الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
13 - سورة الرعد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدَّمْنَا: أَنَّ كل سورة ابتدئت بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فَفِيهَا الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ، وَتِبْيَانُ أَنْ نُزُولَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ وَلَا رَيْبَ، وَلِهَذَا قَالَ:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ وهو القرآن، ثم عطف على ذلك صفات فقال:{وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {مِن رَّبِّكَ الحق} ، وَقَوْلُهُ:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} كَقَوْلِهِ: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بؤمنين} أَيْ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ لَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الشِّقَاقِ، وَالْعِنَادِ، والنفاق.
- 2 - اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
يخبر تَعَالَى عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، أَنَّهُ الذي بإذنه وأمره رفع السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ، بَلْ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ رَفَعَهَا عَنِ الْأَرْضِ بُعْدًا لَا تُنَالُ وَلَا يُدْرَكُ مَدَاهَا، فَالسَّمَاءُ الدُّنْيَا مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهَا وَجِهَاتِهَا وَأَرْجَائِهَا، مُرْتَفِعَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَلَى السَّوَاءِ، وَبُعْدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ من كل ناحية مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ مُحِيطَةٌ بالسماء الدنيا وما حوت، وهكذا إلى السابعة، وفي الحديث:«ما السموات السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَالْكُرْسِيِّ فِي العرش المجيد كَتِلْكَ الْحَلْقَةِ فِي تِلْكَ الْفَلَاةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «العرش لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ عز وجل» . وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَبُعْدَ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَقَوْلُهُ:{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ، يَعْنِي بِلَا عمد، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالسِّيَاقِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بإذنه} فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: {تَرَوْنَهَا}
تَأْكِيدًا لِنَفْي ذَلِكَ، أَيْ هِيَ مَرْفُوعَةٌ بِغَيْرِ عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة (وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن أَنَّهُمْ
قَالُوا: لَهَا عَمَدٌ وَلَكِنْ لَا تُرَى فتكون جملة (ترونها) صفة ل (عمد) أي بغير عمد مرئية، وهذا التأويل خلاف الظاهر المتبادر وقد أشار ابن كثير رحمه الله لضعف هذا القول)، وقوله تعالى:{ثُمَّ استوى عَلَى العرش} ، تقدم تفسير في سورة الأعراف، وأنه يمر كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَوْلُهُ:{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ إِلَى انقطاعهما بقيام الساعة، كقوله تعالى:{والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِلَى مُسْتَقَرِّهِمَا وَهُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَذَكَرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ السَّبْعَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنَ الثَّوَابِتِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ سَخَّرَ هَذِهِ فَلِأَنْ يُدْخُلُ فِي التَّسْخِيرِ سَائِرُ الْكَوَاكِبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا نَبَّهَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلَا القمر وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تعبدون} ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} ، وَقَوْلُهُ:{يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أَيْ يُوَضِّحُ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ إذا شاء كما بدأه.
- 3 - وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
- 4 - وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْكَامِهِ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، فَقَالَ: {وَهُوَ
الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} أَيْ جَعَلَهَا مُتَّسِعَةً مُمْتَدَّةً فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَأَرْسَاهَا بجبال راسيات
شمخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، ليسقى مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ
الْأَلْوَانِ والأشكال والطعوم {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أَيْ مِنْ كُلِّ شَكْلٍ صِنْفَانِ {يُغْشِي اللَّيْلَ النهار} أي جعل مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، فَإِذَا ذَهَبَ هَذَا غَشِيَهُ هَذَا، وَإِذَا انْقَضَى هَذَا جَاءَ الآخر فيتصرف أيضاً في الزمان كما يتصرف فِي الْمَكَانِ وَالسُّكَّانِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، أي في آلاء الله وحكمه وَدَلَائِلِهِ، وَقَوْلُهُ:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} أَيْ أراض يجاور بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ طَيِّبَةٌ تُنْبِتُ ما ينفع النَّاسُ وَهَذِهِ سَبَخَةٌ مَالِحَةٌ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، ويدخل فِي هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، فَهَذِهِ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ، وَهَذِهِ بَيْضَاءُ، وَهَذِهِ صَفْرَاءُ، وَهَذِهِ سَوْدَاءُ، وَهَذِهِ مُحَجَّرَةٌ، وَهَذِهِ سَهْلَةٌ، وَهَذِهِ سمكية، وهذه رقيقة، والكل متجاورات، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لا إله إلا هو، وَقَوْلُهُ:{وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى جَنَّاتٍ، فَيَكُونُ {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} مَرْفُوعَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَعْنَابٍ فَيَكُونُ مَجْرُورًا، وَلِهَذَا قَرَأَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا طائفة
مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَوْلُهُ:{صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} الصِّنْوَانُ هو الْأُصُولُ الْمُجْتَمِعَةُ فِي مَنْبَتٍ وَاحِدٍ كَالرُّمَّانِ وَالتِّينِ وَبَعْضِ النَّخِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ مَّا كَانَ عَلَى أصل واحد كسائر الأشجار، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَرَ:«أَمَّا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه: الصِّنْوَانُ هِيَ النَّخْلَاتُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ؛ وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ الْمُتَفَرِّقَاتُ، وَقَوْلُهُ:{يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} قَالَ: «الدَّقَلُ وَالْفَارِسِيُّ وَالْحُلْوُ وَالْحَامِضُ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ)، أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ وَالزُّرُوعِ فِي أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطَعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا وأوراقها وأزهارها، فهذا في غاية الحلاوة، وهذا فِي غَايَةِ الْحُمُوضَةِ، وَذَا فِي غَايَةِ الْمَرَارَةِ، وذا عفص، وهذا عذب، وهذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا أبيض، وكذلك الزهورات مع أنها كلها تستمد مِنْ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْمَاءُ، مَعَ هَذَا الاختلاف الكثير الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ، فَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَخَلَقَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
- 5 - وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَإِن تَعْجَبْ} من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد، مَعَ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ودلائله في خلقه، وَمَعَ مَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ ابْتَدَأَ خلق الأشياء بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئاً مَّذْكُوراً، ثُمَّ هم بعد هذا يكذبون في أنه سيعيد العالم خلقاً جديداً، فَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ:{أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ عَالِمٍ وَعَاقِلٍ أَنَّ خَلْقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مَنْ خلق الناس، وأن بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل، كما قال تعالى:{أو لم يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، ثم بعت الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا، فَقَالَ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} أَيْ يُسْحَبُونَ بِهَا فِي النَّارِ، {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيْ مَاكِثُونَ أبداً لايحولون عَنْهَا وَلَا يَزُولُونَ.
- 6 - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ، {بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أَيْ بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي قوله:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} الآية، وقال تعالى:{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ واقع} ، وقال: {يَسْتَعْجِلُ
بِهَا الذين لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا}، وقال:{وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} الآية، أي عقابنا وحسابنا، فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم، يطلبون أن يأتيهم بعذاب الله، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية، وجعلناهم عبرة وَعِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِمْ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة كَمَا قَالَ:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} أَيْ أنه تعالى ذُو عَفْوٍ وَصَفْحٍ وَسَتْرٍ لِلنَّاسِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ وَيُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ثُمَّ قَرَنَ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِيَعْتَدِلَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين} ، وَقَالَ:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ الرجاء والخوف، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَّأَ أَحَدًا الْعَيْشَ، وَلَوْلَا وَعِيدُهُ وَعِقَابُهُ لَاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ» (أخرجه ابن أبي حاتم).
- 7 - وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ كُفْرًا وَعِنَادًا: لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، كَمَا تَعَنَّتُوا عَلَيْهِ أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عَنْهُمُ الْجِبَالَ وَيَجْعَلَ مَكَانَهَا مُرُوجًا وَأَنْهَارًا، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} الآية، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} أَيْ إِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبَلِّغَ رِسَالَةَ اللَّهِ الَّتِي أمرك بها، و {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء} ، وقوله:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ دَاعٍ، وَقَالَ العوفي عن ابن عباس في الآية: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُنْذِرٌ وَأَنَا هَادِي كُلَّ قوم (وكذا قال الضحّاك وسعيد بن جبير). عن مجاهد {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي نبي كقوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} ، وقال يحيى بْنُ رَافِعٍ:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أَيْ قَائِدٍ، وعن عكرمة:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} : هو محمد صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ مَالِكٌ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}: يدعوهم إلى الله عز وجل.
- 8 - اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ
- 9 - عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَامِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِمَا تَحْمِلُهُ الْحَوَامِلُ من كل الإناث، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أَيْ مَا حَمَلَتْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، أَوْ حَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ، أَوْ شَقِيٍّ أَوْ سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كقوله تَعَالَى:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} أَيْ خَلَقَكُمْ طَوْرًا مِنْ بَعْدِ طَوْرٍ، كَمَا قال تعالى:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ فِي خَلْقِ أحدكم أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وَعَمَلَهُ وَشِقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:«فَيَقُولُ الْمَلَكُ أَيْ رَبِّ! أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى! أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فيقول الله ويكتب الملك» .
وقوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} ، قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَاّ اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَاّ اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَاّ اللَّهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلا الله» ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} يَعْنِي السَقْطَ {وَمَا تَزْدَادُ} ، يَقُولُ: مَا زَادَتِ الرَّحِمَ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَا غَاضَتْ حَتَّى وَلَدَتْهُ تَمَامًا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَحْمِلُ عَشْرَةَ أشهر، ومن تَحْمِلُ تِسْعَةَ أَشْهُرَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَزِيدُ فِي الحمل، ومنهن من تنقص، فلذلك الْغَيْضُ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَكُلُّ ذلك بعلمه تعالى، وعنه: مَا نَقَصَتْ مِنْ تِسْعَةٍ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَضَعَتْنِي أُمِّي وَقَدْ حَمَلَتْنِي فِي بَطْنِهَا سَنَتَيْنِ، وَوَلَدَتْنِي وَقَدْ نَبَتَتْ ثَنِيَّتِي، وَقَالَ ابن جريج، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَا يَكُونُ الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ قَدْرَ مَا يَتَحَرَّكُ ظِلَّ مِغْزَلٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قَالَ: مَا تَرَى مِنَ الدَّمِ فِي حَمْلِهَا وَمَا تَزْدَادُ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ (وَبِهِ قَالَ الحسن البصري وقتادة والضحّاك)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}: إِرَاقَةُ الدم حتى يحس الولد، {وَمَا تَزْدَادُ} إن لم تهرق الدم تَمَّ الْوَلَدُ وَعَظُمَ، وَقَالَ مَكْحُولٌ: الْجَنِينُ فِي بطن أمه لا يَحْزَنُ وَلَا يَغْتَمُّ، وَإِنَّمَا يَأْتِيهِ رِزْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ دَمِ حَيْضَتِهَا فَمِنْ ثَمَّ لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ، فَإِذَا وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ استهل، واستهلاله استنكاره لِمَكَانِهِ، فَإِذَا قُطِعَتْ سُرَّتُهُ حَوَّلَ اللَّهُ رِزْقَهُ إلى ثديي أمه، حتى لا يحزن ولا يطلب وَلَا يَغْتَمَّ، ثُمَّ يَصِيرُ طِفْلًا يَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ بِكَفِّهِ فَيَأْكُلُهُ، فَإِذَا هُوَ بَلَغَ قَالَ: هُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ أَنَّى لِي بِالرِّزْقِ؟ فَيَقُولُ مكحول: يا ويحك، غَذَّاكَ وَأَنْتَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ، وَأَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَدْتَ وَعَقَلْتَ قُلْتَ: هُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ أَنَّى لِي بِالرِّزْقِ؟ ثُمَّ قرأ مكحول: {والله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} الآية، وَقَالَ قَتَادَةُ:{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} أَيْ بِأَجْلٍ، حَفِظَ أَرْزَاقَ خَلْقِهِ وَآجَالَهُمْ وَجَعَلَ لِذَلِكَ أَجَلًا مَعْلُومًا، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَتْ إِلَيْهِ أَنَّ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، وَأَنَّهَا تُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا يَقُولُ:«إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرُوهَا فَلْتَصْبِرْ وَلِتَحْتَسِبْ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَقَوْلُهُ:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيْ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ وَمِمَّا يَغِيبُ عَنْهُمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ {الْكَبِيرُ} الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، {الْمُتَعَالِ} أَيْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ فَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ وَدَانَ لَهُ الْعِبَادُ طَوْعًا وَكَرْهًا.
- 10 - سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ
- 11 - لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سوء فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بجميع خلقه، وأنه سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَسَرَّ قَوْلَهُ أَوْ جَهَرَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كقوله:{وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ، وقال:{وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} أَيْ مُخْتَفٍ فِي قَعْرِ بَيْتِهِ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أَيْ ظَاهِرٌ مَاشٍ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ وضيائه، فإن كلاهما في علم الله على السواء، كقوله تعالى:{أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} الآية، وقوله تَعَالَى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} ، وَقَوْلُهُ:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ لِلْعَبْدِ مَلَائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، حَرَسٌ بِاللَّيْلِ، وَحَرَسٌ بِالنَّهَارِ، يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْأَسْوَاءِ وَالْحَادِثَاتِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ مَلَائِكَةٌ آخَرُونَ لِحِفْظِ الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، فَاثْنَانِ عَنِ الْيَمِينِ والشمال، يَكْتُبَانِ الْأَعْمَالَ، صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَمَلَكَانِ آخَرَانِ يَحْفَظَانِهِ وَيَحْرُسَانِهِ، واحد مِنْ وَرَائِهِ وَآخِرَ مَنْ قُدَّامِهِ، فَهُوَ بَيْنُ أَرْبَعَةِ أَمْلَاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ بِاللَّيْلِ بَدَلًا، حَافِظَانِ وَكَاتِبَانِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ:«يَتَعَاقَبُونَ فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:«إِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقَكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ فَاسْتَحْيُوهُمْ وأكرموهم» ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قَالَ: مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ، فَإِذَا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ خَلَّوْا عَنْهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهَا شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ» قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رسول الله، قال:«وإياي، ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلاّ بخير» (رواه مسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود). وَقَوْلُهُ: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قِيلَ: الْمُرَادُ حفظهم له مِنْ أَمْرِ الله، قاله ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جبير، وقال قتادة:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَوْ تجلى لابن آدم كل سهل وكل حزن لرأى كل شيء من ذلك شيئاً يقيه، ولولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عَنْكُمْ فِي مَطْعَمِكُمْ وَمَشْرَبِكُمْ وَعَوْرَاتِكُمْ إِذًا لتُخُطفتم، قال أَبُو أُمَامَةَ: مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَذُودُ عَنْهُ حَتَّى يُسْلِمَهُ لِلَّذِي قُدِّرَ له. وقال أبو مجلز: جاء رجل إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهُوَ يُصَلِّي، فقال: احترس، فإن ناساً يُرِيدُونَ قَتْلَكَ، فَقَالَ: إِنْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ ملكين يحفظانه مما لم يقدر له، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، أن الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بِأَمْرِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رقيا نَسْتَرْقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ:«هِيَ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ» ، وَقَالَ ابن أبي حاتم: "أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلَا أَهْلِ بَيْتٍ يَكُونُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَيَتَحَوَّلُونَ مِنْهَا
إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يُحِبُّونَ إِلَى مَا يَكْرَهُونَ"، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ تصديق ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (أخرجه ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخغي موقوفاً، وقد ورد في حديث مرفوع رواه ابن أبي شيبة).
- 12 - هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ
- 13 - وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَخِّرُ الْبَرْقَ، وَهُوَ مَا يُرَى مِنَ النُّورِ اللَّامِعِ سَاطِعًا من خلل السحاب، {خَوْفاً وَطَمَعاً} ، قَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ يَخَافُ أَذَاهُ وَمَشَقَّتَهُ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ يَرْجُو بَرَكَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ وَيَطْمَعُ فِي رِزْقِ اللَّهِ. {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} أَيْ وَيَخْلُقُهَا مُنْشَأَةً جَدِيدَةً، وَهِيَ لِكَثْرَةِ مَائِهَا ثقيلة قريبة إلى الأرض، قال مجاهد: السحاب الثِّقَالُ: الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ، {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} ، كقوله:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ:«اللَّهُمَّ لَا تقلتنا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ» (رواه الترمذي والنسائي عن إبراهيم النخعي موقوفاً، وقد ورد نحوه في حديث مرفوع رواه ابن أبي شيبة). وعن أبي هريرة رفعه، إِنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ:«سُبْحَانَ من يسبح الرعد بحمده» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ (رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الأدب). وروى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّعْدَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ ذَاكِرًا» ، وَقَوْلُهُ تعالى:{وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} أَيْ يُرْسِلُهَا نِقْمَةً يَنْتَقِمُ بِهَا مِمَّنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا تَكْثُرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ؛ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَكْثُرُ الصَّوَاعِقُ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، حَتَّى يَأْتِيَ الرجل القوم فيقول: من صعق قبلكم الْغَدَاةَ؟ فَيَقُولُونَ: صُعِقَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ".
وَقَدْ روي في سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا مَرَّةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ فَرَاعِنَةِ العرب، فقال:«اذهب فادعه لي» ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَدْعُوكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَسُولُ اللَّهِ؟ وَمَا اللَّهُ؟ أَمِنْ ذَهَبٍ هُوَ، أَمْ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ، أَمْ مِنْ نُحَاسٍ هُوَ؟ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قد خبرتك أَنَّهُ أَعْتَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ لِي: كَذَا وكذا. فقال لي: «ارجع إليه ثانية» ، فَذَهَبَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَهَا، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ أَعْتَى مِنْ ذلك؛ فقال: «ارْجِعْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ» ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ قَالَ: فأعاد عليه الكلام، فبينما هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عز وجل سَحَابَةً حِيَالَ رَأْسِهِ فَرَعَدَتْ، فَوَقَعَتْ مِنْهَا صَاعِقَةٌ فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله عز وجل:{وَيُرْسِلُ الصواعق} الآية (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي وابن جرير عن أنس رضي الله عنه وأخرجه الحافظ البزار بنحوه). وعن مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ من نحاس هو؟ أم مَنْ لُؤْلُؤٍ، أَوْ يَاقُوتٍ؟ قَالَ، فَجَاءَتْ
صاعقة فأخذته، وأنزل الله:{وَيُرْسِلُ الصواعق} الْآيَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا أَنْكَرَ الْقُرْآنَ، وَكَذَّبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله صاعقة فأهلكته، وأنزل الله:{وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الْآيَةَ؛ وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قصة (عامر بن الطفيل) و (أربد بْنِ رَبِيعَةَ) لَمَّا قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَاهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمَا نِصْفَ الْأَمْرِ، فَأَبَى عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ لَعَنَهُ اللَّهُ: أَمَا وَاللَّهِ لِأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا جُرْدًا، وَرِجَالًا مُرْدًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يأبى الله عليك وَأَبْنَاءُ قَيْلَةَ» يَعْنِي الْأَنْصَارَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا هَمَّا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل أَحَدُهُمَا يُخَاطِبُهُ، وَالْآخَرُ يَسْتَلُّ سَيْفَهُ لِيَقْتُلَهُ مِنْ ورائه، فحماه الله تعالى مِنْهُمَا وَعَصَمَهُ، فَخَرَجَا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَا فِي أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى (أَرْبَدَ) سَحَابَةً فِيهَا صَاعِقَةٌ فَأَحْرَقَتْهُ، وَأَمَّا (عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ) فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الطَّاعُونَ، فَخَرَجَتْ فِيهِ غُدَّةٌ عَظِيمَةٌ، فَجَعَلَ يقول: يا أهل عَامِرٍ غدةٌ كَغُدَّةِ الْبِكْرِ، وموتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ، حَتَّى مَاتَا لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وأَنْزَلَ اللَّهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ:{وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ في الله} (روى هذه القصة الحافظ الطبراني عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مفصلة أكثر من هذا)، وَقَوْلُهُ:{وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} أَيْ يَشُكُّونَ فِي عَظَمَتِهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: شَدِيدَةٌ مُمَاحَلَتُهُ فِي عُقُوبَةِ مَنْ طَغَى عَلَيْهِ، وَعَتَا وَتَمَادَى فِي كُفْرِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ:{وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه:{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أَيْ شَدِيدُ الْأَخْذِ؛ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدُ القوة.
- 14 - لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلَاّ فِي ضَلَالٍ
{لَهُ دَعْوَةُ الحق} التوحيد، لا إله إلا الله (قاله ابن عباس وقتادة){وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أَيْ وَمَثَلُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً غَيْرَ اللَّهِ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كَمَثَلِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْمَاءَ مِنْ طَرَفِ الْبِئْرِ بِيَدِهِ، وَهُوَ لَا يَنَالُهُ أَبَدًا بِيَدِهِ، فَكَيْفَ يَبْلُغُ فَاهُ؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فَلَا يَأْتِيهِ أَبَدًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَقَابِضِ يَدَهُ عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكِمُ مِنْهُ عَلَى شيء، كما قال الشاعر:
فَأَصْبَحْتُ ممَّا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا * مِنَ الوُدِّ مثل القابض الماء باليد
ومعنى هذا الكلام أن الَّذِي يَبْسُطُ يَدَهُ إِلَى الْمَاءِ إِمَّا قَابِضًا، وَإِمَّا مُتَنَاوِلًا لَهُ مِن بَعْدُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْمَاءِ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَى فِيهِ الَّذِي جَعَلَهُ مَحَلًّا لِلشُّرْبِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِمْ أَبَدًا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ} .
- 15 - وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ
⦗ص: 276⦘
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَلِهَذَا يَسْجُدُ لَهُ كُلُّ شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً من الكافرين، {وَظِلالُهُم بالغدو} أي البكور، {والآصال} وهو آخر النهار، كقوله تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يتفيؤ ظلاله} الآية.
- 16 - قُلْ مَن رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
يُقَرِّرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إله إلا هو لأنهم معترفون بأنه هُوَ الذي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ وَهُوَ رَبُّهَا وَمُدَبِّرُهَا، وَهُمْ مَعَ هَذَا قَدِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ يَعْبُدُونَهُمْ، وَأُولَئِكَ الآلهة لا تملك لا لِنَفْسِهَا وَلَا لِعَابِدِيهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى نَفْعًا وَلَا ضرا، أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مَضَرَّةً، فَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ عَبَدَ هَذِهِ الْآلِهَةَ مَعَ اللَّهِ وَمِنْ عَبْدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شريك له فَهُوَ على نُورٍ من ربه؟ ولهذا قال:{هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} أَيْ أَجَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً تُنَاظِرُ الرَّبَّ وَتُمَاثِلُهُ فِي الْخَلْقِ، فَخَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَدْرُونَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَخْلُوقٍ غَيْرِهِ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُشَابِهُهُ شَيْءٌ وَلَا يُمَاثِلُهُ، وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا عدل، وَلَا وَزِيرَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَا صَاحِبَةَ، {تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً} ، فأنكر تعالى عليهم ذلك، حَيْثُ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ وَهُوَ تَعَالَى لَا يَشْفَعُ أحد عنده إِلَّا بِإِذْنِهِ، {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ في السموات} الآية، وقال:{إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض إِلَاّ آتِي الرحمن عبدا} ، فَإِذَا كَانَ الْجَمِيعُ عَبِيدًا
فَلِمَ يَعْبُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرأي والاختراع والابتداع فحقت كَلِمَةُ الْعَذَابِ لَا مَحَالَةَ، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
- 17 - أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى مَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ لِلْحَقِّ فِي ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ، وَالْبَاطِلِ فِي اضْمِحْلَالِهِ وَفَنَائِهِ فَقَالَ تَعَالَى:{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أَيْ مَطَرًا، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أَيْ أَخَذَ كُلُّ وادٍ بِحَسْبِهِ، فَهَذَا كَبِيرٌ وَسِعَ كَثِيرًا من الماء، وهذا صغير وسع بِقَدْرِهِ، وَهُوَ إِشارة إِلَى الْقُلُوبِ وَتَفَاوُتِهَا، فَمِنْهَا ما يسع علماً كثيراً، ومنها من لَا يَتَّسِعُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ بَلْ يَضِيقُ عَنْهَا {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً} ، أَيْ فَجَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ الَّذِي سَالَ فِي هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ زَبَدٌ عالٍ عَلَيْهِ؛ هَذَا مَثَلٌ، وَقَوْلُهُ:{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} الآية، هَذَا هُوَ الْمَثَلُ
الثَّانِي وَهُوَ مَا يُسْبَكُ فِي النَّارِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} أَيْ لِيَجْعَلَ حِلْيَةً أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا فَيُجْعَلُ مَتَاعًا، فَإِنَّهُ يَعْلُوهُ زَبَدٌ مِنْهُ، كَمَا يَعْلُو ذَلِكَ زَبَدٌ مِنْهُ، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} ، أي إذا اجتمعا لإثبات الباطل وَلَا دَوَامَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الزَّبَدَ لَا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب والفضة مما سبك فِي النَّارِ، بَلْ يَذْهَبُ وَيَضْمَحِلُّ، وَلِهَذَا قَالَ:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً} أَيْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بَلْ يَتَفَرَّقُ وَيَتَمَزَّقُ وَيَذْهَبُ فِي جَانِبَيِ الْوَادِي، وَيَعْلَقُ بِالشَّجَرِ وَتَنْسِفُهُ الرِّيَاحُ، وَكَذَلِكَ خَبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يَرْجِعُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمَاءُ، وَذَلِكَ الذَّهَبُ وَنَحْوُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الأمثال} ، كقوله تَعَالَى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَاّ العالمون} . وقال بَعْضُ السَّلَفِ: كُنْتُ إِذَا قرأتُ مَثَلًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ أَفْهَمْهُ بِكَيْتُ عَلَى نَفْسِي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَاّ الْعَالِمُونَ} ، قال ابن عباس: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ احْتَمَلَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهَا وَشَكِّهَا، فَأَمَّا الشَّكُّ فَلَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعَمَلُ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فَيَنْفَعُ اللَّهُ به أهله، وهو قوله:{فَأَمَّا الزبد} وهو الشك {فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} وَهُوَ الْيَقِينُ، وَكَمَا يُجْعَلُ الْحُلِيُّ فِي النَّارِ فَيُؤْخَذُ خَالَصُهُ وَيُتْرَكُ خَبَثُهُ فِي النَّارِ، فَكَذَلِكَ يَقْبَلُ اللَّهُ الْيَقِينَ وَيَتْرُكُ الشَّكَّ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ:{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً} يَقُولُ: احْتَمَلَ السَّيْلُ مَا فِي الْوَادِي مِنْ عُودٍ وَدِمْنَةٍ، {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} فَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحِلْيَةُ والمتاع والنحاس والحديث، فَلِلنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ خَبَثٌ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَثَلَ خَبَثِهِ كَزَبَدِ الْمَاءِ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ الْأَرْضَ فَمَا شَرِبَتْ مِنَ الْمَاءِ فَأَنْبَتَتْ فَجَعَلَ ذَاكَ مِثْلَ الْعَمَلِ الصالح يبقى لأهله، والعمل السيء يَضْمَحِلُّ عَنْ أَهْلِهِ، كَمَا يَذْهَبُ هَذَا الزَّبَدُ، وكذلك الْهُدَى وَالْحَقُّ، جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَنْ عمل بالحق كان له وبقي كما بقي مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُعْمَلَ مِنْهُ سِكِّينٌ وَلَا سَيْفٌ حَتَّى يُدْخَلَ فِي النَّارِ فَتَأْكُلُ خَبَثَهُ ويخرج جيده فينتفع به، فكذلك يضمحل الباطل، فإذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَأُقِيمَ النَّاسُ وَعُرِضَتِ الْأَعْمَالُ فيزيع الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحق بالحق.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ منها طائفة قبلت الماء فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وكان مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَرَعَوْا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةً مِنْهَا أُخرى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي وَنَفَعَ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ؛ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أرسلت به» .
- 18 - لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْاْ بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
يُخْبِرُ تعالى عن مآل السعداء والأشقياء: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} أَيْ أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَانْقَادُوا لِأَوَامِرِهِ وَصَدَّقُوا أَخْبَارَهُ الْمَاضِيَةَ وَالْآتِيَةَ، فَلَهُمُ {الحسنى} وهو الجزاء الحسن كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً
⦗ص: 278⦘
فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}، وقال تعالى:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} ، وَقَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} أَيْ لَمْ يُطِيعُوا اللَّهَ، {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لَوْ أنه يُمْكِنَهُمْ أَنْ يَفْتَدُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْاْ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ يُنَاقَشُونَ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَالْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} .
- 19 - أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ
يَقُولُ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الَّذِي {أُنزِلَ إِلَيْكَ} يَا محمد {مِن رَبِّكَ} هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ، بَلْ هُوَ كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، فَلَا يَسْتَوِي مِنْ تَحَقَّقَ صِدْقَ مَا جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، وَمَنْ هُوَ أَعْمَى لَا يَهْتَدِي
إِلَى خَيْرٍ وَلَا يَفْهَمُهُ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ لَهُ وَلَا صَدَّقَهُ وَلَا اتَّبَعَهُ، كقوله تَعَالَى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} ، وقال هنا:{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} أَيْ أَفَهَذَا كَهَذَا؟ لا استواء. وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} أي إنما يتعظ ويعتبر أُولُو الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الصَّحِيحَةِ؛ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ.
- 20 - الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ
- 21 - وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ
- 22 - وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ويدرؤون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ
- 23 - جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ
- 24 - سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ بِأَنَّ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، وَهِيَ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ إِذَا عَاهَدَ أَحَدُهُمْ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أَيْ فِيمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذْرُوَنَ مِنَ الْأَعْمَالِ، يُرَاقِبُونَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَلِهَذَا أَمْرُهُمْ عَلَى السَّدَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أَيْ عَنِ المحارم والمآئم ففطموا أنفسهم عنها لِلَّهِ عز وجل ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ، {وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ} بِحُدُودِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَخُشُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَرْضِي، {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أَيْ عَلَى الَّذِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِنْفَاقُ لَهُمْ، مِنْ زَوْجَاتٍ وَقَرَابَاتٍ وَأَجَانِبَ، مِنْ فُقَرَاءَ وَمَحَاوِيجَ وَمَسَاكِينَ، {سِرّاً وَعَلَانِيَةً} أَيْ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ آناء الليل وأطراف النهار، {ويدرؤون
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أَيْ يَدْفَعُونَ الْقَبِيحَ بِالْحَسَنِ، فَإِذَا آذَاهُمْ أَحَدٌ قَابَلُوهُ بِالْجَمِيلِ صَبْرًا وَاحْتِمَالًا وَصَفْحًا وعفواً، كقوله تَعَالَى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبينه عدواة كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، وَلِهَذَا قَالَ مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ السُّعَدَاءِ الْمُتَّصِفِينَ بهؤلاء الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ بِأَنَّ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{جَنَّاتِ عَدْنٍ} وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ، أي جنات إقامة يخلدون فيها. وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ:{جَنَّاتُ عَدْنٍ} مَدِينَةُ الْجَنَّةِ فِيهَا الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ، وَأَئِمَّةُ الْهُدَى والناس حولهم بعد والجنات حولها، وَقَوْلُهُ:{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أَيْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْبَابِهِمْ فِيهَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَهْلِينَ وَالْأَبْنَاءِ مِمَّنْ هُوَ صَالِحٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِتَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ بِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ تُرْفَعُ دَرَجَةُ الْأَدْنَى إِلَى دَرَجَةِ الْأَعْلَى امتناناً من الله، وإحساناً من غير تنقيص للأعلى عن درجته، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذريتهم} الآية. وَقَوْلِهِ: {وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا لِلتَّهْنِئَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَعِنْدَ دُخُولِهِمْ إِيَّاهَا تَفِدُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مُسَلِّمِينَ مُهَنِّئِينَ لَهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ التَّقْرِيبِ وَالْإِنْعَامِ، وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ السَّلَامِ، فِي جِوَارِ الصِّدِّيقِينِ وَالْأَنْبِيَاءِ والرسل الكرام.
روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«هَلْ تَدْرُونَ أول من يدخل الجنة من خلق الله؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَن يَشَآءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ: ائْتُوهُمْ فَحَيُّوهُمْ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: نَحْنُ سُكَّانُ سَمَائِكَ وَخِيرَتُكَ مَنْ خَلْقِكَ، أَفَتَأْمُرُنَا أَنْ
نأتي هؤلاء ونسلم عليهم؟ فيقول: إِنَّهُمْ كَانُوا عِبَادًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وَتُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً
- قَالَ - فَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} "، وَرَوَاهُ أَبُو القاسم الطبراني، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَوَّلُ ثُلَّةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ تُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَإِذَا أُمِرُوا سَمِعُوا وَأَطَاعُوا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمْ حَاجَةٌ إِلَى سُلْطَانٍ لَمْ تُقْضَ حَتَّى يَمُوتَ وَهِيَ فِي صَدْرِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَدْعُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْجَنَّةَ فَتَأْتِي بِزُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا فَيَقُولُ: أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِي وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِي؟ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ وَلَا حِسَابٍ، وَتَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فَيَسْجُدُونَ ويقولون: ربنا نحن نسبّح بحمدك اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، مَن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آثَرْتَهُمْ عَلَيْنَا؟ فَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل: هَؤُلَاءِ عِبَادِي الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِي، وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ:{سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} "، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ فِي رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ فَيَقُولُ لَهُمْ:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ، وكذلك أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ.
- 25 - وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
⦗ص: 280⦘
هَذَا حَالُ الْأَشْقِيَاءِ وَصِفَاتُهُمْ وَذَكَرَ مآلهم في الْآخِرَةِ، وَمَصِيرَهُمْ إِلَى خِلَافِ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِخِلَافِ صِفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَأُولَئِكَ كَانُوا يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَيَصِلُونَ ما أمر الله بِهِ أَن يُوصَلَ، وهولاء {يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ:«آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} وَهِيَ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} ، وَهِيَ سُوءُ العاقبة والمآل {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد}. وقال أبو العالية: هي ست خصال في المنافقين، وإذا كَانَ فِيهِمُ الظَّهْرَةُ عَلَى النَّاسِ أَظْهَرُوا هَذِهِ الْخِصَالَ: إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا كَانَتِ الظَّهْرَةُ عَلَيْهِمْ أَظْهَرُوا الثَّلَاثَ الْخِصَالَ: إِذَا حَدَّثُوا
كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا ائْتُمِنُوا خَانُوا.
- 26 - اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يوسع الرزق عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ،
وَفَرِحَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِمَا أوتوا من الْحَيَاةِ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ وَإِمْهَالًا كَمَا قَالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} ، ثُمَّ حَقَّرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ادخر تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَقَالَ:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَاّ مَتَاعٌ} ، كَمَا قَالَ:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ، وَقَالَ:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وقال الإمام أحمد، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخِي بَني فِهْرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ما الدنيا في الآخرة إلا كما يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ» ، وأشار بالسبابة (أخرجه مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ)، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، وَالْأَسَكُّ الصَّغِيرُ الْأُذُنَيْنِ، فَقَالَ:«وَاللَّهِ لِلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا على أهله حين ألقوه» (أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه).
- 27 - وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ
- 28 - الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
- 29 - الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وحسن مآب
يخبر تعالى عن المشركين قولهم {لَوْلَا} أَيْ هَلَّا، {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} ، كقولهم:{فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِجَابَةٍ مَا سَأَلُوا؛ {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أَيْ هُوَ الْمُضِلُّ وَالْهَادِي، سَوَاءٌ بَعَثَ الرَّسُولَ بِآيَةٍ عَلَى وَفْقِ مَا اقْتَرَحُوا، أَوْ لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى سُؤَالِهِمْ، فَإِنَّ الهداية والإضلال ليس منوطاً بذلك، كَمَا قَالَ:{وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَا يؤمنون} ، وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا إِلَاّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}، وَلِهَذَا قَالَ:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أَيْ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن أَنَابَ إِلَى اللَّهِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ وَاسْتَعَانَ بِهِ وَتَضَرَّعَ لَدَيْهِ، {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ تَطِيبُ وَتَرْكَنُ إِلَى جَانِبِ اللَّهِ وَتَسْكُنُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَتَرْضَى بِهِ مَوْلًى وَنَصِيرًا، وَلِهَذَا قَالَ:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القلوب} أي هو حقيقي بذلك، وقوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} ، قال ابن عباس: فرجٌ وَقُرَّةُ عَيْنٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نِعْمَ مَا لَهُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: غِبْطَةٌ لَهُمْ. وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: خير لهم، وقال قتادة: يَقُولُ الرَّجُلُ: طُوبَى لَكَ، أَيْ أَصَبْتَ خَيْرًا، وقيل: حُسْنَى لَهُمْ، {وَحُسْنُ مَآبٍ} أَيْ مَرْجِعٍ، وَهَذِهِ الأقوال لا منافاة بينها، وروى السدي عن عكرمة: طوبى لهم هي الجنة، وبه قال مجاهد.
وروى ابن جرير، عن شهر بن حوشب قال: طوبى هي شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ كُلُّ شَجَرِ الْجَنَّةِ مِنْهَا أغصانها، وهكذا روى غير وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ فِي كُلِّ دَارٍ مِنْهَا غُصْنٌ مِنْهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الرَّحْمَنَ تبارك وتعالى غَرَسَهَا بيده من حبة لؤلؤة وأمرها أم تَمْتَدَّ، فَامْتَدَّتْ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ تبارك وتعالى، وَخَرَجَتْ مِنْ أَصْلِهَا يَنَابِيعُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ من عسل وخمر وماء ولبن. وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شجرة يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها» ، قال: فحدثت بها النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيَّ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضْمَرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يقطعها» . وفي صحيح البخاري عَنْ أنَس رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها» .
- 30 - كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ
يَقُولُ تَعَالَى وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي تبلغهم رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْكَافِرَةِ بِاللَّهِ، وَقَدْ كُذِّبَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ فَلَكَ بِهِمْ أُسْوَةٌ، وَكَمَا أَوْقَعْنَا بَأْسَنَا وَنِقْمَتَنَا بِأُولَئِكَ فَلْيَحْذَرْ هَؤُلَاءِ مِنْ حُلُولِ النِّقَمِ بهم، قال الله تَعَالَى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} أَيْ كَيْفَ نَصَرْنَاهُمْ وَجَعَلْنَا الْعَاقِبَةَ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} أَيْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي بَعَثْنَاكَ فِيهِمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ لَا يُقِرُّونَ بِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْنَفُونَ من وصف الله بـ {الرحمن الرَّحِيمِ} وَلِهَذَا أَنِفُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَكْتُبُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَالُوا: مَّا نَدْرِي مَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْحَدِيثُ فِي صحيح البخاري). وفي صحيح مسلم: «إِنَّ أَحَبَّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ» . {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} أَيْ هَذَا الَّذِي تَكْفُرُونَ بِهِ أَنَا مُؤْمِنٌ بِهِ مُعْتَرِفٌ مُقِرٌّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِي، {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أَيْ إِلَيْهِ أَرْجِعُ وَأُنِيبُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ.
- 31 - وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا إِن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
يَقُولُ تَعَالَى مَادِحًا لِلْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمُفَضِّلًا لَهُ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أَيْ لَوْ كَانَ فِي الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ كِتَابٌ تَسِيرُ بِهِ الْجِبَالُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، أَوْ تُقَطَّعُ بِهِ الْأَرْضُ وَتَنْشَقُّ أَوْ تُكَلَّمُ بِهِ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهَا، لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعْجَازِ الَّذِي لَا يسطتيع الإنسان وَالْجِنُّ عَنْ آخِرِهِمْ إِذَا اجْتَمَعُوا أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مَثَلِهِ، وَمَعَ هَذَا فَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ كَافِرُونَ بِهِ جَاحِدُونَ لَهُ، {بَل للَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} أَيْ مَرْجِعُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إلى الله عز وجل مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يكن، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْقُرْآنِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الكتب المتقدمة لأنه مشتق من الجمع، وفي الحديث الصحيح، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنَ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ أَنْ تُسْرَجَ، فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسْرَجَ دَابَّتُهُ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا من عمل يديه» (أخرجه البخاري وأحمد عن أبي هريرة)، والمراد بالقرآن هو الزَّبُورُ، وَقَوْلُهُ:
{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ مِنْ إِيمَانِ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَيَعْلَمُوا أَوْ يَتَبَيَّنُوا {أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ حُجَّةٌ وَلَا مُعْجِزَةٌ، أَبْلَغَ ولا أنجع في العقول والنفوس، مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي لَوْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عز وجل عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مَا آمَنَ عَلَى مَثَلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إليَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» مَعْنَاهُ أَنَّ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ انْقَرَضَتْ بِمَوْتِهِ وَهَذَا الْقُرْآنُ حُجَّةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى الْآبَادِ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يخلُق عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ.
وروي أن المشركين قَالُوا لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: لَوْ سَيَّرَتْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ حَتَّى تَتَّسِعَ فَنَحْرُثَ فِيهَا، أَوْ قَطَعْتَ لَنَا الْأَرْضَ كَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَقْطَعُ لِقَوْمِهِ بِالرِّيحِ، أَوْ أَحْيَيْتَ لَنَا الْمَوْتَى كَمَا كَانَ عِيسَى يُحْيِي الْمَوْتَى لِقَوْمِهِ، فأنزل الله هذه الآية:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} (رواه ابن أبي حاتم، وبه قال ابن عباس والشعبي وقتادة وَغَيْرِ وَاحِدٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ). وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوْ فُعِلَ هَذَا بِقُرْآنٍ غَيْرِ قرآنكم لفعل بِقُرْآنِكُمْ، وَقَوْلُهُ:{بَل للَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا يَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلا ما شاء ولم يكن ليفعل. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أَفَلَمْ يَعْلَمِ الَّذِينَ آمنوا، وَقَوْلُهُ:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} أَيْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لَا تَزَالُ الْقَوَارِعُ تُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ تُصِيبُ مَنْ حَوْلَهُمْ لِيَتَّعِظُوا ويعتبروا، كما قال تعالى:{أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون} ، قال الْحَسَنِ:{أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} : أَيْ القارعة، وهذا هو الظاهر من السياق، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {تُصِيبُهُم بِمَا
صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} قَالَ: عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} يَعْنِي نُزُولَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ وقتاله إياهم؛ وقال عكرمة في رواية عنه {قَارِعَةٌ}: أي نكبة، {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} يَعْنِي فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أَيْ لَا يَنْقُضُ وَعْدَهُ لِرُسُلِهِ بِالنُّصْرَةِ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام} .
- 32 - وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
يَقُولُ تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مَنْ قَوْمِهُ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} أَيْ فَلَكَ فِيهِمْ أُسْوَةٌ، {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ أَنْظَرْتُهُمْ وَأَجَّلْتُهُمْ، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أَخْذَةً رَابِيَةً فَكَيْفَ بَلَغَكَ مَا صنعت بهم وكيف كان عقابي لهم؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} . وفي الصحيحين: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
- 33 - أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أَيْ حَفِيظٌ عَلِيمٌ رَقِيبٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ مِنْ خَيْرٍ وشر ولا يخفى عليه خافية {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فيه} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا} ، وَقَالَ:{سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ، وقال:{يَعْلَمُ السر وأخفى} ، وَقَالَ:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تعلمون بصير} ، أفمن هو كذلك كَالْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ ولا تعقل ولا تكشف ضراً عَنْهَا وَلَا عَنْ عَابِدِيهَا؟ وَحَذَفَ هَذَا الْجَوَابَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} أَيْ عَبَدُوهَا مَعَهُ مِنْ أَصْنَامٍ وَأَنْدَادٍ وَأَوْثَانٍ، {قُلْ سَمُّوهُمْ} أَيْ أَعْلِمُونَا بِهِمْ وَاكْشِفُوا عَنْهُمْ حَتَّى يُعْرَفُوا فَإِنَّهُمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ:{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا وُجُودَ لَهُ، لأنه لو كان لها وُجُودٌ فِي الْأَرْضِ لَعَلِمَهَا، لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: بظنٍّ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: بِبَاطِلٍ مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ إِنَّمَا عَبَدْتُمْ هَذِهِ الْأَصْنَامَ بِظَنٍّ مِنْكُمْ أَنَّهَا تَنْفَعُ وَتَضُرُّ وَسَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً، {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} ، {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْلُهُمْ أَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار، كقوله تعالى:{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فزينوا لهم} الآية، {وصدوا عَنِ السبيل} أَيْ بِمَا زُيِّنَ لَهُمْ مِنْ صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ صُدُّوا بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَنِ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، كَمَا قَالَ:{وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} ، وَقَالَ:{إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} .
- 34 - لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ
- 35 - مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ
ذَكَرَ تَعَالَى عِقَابَ الْكُفَّارِ وَثَوَابَ الْأَبْرَارِ، فَقَالَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ:{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قَتْلًا وَأَسْرًا، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ} أي المدخر مَعَ هَذَا الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا {أَشَقُّ} أَيْ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْمُتَلَاعِنِينَ: «إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ» ، وَهُوَ كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَهُ انْقِضَاءٌ، وَذَاكَ دَائِمٌ أَبَدًا فِي نَارٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ سَبْعُونَ ضِعْفًا، وَوِثَاقٌ لَا يُتَصَوَّرُ كَثَافَتُهُ وَشِدَّتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} ، وقال تعالى:{وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} ولهذا قرن هذا بقوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أَيْ صِفَتُهَا وَنَعْتُهَا {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ سَارِحَةٌ فِي أَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَحَيْثُ شَاءَ أَهْلُهَا يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً، أَيْ يَصْرِفُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا وَأَيْنَ شَاءُوا، كقوله:{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غير آسن} الآية، وقوله:{أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع وَلَا فَنَاءَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَفِيهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، فَقَالَ:«إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ - أَوْ أُرِيتُ الْجَنَّةَ - فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا» . وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يعلى، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، إِذْ تَقَدَّمُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَقَدَّمْنَا، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا لِيَأْخُذَهُ ثُمَّ تَأَخَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ الْيَوْمَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا مَا رَأَيْنَاكَ كُنْتَ تَصْنَعُهُ، فَقَالَ:«إِنِّي عُرِضَتْ عليَّ الْجَنَّةُ وَمَا فيها من زهرة وَالنَّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ لِآتِيَكُمْ بِهِ فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا ينقصونه» .
وروى الإمام أحمد والنسائي عن زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل منهم
لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ والجماع والشهوة»، قال: إن الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ وَلَيْسَ في الجنة الأذى، قال:«تكون حاجة أحدهم رشحاً يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ كَرِيحِ الْمِسْكِ فَيَضْمُرُ بَطْنُهُ» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا» ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ عَادَ طَائِرًا كَمَا كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قال الله تَعَالَى:{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَاّ مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} ، وَقَالَ:{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} ، وَكَذَلِكَ ظِلُّهَا لَا يَزُولُ وَلَا يَقْلِصُ كَمَا قال الله تعالى:{لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا» ثُمَّ قَرَأَ: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ النَّارِ لِيُرَغِّبَ فِي الْجَنَّةِ وَيُحَذِّرَ مِنَ النَّارِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْجَنَّةِ
بِمَا ذَكَرَ قَالَ بَعْدَهُ: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} ، كما قال الله تَعَالَى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ، أَصْحَابُ الجنة هُمْ الفائزون} .
- 36 - وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ
- 37 - وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عربيا وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وَهُمْ قَائِمُونَ بِمُقْتَضَاهُ {يَفْرَحُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَا فِي كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة، كما قال تَعَالَى:{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا - إلى قوله - إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لمفعولا} أَيْ إِنْ كَانَ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ بِهِ فِي كُتُبِنَا مِنْ إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَحَقًّا وَصِدْقًا مَفْعُولًا لَا مَحَالَةَ وكائناً وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} أَيْ ومن الطوائف من يكذب بَعْضِ مَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَمِنَ الْأَحْزَابِ}: أي اليهود والنصارى {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} أي بعض مَا جَآءَكَ مِنَ الحق، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِن مِّن أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية، {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ} ، أَيْ إِنَّمَا بُعِثْتُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أُرْسِلَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي، {إِلَيْهِ أَدْعُو} أَيْ إِلَى سَبِيلِهِ أَدْعُو النَّاسَ، {وَإِلَيْهِ مَآبِ} أَيْ مَرْجِعِي وَمَصِيرِي، وَقَوْلُهُ:{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} أَيْ وَكَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ الْمُرْسَلِينَ وأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ مِنَ السَّمَاءِ، كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ مُحْكَمًا مُعْرَبًا شَرَّفْنَاكَ بِهِ وَفَضَّلْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ، الَّذِي {لَاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. وقوله:{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} أي آراءهم {بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} أي من الله سبحانه، {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} ، وَهَذَا وَعِيدٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَّبِعُوا سُبُلَ أهل الضلالة بعد ما صَارُوا إِلَيْهِ مَنْ سُلُوكِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْمَحَجَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ والسلام.
- 38 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
- 39 - يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ رسولاً بشرياً، كذلك قد بعثنا المرسلين من قَبْلَكَ بَشَرًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَيَأْتُونَ الزَّوْجَاتِ، وَيُولَدُ لَهُمْ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وذرية، وقد قال تَعَالَى لِأَشْرَفِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِهِمْ:{قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وأقوم وأنام، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مني» . وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ لَمْ يَكُنْ يَأْتِي قَوْمَهُ بِخَارِقٍ، إِلَّا إِذَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِ بَلْ إِلَى اللَّهِ عز وجل، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أَيْ لِكُلِّ مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ كِتَابٌ مَكْتُوبٌ بِهَا وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ
بِمِقْدَارٍ، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يسير}. وكان الضحاك يقول:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} : أَيْ لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ، يعني لكل كتاب أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمِقْدَارٌ معين، فلهذا {يمحو الله مَا يَشَآءُ} مِنْهَا {وَيُثْبِتُ} يَعْنِي حَتَّى نُسِخَتْ كُلُّهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ: فقال الثوري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ، فَيَمْحُو الله مَا يَشَآءُ، إِلَّا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. وفي رواية {يمحو الله وَيُثْبِتُ} قال: كل شيء إلا الموت والحياة، والشقاء والسعادة، فإنه قد فرغ منهما (وهذا قول مجاهد أيضاً حيث قال: إلا الحياة والموت والشقاوة وَالسَّعَادَةَ فَإِنَّهُمَا لَا يَتَغَيَّرَانِ}، وَقَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ دُعَاءَ أَحَدِنَا، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ اسْمِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبِتْهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُهُ عَنْهُمْ، وَاجْعَلْهُ فِي السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: حَسَنٌ؛ ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فقال:{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي ليلة مباركة} الآيتين، قَالَ: يَقْضِي فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ في السنة من رزق أو معصية، ثُمَّ يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ، فأما كتاب السعادة والشقاء فَهُوَ ثَابِتٌ لَا يُغَيَّرُ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أبي وائل: إنه كان كثيراً يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أَشْقِيَاءَ
فَامْحُهُ، وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبِتْنَا، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وعندك أم الكتاب (أخرجه ابن جرير)، وقال ابن جرير، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بالبيت ويبكي: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عليَّ شِقْوَةً أَوْ ذَنْبًا فَامْحُهُ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة.
وَمَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْأَقْدَارَ يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ مِنْهَا وَيُثْبِتُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا البر» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه) وثبت في الصحيح أن صلة الرحم يزيد في العمر، وفي حديث آخر:«إِنَّ الدُّعَاءَ وَالْقَضَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . وقال الكلبي: يمحو الرِّزْقِ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَيَمْحُو مِنَ الْأَجَلِ وَيَزِيدُ فيه، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يعمل بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يَعُودُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَمْحُو؛ وَالَّذِي يُثْبِتُ الرجل يعمل بمعصية وَقَدْ كَانَ سَبَقَ لَهُ خَيْرٌ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يُثْبِتُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} يَقُولُ: يُبَدِّلُ مَا يَشَاءُ فَيَنْسَخُهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فلا يبدله {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ النَّاسِخُ وَمَا يُبَدِّلُ وَمَا يُثْبِتُ كُلُّ ذَلِكَ فِي كتاب، وقال مجاهد: قالت كفار قريش لما نزلت {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ الله} : ما نرى محمداً يملك شيئاً وقد فُرِغَ مِنَ الْأَمْرِ، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَخْوِيفًا وَوَعِيدًا لَهُمْ: إِنَّا إِنْ شِئْنَا أَحْدَثْنَا لَهُ
مِّنْ أَمْرِنَا مَا شِئْنَا، وَنُحْدِثُ فِي كُلِّ رمضان، فيمحو مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} قال: مَن جَآءَ أجله يذهب وَيُثْبِتُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَجْرِي إِلَى
أَجْلِهِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رحمه الله، وَقَوْلُهُ:{وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قَالَ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ جملة الكتاب وأصله، وقال ابن جريج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قَالَ: الذكر.
- 40 - وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ
- 41 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
يقول تعالى لرسوله: {وإما نُرِيَنَّكَ} يا محمد بعض الذي نَعِدُ أَعْدَاءَكَ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فِي الدُّنْيَا، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أَيْ قَبْلَ ذَلِكَ {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ وقد فعلت مَا أُمِرْتَ بِهِ {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} أَيْ حِسَابُهُمْ وجزاؤهم كقوله تعالى:{إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} . وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْ
لَمْ يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} قَالَ: خَرَابُهَا، وَقَالَ الْحُسْنُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ على المشركين، وقال نُقْصَانُ الْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَخَرَابُ الْأَرْضِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لو كانت الأرض تنتقص لضاق عليك حشك (الحُشّ والحِش: البستان، قال في القاموس: الحُشُّ مثلثة: المخرج لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين)، ولكن تنقص الأنفس والثمرات، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: خَرَابُهَا بِمَوْتِ علمائها وفقهائها وَأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهَا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هو موت العلماء، وأنشد أحمد بن نمزال:
الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا * مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حلَّ بِهَا * وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ عَلَى الشِّرْكِ قَرْيَةً بَعْدَ قرية، كقوله:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى} الآية، وهذا اختيار ابن جرير.
- 42 - وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ
عقبى الدار
يقول تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بِرُسُلِهِمْ وَأَرَادُوا إخراجهم من بلادهم فمكر الله بهم جعل العاقبة للمتقين كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كفروا} الآية، وقوله تَعَالَى:{وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ وَسَيَجْزِي كل عامل بعمله، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أَيْ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ وَالْعَاقِبَةُ لَهُمْ أَوْ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ، كَلَّا، بَلْ هِيَ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
- 43 - وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب
يقول تعالى: يكذبك هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ وَيَقُولُونَ: {لَسْتَ مُرْسَلاً} أَيْ مَا أَرْسَلَكَ اللَّهُ، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
⦗ص: 288⦘
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي حسبي الله هو الشَّاهِدُ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ، شَاهِدٌ عَلَيَّ فِيمَا بَلَّغْتُ عَنْهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَشَاهِدٌ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ فِيمَا تَفْتَرُونَهُ مِنَ الْبُهْتَانِ، وَقَوْلُهُ:{وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قِيلَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بن سلام، وهذ الْقَوْلُ غَرِيبٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ إِنَّمَا أَسْلَمُ فِي أَوَّلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَالْأَظْهَرُ فِي هذا ما قاله ابن عباس: هم من اليهود والنصارى، وهو يَشْمَلُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَجِدُونَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَنَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذين يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الْآيَةَ، وقال تعالى:{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسرائيل} ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْإِخْبَارِ عَنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمُ المنزلة.
- 52 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
- 53 - سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
- 54 - أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ
يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ {أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} هَذَا الْقُرْآنُ {مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} أَيْ كَيْفَ تَرَوْنَ حَالَكُمْ عِنْدَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ؟ ولهذا قال عز وجل: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ؟ أَيْ فِي كُفْرٍ وَعِنَادٍ وَمُشَاقَّةٍ لِلْحَقِّ وَمَسْلَكٍ بعيد من الهدى، ثم قال جل جلاله:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} أَيْ سنظهر لهم دلالالتنا وَحُجَجَنَا عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عند اللَّهُ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِدَلَائِلَ خَارِجِيَّةٍ {فِي الْآفَاقِ} مِنَ الْفُتُوحَاتِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَقَالِيمِ وَسَائِرِ الْأَدْيَانِ. قَالَ مُجَاهِدٌ والحسن والسدي:{وفي أَنفُسِهِمْ} قَالُوا: وَقْعَةُ بَدْرٍ وَفَتْحُ مَكَّةَ وَنَحْوُ ذلك، من الوقائع التي نصر الله فيها محمداً صلى الله عليه وسلم وَصَحْبَهُ، وَخَذَلَ فِيهَا الْبَاطِلَ وَحِزْبَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد ما الإنسان مركب منه، مِنَ الْمَوَادِّ وَالْأَخْلَاطِ وَالْهَيْئَاتِ الْعَجِيبَةِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ، الدَّالِّ عَلَى حِكْمَةِ الصانع تبارك وتعالى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؟ أَيْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً عَلَى أَفْعَالِ عباده وأقوالهم، وهو يشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية، وقوله تعالى:{إِلَاّ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} أَيْ فِي شَكٍّ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلِهَذَا لا يتفركون فيه ولا يعملون له وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه، ثم قال تعالى مقرراً إِنَّهُ على كُلِّ شيء قدير {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أَيِ الْمَخْلُوقَاتُ كلها تحت قهره وفي قبضته، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا كُلِّهَا بِحُكْمِهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
-
42 - سورة الشورى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - حم
- 2 - عسق
- 3 - كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العزيز الحكيم
- 4 - لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ العلي العظيم
- 5 - تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- 6 - وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وقوله عز وجل:{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ كَمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ هذا القرآن كذلك أنزل على الأنبياء قبلك، وقوله تعالى:
{آللَّهُ الْعَزِيزُ} أَيْ فِي انْتِقَامِهِ، {الْحَكِيمُ} فِي أقواله وأفعاله، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أَنَّ (الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ) سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وقد وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي المَلك رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» . قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جبينه صلى الله عليه وسلم ليتفصد عرقاً" (أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري. ومعنى يتفصد: أي يتصبب عرقاً). وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَسْمَعُ صَلَاصِلَ، ثُمَّ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إليَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أن نفسي تقبض» (أخرجه الإمام أحمد). وقوله تبارك وتعالى: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيِ الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصْرِيفِهِ {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الكبير المتعال} ، {وهو العلي الكبير} ، والآيات في هذا كثيرة. وقوله عز وجل:{تَكَادُ السماوات والأرض يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} قال ابن عباس والسدي: أَيْ فَرَقاً مِنَ الْعَظَمَةِ، {وَالْمَلَائِكَةُ يسبِّحون بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} كقوله عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ربهم
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً}، وقوله جل جلاله:{أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إِعْلَامٌ بذلك وتنويه به، وقوله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ يُحْصِيهَا وَيَعُدُّهَا عَدًّا، وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أَيْ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
- 7 - وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ
- 8 - وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أَيْ وَاضِحًا جَلِيًّا بيِّناً {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وَهِيَ مَكَّةُ، {وَمَنْ حَوْلَهَا} أَيْ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ شَرْقًا وَغَرْبًا؛ وَسُمِّيَتْ مَكَّةُ (أُمَّ الْقُرَى) لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ البلاد لأدله كثيرة منها قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ ما خرجت» (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صحيح). وقوله عز وجل: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ تعالى:{لَا رَيْبَ فِيهِ} أي لاشك في وقوعه وأنه كائن لا محالة، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ، كَقَوْلِهِ تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} أَيْ يَغْبِنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ، وَكَقَوْلِهِ عز وجل:{يوم يأتي لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسعيد} . روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وفي يديه كتابان، فقال:«أتدرون ما هذان الكتابان؟» قُلْنَا: لَا، إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ الله، قال صلى الله عليه وسلم للذي في يمينه:"هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبداً، ثم قال صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ: «هَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ»، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فلأي شيء نعمل إِن كَانَ هذا أمر قد فرغ منه؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بعمل أهل الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النار يختم له بعمل أهل النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ»، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فَقَبَضَهَا، ثُمَّ قَالَ: "فَرَغَ رَبُّكُمْ عز وجل مِنَ الْعِبَادِ، ثُمَّ قَالَ بِالْيُمْنَى فَنَبَذَ بِهَا فَقَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَنَبَذَ بِالْيُسْرَى وقال فريق في السعير" (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب).
وقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ إِمَّا عَلَى الْهِدَايَةِ أَوْ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى فَاوَتَ بَيْنَهُمْ، فَهَدَى مَنْ يَشَاءُ إِلَى الْحَقِّ، وَأَضَلَّ مَنْ يَشَاءُ عَنْهُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ والحجة البالغة، ولهذا قال عز وجل:{وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} وَقَالَ ابن جرير: أن موسى عليه الصلاة
والسلام قَالَ: يَا رَبِّ خَلْقُكَ الَّذِينَ خَلَقْتَهُمْ، جَعَلْتَ مِنْهُمْ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي النَّارِ، لَوْ مَا أَدْخَلْتَهُمْ كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: يَا موسى أرفع درعك، فَرَفَعَ، قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ، قَالَ: ارْفَعْ، فَرَفَعَ، فَلَمْ يُتْرَكْ شَيْئًا، قَالَ يَا رَبِّ قَدْ رَفَعْتُ، قَالَ: ارْفَعْ، قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ، إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، قَالَ: كَذَلِكَ أُدْخِلُ خَلْقِي كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فيه (أخرجه ابن جرير من حديث عمرو بن أبي سويد).
- 9 - أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- 10 - وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب
- 11 - فاطر السماوات وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير
- 12 - له مقاليد السماوات وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، ومخبراً أنه الْوَلِيُّ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وحده، فإنه هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ثُمَّ قَالَ عز وجل:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نبيّه صلى الله عليه وسلم، كقوله جلَّ وعلا:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرسول} ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أَيِ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أَيْ أَرْجِعُ في جميع الأمور. وقوله جل جلاله:{فَاطِرُ السماوات وَالْأَرْضِ} أَيْ خَالِقُهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ وَشَكْلِكُمْ، منَّة عليكم وتفضيلاً، جَعَلَ مِنْ جِنْسِكُمْ ذَكَرًا وأُنثى، {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْواجاً} أَيْ وَخَلَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزواج، وقوله تبارك وتعالى {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يخلقكم فيه عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، لَا يَزَالُ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ذكوراً وإناثاً خلقاً بعد خلق، وجيلاً بعد جيل، وقال البغوي {يَذْرَؤُكُمْ} أي في الرحم، وَقِيلَ: فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْخِلْقَةِ، قَالَ مجاهد: نسلاً بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ، وَقِيلَ:«فِي» بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ يَذْرَؤُكُمْ بِهِ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَيْ لَيْسَ كَخَالِقِ الْأَزْوَاجِ كُلِّهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ {وَهُوَ السميع البصير} ، وقوله تعالى:{لَّهُ مقاليد السماوات وَالْأَرْضِ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ التَّامُّ، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
- 13 - شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ
- 14 - وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
يَقُولُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} ، فَذَكَرَ أَوَّلَ الرُّسُلِ بَعْدَ آدَمَ وَهُوَ (نُوحٌ) عليه السلام، وَآخِرَهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما بين ذلك من أولي العزم، وهو: إبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وَهَذِهِ الْآيَةُ انْتَظَمَتْ ذِكْرَ الْخَمْسَةِ، كَمَا اشْتَمَلَتْ آية الآحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى بن مريم} الآية. وَالدِّينُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ، هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قال عز وجل:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَاْ فاعبدون} ، وَفِي الْحَدِيثِ:«نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ» أَيِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله جل جلاله:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شرعة ومنهاجاً} ، ولهذا قال تعالى ههنا:{أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} أَيْ أوصى الله تَعَالَى جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام بِالِائْتِلَافِ وَالْجَمَاعَةِ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. وقوله عز وجل:{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أَيْ شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَأَنْكَرُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا محمد من التوحيد، ثم قال جل جلاله:{اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} أَيْ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ الْهِدَايَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَيَكْتُبُ الضَّلَالَةَ عَلَى مَنْ آثَرَهَا على طريق الرشد، ولهذا قال تعالى:{وما اختلفوا إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} أَيْ إِنَّمَا كَانَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيْهِمْ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذلك إلا البغي والعناد، ثم قال عز وجل:{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مسمى} أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإنظار العباد إلى يوم المعاد، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعاً، وقوله جلَّت عظمته:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} يَعْنِي الجيل المتأخر بعد القرن الْمُكَذِّبِ لِلْحَقِّ {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} أَيْ ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم، وَإِنَّمَا هُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَهُمْ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَشَكٍّ مُرِيبٍ وَشِقَاقٍ بَعِيدٍ.
- 15 - فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى عَشْرِ كَلِمَاتٍ مُسْتَقِلَّاتٍ، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسها، قَالُوا: وَلَا نَظِيرَ لَهَا سِوَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه، وقوله {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أَيْ فَلِلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي وَصَّيْنَا بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ، أصحاب الشرائع المتبعة، فادع الناس إليه، وقوله عز وجل:{وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} أَيْ وَاسْتَقِمْ أَنْتَ وَمَنِ اتبعك على عبادة الله تعالى، كما أمركم الله عز وجل. وقوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ فيه وكذبوه وافتروا من عبادة الأوثان، وقوله
جلَّ وعلا: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} أَيْ صَدَّقْتُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ:{وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أَيْ فِي الْحُكْمِ كما أمرني الله. وقوله جلَّت عظمته {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أَيْ هُوَ الْمَعْبُودُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَنَحْنُ نُقِرُّ بِذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَأَنْتُمْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ اخْتِيَارًا فَلَهُ يَسْجُدُ مَن فِي العالمين طوعاً وإجباراً، وقوله تبارك وتعالى:{لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ، قال سبحانه وتعالى:{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ، وقوله تعالى:{لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا خُصُومَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا مُتَّجَهٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مكية وآية السيف بعد الهجرة، وقوله عز وجل:{اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وَهُوَ الفتاح العليم} . وقوله جلَّ وعلا: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ يَوْمَ الْحِسَابِ.
- 16 - وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
- 17 - اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ
- 18 - يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ
الَّذِينَ يُمَارُونَ فَي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ {وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} أَيْ يُجَادِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِيَصُدُّوهُمْ عَمَّا سَلَكُوهُ مِنْ طَرِيقِ الْهُدَى {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ بَاطِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} أَيْ مِنْهُ {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: جَادَلُوا الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ليصدونهم عَنِ الْهُدَى، وَطَمِعُوا أَنْ تَعُودَ الْجَاهِلِيَّةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالُوا لَهُمْ: دِينُنَا خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ وَأَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَدْ كَذَبُوا في ذلك. ثم قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، {وَالْمِيزَانَ} وَهُوَ العدل والإنصاف، وهذه كقوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} ، وقوله:{أَلَاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تخسروا الميزان} . وقوله تعالى: {وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} فيه ترهيب منها، وتزهيد في الدنيا، وقوله عز وجل:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أَيْ يقولون متى هذا الوعد؟ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا وَاسْتِبْعَادًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ وُقُوعِهَا {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أَيْ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهَا عَامِلُونَ مِنْ أجلها، وقد روي أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ، وَهُوَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَحْوًا مِنْ صَوْتِهِ:«هاؤم» ، فقال له: متى الساعة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَيْحَكَ إِنَّهَا كَائِنَةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» فَقَالَ: حب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم:«أنت مع من أحببت» (أخرجه أصحاب السنن والمسانيد وله طرق تبلغ درجة التواتر كما قال ابن كثير)، فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «الْمَرْءُ مَعَ
من أحب» هذا متواتر، والغرض أنه لم يجبه أنه عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ بَلْ أَمَرَهُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وقوله تعالى:{إِلَاّ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَي السَّاعَةِ} أَيْ يجادلون فِي وُجُودِهَا، وَيَدْفَعُونَ وُقُوعَهَا {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} أَيْ فِي جَهْلٍ بَيِّنٍ، لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ، قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى والأحرى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} .
- 19 - اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ
- 20 - مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ
- 21 - أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- 22 - تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يشاؤون عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي رِزْقِهِ إياهم سواء منهم البر والفاجر، كقوله عز وجل:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ عَلَى الله رِزْقُهَا} الآية، وقوله جلَّ وعلا:{يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} أَيْ لَا يُعْجِزُهُ شيء، ثم قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} أَيْ عَمَلَ الْآخِرَةِ {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أَيْ نُقَوِّيهِ ونعينه على ما هو بصدده، وَنَجْزِيهِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ، {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} أي ومن كان سَعْيُهُ لِيَحْصُلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ له إلى الآخرة هم بالكلية، حرمه الله الآخرة وفاز بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، كقوله تبارك وتعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} ، وفي الحديث:«بشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نصيب» (رواه الثوري عن أبي العالية عن أبي كعب مرفوعاً) وقوله جلَّ وعلا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} أَيْ هُمْ لَا يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَكَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، بَلْ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وتحليل أكل الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْقِمَارِ، إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الضلالات والجهالات الباطلة، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"رَأَيْتُ عَمْرَو بن لحي يجر قصبه (قصبه: أي أمعاءه) فِي النَّارِ"، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَحَدَ مُلُوكِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهُوَ الَّذِي حَمَلَ قُرَيْشًا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أَيْ لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِنْظَارِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ شَدِيدٌ مُوجِعٌ فِي جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ} أَيْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}
أَيِ الَّذِي يَخَافُونَ مِنْهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا محالة، هذا حالهم يوم معادهم {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يشاؤون عِندَ رَبِّهِمْ} فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ أَيْنَ من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خطر على قلب بشر؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي هُوَ الفوز العظيم والنعمة التامة، الشاملة العامة.
- 23 - ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
- 24 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
يَقُولُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ رَوْضَاتِ الحنات، لِعِبَادِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ هَذَا حَاصِلٌ لَهُمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ببشارة الله تعالى لهم به، وقوله عز وجل:{قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هذا البلاغ والنصح مالاً، وإنما أن تذروني أبلغ رسالات ربي، فَلَا تُؤْذُونِي بِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ، روى البخاري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ:«إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ من القرابة» (أخرجه البخاري، وبقول ابن عباس قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي). وروى الحافظ الطبراني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي نَفْسِي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم» (أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس). وروى الإمام أحمد، عن مجاهد، عن ابن عباس:«لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ والهدى أجراً إلا أن توادوا الله تعالى، وأن تقربوا إليه بطاعته» ، وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِقَوْلٍ ثَانٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أَيْ إِلَّا أَنْ تَعْمَلُوا بِالطَّاعَةِ الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى، وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري عن سعيد بن جبير أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَوَدُّونِي فِي قرابتي، أي تحسنوا إليهم وتبروهم، قال السدي: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أَسِيرًا، فَأُقِيمَ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قتلكم، وأستأصلكم، وقطع قرن الفتنة، فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَقَرَأْتَ آلَ حم؟ قَالَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ وَلَمْ أَقْرَأْ آلَ حم، قَالَ: مَا قَرَأْتَ: {قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ؟ قَالَ: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم" (ذكره ابن جرير وعلى هذا القول المراد بالقربى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
الله عنهما، كما رواه عنه البخاري، ولا ننكر الوصية بِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةٍ طَاهِرَةٍ، مِنْ أَشْرَفِ بَيْتٍ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَخْرًا وَحَسَبًا وَنَسَبًا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِغَدِيرِ خُمٍّ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي، وَإِنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عليَّ الحوض» ، وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه: وَاللَّهِ لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إليَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ رضي الله عنهما: وَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إليَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، لَأَنَّ إسلامك كان أَحَبَّ إليَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. وروى الإمام أحمد، عن يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا والحصين بْنُ مَيْسَرَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ وَغَزَوْتَ مَعَهُ وصلَّيت مَعَهُ. لَقَدْ رَأَيْتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لقد كبر سِنِّي، وَقَدِمَ عَهْدِي، وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا لَا فَلَا تكلفونيه، ثم قال رضي الله عنه: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا خَطِيبًا فِينَا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ، ثم قال صلى الله عليه وسلم:«أما بعد أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثقلين، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا بِهِ» فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ. وقال صلى الله عليه وسلم: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» ، فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساؤه لسن من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم عليه الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس رضي الله عنهم، قال: كل هؤلاء حَرَّمَ الله عَلَيهِ الصدقة؟ قال: نعم" (أخرجه أحمد ومسلم والنسائي). وروى الترمذي، عن زيد بن أبي أرقم رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ عِتْرَتِي أهل بيتي ولن يفترقا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فيهما" (أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب). وروى الترمذي أيضاً، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بيتي» (أخرجه الترمذي أيضاً وقال: حسن غريب).
وقوله عز وجل: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} أَيْ وَمَنْ يَعْمَلُ حَسَنَةً {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} أي أجراً وثواباً، كقوله تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أجراً عظيماً} ، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} ، أَيْ يَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَيُكَثِّرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، فَيَسْتُرُ ويغفر ويضاعف فيشكر، وقوله جلَّ وعلا:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ يختم على قبلك} أَيْ لَوِ افْتَرَيْتَ
عَلَيْهِ كَذِبًا كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ {يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} ويسلبك ما كان آتاك من القرآن، كقوله جل جلاله:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لقطعنا عنه الوتين * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ عاجزين} ، أَيْ لَانْتَقَمْنَا مِنْهُ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْجِزَ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ جلَّت عظمته:{وَيَمْحُ الله الباطل} مرفوع على الابتداء وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الْإِمَامِ كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ، وقوله عز وجل {وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي يحققه ويثبته وَيُوَضِّحُهُ {بِكَلِمَاتِهِ} أَيْ بِحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ بِمَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وَتَنْطَوِي عليه السرائر.
- 25 - وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
- 26 - وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
- 27 - وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ
- 28 - وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ
يَقُولُ تَعَالَى ممتناً على عباده بقبول توبتهم إِذَا تَابُوا وَرَجَعُوا إِلَيْهِ، أَنَّهُ مِنْ كَرَمِهِ وحلمه يعفو ويصفح، ويستر ويغفر، كقوله عز وجل:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لَلّهُ تعالى أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ من أحدكم كانت راحلته بأرض الفلاة، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مَن شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"، وقوله عز وجل:{وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} أَيْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ فِي الْمَاضِي، {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا فَعَلْتُمْ وَصَنَعْتُمْ وَقُلْتُمْ، وَمَعَ هَذَا يَتُوبُ عَلَى من تاب إليه، وقوله تَعَالَى:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قَالَ السدي: يعني يستجيب لهم، أي الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم، {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ فوق ذلك، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الكِنْدي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} قيل: الشَّفَاعَةُ
لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ مِمَّنْ صَنَعَ إليهم معروفاً في الدنيا" وقال إبراهيم النخعي في قوله عز وجل: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قَالَ: يُشَفَّعُونَ فِي إِخْوَانِهِمْ، {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} قَالَ: يُشَفَّعُونَ في إخوان إخوانهم، وقوله عز وجل:{وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَمَا لَهُمْ عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الْمُوجِعِ الْمُؤْلِمِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَحِسَابِهِمْ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَوْ أَعْطَاهُمْ فَوْقَ حَاجَتِهِمْ مِنَ الرِّزْقِ لَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ، مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَشَرًا وَبَطَرًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: وكان يُقَالُ خَيْرُ الْعَيْشِ مَا لَا يُلْهِيكَ وَلَا يُطْغِيكَ، وَذَكَرَ قَتَادَةُ حَدِيثَ:«إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ ما يخرج الله تعالى من زَهْرَةَ الحياة الدنيا» ،
وقوله عز وجل: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أَيْ وَلَكِنْ يَرْزُقُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ مَا يَخْتَارُهُ، مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَيُغْنِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى، وَيُفْقِرُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ (المراد بالحديث المروي أي المحكي عن الله عز وجل وهو المشهور بالحديث القدسي):«إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عليه دينه، وإن مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عليه دينه» . وقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} ، أي من يأس النَّاسِ مِنْ نُزُولِ الْمَطَرِ، يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ فِي وقت حاجتهم وفقرهم إليه، كقوله عز وجل:{وَإِنِ كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} ، وقوله جل جلاله:{وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أَيْ يَعُمُّ بِهَا الْوُجُودَ عَلَى أهل ذلك القطر وتلك الناحية، وقال قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قُحِطَ الْمَطَرُ، وَقَنَطَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: مُطِرْتُمْ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ لِخَلْقِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ.
- 29 - وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ
- 30 - وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
- 31 - وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وسلطانه القاهر {خَلْقُ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} ، أَيْ ذَرَأَ فِيهِمَا، أي في السماوات والأرض {مِن دَآبَّةٍ} ، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ وَأَجْنَاسِهِمْ وَأَنْوَاعِهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَهُمْ فِي أَرْجَاءِ أقطار السماوات والأرض، {وَهُوَ} مَعَ هَذَا كُلِّهِ {عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الحق، وقوله عز وجل:{وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي مهما أصابكم فَلَا يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا بَلْ يَعْفُو عَنْهَا، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ}. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ حتى الشوكة يشاكها» . وعن أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعِيَهُ؟ قَالَ، فَسَأَلْنَاهُ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} قال: ما عاقب الله تعالى بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أن يعود في عفوه يوم القيامة" (أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً، ورواه مرفوعاً من وجه آخر). وروى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا
كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقال الحسن البصري في قوله تَعَالَى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ، وَلَا عَثْرَةِ قَدَمٍ، إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ» (أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري مرسلاً). وعن الضَّحَّاكِ قَالَ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَفِظَ الْقُرْآنَ ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ:{وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويعفو عَن كَثِيرٍ} ، ثم قال الضَّحَّاكُ: وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ؟
- 32 - ومن آياته الجوار فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ
- 33 - إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
- 34 - أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ
- 35 - وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ
يَقُولُ تعالى: ومن آيَاتِهِ الدالة على قدرته الباهرة وَسُلْطَانِهِ، تَسْخِيرُهُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ {كالأعلام} أي كالجبال، أي هذه فِي الْبَحْرِ كَالْجِبَالِ فِي الْبَرِّ، {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح} أي التي تسير في البحر بِالسُّفُنِ، لَوْ شَاءَ لَسَكَّنَهَا حَتَّى لَا تَتَحَرَّكَ السفن بل تبقى رَاكِدَةً لَا تَجِيءُ وَلَا تَذْهَبُ، بَلْ وَاقِفَةً {عَلَى ظَهْرِهِ} أَيْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ} أَيْ فِي الشدائد {شَكُورٍ} أي في الرخاء. وقوله عز وجل {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أَيْ وَلَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَ السُّفُنَ وَغَرَّقَهَا، بِذُنُوبِ أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ راكبون فيها، {ويعفو عَن كَثِيرٍ} أَيْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَلَوْ أَخَذَهُمْ بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمْ لِأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ، وقال بعض علماء التفسير {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أَيْ لَوْ شَاءَ لَأَرْسَلَ الرِّيحَ قَوِيَّةً عَاتِيَةً، فَأَخَذَتِ السُّفُنَ وَأَحَالَتْهَا عَنْ سَيْرِهَا الْمُسْتَقِيمِ، فَصَرَفَتْهَا ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَالِ، آبِقَةً لَا تَسِيرُ عَلَى طَرِيقٍ ولا إلى جهة مقصد؛ وهذا القول يَتَضَمَّنُ هَلَاكَهَا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَسَكَّنَ الرِّيحَ فَوَقَفَتْ، أَوْ لَقَوَّاهُ فَشَرَدَتْ وَأَبْقَتْ وَهَلَكَتْ، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُهُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ كَمَا يُرْسِلُ الْمَطَرَ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَلَوْ أَنْزَلَهُ كَثِيرًا جِدًّا لَهَدَمَ الْبُنْيَانَ، أَوْ قَلِيلًا لَمَا أَنْبَتَ الزَّرْعَ وَالثِّمَارَ، حَتَّى إِنَّهُ يُرْسِلُ إِلَى مِثْلِ (بِلَادِ مِصْرَ) سَيْحًا مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى غَيْرِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مَطَرٍ، وَلَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم، وقوله تعالى:{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْ بَأْسِنَا وَنِقْمَتِنَا، فَإِنَّهُمْ مَقْهُورُونَ بِقُدْرَتِنَا.
- 36 - فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
- 37 - وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ
- 38 - وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
- 39 - وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ
يقول تعالى محقراً لشأن الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ النعيم الفاني بقوله تعالى: {فَمَآ أُوتِيتُم مِّن
شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ مَهْمَا حَصَلْتُمْ زجمعتم فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهِيَ دَارٌ دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ زَائِلَةٌ لَا مَحَالَةَ، {وَمَآ عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ وثواب الله تعالى خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ بَاقٍ سَرْمَدِيٌّ، فَلَا تقدموا الفاني على الباقي، ولهذا قال تعالى {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} أَيُّ لِلَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الملاذ في الدنيا {وهم على رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أَيْ لِيُعِينَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ فِي أداء الواجبات وترك المحرمات. ثم قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} أَيْ سَجِيَّتُهُمْ تقتضي الصفح والعفو عن النَّاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ المعتبة: «ما له تربت يمينه» ، وقوله عز وجل:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} أَيِ اتَّبَعُوا رُسُلَهُ وَأَطَاعُوا أَمْرَهُ وَاجْتَنَبُوا زَجْرَهُ، {وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ} وَهِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ عز وجل، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أَيْ لَا يُبْرِمُونَ أَمْرًا حَتَّى يَتَشَاوَرُوا فِيهِ، لِيَتَسَاعَدُوا بِآرَائِهِمْ فِي مِثْلِ الْحُرُوبِ وَمَا جَرَى مجراها، كما قال تبارك وتعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} الآية، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يُشَاوِرُهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا لِيُطَيِّبَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُمْ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} وَذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِ الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ
هُمْ يَنتَصِرُونَ} أَيْ فِيهِمْ قُوَّةُ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين، بَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مَعَ هَذَا إِذَا قَدَرُوا عَفَوْا، كما عَفَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن أؤلئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عَنْ (غَوْرَثِ بْنِ الْحَارِثِ) الَّذِي أَرَادَ الْفَتْكَ به حين اخترط سيفه وهو نائم، وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عَنْ (لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ) الَّذِي سَحَرَهُ عليه السلام، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَا عاتبه مع قدرته عليه؛ والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 40 - وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
- 41 - وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ
- 42 - إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- 43 - وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عزم الأمور
قوله تبارك وتعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وَكَقَوْلِهِ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية فَشَرَعَ الْعَدْلَ وَهُوَ (الْقَصَاصُ) وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ وهو {العفو} كقوله جلَّ وعلا:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له} ، ولهذا قال ههنا:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أَيْ لَا يَضِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا صَحَّ ذلك في الحديث: «وما زاد الله تعالى عبداً بعفو عزاً» وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أَيِ الْمُعْتَدِينَ وَهُوَ المبتدئ بالسيئة، ثم قال جلَّ وعلا:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ فِي الانتصار ممن ظلمهم، روى النسائي، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عليَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ وَهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ إِذَا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عليَّ، فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«دُونَكِ فَانْتَصِرِي» ، فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس فِي فَمِهَا مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ
وجهه" (أخرجه النسائي وابن ماجة واللفظ للنسائي) وروى البزار عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «من دعا على من ظلمه فقد انتصر» (أخرجه البزار والترمذي). وقوله عز وجل: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} أَيْ إِنَّمَا الْحَرَجُ وَالْعَنَتُ {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحق} أي يبدأون النَّاسَ بِالظُّلْمِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْمُسْتَبَّانُ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ شديد موجع، ثم إن الله تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الظُّلْمَ وَأَهْلَهُ وَشَرَّعَ الْقَصَاصَ قَالَ نَادِبًا إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ} أَيْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى وَسَتَرَ السَّيِّئَةَ {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أَيْ لَمِنَ الْأُمُورِ الْمَشْكُورَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ، الَّتِي عليها ثواب جزيل وثناء جميل. وقال الفضيل بن عياض: "إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا فَقُلْ: يَا أَخِي اعْفُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي الْعَفْوَ، وَلَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ عز وجل، فَقُلْ لَهُ: إِنْ كُنْتُ تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ، فَإِنَّهُ بَابٌ وَاسِعٌ، فَإِنَّهُ {مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، وَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وصاحب الانتصار يقلب الأمور" (رواه ابن أبي حاتم من كلام الفضيل رضي الله عنه. وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويبتسم، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ، وَقُمْتَ، قَالَ:«إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ حَضَرَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ» ! ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عنها لله إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إلا زاده الله عز وجل بها قلة"(أخرجه أحمد وأبو داود)، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَعْنَى وهو مناسب للصديق رضي الله عنه.
- 44 - وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ
- 45 - وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِن الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ
- 46 - وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ مَنْ هَدَاهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هادي له، كما قال عز وجل:{وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدًا} ، ثم قال عز وجل مُخْبِرًا عَنِ الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي يوم القيامة تمنوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا، {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} ، كما قال جلَّ
وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ من المؤمنين} ، وقوله عز وجل {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أَيْ عَلَى النَّارِ، {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} أَيِ الَّذِي قَدِ اعْتَرَاهُمْ بِمَا أسلفوا من عصيان الله تعالى {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي ذليل، أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مُسَارِقَةً خَوْفًا مِنْهَا، وَالَّذِي يحذرون منه واقع بهم لا محالة، {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} أَيِ الْخَسَارُ الْأَكْبَرُ، {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ ذَهَبَ بِهِمْ إلا النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم فَخَسِرُوهُمْ، {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أَيْ دَائِمٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ، لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عنها. وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ} أَيْ يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أَيْ لَيْسَ لَهُ خَلَاصٌ.
- 47 - اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ
- 48 - فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ الْبَلَاغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ الْهَائِلَةِ حَذَّرَ مِنْهُ وَأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَقَالَ:{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ، فَإِنَّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ يَكُونُ، وَلَيْسَ لَهُ دَافِعٌ وَلَا مانع، وقوله عز وجل:{مالكم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ ومالكم مِّن نَّكِيرٍ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ حِصْنٌ تَتَحَصَّنُونَ فِيهِ، وَلَا مَكَانٌ يَسْتُرُكُمْ وَتَتَنَكَّرُونَ فِيهِ، فَتَغِيبُونَ عَنْ بَصَرِهِ تبارك وتعالى، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُمْ بِعِلْمِهِ وَبَصَرِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَاّ لَا وَزَرَ * إلى ربك المستقر} ، وقوله تعالى:{فَإِن أَعْرَضُواْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أَيْ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} ، وقال جلَّ وعلا ههنا:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ الْبَلَاغُ} أَيْ إِنَّمَا كَلَّفْنَاكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} أَيْ إِذَا أَصَابَهُ رَخَاءٌ وَنِعْمَةٌ فرح بذلك {وإن يصبهم شيئة} يَعْنِي النَّاسَ {سَيِّئَةٌ} أَيْ جَدْبٌ وَنِقْمَةٌ وَبَلَاءٌ وَشِدَّةٌ، {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} أَيْ يَجْحَدُ مَا تقدم من النعم، وَلَا يَعْرِفُ إِلَّا السَّاعَةَ الرَّاهِنَةَ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ أَشِرَ وَبَطِرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ يَئِسَ وقنط، فالمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا للمؤمن» .
- 49 - للَّهِ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ
- 50 - أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عليم قدير
يخبر تعالى أنه خالق السماوات والأرض، ومالكهما والمتصرف فيهما، وَأَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا منع، وأنه يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً} أي يرزقه البنات فقط {وَيَهَبُ
⦗ص: 283⦘
لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} أَيْ يَرْزُقُهُ الْبَنِينَ فقط، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} أي ويعطي لمن يشاء الزَّوْجَيْنِ (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) أَيْ مِنْ هَذَا وَهَذَا، {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} أَيْ لَا يُولَدُ له، فَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يعطيه من النوعين وذكوراً وَإِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وَهَذَا، فَيَجَعَلُهُ عقيماً لا نسل له ولا ولد، {إِنَّهُ عَلِيمٌ} أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، {قَدِيرٌ} أَيْ عَلَى مَنْ يشآء من تفاوت الناس في ذلك، فَسُبْحَانَ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ.
- 51 - وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
- 52 - وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
- 53 - صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ
هَذِهِ مَقَامَاتُ الْوَحْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَنَابِ الرب جلَّ وعلا، فتارة يَقْذِفُ فِي رَوْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وحياً لَا يَتَمَارَى فِيهِ إِنَّهُ مِن اللَّهِ عز وجل، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَاتَّقَوُا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» ، وقوله تعالى:{أو من ورآء حِجَابٍ} أي كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ بَعْدَ التَّكْلِيمِ فَحُجِبَ عَنْهَا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما:«مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَداً إِلَاّ مَنِ وَرَاءِ حِجَابٍ وَإِنَّهُ كلَّم أَبَاكَ كفاحاً» كذا جاء في الحديث. وكان قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُد وَلَكِنَّ هَذَا فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الدَّارِ الدنيا. وقوله عز وجل:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَّا يَشَآءُ} كَمَآ ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} فَهُوَ عَلِيٌّ عَلِيمٌ، خَبِيرٌ حكيم. وقوله عز وجل:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} أَيْ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي شُرِعَ لَكَ فِي الْقُرْآنِ، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} أَيِ الْقُرْآنَ {نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عمى} الآية، وقوله تعالى:{وَإِنَّكَ} يَا مُحَمَّدُ {لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ الخالق القويم، ثم فسره بقوله تعالى:{صِرَاطِ الله} أَيْ شَرْعُهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللَّهِ، {الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمور} أي ترجع الأمور فيفضلها ويحكم فيها، سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
-
43 - سورة الزخرف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - حم
- 2 - وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ
- 3 - إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
- 4 - وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
- 5 - أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ
- 6 - وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ
- 7 - وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- 8 - فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَيِ البِّين الواضح الجلي، المنزل بلغة أهل العرب التي هي أفصح اللغات، ولهذا قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ} أَيْ أَنْزَلْنَاهُ {قُرْآناً عَرَبِيّاً} أَيْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَصِيحًا وَاضِحًا، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ تفهمونه وتتدبرونه، كما قال عز وجل:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مبين} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} بَيَّنَ شَرَفَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، لِيُشَرِّفَهُ وَيُعَظِّمَهُ وَيُطِيعَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّهُ} أَيِ الْقُرْآنَ {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أَيِ اللوح المحفوظ {لَدَيْنَا} أي عندنا {لَعَلِيٌّ} أَيْ ذُو مَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ، وَشَرَفٍ وَفَضْلٍ {حَكِيمٌ} أَيْ مُحْكَمٌ بَرِيءٌ مِنَ اللَّبْسِ وَالزَّيْغِ، وهكذا كُلُّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا قَالَ تبارك وتعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَا يمسه إلا المطهرون} ، وقال تعالى:{فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كرام بررة} ، ولهذا استنبط العلماء مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَمَسُّ المصحف، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُعَظِّمُونَ الْمَصَاحِفَ، الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَأَهْلُ الْأَرْضِ بِذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى، لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ، وَخِطَابُهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَحَقُّ أَنْ يُقَابِلُوهُ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالِانْقِيَادِ له بالقبول والتسليم، لقوله تَعَالَى:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} ، وقوله عز وجل:{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} ؟ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهَا فَقِيلَ مَعْنَاهَا: أَتَحْسَبُونَ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمْ فَلَا نُعَذِّبَكُمْ، وَلَمْ تفعلوا ما أمرتم به (وهو قول مجاهد والسدي)، قاله ابن عباس واختاره ابن جرير، وقال قتادة: وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ رُفِعَ حِينَ ردته أوائل هذا الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عَلَيْهِمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُ قَتَادَةَ لَطِيفُ الْمَعْنَى جِدًّا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَقُولُ
فِي مَعْنَاهُ: إِنَّهُ تَعَالَى مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الْحَكِيمِ وَهُوَ (الْقُرْآنُ) وَإِنْ كَانُوا مُسْرِفِينَ مُعْرِضِينَ عنه، بل أمر ليهتدي به مَنْ قَدَّرَ هِدَايَتَهُ، وَتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ كتب شقاوته، ثم قال جلَّ وعلا مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَكْذِيبِ مَنْ كذبه من قومه {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} أَيْ فِي شِيَع الْأَوَّلِينَ {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ يُكَذِّبُونَهُ وَيَسْخَرُونَ به، {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أَيْ فَأَهْلَكْنَا الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ بَطْشًا مِنْ هَؤُلَاءِ المكذبين لك يا محمد، كقوله عز وجل:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وأشد قوة} ، والآيات في ذلك كثيرة جداً. وقوله جل جلاله {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سُنَّتُهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عُقُوبَتُهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: عِبْرَتُهُمْ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أَنْ يُصِيبَهُمْ ما أصابهم، كقوله تعالى:{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين} ، وكقوله جلَّت عظمته:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} ، وقوله:{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} .
- 9 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ
- 10 - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
- 11 - وَالَّذِي نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ - 12 - وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ
- 13 - لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
- 14 - وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ العابدين معه غيره {مَّنْ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أَيْ لَيَعْتَرِفُنَّ بأن الخالق لذلك هو الله وحده، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِنَ الأصنام والأنداد، ثم قال تعالى:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} أَيْ فِرَاشًا قراراً ثابتة، تسيرون عليها وتقومون وتنامون، مَعَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ، لَكِنَّهُ أرساها بالجبال لئلا تميد، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أَيْ طُرُقًا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أَيْ فِي سَيْرِكُمْ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَقُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، {وَالَّذِي نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أَيْ بِحَسَبِ الْكِفَايَةِ لِزُرُوعِكُمْ وَثِمَارِكُمْ، وَشُرْبِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أَيْ أَرْضًا مَيْتَةً، فَلَمَّا جَاءَهَا الْمَاءُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كل زوج بهيج، ثم نَّبه تعالى بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَقَالَ:{كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} . ثُمَّ قَالَ عز وجل: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أَيْ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ، مِنْ نَبَاتٍ وَزُرُوعٍ وثمار وغير ذلك، وَمَن الْحَيَوَانَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا، وَأَصْنَافِهَا، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ} أَيِ السُّفُنِ {وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أَيْ ذَلَّلَهَا لَكُمْ وسخَّرها وَيَسَّرَهَا، لِأَكْلِكُمْ لُحُومَهَا وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها، ولهذا قال جلَّ وعلا {لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ} أَيْ لِتَسْتَوُوا مُتَمَكِّنِينَ مُرْتَفِقِينَ {عَلَى ظُهُورِهِ} أَيْ عَلَى ظُهُورِ هَذَا الْجِنْسِ، {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} أَيْ فِيمَا سَخَّرَ لَكُمْ {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أَيْ مُقَاوِمِينَ، وَلَوْلَا تَسْخِيرُ اللَّهِ لَنَا هَذَا ما قدرنا عليه.
قال ابن عباس: {مُقْرِنِينَ} أَيْ مُطِيقِينَ، {وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أَيْ لَصَائِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَمَاتِنَا، وَإِلَيْهِ سَيْرُنَا الْأَكْبَرُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِسَيْرِ الدُّنْيَا عَلَى سَيْرِ الْآخِرَةِ، كَمَا نَبَّهَ بِالزَّادِ الدُّنْيَوِيِّ على الزاد الأخروي في قوله تعالى:{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} وَبِاللِّبَاسِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى الْأُخْرَوِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} .
(ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ)
(حَدِيثُ علي بن أبي طالب): عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه أُتِيَ بِدَابَّةٍ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَيْهَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تعالى ثَلَاثًا وَكَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لي، ثم ضحك، فقلت له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "يعجب الرب تبارك وتعالى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَيَقُولُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غيري"(أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح).
(حديث عبد الله بن عمر): روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ» ، ثُمَّ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِي هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهم هوّن علينا السفر، واطوِ لنا البعد، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أهلنا» . وكان صلى الله عليه وسلم إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ إن شاء الله، عابدون لربنا حامدون» . (أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والإمام أحمد).
- 15 - وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عباده جزء إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ
- 16 - أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ
- 17 - وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
- 18 - أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ
- 19 - وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
- 20 - وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا افْتَرَوْهُ وَكَذَّبُوهُ، فِي جَعْلِهِمْ بَعْضَ الأنعام لطواغيتهم، وبعضها لله تعالى، وكذلك جعلوا له من الأولاد أَخَسَّهُمَا وَأَرْدَأَهُمَا وَهُوَ الْبَنَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} ، وقال جلَّ وعلا ههنا:{وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} ، ثم قال جلَّ وعلا:{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} ؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ تمام الإنكار
فقال جلَّت عظمته: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} أَيْ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ بِمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنَ الْبَنَاتِ، يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ غَايَةَ الْأَنَفَةِ، وَتَعْلُوهُ كَآبَةٌ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ، وَيَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ خَجَلِهِ مِنْ ذَلِكَ، يَقُولُ تبارك وتعالى: فَكَيْفَ تَأْنَفُونَ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَتَنْسُبُونَهُ إِلَى الله عز وجل؟ ثم قال سبحانه وتعالى:{أو من يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أَيِ الْمَرْأَةُ نَاقِصَةٌ يَكْمُلُ نَقْصُهَا بِلُبْسِ الحلي، منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فهي عاجزة عَييِّة، أَوَ من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم؟ فَالْأُنْثَى نَاقِصَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، فيكمل نقص مظاهرها وصورتها بلبس الحلي، لِيُجْبَرَ مَا فِيهَا مِنْ نَقْصٍ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ:
وَمَا الْحَلْيُ إِلَّا زِينَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ * يتمِّم مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرا
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّراً * كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوّرا
وَأَمَّا نَقْصُ معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ وَقَدْ بُشِّرَ بِبِنْتٍ:«ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة» . وقوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} أَيِ اعْتَقَدُوا فِيهِمْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَعَالَى قَوْلَهُمْ ذَلِكَ فَقَالَ: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} ؟ أَيْ شَاهَدُوهُ وَقَدْ خَلَقَهُمُ اللَّهُ إِنَاثًا؟ {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} أَيْ بِذَلِكَ {وَيُسْأَلُونَ} عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أَيْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، الَّتِي هي على صور الملائكة بنات الله، فإنه عالم بذلك وهو يقرنا عَلَيْهِ. فَجَمَعُوا بَيْنَ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْخَطَأِ:(أحدهما): جعلهم لله تعالى وَلَدًا، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، (الثَّانِي): دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، فَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً، (الثَّالِثُ): عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الآراء والأهواء، والتقليد للأسراف والكبراء، والخبط في الجاهلية الجهلاء، (الرابع): احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدراً، وَقَدْ جَهِلُوا فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ جَهْلًا كَبِيرًا، فَإِنَّهُ مُنْذُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ يَأْمُرُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَنْهَى عَنْ عبادة ما سواه، قال تَعَالَى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ؟ وقال جلَّ وعلا في هذه الآية: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِّنْ عِلْمٍ} أَيْ بِصِحَّةِ مَا قَالُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ {إِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} أي يكذبون ويتقولون، وقال مجاهد: يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك.
- 21 - أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ
- 22 - بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ
- 23 - وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ
- 24 - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
- 25 - فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِن
قَبْلِهِ} أَيْ مِنْ قبل شركهم، {فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} أي ليس الأمر كذلك، كقوله عز وجل {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يشركون} أي لم يكن ذلك، ثم قال تعالى:{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، سِوَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى {أُمَّةٍ} والمراد بها الدين ههنا، وفي قوله تبارك وتعالى:{أن هذه أُمتكم أُمّة واحدة} ، وقولهم {وَإِنَّا على آثَارِهِم} أي وراءهم {مُّهْتَدُونَ} دَعْوَى مِنْهُمْ بِلَا دَلِيلٍ. ثُمَّ بَيَّنَ جلَّ وعلا أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَيْهَا أَشْبَاهُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فَقَالُوا مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مجنون} وهكذا قال ههنا:{وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إننا وجدنا آبائنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} . ثُمَّ قال عز وجل {قُلْ} أي يا محمد لهؤلاء المشركين {أو لو جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أَيْ وَلَوْ عَلِمُوا وَتَيَقَّنُوا صِحَّةَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ لَمَا انقادوا لذلك لسوء قَصْدِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِأَنْوَاعٍ من العذاب كما فصله تبارك وتعالى فِي قَصَصِهِمْ {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أَيْ كَيْفَ بَادُوا وَهَلَكُوا، وَكَيْفَ نَّجى اللَّهُ المؤمنين.
- 26 - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ
- 27 - إِلَاّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ
- 28 - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- 29 - بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ
- 30 - وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ
- 31 - وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
- 32 - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
- 33 - وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ
- 34 - وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ
- 35 - وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِي تَنْتَسِبُ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي نَسَبِهَا ومذهبها، وأنه تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ فَقَالَ:{إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَاّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي هذه الكلمة وَهِيَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أَيْ جَعَلَهَا دَائِمَةً فِي ذُرِّيَّتِهِ، يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا مَنْ هداه الله تعالى، من ذرية أبراهيم عليه الصلاة والسلام {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي إليها، قال عكرمة ومجاهد {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} يَعْنِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ من يقولها، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إلى ما قاله الجماعة، ثم قال جلَّ وعلا:{بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء} يعني المشركين {وَآبَآءَهُمْ} فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فِي ضَلَالِهِمْ {حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} أَيْ بَيِّنُ الرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ. {وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا