17 - وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
- 18 - إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ
- 19 - وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ
- 20 - وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ
يَذْكُرُ تَعَالَى خَلْقَهُ السَّمَاءَ فِي ارْتِفَاعِهَا، وَمَا زَيَّنَهَا بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثوابت والسيارات، لمن
تأمل وكرر النظر فيما يرى مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، مَا يَحَارُ نَظَرُهُ فيه، ولهذا
قال مجاهد وقتادة: البروج ههنا هي الكواكب وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} الآية، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبُرُوجُ هِيَ مَنَازِلُ الشَّمْسِ والقمر، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَهُ الْأَرْضَ وَمَدَّهُ إِيَّاهَا وَتَوْسِيعَهَا وَبَسْطَهَا، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي وَالْأَوْدِيَةِ وَالْأَرَاضِي وَالرِّمَالِ، وَمَا أَنْبَتَ فِيهَا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمُتَنَاسِبَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} : أي معلوم (وكذلك قال عكرمة ومجاهد والحسن وَقَتَادَةُ)، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مُقَدَّرٌ بِقَدَرٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ يُوزَنُ وَيُقَدَّرُ بقدر، وقوله:{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} المعايش وَهِيَ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، وَقَوْلُهُ:{وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} ، قال مجاهد: هي الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُمُ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ وَالدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ، وَالْقَصْدُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنُّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَكَاسِبِ وَوُجُوهِ الْأَسْبَابِ وَصُنُوفِ الْمَعَايِشِ، وَبِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي يَرْكَبُونَهَا، وَالْأَنْعَامِ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا، وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ الَّتِي يَسْتَخْدِمُونَهَا، وَرِزْقُهُمْ عَلَى خَالِقِهِمْ لَا عَلَيْهِمْ، فَلَهُمْ هُمُ الْمَنْفَعَةُ، وَالرِّزْقُ عَلَى الله تعالى.
- 21 - وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ
- 22 - وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ
- 23 - وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ
- 24 - وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ
مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ
- 25 - وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَأَنَّ عِنْدَهُ خَزَائِنَ الْأَشْيَاءِ مِنْ جَمِيعِ الصُّنُوفِ {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} كما يشاء وكما يريد، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ بعباده، لا على جهة الْوُجُوبِ بَلْ هُوَ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. قال ابن مسعود فِي قَوْلِهِ:{وَمَآ نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} مَا عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَا أقل، ولكنه يمطر قوم، ويحرم آخرون بما كَانَ فِي الْبَحْرِ، قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ الْمَطَرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ وَلَدِ إِبْلِيسَ وَوُلِدِ آدَمَ، يُحْصُونَ كُلَّ قَطْرَةٍ حيث تقع وما تنبت (رواه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود)، وقوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أَيْ تُلَقِّحُ السَّحَابَ فَتُدِرُّ ماء وتلقح الشجر، فتفتح عن أوراقها وأكمامها، وذكرها بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِيَكُونَ مِنْهَا الْإِنْتَاجُ بِخِلَافِ الرِّيحِ الْعَقِيمِ، فَإِنَّهُ أَفْرَدَهَا وَوَصَفَهَا بِالْعَقِيمِ، وَهُوَ عَدَمُ الإنتاج، وقال أعمش، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ:{وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} قال: ترسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر مر السَّحَابَ حَتَّى تُدِرَّ كَمَا تُدِرُّ اللَّقْحَةُ (وَكَذَا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي والضحّاك)، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَبْعَثُهَا اللَّهُ عَلَى السَّحَابِ
فَتُلَقِّحُهُ فَيَمْتَلِئُ مَاءً، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ: يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُبَشِّرَةَ فَتَقُمُّ الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُ السَّحَابَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ، ثُمَّ تَلَا:{وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} .
وقوله تعالى: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لَكُمْ عَذْبًا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تشربوا منه {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أجاجا} كما نبّه على ذلك في قوله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} ، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بِمَانِعِينَ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِحَافِظِينَ، بَلْ نَحْنُ نُنَزِّلُهُ وَنَحْفَظُهُ عَلَيْكُمْ وَنَجْعَلُهُ مَعِينًا وَيَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لَأَغَارَهُ وَذَهَبَ بِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَنْزَلَهُ وَجَعْلِهِ عَذْبًا وَحَفِظَهُ فِي الْعُيُونِ وَالْآبَارِ والأنهار، لِيَبْقَى لَهُمْ فِي طُولِ السَّنَةِ يَشْرَبُونَ وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ وَثِمَارَهُمْ. وَقَوْلُهُ:{وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} إِخْبَارٌ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَدْءِ الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيى الْخَلْقَ مِنَ الْعَدَمِ، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ ليوم الجمع، وأخبر تعالى بأنه
يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ. ثُمَّ أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم
فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ} الآية. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: الْمُسْتَقْدِمُونَ كُلُّ مَنْ هَلَكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عليه السلام، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ مَنْ هُوَ حَيٌّ وَمَنْ سَيَأْتِي إلى يوم القيامة، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله. وَقَالَ ابن جرير، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أُنَاسٌ يَسْتَأْخِرُونَ فِي الصُّفُوفِ مِنْ أَجْلِ النِّسَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين} (قال ابن كثير: ورد فيه حديث غريب جداً رواه أصحاب السنن وفيه نكارة شديدة وهو أنه كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء، وكان بعض المسلمين إذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فنزلت الآية. وقد نبه رحمه الله إلى نكارة هذه الرواية وضعفها).
وروى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَوْنَ بْنَ عَبْدِ الله يذكر مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} وَأَنَّهَا فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:
لَيْسَ هَكَذَا {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ} : الْمَيِّتَ والمقتول، {والمستأخرين} مَنْ يُخْلَقُ بَعْدُ، {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ، فَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَفَّقَكَ اللَّهُ وَجَزَاكَ خَيْرًا.
- 26 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ
- 27 - وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم
قال ابن عباس: المراد بالصلصال التراب اليابس، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ
صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}. وعن مجاهد: (الصلصال) المنتن، وتفسير الآية بِالْآيَةِ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ:{مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} أَيِ الصَّلْصَالُ مِنْ حَمَأٍ وَهُوَ الطِّينُ، وَالْمَسْنُونُ الْأَمْلَسُ، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:
هُوَ التُّرَابُ الرطب، وعن ابن عباس ومجاهد أَنَّ الْحَمَأَ الْمَسْنُونَ هُوَ الْمُنْتِنُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالمسنون ههنا الْمَصْبُوبُ. وَقَوْلُهُ: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ الْإِنْسَانِ، {مِن نَّارِ السَّمُومِ} قَالَ ابن عباس: هي السموم التي تقتل، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجَانَّ خُلِقَ مِنْ لهب النار، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ:«خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَتِ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخَلَقَ آدَمَ مما وصف لكم» (رواه مسلم وأحمد عن عائشة)، والمقصود من الْآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى شَرَفِ آدَمَ عليه السلام، وَطِيبِ عُنْصُرِهِ وَطَهَارَةِ مَحْتِدِهِ.
- 28 - وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
- 29 - فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ
- 30 - فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
- 31 - إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ
- 32 - قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ
- 33 - قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ
يَذْكُرُ تَعَالَى تَنْوِيهَهُ بِذِكْرِ آدَمَ فِي مَلَائِكَتِهِ، قَبْلَ خَلْقِهِ لَهُ وَتَشْرِيفَهُ إياه بأمر الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَيَذْكُرُ تَخَلُّفَ إِبْلِيسَ عَدُوِّهُ عن السجود له حَسَدًا وَكُفْرًا، وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا وَافْتِخَارًا بِالْبَاطِلِ، وَلِهَذَا قَالَ:{لَّمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صلصال من حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} ، كقوله:{أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} .
- 34 - قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
- 35 - وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
- 36 - قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
- 37 - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
- 38 - إِلَى يَوْمِ الوقت المعلوم
يذكر تعالى أنه أمر إبليس بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِنَّهُ رَجِيمٌ أَيْ مَرْجُومٌ، وَإِنَّهُ قَدْ أَتْبَعَهُ لَعْنَةً لَا تَزَالُ مُتَّصِلَةً بِهِ لَاحِقَةً لَهُ مُتَوَاتِرَةً عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا لعن الله إبليس تغيرت صورته عن صور الْمَلَائِكَةِ، وَرَنَّ رَنَّةً، فَكُلُّ رَنَّةٍ فِي الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْهَا (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم عن سعيد بن جبير). وَإِنَّهُ لَمَّا تَحَقَّقَ الْغَضَبُ الَّذِي
⦗ص: 312⦘
لَاّ مَرَدَّ لَهُ سَأَلَ مِنْ تَمَامِ حَسَدِهِ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَإِمْهَالًا، فلما تحقق النظرة قبحه الله قال ما قصّه الله تعالى:
- 39 - قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
- 40 - إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
- 41 - قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ
- 42 - إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ
- 43 - وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ
- 44 - لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جزء مقسوم
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْلِيسَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ إنه قال للرب: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أي بِسَبَبِ مَا أَغْوَيْتَنِي وَأَضْلَلْتَنِي {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} أَيْ لِذُرِّيَّةِ آدَمَ عليه السلام، {فِي الْأَرْضِ} أَيْ أحبب إليهم المعاصي وأرغبهم فيها، {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي كما أغويتني وقدّرت على ذلك، {إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} ، كقوله:{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَاّ قَلِيلاً} ، {قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مُتَهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا، {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} أي مرجعكم إليَّ فَأُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شرا فشر، وَقِيلَ: طَرِيقُ الْحَقِّ مَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وإليه تنتهي (قاله مجاهد والحسن وقتادة)، كقوله:{وعلى الله قَصْدُ السبيل} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أَيِ الَّذِينَ قَدَّرْتُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا وُصُولَ لَكَ إِلَيْهِمْ {إِلَاّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} استثناء منقطع، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أَيْ جَهَنَّمُ مَوْعِدُ جَمِيعِ مَنِ اتَّبَعَ إِبْلِيسَ كَمَا قَالَ عَنِ الْقُرْآنِ، {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} ، ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب (في اللباب: أخرج الثعلبي: أن سلمان الفارسي لما سمع قوله تعالى: {وَإِن جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} فرّ ثلاثة أيام هارباً من الخوف لا يعقل، فجيء به إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:
يا رسول الله، أنزلت هذه الآية؟ فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي، فأنزل الله:{إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وعيون} ) {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} أَيْ قَدْ كَتَبَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ يَدْخُلُونَهُ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا، وَكُلٌّ يَدْخُلُ مِنْ بَابٍ بِحَسَبِ عمله ويستقر في درك بقدر عمله، وعن علي بن أبي طالب أنه قال: إن أبواب جهنم هكذا أطباقٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وعن هبيرة بن أبي مريم عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَبْوَابُ جَهَنَّمَ سَبْعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَمْتَلِئُ الْأَوَّلُ ثم الثاني ثم الثالث، حتى تمتلئ كُلُّهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَبْعَةُ أَبْوَابٍ سَبْعَةُ أَطْبَاقٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَبْعَةُ أَبْوَابٍ أَوَّلُهَا جَهَنَّمُ، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية (روى الضحاك عن ابن عباس نحوه، وكذلك روي عن الأعمش)، وَقَالَ قَتَادَةُ {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مقسوم}: هي والله منازل بأعمالهم، وقال الترمذي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي - أَوْ قال علي أمة محمد -» (رواه الترمذي وقال: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ مغول). وقال ابن أبي حاتم، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ:{لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} قَالَ: "إِنَّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى حِجزته، وَمِنْهُمْ من تأخذه النار إلى تراقيه، منازلهم بِأَعْمَالِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} .
- 45 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- 46 - ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ
- 47 - وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ
- 48 - لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ
- 49 - نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- 50 - وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ النَّارِ، عَطَفَ عَلَى ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّهُمْ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَقَوْلُهُ:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} أَيْ سالمين من الآفات مسلم عليكم، {آمِنِينَ} أي مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَفَزَعٍ، وَلَا تَخْشَوْا مِنْ إِخْرَاجٍ وَلَا انْقِطَاعٍ وَلَا فَنَاءٍ. وَقَوْلُهُ:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} . عن أبي أمامة قال: لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله مَا فِي صدره مِنْ غِلٍّ حَتَّى يَنْزِعَ مِنْهُ مِثْلَ السَّبْعِ الضاري، وهذا موافق لما فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لبعضهم من بعض مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» . وقال ابن جرير: دَخَلَ عِمْرَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه بعد ما فَرَغَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَمَلِ فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} . وعن أَبِي حَبِيبَةَ مَوْلًى لِطَلْحَةَ قَالَ: دَخَلَ عِمْرَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه بعد ما فَرَغَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَمَلِ فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} قال: ورجلان جالسان إلى نَاحِيَةِ الْبِسَاطِ، فَقَالَا: اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ تَقْتُلُهُمْ بِالْأَمْسِ وَتَكُونُونَ إِخْوَانًا، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: قُوما أَبْعَدَ أَرْضٍ وَأَسْحَقَهَا، فَمَنْ هم إذاً إن لم أكن أنا وطلحة؟ وفي رواية: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْدَلُ من ذلك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَصَاحَ بِهِ عَلِيٌّ صَيْحَةً، فَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَصْرَ تَدَهْدَهَ لَهَا، ثُمَّ قال: إذا لم نكن نحن فمن هم؟ وقال سفيان الثوري: جَاءَ ابْنُ (جُرْمُوزٍ)، قَاتِلُ الزُّبَيْرِ، يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَحَجَبَهُ طَوِيلًا، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَمَّا أَهْلُ الْبَلَاءِ فَتَجْفُوهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بِفِيكَ التُّرَابُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} . وقال الحسن البصري، قَالَ عَلِيٌّ: فِينَا وَاللَّهِ أَهْلَ بَدْرٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} . وقال الثوري فِي قَوْلِهِ: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} قَالَ، هُمْ عَشَرَةٌ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وَقَوْلُهُ:{مُّتَقَابِلِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ فِي قَفَا بَعْضٍ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ. قَالَ ابن أبي حاتم، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} في الله ينظر بعضهم إلى بعض (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسن: أن هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صدورهم
…
} نزلت في أبي بكر، وعمر، قيل: وأي غل؟ قال: غل الجاهلية، إن بني تميم وبني عدي وبني هاشم كانوا أعداء، فلما أسلموا تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية). وَقَوْلُهُ:{لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} يَعْنِي الْمَشَقَّةُ وَالْأَذَى، كَمَا جَاءَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ ببيت في الجنة لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» . وَقَوْلُهُ: {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} ، كقوله تَعَالَى:{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} ، وَقَوْلُهُ:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} أَيْ أَخْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عِبَادِي أَنِّي ذُو رَحْمَةٍ وَذُو عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَقَامَيِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وذكر في سبب نزولها ما رواه ابن جرير عَنِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ بَنُو شيبة فقال: «لا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ» ثُمَّ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانَ عند الحجر رجع علينا الْقَهْقَرَى فَقَالَ:"إِنِّي لَمَّا خَرَجْتُ جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لِمَ تُقَنِّطُ عِبَادِي؟ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأليم} ". وقال قتادة: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ لَمَا تَوَرَّعَ مِنْ حَرَامٍ، وَلَوْ يَعْلَمُ العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه» .
- 51 - وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
- 52 - إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
- 53 - قَالُواْ لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ
- 54 - قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ
- 55 - قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِّن الْقَانِطِينَ
- 56 - قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَخَبِّرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ عَنْ قِصَّةِ {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} ، وَالضَّيْفُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَالزَّوْرِ والسَّفْرِ، وَكَيْفَ {دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أَيْ خَائِفُونَ، وَقَدْ ذَكَرَ سَبَبَ خَوْفِهِ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة وَهُوَ الْعِجْلُ السَّمِينُ الْحَنِيذُ، {قَالُواْ لَا تَوْجَلْ} أي لَا تَخَفْ، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي إِسْحَاقُ عليه السلام كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ، ثُمَّ {قَالَ} مُتَعَجِّبًا مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ زَوْجَتِهِ وَمُتَحَقِّقًا لِلْوَعْدِ {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} ، فَأَجَابُوهُ مُؤَكِّدِينَ لِمَا بَشَّرُوهُ بِهِ تَحْقِيقًا وَبِشَارَةً بَعْدَ بِشَارَةٍ، {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلَا تَكُنْ مِّن القانطين} ، فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ يَقْنَطُ وَلَكِنْ يَرْجُو مِنَ اللَّهِ الْوَلَدَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ كَبِرَ وَأَسَنَّتِ امْرَأَتُهُ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ.
- 57 - قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
- 58 - قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
- 59 - إِلَاّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ
- 60 - إِلَاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى، إِنَّهُ شَرَعَ يَسْأَلُهُمْ عَمَّا جَاءُوا لَهُ فَقَالُوا:{إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} يَعْنُونَ قَوْمَ لُوطٍ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ سَيُنَجُّونَ آلَ لُوطٍ من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين، وَلِهَذَا قَالُوا:{إِلَاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} أَيِ الْبَاقِينَ الْمُهْلَكِينَ.
- 61 - فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ
- 62 - قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
- 63 - قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ
- 64 - وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
⦗ص: 315⦘
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ لُوطٍ لَمَّا جَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فِي صُورَةِ شَبَابٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ دَارَهُ قَالَ: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ
مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} يَعْنُونَ بِعَذَابِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ وَدَمَارِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِهِ بِهِمْ وحلوله بساحتهم، {وَآتَيْنَاكَ بالحق} كقوله تعالى:{مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلَاّ بالحق} ، وَقَوْلُهُ:{وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} تَأْكِيدٌ لِخَبَرِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه.
- 65 - فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
- 66 - وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ
يَذْكُرُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ أَمَرُوهُ أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ جَانِبٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَكُونَ لُوطٌ عليه السلام يَمْشِي وَرَاءَهُمْ لِيَكُونَ أَحْفَظَ لَهُمْ؛ وَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي في الغزو يُزْجِي الضَّعِيفَ وَيَحْمِلُ الْمُنْقَطِعَ، وَقَوْلُهُ:{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} أَيْ إِذَا سَمِعْتُمُ الصَّيْحَةَ بِالْقَوْمِ فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ وَذَرُوهُمْ فِيمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} كَأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ مَنْ يَهْدِيهِمُ السَّبِيلَ، {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} أَيْ تَقَدَّمَنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} أَيْ وَقْتَ الصباح، كقوله فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} .
- 67 - وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ
- 68 - قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ
- 69 - وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ
- 70 - قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ
- 71 - قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
- 72 - لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عِنْ مَجِيءِ قَوْمِ لُوطٍ لَمَّا عَلِمُوا بِأَضْيَافِهِ وَصَبَاحَةِ وُجُوهِهِمْ، وَأَنَّهُمْ جَاءُوا مُسْتَبْشِرِينَ بِهِمْ فَرِحِينَ {قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أنهم رسل الله، كما قال في سورة هود، وأما ههنا فَتَقَدَّمَ ذِكْرُ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ وَعُطِفَ بِذِكْرِ مَجِيءِ قَوْمِهِ وَمُحَاجَّتِهِ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِيَ التَّرْتِيبَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، فَقَالُوا لَهُ مُجِيبِينَ:{أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أَيْ أَوَمَا نَهَيْنَاكَ أَنْ تُضِيفَ أَحَدًا؟ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى نِسَائِهِمْ وَمَا خَلَقَ لَهُمْ ربهم منهن من الفروج المباحة، هَذَا كُلُّهُ وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ وَمَا قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَاذَا يُصَبِّحُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَقِرِّ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، أَقْسَمَ تَعَالَى بِحَيَاةِ نَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ ومقام رفيع وجاه عريض. قال ابن عباس: مَا خَلَقَ اللَّهُ وَمَا ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} يَقُولُ: وَحَيَاتِكَ وَعُمْرِكَ وَبَقَائِكَ فِي الدُّنْيَا {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ)، وَقَالَ قَتَادَةُ:{فِي سَكْرَتِهِمْ} أَيْ ضلالتهم، {يَعْمَهُونَ} أي يلعبون، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ:{لَعَمْرُكَ} لَعَيْشُكَ، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال: يترددون.
- 73 - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ
- 74 - فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
- 75 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
- 76 - وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ
- 77 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} وَهِيَ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الصَّوْتِ الْقَاصِفِ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَهُوَ طُلُوعُهَا، وَذَلِكَ مَعَ رَفْعِ بِلَادِهِمْ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَلْبِهَا، وَجَعْلِ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَإِرْسَالِ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تقدم الكلام على السجيل في هُودٍ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أَيْ إِنَّ آثَارَ هَذِهِ النقم الظاهرة عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ لِمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ وَتَوَسَّمَهُ بِعَيْنِ بَصَرِهِ وَبَصِيرَتِهِ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ:{لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قَالَ: الْمُتَفَرِّسِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: لِلنَّاظِرِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ:{لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلْمُتَأَمِّلِينَ. وَقَالَ ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد مرفوعاً قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اتَّقُوا فِراسةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (رَوَاهُ الترمذي وابن جرير، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ). وَفِي رواية عن ابن عمر: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ الله» (رواه ابن جرير). وروى الحافظ البزار عَنْ أَنَسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ» . وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} أَيْ وَإِنَّ قَرْيَةَ سَدُومَ الَّتِي أَصَابَهَا مَا أَصَابَهَا من القلب والقذف للحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة، بطريق مهيع مسالكه مستعمرة إلى اليوم، كقوله:{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} قَالَ: مُعَلَّمٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ أيضاً: بصقع من الأرض واحد. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ إِنَّ الَّذِي صَنَعْنَا بِقَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَإِنْجَائِنَا لُوطًا وَأَهْلَهُ لَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.
- 78 - وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ
- 79 - فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ
أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ قَوْمُ شعيب، قال الضحاك: الْأَيْكَةُ: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَكَانَ ظُلْمُهُمْ بِشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَقَطْعِهِمُ الطَّرِيقَ، وَنَقْصِهِمُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، فَانْتَقَمَ اللَّهُ منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلمة، وَقَدْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بَعْدَهُمْ فِي الزَّمَانِ وَمُسَامِتِينَ لَهُمْ فِي الْمَكَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} أَيْ طَرِيقٍ مُّبِينٌ. قال ابن عباس: طَرِيقٌ ظَاهِرٌ، وَلِهَذَا لَمَّا أَنْذَرَ شُعَيْبٌ قَوْمَهُ قال في إنذاره إِيَّاهُمْ:{وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} .
- 80 - وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ
- 81 - وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ
- 82 - وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ
- 83 - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ
- 84 - فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
أَصْحَابُ الْحَجَرِ هُمْ ثمود الذين كذبوا صالحاً نبيّهم عليه السلام، وَمَنْ كَذَّبَ بِرَسُولٍ فَقَدْ كَذَّبَ بجميع
الْمُرْسَلِينَ، وَلِهَذَا أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ تَكْذِيبُ الْمُرْسَلِينَ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ صَالِحٌ، كَالنَّاقَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لَهُمْ بِدُعَاءِ صَالِحٍ مِنْ صخرة صماء، وكانت تَسْرَحُ فِي بِلَادِهِمْ لَهَا شِرْبٌ وَلَهُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ، فَلَمَّا عَتَوْا وَعَقَرُوهَا قَالَ لَهُمْ:{تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مكذوب} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ {كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} أَيْ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا احْتِيَاجٍ إِلَيْهَا بَلْ أَشَرًا وَبَطَرًا وَعَبَثًا، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ مِنْ صَنِيعِهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ بِوَادِي الْحِجْرِ الَّذِي مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ دَابَّتَهُ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:«لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا خَشْيَةَ أَنْ يصيبكم ما أصابهم» (الحديث في الصحاح والسنن).
وَقَوْلُهُ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أَيْ وَقْتَ الصَّبَاحِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أَيْ مَا كَانُوا يَسْتَغِلُّونَهُ مِنْ زُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمُ الَّتِي ضَنُّوا بِمَائِهَا عَنِ النَّاقَةِ حَتَّى عَقَرُوهَا لِئَلَّا تُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيَاهِ، فَمَا دَفَعَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ وَلَا نَفَعَتْهُمْ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ.
- 85 - وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَاّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ
- 86 - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَآ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلَاّ بالحق وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} أَيْ بِالْعَدْلِ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُوا} الآية، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كفروا من النار} ، ثُمَّ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّفْحِ الْجَمِيلِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَذَاهُمْ لَهُ وَتَكْذِيبِهِمْ مَا جَاءَهُمْ به، كقوله:{فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، وقال مجاهد وقتادة: كان هذا قبل القتال (قال ابن كثير: وهو كما قالا، فإن الآية مَكِّيَّةٌ وَالْقِتَالُ إِنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ)، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} تَقْرِيرٌ لِلْمَعَادِ وَأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِقَامَةِ السَّاعَةِ، فَإِنَّهُ الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء {الْعَلِيمُ} بِمَا تَمَزَّقَ مِنَ الْأَجْسَادِ وَتَفَرَّقَ فِي سائر أقطار الأرض كقوله:{أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخلاق العظيم} .
- 87 - وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
- 88 - لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ للمؤمنين
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: كَمَا آتَيْنَاكَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فَلَا تَنْظُرَنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَمَا مَتَّعْنَا بِهِ أَهْلَهَا مِنَ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، فَلَا تَغْبِطْهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ، وَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ حُزْنًا عَلَيْهِمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَمُخَالَفَتِهِمْ دِينَكَ، {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} أي ألن لهم جانبك، كقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رحيم}، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّبْعِ الْمَثَانِي مَا هِيَ؟ فقال ابن مسعود وابن عباس: هي السبع الطوال، يَعْنُونَ «الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ وَالْمَائِدَةُ وَالْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ ويونس» (وهو قول ابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك وغيرهم)، وقال سعيد: بين فيهن الفرائض والحدود والقصاص وَالْأَحْكَامَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بيَّن الْأَمْثَالَ وَالْخَبَرَ والعبر، وَلَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ إِلَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وأعطي موسى منهن ثنتين، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّهَا الْفَاتِحَةُ وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْبَسْمَلَةُ هِيَ الْآيَةُ السَّابِعَةُ، وقد خصكم الله بها، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُنَّ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع، اختاره ابْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجَّ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وقد أورد البخاري رحمه الله ههنا حديثين:
(أحدهما) عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: مَرَّ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته، فَقَالَ:«مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟» فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ:"أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ والرسول إذا دعاكم} أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ"؟ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت فقال: «{الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» .
(الثاني) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» ، فهذا نص في الفاتحة هي (السَّبْعُ الْمَثَانِي) وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَلَكِنْ لَا يُنَافِي وصف غيرها من السبع الطوال بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، كَمَا لَا يُنَافِي وَصْفَ الْقُرْآنِ بِكَمَالِهِ بِذَلِكَ أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} فَهُوَ مَثَانِي مِنْ وَجْهٍ وَمُتَشَابِهٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَيْضًا، كَمَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَأَشَارَ إِلَى مَسْجِدِهِ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَلَا تَنَافِيَ، فَإِنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يَنْفِي ذِكْرَ مَا عَدَاهُ إِذَا اشْتَرَكَا فِي تِلْكَ الصِّفَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ:{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أَيِ اسْتَغْنَ بِمَا آتَاكَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَتَاعِ والزهرة الفانية. ومن ههنا ذَهَبَ ابْنُ عُيَيْنَةَ إِلَى تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» إِلَى أَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ ابْنُ أبي حاتم عَنْ أَبِي رَافِعٍ صَاحِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ يُصْلِحُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ:«يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدٌ رَسُولَ اللَّهِ أَسْلِفْنِي دَقِيقًا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ» ، قَالَ: لَا، إِلَّا برهنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:«أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَأَمِينُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَلَئِنْ أسلفني أو باعني لأودين إِلَيْهِ» ، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآية {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إِلَى آخَرِ الآية، كأنه يعزيه عن الدنيا. قال ابْنِ عَبَّاسٍ:{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} قَالَ: نُهِيَ الرجل أن يتمنى ما لصاحبه. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} هَمُ الْأَغْنِيَاءُ.
- 89 - وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ
- 90 - كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ
- 91 - الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ
- 92 - فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
- 93 - عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يأمر تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: {إني أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} الْبَيِّنُ النِّذَارَةِ، نَذِيرٌ لِلنَّاسِ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، كَمَا حَلَّ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهَا، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالِانْتِقَامِ، وَقَوْلُهُ:{الْمُقْتَسِمِينَ} أَيِ الْمُتَحَالِفِينَ، أَيْ تَحَالَفُوا على مخالفة الأنبياء وتكذبيهم وأذاهم، كقوله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ أَنَّهُمْ:{قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لنبيتنه وأهله} الآية، أي نقتلهم ليلاً، قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثَ اللَّهُ مِن يموت} ، {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} فكأنهم لا يكذبون بشيء من الدنيا إِلَّا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ فَسُمُّوا مُقْتَسِمِينَ. قَالَ عَبْدُ الرحمن بن زيد: الْمُقْتَسِمُونَ أَصْحَابُ صَالِحٍ الَّذِينَ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهله، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: يَا قَوْمُ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا وَانْطَلَقُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي واتبع مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ"، وَقَوْلُهُ:{الَّذِينَ جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} أي جزأوا كُتُبَهُمُ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِمْ، فَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، قال البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ} قَالَ: هم أهل الكتاب جزأوه فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه (وروي عن مجاهد والحسن والضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير نحو ذلك). وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْعَضْهُ، السِّحْرُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، تَقُولُ لِلسَّاحِرَةِ: إِنَّهَا الْعَاضِهَةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَضُوهُ أَعْضَاءً قَالُوا: سِحْرٌ، وَقَالُوا: كِهَانَةٌ، وَقَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وقال عطاء: قال بعضهم: ساحر، وقالوا: مجنون، وقالوا: كاهن، فذلك العضين.
وقال محمد بن إسحاق، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ، فَقَالَ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ، وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدَّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَقَالُوا: وَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ قُولُوا لِأَسْمَعَ، قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ مَجْنُونٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قالوا: فماذا تقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ تَقُولُوا: هُوَ سَاحِرٌ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، وأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ:{الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ} أَصْنَافًا: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أولئك النفر الذي قالوا لرسول الله. وقال ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَالَ: عَنْ {لَا إِلَهَ إِلَّا الله} (ورد فيه حديث مرفوع رواه الترمذي عَنْ أنَس عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَوَرَبِّكَ لنسألهم أَجْمَعِينَ} قَالَ: عَنْ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ})، وقال ابْنَ مَسْعُودٍ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يوم القيامة، فَيَقُولُ: ابْنَ آدَمَ مَاذَا غَرَّكَ مِنِّي بِي؟ ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، عن أبي العالية في قوله:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَالَ: يُسْأَلُ الْعِبَادُ كُلُّهُمْ عَنْ خُلَّتَيْنِ يَوْمَ القيامة: عما كانوا يعبدون، وعماذا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ عَمَلِكَ وعن مالك، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ إِنَّ المرء يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ سَعْيِهِ حَتَّى كُحْلِ عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه فلا ألفينك يوم القيامة وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك» . وقال ابن عباس في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، ثُمَّ قَالَ:{فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ} قَالَ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا؟ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ لِمَ عَمِلْتُمْ كذا وكذا؟
- 94 - فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
- 95 - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
- 96 - الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
- 97 - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ
- 98 - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ
- 99 - وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِإِبْلَاغِ مَا بَعَثَهُ بِهِ وَبِإِنْفَاذِهِ وَالصَّدْعِ بِهِ، وَهُوَ مُوَاجَهَةُ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عباس في قوله:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} : أَيْ أَمْضِهِ؛ وَفِي رِوَايَةٍ (افْعَلْ مَا تُؤمَرُ). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْجَهْرُ بالقرآن في الصلاة. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَا زَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَوْلُهُ:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} أَيْ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وَلَا تَخَفْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ إِيَّاهُمْ، وَحَافِظُكَ منهم، كقوله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} . وعن أنَس مرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَغَمَزَهُ بَعْضُهُمْ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ - أَحْسَبُهُ قَالَ: فَغَمَزَهُمْ - فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا (أخرجه الحافظ البزار في قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين}). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ عُظَمَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ خمسة نفر، وكانوا ذَوِي أَسْنَانٍ وَشَرَفٍ فِي قَوْمِهِمْ، مِنْ بَنِي أسد بن عبد العزى (أَبُو زَمْعَةَ) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنِي قَدْ دَعَا عَلَيْهِ لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ أَعْمِ بَصَرَهُ وَأَثْكِلْهُ وَلَدَهُ» ، وَمِنْ بني زهرة (الأسود بن عبد يغوث)، ومن بني مخزوم (الوليد بن المغيرة)، ومن بني سهم (العاص بن وائل)، ومن خزاعة (الحارث بن الطلاطلة). فَلَمَّا تَمَادَوْا فِي الشَّرِّ وَأَكْثَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الِاسْتِهْزَاءَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ - إِلَى قَوْلِهِ - فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُون} تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ مَعْبُودًا آخَرَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ} أَيْ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ يَا مُحَمَّدُ أَنَّكَ يَحْصُلُ لَكَ مِنْ أَذَاهُمْ لك ضيق صدر وانقباض، فلا يضيقنك ذَلِكَ، وَلَا يَثْنِيَنَّكَ عَنْ إِبْلَاغِكَ رِسَالَةَ اللَّهِ وتوكل عليه، فَإِنَّهُ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ، فَاشْتَغِلْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَحْمِيدِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَعِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ الصَّلَاةُ. وَلِهَذَا قال:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين} ، ولهذا كان رسول الله إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. وَقَوْلُهُ:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} ، قال البخاري عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} قال:
الموت (وهكذا روي عن مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ وغيرهم أنهم فسروا اليقين بالموت). وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ أهل النار أنهم قالوا: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} . وفي الصحيح: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَإِنِّي لَأَرْجُو له الخير» (قاله صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ عَلَى عثمان بن مظعون وقد مات، فقالت أم العلاء: رحمة الله عليك، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وما يدرك أن الله أكرمه» الحديث). ويستدل بهذه الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا فَيُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» ، وَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى تَخْطِئَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ الْمُعْرِفَةُ، فَمَتَى وَصَلَ أَحَدُهُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا كُفْرٌ وَضَلَالٌ وَجَهْلٌ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام كَانُوا - هُمْ وَأَصْحَابُهُمْ - أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ وَأَعْرَفَهُمْ بِحُقُوقِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّعْظِيمِ، وكانوا أكثر النَّاسِ عِبَادَةً وَمُوَاظَبَةً عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ إِلَى حين الوفاة؛ وإنما المراد باليقين ههنا الموت، كما قدمناه، ولله الحمد والمنة.
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَمَنِ اتَّبَعَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} الآية، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدار} .
-
45 - سورة الجاثية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - حم
- 2 - تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
- 3 - إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ
- 4 - وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
- 5 - وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
يُرْشِدُ تَعَالَى خَلْقَهُ إلى التفكير في آلائه ونعمه، وقد رته العظيمة التي خلق بها السماوات والأرض، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ، وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي تَعَاقُبِهِمَا دَائِبَيْنِ لَا يَفْتُرَانِ، هَذَا بِظَلَامِهِ، وَهَذَا بِضِيَائِهِ، وَمَا أنزل الله تبارك وتعالى مِنَ السَّحَابِ، مِنَ الْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَسَمَّاهُ رِزْقًا لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الرِّزْقُ {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أَيْ بَعْدَ مَا كَانَتْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شيء، وقوله عز وجل:{وَتَصْرِيفِ الرياح} أي جنوباً وشمالاً برية وبحرية، ليلة وَنَهَارِيَّةً، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلْمَطَرِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلِّقَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غِذَاءٌ لِلْأَرْوَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَقِيمٌ لَا يَنْتِجُ، وَقَالَ سبحانه أَوَّلًا {لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} ثُمَّ {يُوقِنُونَ} ثُمَّ {يَعْقِلُونَ} وَهُوَ تَرَقٍّ مِنْ حَالٍ شَرِيفٍ إِلَى مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَعْلَى، وَهَذِهِ الْآيَاتُ شَبِيهَةٌ بآية البقرة وهي قوله تَعَالَى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
- 6 - تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ
- 7 - وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
- 8 - يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
- 9 - وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
- 10 - مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ
شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
- 11 - هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
يقول تعالى {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أَيْ مُتَضَمِّنَةً الْحَقَّ مِنَ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَلَا يَنْقَادُونَ لَهَا {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ؟ ثم قال تعالى {ويل لكل أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أفاك في قوله أي كذاب {أَثِيمٍ} في فعله وقلبه كَافِرٍ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} أَيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ {ثُمَّ يُصِرُّ} أَيْ عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ، اسْتِكْبَارًا وَعِنَادًا {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} كَأَنَّهُ مَا سَمِعَهَا {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ فأخبره أن له عند الله تعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا أَلِيمًا مُوجِعًا، {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} أَيْ إِذَا حَفِظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ كَفَرَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا وَهُزُوًا {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَهَانَ بِالْقُرْآنِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، ولهذا «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أن يناله العدو» (رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما، ثُمَّ فَسَّرَ الْعَذَابَ الْحَاصِلَ لَهُ يَوْمَ مَعَادِهِ فَقَالَ {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} أَيْ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ سَيَصِيرُونَ إِلَى
جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً} أَيْ لَا تَنْفَعُهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، {وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} أَيْ وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى:{هَذَا هُدًى} يَعْنِي الْقُرْآنَ {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} وَهُوَ المؤلم الموجع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 12 - اللَّهُ الَّذِي سخَّر لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
- 13 - وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
- 14 - قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
- 15 - مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
يَذْكُرُ تَعَالَى نعهم عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} وَهِيَ السُّفُنُ فِيهِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى فإنه هو الذي أمر البحر بحملها {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أَيْ فِي الْمَتَاجِرِ وَالْمَكَاسِبِ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ عَلَى حُصُولِ الْمَنَافِعِ الْمَجْلُوبَةِ إِلَيْكُمْ، مِنَ الْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ وَالْآفَاقِ الْقَاصِيَةِ، ثُمَّ قال عز وجل {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيِ من الكواكب والجبال والبحار والأنهار، الْجَمِيعُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ {جَمِيعاً مِّنْهُ} أَيْ مِنْ عِنْدِهِ وَحْدَهُ لَا شريك له، كما قال تبارك وتعالى:{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، وَقَوْلُهُ تعالى:{قُلْ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} ، أي ليصفحوا عنهم، ويتحملوا الآذى منهم، وكان هذا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، أُمِرُوا أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك
كالتأليف لهم، ثُمَّ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ، شَرَعَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْجِلَادَ وَالْجِهَادَ (هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عباس وقتادة، وقال مجاهد: {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي لا ينالون نعم الله تعالى، يريد لأنهم لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة ولا بلقاء الله)، وقوله تعالى:{لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أَيْ إِذَا صَفَحُوا عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الله عز وجل مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أَيْ تَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُعْرَضُونَ بِأَعْمَالِكُمْ عَلَيْهِ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خيرها وشرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 16 - وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
- 17 - وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
- 18 - ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ - 19 - إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ
- 20 - هَذَا بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ الْمُلْكَ فِيهِمْ، وَلِهَذَا قال تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا بني لإسرائيل الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أَيْ فِي زَمَانِهِمْ {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ} أَيْ حججاً وبراهين وأدلة قاطعات، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدَ قِيَامِ الحجة، وإنما كان ذلك بغياً منهم {إِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّدُ {يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ، وَهَذَا فِيهِ تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ تَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ، وَأَنْ تَقْصِدَ مَنْهَجَهُمْ، ولهذا قال جلَّ وعلا:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} أَيِ اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين، وقال جل جلاله ههنا:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أَيْ وَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ وِلَايَتُهُمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا؟ فَإِنَّهُمْ لَا يَزِيدُونَهُمْ إِلَّا خَسَارًا وَدَمَارًا وَهَلَاكًا، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} وَهُوَ تَعَالَى يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، ثم قال عز وجل:{هذا بَصَائِرُ لِّلنَّاسِ} يعني القرآن {هدى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
- 21 - أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
- 22 - وَخَلَقَ الله السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
- 23 - أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ كَمَا قال في آية أُخْرى: {لَا يستوي أَصْحَابُ النار وأصحاب الحنة أَصْحَابُ الجنة هُمْ الفائزون} وقال تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} أَيْ عَمِلُوهَا وَكَسَبُوهَا {أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} ؟ أي نساويهم بها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ سَاءَ مَا ظَنُّوا بِنَا وَبِعَدْلِنَا أَنْ نُسَاوِيَ بين الأبرار والفجار، فكما لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ، كَذَلِكَ لَا ينال الفجار منازل الأبرار، ذكر محمد بن إسحاق أنهم وجدوا حجراً بمكة من أُسِّ الْكَعْبَةِ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ «تَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَتَرْجُونَ الحسنات، أجل كما يجنى من الشوك العنب» . وعن مَسْرُوقٍ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وعملوا الصالحات} (أخرجه الطبراني عن أبي الضحى عن مسروق) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} ، وَقَالَ عز وجل:{وَخَلَقَ الله السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالْعَدْلِ، {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، ثُمَّ قَالَ جلَّ وعلا:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أَيْ إِنَّمَا يَأْتَمِرُ بِهَوَاهُ، فَمَهْمَا رَآهُ حَسَنًا فَعَلَهُ، وَمَهْمَا رآه قبيحاً تركه، لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا عَبَدَهُ، وَقَوْلُهُ:{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): وَأَضَلَّهُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، (وَالْآخَرُ): وَأَضَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إِلَيْهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ وَلَا يَنْعَكِسُ، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أَيْ فَلَا يَسْمَعُ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَعِي شَيْئًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا يَرَى حُجَّةً يَسْتَضِيءُ بها، ولهذا قال تعالى:{فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ؟ كقوله تَعَالَى: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
- 24 - وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ
- 25 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 26 - قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} أَيْ مَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الدَّارُ، يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَعِيشُ آخَرُونَ، وَمَا ثَمَّ مَعَادٌ وَلَا قِيَامَةٌ، وَهَذَا يَقُولُهُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الْمُنْكِرُونَ المعاد، وتقوله الفلاسفة الدهرية الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ، الْمُعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا العقول وَكَذَّبُوا الْمَنْقُولَ، وَلِهَذَا قَالُوا:{وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَاّ الدَّهْرُ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} أَيْ يتوهمون ويتخيلون، فأما الحديث الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يقول تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ» ، وَفِي رواية:«لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر» (أخرجاه في الصحيحين، ورواه أبو داود والنسائي) فقد قال الشافعي وأبو عبيدة في تفسير الحديث: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا إِذَا أَصَابَهُمْ شِدَّةٌ أَوْ بَلَاءٌ أَوْ نَكْبَةٌ، قَالُوا: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَيُسْنِدُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ، وَيَسُبُّونَهُ، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا اللَّهَ
عزَّ وجلَّ، لِأَنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لأن الله تعالى هُوَ الدَّهْرُ الَّذِي يَعْنُونَهُ وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَفْعَالَ، هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ وهو المراد، والله أعلم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي إذا بيّن لهم الحق، وأن الله تعالى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ بَعْدَ فَنَائِهَا وَتَفَرُّقِهَا {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، أَيْ أَحْيَوْهُمْ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَهُ حَقًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أَيْ كَمَا تُشَاهِدُونَ ذَلِكَ يُخْرِجُكُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يحييكم} ؟ أَيِ الَّذِي قَدَرَ عَلَى الْبُدَاءَةِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} ، {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ فَلِهَذَا يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ وَيَسْتَبْعِدُونَ قِيَامَ الْأَجْسَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} أَيْ يَرَوْنَ وُقُوعَهُ بَعِيدًا، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ ذَلِكَ سهلاً قريباً.
- 27 - وَللَّهِ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ
- 28 - وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
- 29 - هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مالك السماوات والأرض، والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة، ولهذا قال عز وجل:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَخْسَرُ المبطلون} وهم الكافرون بالله والجاحدون بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ، مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ والدلائل الواضحات، ثم قال تعالى:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أَيْ عَلَى رُكَبِهَا من الشدة والعظمة، ويقال: إن هذا إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّمَ، فَإِنَّهَا تَزْفِرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الخليل عليه الصلاة والسلام، وَيَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إلاّ نفسي، وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام لَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، لَا أسألك مريم التي ولدتني، قال مجاهد:{كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أَيْ عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:{جَاثِيَةً} مُتَمَيِّزَةً
عَلَى نَاحِيَتِهَا، وَلَيْسَ عَلَى الركب، والأول أولى لما روي عن عبد الله بن أباه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَأَنِّي أَرَاكُمْ جَاثِينَ بِالْكَوَمِ دُونَ جَهَنَّمَ» (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا في حديث الصور: فَيَتَمَيَّزُ النَّاسُ، وَتَجْثُو الْأُمَمُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} وَهَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا مُنَافَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ عز وجل:{كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} يَعْنِي كِتَابَ أعمالها كقوله جل جلاله: {وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهداء} ، ولهذا قال سبحانه وتعالى:{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ تُجَازَوْنَ بأعمالكم خيرها وشرها، كقوله عز وجل:{يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، ولهذا قال جلَّت عظمته:{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} أَيْ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، كقوله جل جلاله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحداً}، وقوله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ
مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ أَنْ تَكْتُبَ أَعْمَالَكُمْ عَلَيْكُمْ، قَالَ ابْنُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ فِي دِيوَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا بأيدي الكتبة، مِمَّا قَدْ أُبْرِزَ لَهُمْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِدَمِ عَلَى الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، فَلَا يَزِيدُ حَرْفًا وَلَا يَنْقُصُ حَرْفًا، ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
- 30 - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
- 31 - وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ
- 32 - وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَاّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ
- 33 - وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- 34 - وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
- 35 - ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
- 36 - فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السماوات وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- 37 - وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السماوات وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة، وَهِيَ الْخَالِصَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلشَّرْعِ {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} وَهِيَ الْجَنَّةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ (هذا جزء من حديث أخرجه الشيخان وأوله:"تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أورثت بالمتكبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلاّ سقط الناس وضعفاؤهم؟ فأوحى الله للجنة أنت رحمتي"
…
الخ) {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} أَيِ البيِّن الْوَاضِحُ، ثم قال تعالى {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ} ؟ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وتوبيخاً، أما قرئت عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله تعالى، فاستكبرتم عن اتباعها وأعرضتم عن سماعها، وكنتم قوماً مجرمين فِي أَفْعَالِكُمْ، مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ؟ {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا} أَيْ إِذَا قَالَ لَكُمُ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ {قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} أَيْ لَا نَعْرِفُهَا {إِن نَّظُنُّ إِلَاّ ظَنّاً} أَيْ إِنْ نَتَوَهَّمُ وُقُوعَهَا إِلَّا تَوَهُّمًا أَيْ مَرْجُوحًا، وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَا نَحْنُ مستيقنين} أَيْ بِمُتَحَقِّقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أَيْ وَظَهَرَ لَهُمْ عُقُوبَةُ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ {وَحَاقَ بِهِم} أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} أَيْ نُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ النَّاسِي لَكُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أَيْ فَلَمْ تَعْمَلُوا لَهُ لأنكم لم تصدقوا به {وَمَأْوَاكُمُ النار ومالكم مِّن نَّاصِرِينَ} ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِبَعْضِ الْعَبِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟
فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:«فَالْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي» ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} أَيْ إِنَّمَا جَازَيْنَاكُمْ هَذَا الْجَزَاءَ، لِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ سُخْرِيًّا تَسْخَرُونَ وَتَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيْ خَدَعَتْكُمْ فَاطْمَأْنَنْتُمْ إِلَيْهَا فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسرين، ولهذا قال عز وجل:{فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} أَيْ مِنَ النَّارِ، {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أَيْ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْعُتْبَى، بَلْ يُعَذَّبُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عِتَابٍ، كَمَا تَدْخُلُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عذاب ولا حساب. ثم لما ذكر تعالى حُكْمَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ قَالَ {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السماوات وَرَبِّ الْأَرْضِ} أَيِ الْمَالِكِ لَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، ولهذا قال:{رَبِّ العالمين} ، ثم قال جلَّ وعلا:{وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات وَالْأَرْضِ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السُّلْطَانَ، أَيْ هُوَ الْعَظِيمُ الْمُمَجَّدُ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ خَاضِعٌ لَدَيْهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:"يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا منهما أسكنته ناري"(وفي رواية: فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي، والحديث في صحيح مسلم)، وقوله تعالى:{وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيِ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، {الْحَكِيمُ} فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، تعالى وتقدس لا إله إلا هو.
-
46 - سورة الأحقاف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - حم
- 2 - تَنزِيلُ الْكِتَابِ من الله العزيز الحكيم
- 3 - مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ
- 4 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
- 5 - وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ
- 6 - وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أُنزِلَ الْكِتَابَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ وَالْحِكْمَةِ فِي الأقوال والأفعال، ثم قال تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَاّ بِالْحَقِّ} أَيْ لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أَيْ وإلى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَضْرُوبَةٍ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ. وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ} أَيْ لَاهُونَ عما يراد بهم، وقد أنزل الله تعالى إليهم كتاباً، وأرسل إليهم رسولاً، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ وَسَيَعْلَمُونَ غب ذلك، ثم قال تعالى {قُلْ} أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ {أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الْأَرْضِ} أَيْ أَرْشِدُونِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَقَلُّوا بِخَلْقِهِ مِنَ الْأَرْضِ {أم لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات} ؟ ولا شرك لهم في السماوات وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنِ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ كُلُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عز وجل، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَتُشْرِكُونَ بِهِ؟ مَنْ أَرْشَدَكُمْ إِلَى هَذَا؟ مَنْ دَعَاكُمْ إِلَيْهِ؟ أَهْوَ أَمَرَكُمْ بِهِ؟ أَمْ هُوَ شَيْءٌ اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ؟ وَلِهَذَا قَالَ {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا} أَيْ هَاتُوا كِتَابًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أَيْ دَلِيلٍ بَيِّنٍ عَلَى هَذَا الْمَسْلَكِ الَّذِي سَلَكْتُمُوهُ {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً على ذلك، قال مجاهد {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أَوْ أَحَدٍ يَأْثُرُ علماً، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ بَيِّنَةٍ مِنَ الْأَمْرِ،
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: أَوْ بَقِيَّةٍ من علم، وقال ابن عباس ومجاهد {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} يَعْنِي الْخَطَّ، وَقَالَ قَتَادَةُ {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} خَاصَّةٍ مِنْ علم، وكل هذه الأقوال متقاربة، وهي راجحة إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رحمه الله، وقوله تبارك وتعالى:{ومن أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} ؟ أَيْ لَا أَضَلَّ مِمَّنْ يَدْعُو مِن دُونِ الله أَصْنَامًا، وَيَطْلُبُ مِنْهَا مَا لَا تَسْتَطِيعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ غَافِلَةٌ عَمَّا يَقُولُ لَا تسمع ولا تبصر، لأنها جماد وحجارة صم، وقوله تبارك وتعالى:{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} كقوله عز وجل: {كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أَيْ سَيَخُونُونَهُمْ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ تعالى:{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار ومالكم من ناصرين} .
- 7 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ
- 8 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- 9 - قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
يقول عز وجل مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، أَنَّهُمْ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ {بَيِّنَاتٍ} أَيْ فِي حَالِ بَيَانِهَا وَوُضُوحِهَا وَجَلَائِهَا، يَقُولُونَ:{هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أَيْ سِحْرٌ وَاضِحٌ وَقَدْ كَذَبُوا وَافْتَرَوْا وَضَلُّوا وَكَفَرُوا، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، قَالَ اللَّهُ عز وجل:{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أَيْ لَوْ كَذَبْتُ عَلَيْهِ وَزَعَمْتُ أَنَّهُ أَرْسَلَنِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَعَاقَبَنِي أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَا أَنْتُمْ وَلَا غَيْرُكُمْ أَن يُجِيرَنِي مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تبارك وتعالى:{قُلِ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ تقوَّل عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} هَذَا تَهْدِيدٌ لهم ووعيد أكيد، وترهيب شديد، وقوله جل وعلا:{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تَرْغِيبٌ لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، أَيْ وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ إِنْ رَجَعْتُمْ وتبتم تاب الله عَلَيْكُمْ، وَعَفَا عَنْكُمْ وغفر ورحم، وهذه الآية كقوله عز وجل:{قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، وقوله تبارك وتعالى:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} أَيْ لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ طَرَقَ الْعَالَمَ، بَلْ قَدْ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِي، فَمَا أَنَا بِالْأَمْرِ الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدون بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله جلَّ وعلا قَبْلِي جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْأُمَمِ، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} مَا أنا بأول رسول بُعث إلى الناس.
وقوله تعالى: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} قال ابن عباس: نَزَلَ بَعْدَهَا {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخر} (هكذا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تعالى {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذنبك وما تأخر}، ولمل نزلت هذه الآية قَالُوا: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا لنا؟ فأنزل الله تَعَالَى: {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ) وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بكم} أي مَا أَدْرِي بِمَاذَا أُومَرَ وَبِمَاذَا أُنْهَى بَعْدَ هذا؟ وقال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} أما في الآخرة فمعاذ الله وقد عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء؟ أَمْ أُقْتل كَمَا قُتِلَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي؟ وَلَا أَدْرِي أَيُخْسَفُ بِكُمْ أَوْ تُرْمَوْنَ بِالْحِجَارَةِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ جَازِمٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ؛ وَأَمَّا فِي الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، إِلَى مَاذَا أَيُؤْمِنُونَ أَمْ يَكْفُرُونَ فَيُعَذَّبُونَ، فَيُسْتَأْصَلُونَ بِكُفْرِهِمْ؟ فَأَمَّا الحديث الذي رواه ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أم العلاء - وَكَانَتْ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: طَارَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ (عُثْمَانُ بْنُ مظعون) رضي الله عنه، فاشتكى عثمان فمرَّضناه حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ أَدْرَجْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ، فدخل عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ شَهَادَتِي عليك، لقد أكرمك الله عز وجل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وما يدريك أن الله تعالى أَكْرَمَهُ؟» فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا
رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي، قَالَتْ، فَقُلْتُ: "وَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ذَاكَ عَمَلُهُ» (انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ) وَفِي لَفْظٍ: «مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ» - وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْفُوظُ، بدليل قولها؛ فأحزنني ذلك - ففي هَذَا وَأَمْثَالِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِمُعَيَّنٍ بِالْجَنَّةِ، إِلَّا الَّذِي نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى تعينهم كالعشرة المبشرين بالجنة، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وما أشبههم وَقَوْلُهُ:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الْوَحْيِ، {وَمَآ أَنَاْ إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي بيّن النذارة أمري ظاهر، لكل ذي لب وعقل، والله أعلم.
- 10 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- 11 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ
- 12 - وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ
- 13 - إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
- 14 - أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ بِالْقُرْآنِ {أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} هَذَا الْقُرْآنُ {مِنْ عِندِ
اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ}؟ أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنَّ اللَّهَ صَانِعٌ بِكُمْ، إِن كَانَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ قَدْ أَنْزَلَهُ عَلَيَّ لِأُبَلِّغَكُمُوهُ، وَقَدْ كَفَرْتُمْ بِهِ وَكَذَّبْتُمُوهُ؟ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} أَيْ وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِدْقِهِ وَصِحَّتِهِ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام قَبْلِي، بَشَّرَتْ بِهِ وَأَخْبَرَتْ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ هذا القرآن به، وقوله عز وجل:{فَآمَنَ} أَيْ هَذَا الَّذِي شَهِدَ بِصِدْقِهِ مِنْ بني إسرائيل لمعرفته بحقيقته، {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أَنْتُمْ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: فَآمَنَ هَذَا الشَّاهِدُ بِنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ وَكَفَرْتُمْ أَنْتُمْ بِنَبِيِّكُمْ وَكِتَابِكُمْ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَهَذَا يعم (عبد الله بن سلام) وغيره، كقوله تبارك وتعالى:{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا قبله مسلمين} وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سجداً} الآية، وروى مالك، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بن سلام رضي الله عنه، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إسرائيل على مثله} (أخرجه البخاري ومسلم والنسائي)، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} أَيْ قَالُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ خَيْرًا مَا سبقنا هؤلاء إليه، يعنون (بلالاً) و (عمّاراً) و (صهيباً) و (خباباً) رضي الله عنهم وأشباههم من المستضعفين والعبيد والإماء، غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطأوا خطأ بيّناً كما قال تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ منَّ الله عَلَيْهِم من بيننا} أَيْ يَتَعَجَّبُونَ كَيْفَ اهْتَدَى هَؤُلَاءِ دُونَنَا وَلِهَذَا قَالُوا: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} ، وَأَمَّا أَهْلُ السنَّة وَالْجَمَاعَةِ فَيَقُولُونَ فِي كُلِّ فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هُوَ بِدْعَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الخير إلاّ وقد بادروا إليها، وقوله تعالى:{وإذ يَهْتَدُواْ بِهِ} أَيْ بِالْقُرْآنِ {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي كذب قديم مأثور عن الناس الْأَقْدَمِينَ، فَيَنْتَقِصُونَ الْقُرْآنَ وَأَهْلَهُ، وَهَذَا هُوَ الْكِبْرُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«بطرُ الحق وغَمْطُ الناس» ((بطر الحق) أي دفعه وعدم قبوله، و (غمط الناس) أي احتقارهم وازدراءهم). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} وَهُوَ التَّوْرَاةُ {إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {مُّصَدِّقٌ} أَيْ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ {لِّسَاناً عَرَبِيّاً} أَيْ فَصِيحًا بَيِّنًا وَاضِحًا {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} أَيْ مُشْتَمِلٌ عَلَى النِّذَارَةِ لِلْكَافِرِينَ، وَالْبِشَارَةِ للمؤمنين، وقوله تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ، وقوله تعالى:{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} عَلَى مَا خَلَّفُوا {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيِ الْأَعْمَالُ سَبَبٌ لِنَيْلِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ وَسُبُوغِهَا عليهم، والله أعلم.
- 15 - وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
- 16 - أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى التَّوْحِيدَ لَهُ وَإِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ، عَطَفَ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ، كَمَا هُوَ مَقْرُونٌ فِي غَيْرِ مَا آية من القرآن كقوله عز وجل:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحساناً} ، وقوله جل جلاله:{أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَقَالَ عز وجل ههنا:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} أَيْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِحْسَانِ إليهما والحنو عليهما، روى أبو داود الطيالسي، عن سعد رضي الله عنه قَالَ، قَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ لِسَعْدٍ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ؟ فَلَا آكُلُ طَعَامًا ولا أشرب شراباً حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعَتْ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، حَتَّى جَعَلُوا يَفْتَحُونَ فَاهَا بِالْعَصَا، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحساناً} الآية (أخرجه الطيالسي، ورواه مسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجة بإسناد نَحْوَهُ وَأَطْوَلَ مِنْهُ)، {حَمَلَتْهُ أُمّه كُرْهاً} أَيْ قَاسَتْ بِسَبَبِهِ فِي حَالِ حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَبًا، من وَحَم وَغَشَيَانٍ وَثِقَلٍ وَكَرْبٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ مِمَّا تَنَالُ الْحَوَامِلُ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، {وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أَيْ بِمَشَقَّةٍ أَيْضًا مِنَ الطَّلْقِ وَشِدَّتِهِ، {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} وقد استدل بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّتِي فِي لُقْمَانَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ، عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وهو استنباط قوي صحيح، روى محمد بن إسحاق، عن معمر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ قَالَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَّا امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ لِتَمَامِ ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَلَمَّا قَامَتْ لِتَلَبِسَ ثِيَابَهَا بَكَتْ أُخْتُهَا، فَقَالَتْ: مَا يُبْكِيكِ، فَوَاللَّهِ مَا الْتَبَسَ بِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الله تعالى غيره قط، فيقضي الله سبحانه وتعالى فيَّ مَا شَاءَ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه أمر برجمها، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: وَلَدَتْ تَمَامًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ له علي رضي الله عنه: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ أَمَا سمعت الله عز وجل يقول:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} وقال: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فَلَمْ نَجِدْهُ بَقَّى إِلَّا سِتَّةَ أشهر، قال، فقال عثمان رضي الله عنه: والله ما فطنت بهذا، عليَّ بِالْمَرْأَةِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ فُرِغَ مِنْهَا، قَالَ، فقال معمر: فَوَاللَّهِ مَا الْغُرَابُ بِالْغُرَابِ، وَلَا الْبَيْضَةُ بِالْبَيْضَةِ بِأَشْبَهَ مِنْهُ بِأَبِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُوهُ قَالَ: ابني والله لا أشك فيه، قال، وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة، فما زالت تأكله حتى مات (أخرجه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: وقد أوردناه من وجه آخر)، وقال ابن عباس: إِذَا وَضَعَتِ الْمَرْأَةُ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَإِذَا وَضَعَتْهُ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهُ مِنَ الرَّضَاعِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فهولين كَامِلَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} {حتى بَلَغَ أَشُدَّهُ} أَيْ قَوِيَ وَشَبَّ وَارْتَجَلَ، {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أَيْ تَنَاهَى عَقْلُهُ، وَكَمُلَ فَهْمُهُ وَحِلْمُهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ غَالِبًا عَمَّا يكون عليه ابن الأربعين، وروى الحافظ الموصلي، عن عثمان رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّهُ حِسَابَهُ، وَإِذَا بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَإِذَا بَلَغَ سَبْعِينَ سَنَةً أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَإِذَا بلغ ثمانين سنة ثَّبت الله تعالى حَسَنَاتِهِ وَمَحَا سَيِّئَاتِهِ، وَإِذَا بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً غفر الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَشَفَّعَهُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكُتِبَ فِي السَّمَاءِ أَسِيرَ الله في أرضه» (أخرجه الحافظ الموصلي، وروي من غير هذا الوجه في مسند الإمام أحمد).
{قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أَيْ أَلْهِمْنِي {أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عليَّ وَعَلَى والديَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ}
أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أَيْ نَسْلِي وَعَقِبِي، {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَهَذَا فِيهِ إِرْشَادٌ لِمَنْ بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ أَنْ يُجَدِّدَ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَيَعْزِمُ عَلَيْهَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو داود في سنته عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يُعَلِّمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي التَّشَهُّدِ:«اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنِ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثِنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِيهَا، وأتممها علينا» (أخرجه أبو داود في السنن). قال الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرْنَا، التَّائِبُونَ إِلَى اللَّهِ الْمُنِيبُونَ إِلَيْهِ، الْمُسْتَدْرِكُونَ مَا فَاتَ بِالتَّوْبَةِ والاستغفار، هم الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ، وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ، فَيَغْفِرُ لَهُمُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ، ونتقبل مِنْهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَمَلِ {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} أَيْ هُمْ فِي جُمْلَةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا حكمهم عند الله كما وعد الله عز وجل من تاب إليه وأناب، ولهذا قال تعالى:{وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} ، روى ابن أبي حاتم، عن محمد بن حاطب قال: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه، وعنده (عمار) و (صعصة) و (الأشتر) و (محمد بن أبي بكر) رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه، فكان علي عَلَى السَّرِيرِ وَمَعَهُ عُودٌ فِي يَدِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنْ عِندَكُمْ مِّن يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، فسألوه، فقال علي رضي الله عنه: كَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ} قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم، قَالَهَا ثَلَاثًا. قَالَ يُوسُفُ: فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ حاطب: آللَّهِ لَسمعتَ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؟ قَالَ: آللَّهِ لَسمعتْ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (أخرجه ابن أبي حاتم).
- 17 - وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
- 18 - أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ
- 19 - وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
- 20 - وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الدَّاعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ الْبَارِّينَ بِهِمَا، وَمَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ، عَطَفَ بِحَالِ الْأَشْقِيَاءِ الْعَاقِّينَ لِلْوَالِدَيْنِ فَقَالَ:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَالَ هَذَا، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي (عَبْدِ الرحمن بن أبي بكر) رضي الله عنهما فقوله ضعيف، لأن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَانَ مِنْ خيار أهل زمانه، وَإِنَّمَا هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ وَكَذَّبَ بِالْحَقِّ فَقَالَ لِوَالِدَيْهِ:
أف لكمآ. روى ابن أبي حاتم، عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمَدِينِيُّ قَالَ: إِنِّي لَفِي الْمَسْجِدِ حِينَ خَطَبَ مَرْوَانُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تعالى قد أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَزِيدَ رَأْيًا حَسَنًا، وَإِنْ يَسْتَخْلِفْهُ، فَقَدِ اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه وَاللَّهِ مَا جَعَلَهَا فِي أَحَدٍ مِنْ وَلَدِهِ، وَلَا أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَا جَعَلَهَا مُعَاوِيَةُ فِي وَلَدِهِ إِلَّا رَحْمَةً وَكَرَامَةً لِوَلَدِهِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: أَلَسْتَ الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ: أُفٍ لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: أَلَسْتَ ابْنَ اللَّعِينِ الَّذِي لَعَنَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أباك، قال وقد سمعتهما عائشة رضي الله عنها فَقَالَتْ: يَا مَرْوَانُ! أَنْتَ الْقَائِلُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه كَذَا وَكَذَا؟ كَذَبْتَ، مَا فِيهِ نَزَلَتْ، وَلَكِنْ نزلت في فلان بن فلان، ثن انْتَحَبَ مَرْوَانُ، ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ، حَتَّى أَتَى بَابَ حُجْرَتِهَا فَجَعَلَ يُكَلِّمُهَا حَتَّى انْصَرَفَ (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر). وروى النسائي، عن محمد بن زياد قال: قال لما بلغ معاوية رضي الله عنه لِابْنِهِ قَالَ مَرْوَانُ: سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: سُنَّةُ هِرَقْلَ وَقَيْصَرَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا الَّذِي أنزل الله تعالى فيه: {والذي قال لوالديه أُفٍ لَّكُمَآ} ، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فَقَالَتْ: كَذَبَ مَرْوَانُ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ لَسَمَّيْتُهُ، وَلَكِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ أَبَا مَرْوَانَ وَمَرْوَانُ فِي صُلْبِهِ، فمروانٌ فضَضٌ مَن لَّعَنَهُ الله (أخرجه النسائي في سننه. ومعنى (فضض): قطعة). وقوله: {أتعداني أَنْ أُخْرَجَ} ؟ أي أبعث، {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي} آي قَدْ مَضَى النَّاسُ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} أَيْ يَسْأَلَانِ اللَّهَ فِيهِ إِنَّ يَهْدِيَهُ وَيَقُولَانِ لِوَلَدِهِمَا:{وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} أَيْ دَخَلُوا فِي زُمْرَةِ أَشْبَاهِهِمْ وَأَضْرَابِهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الْخَاسِرِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ:{أُولَئِكَ} بَعْدَ قَوْلِهِ {وَالَّذِي قَالَ} دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ جِنْسٌ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْكَافِرُ الْفَاجِرُ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ الْمُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ، وقوله تبارك وتعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} أَيْ لِكُلٍّ عَذَابٌ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أَيْ لَا يَظْلِمُهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فَمَا دُونَهَا، قال عبد الرحمن بن زيد: دَرَجَاتُ النَّارِ تَذْهَبُ سَفَالاً، وَدَرَجَاتُ الْجَنَّةِ تَذْهَبُ علواً، وقوله عز وجل:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} ، أَيْ يقال لهم ذلك تقريحاً وَتَوْبِيخًا، وَقَدْ تَوَرَّعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ كَثِيرٍ مِنْ طيبات المآكل والمشارب وتنزه عنها وقال: إني أَخَافُ إِنْ أكون من الذين قال الله لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} ، وقوله عز وجل:{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} جُوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أَنْفُسَهُمْ وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَتَعَاطَوُا الْفِسْقَ والمعاصي، جازاهم الله تبارك وتعالى بِعَذَابِ الْهُونِ، وَهُوَ الْإِهَانَةُ وَالْخِزْيُ وَالْآلَامُ الْمُوجِعَةُ، وَالْحَسَرَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ، وَالْمُنَازِلُ فِي الدَّرَكَاتِ المفظِعة، أَجَارَنَا الله سبحانه وتعالى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.