المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 79 - سورة النازعات - مختصر تفسير ابن كثير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

فهرس الكتاب

- ‌ 8 - سورة الأنفال

- ‌ 9 - سورة التوبة

- ‌ 10 - سورة يونس

- ‌ 11 - سورة هود

- ‌ 12 - سورة يوسف

- ‌ 13 - سورة الرعد

- ‌ 14 - سورة إبراهيم

- ‌ 15 - سورة الحجر

- ‌ 16 - سورة النحل

- ‌ 17 - سورة الإسراء

- ‌ 18 - سورة الكهف

- ‌ 19 - سورة مريم

- ‌ 20 - سورة طه

- ‌ 21 - سورة الأنبياء

- ‌ 22 - سورة الحج

- ‌ 23 - سورة المؤمنون

- ‌ 24 - سورة النور

- ‌ 25 - سورة الفرقان

- ‌ 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة)

- ‌ 27 - سورة النمل

- ‌ 28 - سورة القصص

- ‌ 29 - سورة العنكبوت

- ‌ 30 - سورة الروم

- ‌ 31 - سورة لقمان

- ‌ 32 - سورة السجدة

- ‌ 33 - سورة الأحزاب

- ‌ 34 - سورة سبأ

- ‌ 35 - سورة فاطر

- ‌ 36 - سورة يس

- ‌ 37 - سورة الصافات

- ‌ 38 - سورة ص

- ‌ 39 - سورة الزمر

- ‌ 40 - سورة غافر

- ‌ 41 - سورة فصلت

- ‌ 42 - سورة الشورى

- ‌ 43 - سورة الزخرف

- ‌ 44 - سورة الدخان

- ‌ 45 - سورة الجاثية

- ‌ 46 - سورة الأحقاف

- ‌ 47 - سورة محمد

- ‌ 48 - سورة الفتح

- ‌ 49 - سورة الحجرات

- ‌ 50 - سورة ق

- ‌ 51 - سورة الذاريات

- ‌ 52 - سورة الطور

- ‌ 53 - سورة النجم

- ‌ 54 - سورة القمر

- ‌ 55 - سورة الرحمن

- ‌ 56 - سورة الواقعة

- ‌ 57 - سورة الحديد

- ‌ 58 - سورة المجادلة

- ‌ 59 - سورة الحشر

- ‌ 60 - سورة الممتحنة

- ‌ 61 - سورة الصف

- ‌ 62 - سورة الجمعة

- ‌ 63 - سورة المنافقون

- ‌ 64 - سورة التغابن

- ‌ 65 - سورة الطلاق

- ‌ 66 - سورة التحريم

- ‌ 67 - سورة الملك

- ‌ 68 - سورة القلم

- ‌ 69 - سورة الحاقة

- ‌ 70 - سورة المعارج

- ‌ 71 - سورة نوح

- ‌ 72 - سورة الجن

- ‌ 73 - سورة المزمل

- ‌ 74 - سورة المدثر

- ‌ 75 - سورة القيامة

- ‌ 76 - سورة الإنسان

- ‌ 77 - سورة المرسلات

- ‌ 78 - سورة النبأ

- ‌ 79 - سورة النازعات

- ‌ 80 - سورة عبس

- ‌ 81 - سورة التكوير

- ‌ 82 - سورة الانفطار

- ‌ 83 - سورة المطففين

- ‌ 84 - سورة الانشقاق

- ‌ 85 - سورة البروج

- ‌ 86 - سورة الطارق

- ‌ 87 - سورة الأعلى

- ‌ 88 - سورة الغاشية

- ‌ 89 - سورة الفجر

- ‌ 90 - سورة البلد

- ‌ 91 - سورة الشمس

- ‌ 92 - سورة الليل

- ‌ 93 - سورة الضحى

- ‌ 94 - سورة الشرح

- ‌ 95 - سورة التين

- ‌ 96 - سورة العلق

- ‌ 97 - سورة القدر

- ‌ 98 - سورة البينة

- ‌ 99 - سورة الزلزلة

- ‌ 100 - سورة العاديات

- ‌ 101 - سورة القارعة

- ‌ 102 - سورة التكاثر

- ‌ 103 - سورة العصر

- ‌ 104 - سورة الهمزة

- ‌ 105 - سورة الفيل

- ‌ 106 - سورة قريش

- ‌ 107 - سورة الماعون

- ‌ 108 - سورة الكوثر

- ‌ 109 - سورة الكافرون

- ‌ 110 - سورة النصر

- ‌ 111 - سورة المسد

- ‌ 112 - سورة الإخلاص

- ‌ 113 - سورة الفلق

- ‌ 114 - سورة الناس

الفصل: ‌ 79 - سورة النازعات

وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَضْحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ: «أَتُدْرُونَ ممَّ أَضْحَكُ؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"مِنْ مُجَادَلَةِ العبد ربه، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: لَا أُجِيزُ عليَّ شَاهِدًا إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ عَلَيْكَ شُهُودًا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لكنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ"(ورواه مسلم والنسائي). وَقَالَ قَتَادَةُ: ابْنَ آدَمَ، وَاللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ لَشُهُودًا غَيْرَ مُتَّهَمَةٍ مِنْ بَدَنِكَ فَرَاقِبْهُمْ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عليه خافية، الظُلمة عِنْدَهُ ضَوْءٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ بِاللَّهِ حَسَنُ الظَّنِّ فَلْيَفْعَلْ ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} ، قَالَ ابْنُ عباس {دِينَهُمُ}: أَيْ حِسَابَهُمْ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ:{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أَيْ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَحِسَابُهُ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا جَوْرَ فِيهِ.

ص: 595

- 26 - الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ للطيبات أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلْخَبِيثِينِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ الْقَوْلِ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالطَّيِّبُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلطَّيِّبَاتِ مِنَ الْقَوْلِ، قَالَ: وَنَزَلَتْ في عائشة وأهل الإفك (وبه قال مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ البصري)، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْقَبِيحَ أَوْلَى بِأَهْلِ الْقُبْحِ مِنَ النَّاسِ، وَالْكَلَامَ الطَّيِّبَ أَوْلَى بِالطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ، فَمَا نَسَبَهُ أَهْلُ النفاق إلى عائشة من كلام هُمْ أَوْلَى بِهِ، وَهِيَ أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ وَالنَّزَاهَةِ منهم! ولهذا قال تعالى:{أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ} . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخِبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ النِّسَاءِ؛ وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالطَّيِّبُونَ من الرجال للطيبات من النساء؛ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَائِشَةَ زَوْجَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَهِيَ طَيِّبَةٌ لِأَنَّهُ أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ طَيِّبٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَوْ كَانَتْ خَبِيثَةً لَمَا صَلَحَتْ لَهُ لَا شَرْعًا وَلَا قَدَرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تعالى:{أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ} أَيْ هُمْ بُعَدَاءُ عَمَّا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِفْكِ وَالْعُدْوَانِ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أَيْ بِسَبَبِ مَا قِيلَ فِيهِمْ مِنَ الْكَذِبِ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أَيْ عِنْدَ اللَّهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَفِيهِ وعد بأن تكون زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الجنة.

ص: 595

- 27 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

- 28 - فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

- 29 - لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وما تكتمون

ص: 595

هَذِهِ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ أَدَّبَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ المؤمنين، أمرهم أن لا يَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى (يَسْتَأْنِسُوا) أَيْ يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ وَيُسَلِّمُوا بَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يستأذن ثلاث مرات، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا انْصَرَفَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا مُوسَى حِينَ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ انْصَرَفَ، ثم قال عمر: ألم تسمع صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ يَسْتَأْذِنُ؟ ائْذَنُوا لَهُ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ ذَهَبَ، فَلَمَّا جَاءَ بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قَالَ: إِنِّي اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وإني سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فلينصرف» ، فقال عمر:

لتأتيني عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، فَذَهَبَ إِلَى مَلَأٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ لَهُمْ مَا قَالَ عُمَرُ، فَقَالُوا: لَا يَشْهَدُ لَكَ إِلَّا أَصْغَرُنَا، فَقَامَ مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَأَخْبَرَ عُمَرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ. وعن أنَس أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَ عَلَى (سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فَقَالَ سَعْدٌ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُسْمِعْهُ، فَرَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فاتبعه سَعْدٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا سَلَّمْتَ تَسْلِيمَةً إِلَّا وَهِيَ بِأُذُنِي، وَلَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ أُسْمِعْكَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَكْثِرَ مِنْ سَلَامِكِ وَمِنَ الْبَرَكَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْبَيْتَ فَقَرَّبَ إِلَيْهِ زَبِيبًا، فَأَكَلَ نَبِيُّ اللَّهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:«أَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون» (أخرجه أحمد واللفظ له ورواه أبو داود والنسائي بنحوه). ثُمَّ لِيُعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلَى أَهْلِ المنزل أن لا يَقِفَ تِلْقَاءَ الْبَابِ بِوَجْهِهِ، وَلَكِنْ لِيَكُنِ الْبَابُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بشر قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَيَقُولُ:«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» ، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يومئذ ستور. وجاء رجل فَوَقَفَ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب - يعني: مُسْتَقْبَلَ الْبَابِ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَكَذَا عَنْكَ - أَوْ هَكَذَا - فَإِنَّمَا الاستئذان من النظر» (أخرجه أبو داود وقد جاء في بعض الروايات أن الرجل سعد رضي الله عنه.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جناح» ، وعن جَابِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الباب، فقال:«من ذا؟» فقلت: أنا، قال:«أنا أنا» ، كأنه كرهه (أخرجه الجماعة من حديث شعبة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا حَتَّى يُفْصِحَ بِاسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ الَّتِي هُوَ مَشْهُورٌ بِهَا، وَإِلَّا فَكُلُّ أَحَدٍ يعبر عن نفسه بأنا، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان المأمور به في الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الِاسْتِئْنَاسُ الِاسْتِئْذَانُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ واحد. وعن عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَأَلِجُ أَوْ أَنَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَمَةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةُ: «قَوْمِي إِلَى هَذَا فَعَلِّمِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ يَسْتَأْذِنُ، فَقُولِي لَهُ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟» ، فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال: «ادخل» (أخرجه أبو داود). وقال مُجَاهِدٌ: جَاءَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ حَاجَةٍ وَقَدْ آذاه الرمضاء، فأتى فسطاط امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ،

قَالَتِ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ، فَأَعَادَ، فَأَعَادَتْ وَهُوَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ قَالَ: قُولِي

ص: 596

ادخل، قالت ادخل، فدخل. وروى هيثم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا على أمهاتكم وأخواتكم، وقال أَشْعَثُ عَنْ (عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ) إِنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكُونُ فِي مَنْزِلِي عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا أحب أن يراني عليها أحد، لا وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بيوتا} الآية (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يُخْبِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: ثلاث آيات جحد من الناس، قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} قَالَ: وَيَقُولُونَ: إِنَّ أَكْرَمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُهُمْ بيتاً، قال: والأدب كُلُّهُ قَدْ جَحَدَهُ النَّاسُ، قَالَ، قُلْتُ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي أَيْتَامٍ فِي حِجْرِي مَعِي فِي بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت عليه ليرخص لي فأبى، فقال: تُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ، قَالَ: فَرَاجَعْتُهُ أيضاًَ فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تطيع الله؟ قال، قلت: نعم، قال: فاستأذن، وقال طاووس: مَا مِنِ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إليَّ أَنْ أَرَى عورتها مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ قَالَ: وَكَانَ يُشَدِّدُ فِي ذلك. وقال ابن مسعود: عَلَيْكُمُ الْإِذْنُ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ أَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ؟ قَالَ: لَا، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْلِمَهَا بِدُخُولِهِ وَلَا يُفَاجِئَهَا بِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تُحِبُّ أن يراها عليها.

وروى ابن جرير عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حاجة

فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق، كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه (أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناده صحيح). وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الدَّارَ استأنس تكلم ورفع صوته، وقال مُجَاهِدٌ:{حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ} قَالَ: تَنَحْنَحُوا أَوْ تَنَخَّمُوا، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَنَحْنَحَ أَوْ يُحَرِّكَ نَعْلَيْهِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل على أهله طروقاً - وفي رواية - لئلا يتخوفهم، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَهَارًا فَأَنَاخَ بظاهرها وقال:«انتظروا حتى ندخل عَشَاءٌ - يَعْنِي آخِرَ النَّهَارِ - حَتَّى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وتستحد المغيبة» . وقال قتادة في قوله: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} : هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له منهم فَلْيَرْجِعْ، أَمَّا الْأُولَى فَلْيُسْمِعِ الْحَيَّ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنْ شَاءُوا أَذِنُوا وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا؛ وَلَا تقفنَّ عَلَى بَابِ قَوْمٍ رَدُّوكَ عَنْ بَابِهِمْ، فَإِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَلَهُمْ أَشْغَالٌ وَاللَّهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ ابن حيان في الآية: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَقِيَ صَاحِبَهُ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: حُيِّيتَ صَبَاحًا وَحُيِّيتَ مساء، وكان ذَلِكَ تَحِيَّةَ الْقَوْمِ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى صَاحِبِهِ فَلَا يَسْتَأْذِنُ حَتَّى يَقْتَحِمَ وَيَقُولَ: قد دخلت ونحو ذلك، فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مَعَ أَهْلِهِ، فَغَيَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سَتْرٍ وَعِفَّةِ، وَجَعَلَهُ نَقْيًّا نَزِهًا مِنَ الدَّنَسِ وَالْقَذِرِ والدرن. فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا} الآية، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُقَاتِلٌ حَسَنٌ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} يَعْنِي الِاسْتِئْذَانُ، خَيْرٌ لَكُمْ بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، وقوله تعالى:{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَذِنَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْذَنْ، {وَإِن

ص: 597

قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أَيْ إِذَا رَدُّوكُمْ مِنَ الْبَابِ قَبْلَ الْإِذْنِ أَوْ بَعْدَهُ {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أَيْ رُجُوعُكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ: لَقَدْ طَلَبْتُ عُمْرِي كُلَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَا أَدْرَكْتُهَا أَنْ أَسْتَأْذِنَ عَلَى بَعْضِ إِخْوَانِي، فَيَقُولُ لِي: ارجع فأرجع وأنا مغتبط، لقوله تعالى:{وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير في الآية: أَيْ لَا تَقِفُوا عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} الآية، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَذَلِكَ أَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَازَ الدُّخُولِ إِلَى الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إِذَا كَانَ لَهُ متاع فيها بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالْبَيْتِ الْمُعَدِّ لِلضَّيْفِ إِذَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَفَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} ، ثُمَّ نسخ واستثنى، فقال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم: لما نزلت آية الاستئذان قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، وليس فيها سلطان، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ .. } الآية)، وقال آخرون: هي بيوت التجار كالخانات ومنزل الأسفار وبيوت مكة وغير ذلك.

ص: 598

- 30 - قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ

هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عليهم، فلا ينظروا إلاّ لما أباح لهم النظر إليه، وأن يغمضوا أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْمَحَارِمِ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى مَحْرَمٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلْيَصْرِفْ بصره عنه سريعاً، كما روي عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أصرف بصري (أخرجه مسلم ورواه أبو داود والترمذي والنسائي أيضاً). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلِيٍّ: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» (أخرجه أبو داود الترمذي) وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ والنهي عن المنكر» ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ دَاعِيَةً إِلَى فَسَادِ الْقَلْبِ، لذلك أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ، كَمَا أَمَرَ بِحِفْظِ الأبصار التي هي بواعث لذلك، فقال تعالى:{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الآية، وَتَارَةً يَكُونُ بِحِفْظِهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ كَمَا جاء في الحديث:«احفظ عورتك إلا عن زوجتك أَوْ مَا مَلَكَتْ يمينك» (أخرجه أحمد وأصحاب السنن){ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أَيْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَأَنْقَى لِدِينِهِمْ، كَمَا قِيلَ: مَنْ حَفِظَ بَصَرَهُ أَوْرَثَهُ الله نوراً في بصيرته. وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ عبادة يجد حلاوتها» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ النَّظَرَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ مَنْ تَرَكَهُ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حلاوته في قلبه» (أخرجه الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ

ص: 598

-‌

‌ 79 - سورة النازعات

.

ص: 595

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً

- 2 - وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا

- 3 - وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا

- 4 - فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا

- 5 - فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا

- 6 - يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ

- 7 - تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ

- 8 - قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ

- 9 - أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ

- 10 - يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ

- 11 - أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً

- 12 - قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ

- 13 - فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ

- 14 - فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ

{والنازعات غَرْقاً} : الملائكة حِينَ تُنْزَعُ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها، ومنهم مَنْ تَأْخُذُ رُوحَهُ بِسُهُولَةٍ وَكَأَنَّمَا حَلَّتْهُ مِنْ نشاط، وهو قوله:{والناشطات نشطاً} قال ابن عباس وغيره، وعنه {وَالنَّازِعَاتِ}: هِيَ أَنْفُسُ الْكُفَّارِ تُنْزَعُ ثُمَّ تُنْشَطُ ثُمَّ تَغْرَقُ فِي النَّارِ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} : الْمَوْتُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} : هِيَ النجوم، والصحيح الأوّل وعليه الأكثرون، أما قوله تعالى:{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ السفن، وقوله تعالى {فالسابقات سَبْقاً}: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، قَالَ الْحَسَنُ: سَبَقَتْ إِلَى الْإِيمَانِ والتصديق، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الخيل في سبيل الله، وقوله تعالى:{فالمدبرات أَمْراً} قال علي ومجاهد: هي الملائكة تُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، يَعْنِي بأمر ربها عز وجل، وقوله تعالى:{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} قَالَ ابْنُ عباس: هما النفختان الأولى والثانية (وهو قول مجاهد والحسن وقتادة والضحّاك وغيرهم)، قال مجاهد: أما الأولى {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} فَكَقَوْلِهِ جلَّت عَظَمَتُهُ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال} ، وأما الثانية وهي الرادفة، كَقَوْلِهِ:{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} ، وفي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ صَلَاتَيْ كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: «إِذًا يكفيك

ص: 595

الله ما أهمك من ديناك وآخرتك» (أخرجه أحمد) رواه أحمد والترمذي، ولفظ الترمذي: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بما فيه» . وقوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فقال ابن عباس: يعني خائفة {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أي أبصار أصحابها وإنما أضيفت إليها للملابسة، أي ذليلة حقيرة مما عانت من الأهوال.

وقوله تعالى: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} يَعْنِي مُشْرِكِي قريش، يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَصِيرِ إِلَى {الْحَافِرَةِ} وَهِيَ الْقُبُورُ (قَالَهُ مُجَاهِدٌ) وَبَعْدَ تَمَزُّقِ أَجْسَادِهِمْ وَتَفَتُّتِ عِظَامِهِمْ وَنَخُورِهَا، وَلِهَذَا قَالُوا:{أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} وقرئ: ناخرة أَيُّ بَالِيَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْعَظَمُ إِذَا بَلِيَ وَدَخَلَتْ الرِّيحُ فِيهِ، {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}. وعن ابن عباس وَقَتَادَةَ: الْحَافِرَةُ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ ابْنُ زيد: الحافرة النار، وما أكثر أسماءها! هِيَ النَّارُ وَالْجَحِيمُ وَسَقَرُ وَجَهَنَّمُ وَالْهَاوِيَةُ وَالْحَافِرَةُ وَلَظَى وَالْحُطَمَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ:{تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَئِنْ أَحْيَانَا اللَّهُ بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ لَنَخْسَرَنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أي فإنما هو من أمر اللَّهِ لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهِ وَلَا تَأْكِيدَ فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ تَعَالَى إِسْرَافِيلَ فَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ الْبَعْثِ، فَإِذَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ عز وجل ينظرون، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً} ، وقال تعالى:{وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَاّ كلمح بالبصر} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هو أقرب} قال مجاهد: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} صحية واحدة، وأشد ما يكون الرب عز وجل غضباً على خلقه يوم يبعثهم، قال الحسن البصري: زجرة من الغضب، وقوله تعالى:{فَإِذَا هُم بالساهرة} قال ابن عباس: الساهرة الأرض كلها، وقال عكرمة والحسن: الساهرة وجه الأرض، قال مجاهد: كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ {فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} قَالَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ عَفْرَاءُ خَالِيَةٌ كَالْخُبْزَةِ النّقي (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس:{فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} يقول اللَّهِ عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار} ، ويقول تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لَاّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} ، ويقول تَعَالَى:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ، وَهِيَ أَرْضٌ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ وَلِمَ يهرق عليها دم.

ص: 596

- 15 - هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى

- 16 - إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد الْمُقَدَّسِ طُوًى

- 17 - اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى

- 18 - فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى

- 19 - وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى

- 20 - فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى

- 21 - فَكَذَّبَ وَعَصَى

- 22 - ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى

- 23 - فَحَشَرَ فَنَادَى

- 24 - فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى

- 25 - فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى

- 26 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى

ص: 596

يُخْبِرُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى عليه السلام، أَنَّهُ ابتعثه إلى فرعون وأيده الله بِالْمُعْجِزَاتِ، وَمَعَ هَذَا اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ حَتَّى أَخَذَهُ اللَّهُ أَخَذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَكَذَلِكَ عاقبة من خالفك يا محمد وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى} ، فقوله تعالى:{هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} أَيْ هَلْ سَمِعْتَ بِخَبَرِهِ {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} أَيْ كَلَّمَهُ نِدَاءٍ {بالواد الْمُقَدَّسِ} أَيِ الْمُطَهَّرِ، {طُوًى} وَهُوَ اسْمُ الْوَادِي على الصحيح، فَقَالَ لَهُ:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أَيْ تَجَبَّرَ وَتَمَرَّدَ وَعَتَا، {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} أَيْ قُلْ لَهُ هَلْ لَكَ أَنْ تُجِيبَ إِلَى طَرِيقَةٍ وَمَسْلَكٍ تَزَّكَّى بِهِ أَيْ تُسَلِّمُ وَتُطِيعُ، {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أَيْ أَدُلُّكَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ {فَتَخْشَى} أَيْ فيصير قلبك خاضعاً له مطيعاً خاشعاً، بعد ما كَانَ قَاسِيًا خَبِيثًا بَعِيدًا مِنَ الْخَيْرِ، {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} يَعْنِي فَأَظْهَرَ لَهُ مُوسَى مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْحَقِّ حُجَّةً قَوِيَّةً، وَدَلِيلًا وَاضِحًا على صدق ما جاءه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، {فَكَذَّبَ وَعَصَى} أَيْ فَكَذَّبَ بِالْحَقِّ، وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ جَمْعُهُ السَّحَرَةَ، لِيُقَابِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عليه السلام مِنَ المعجزات الباهرات {فَحَشَرَ فَنَادَى} أَيْ فِي قَوْمِهِ، {فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَالَهَا فِرْعَوْنٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أَيْ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ انْتِقَامًا جَعَلَهُ بِهِ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَمَرِّدِينَ فِي الدُّنْيَا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ المرفود} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} ، وهذا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:{نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ كَلِمَتَاهُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَقِيلَ: كفره وعصيانه، والصحيح الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} أَيْ لِمَنْ يَتَّعِظُ وَيَنْزَجِرُ.

ص: 597

- 27 - أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا

- 28 - رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا

- 29 - وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا

- 30 - وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا

- 31 - أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا

- 32 - وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا

- 33 - مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ

يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي إِعَادَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ بَدْئِهِ {أَأَنتُمْ} أَيُّهَا النَّاسُ {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ} يَعْنِي بَلِ السَّمَاءُ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ من خلق الناس} ، وقوله تعالى:{بَنَاهَا} فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} أَيْ جَعَلَهَا عَالِيَةَ الْبِنَاءِ، بَعِيدَةَ الْفَنَاءِ، مُسْتَوِيَةَ الْأَرْجَاءِ، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء، وقوله تعالى:{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أَيْ جَعَلَ لَيْلَهَا مظلماً أسود حالكاً، ونهارها مضيئاً مشرقاً وَاضِحًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَغْطَشَ لَيْلَهَا أَظْلَمَهُ، {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي أنار نهارها، وقوله تعالى:{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فسره بقوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «حم السَّجْدَةِ» أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ خلق السَّمَاءِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا دُحِيَتْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَ مَا كَانَ فِيهَا بِالْقُوَّةِ إلى الفعل، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {دَحَاهَا} وَدَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَشَقَّقَ فِيهَا الْأَنْهَارَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالسُّبُلَ وَالْآكَامَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرَ ذلك هنالك، وقوله تعالى:{والجبال أَرْسَاهَا} أي قررها وأثبتها في أماكنها، وهو الحكيم العليم، الرؤوف بخلقه الرحيم. وقوله تعالى:{متاعا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي دحا الأرض فأتبع عُيُونَهَا، وَأَظْهَرَ مَكْنُونَهَا، وَأَجْرَى أَنْهَارَهَا، وَأَنْبَتَ زُرُوعَهَا وأشجارها

ص: 597

وَثَبَّتَ جِبَالَهَا لِتَسْتَقِرَّ بِأَهْلِهَا وَيَقَرُّ قَرَارُهَا، كُلُّ ذلك متعاً لِخَلْقِهِ وَلِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْعَامِ، الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَيَرْكَبُونَهَا مُدَّةَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمَدُ وَيَنْقَضِيَ الْأَجَلُ.

ص: 598

- 34 - فَإِذَا جَآءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى

- 35 - يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى

- 36 - وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى

- 37 - فَأَمَّا مَن طَغَى

- 38 - وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا

- 39 - فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى

- 40 - وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى

- 41 - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى

- 42 - يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا

- 43 - فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا

- 44 - إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ

- 45 - إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ مَنْ يَخْشَاهَا

- 46 - كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا

يَقُولُ تَعَالَى: {فَإِذَا جَآءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تطم على كل أمر هائك مُفْظِعٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ، {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} أَيْ حِينَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ابْنُ آدَمَ جَمِيعَ عَمَلِهِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ كما قال تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} أَيْ أَظْهَرَتْ لِلنَّاظِرِينَ فَرَآهَا النَّاسُ عِيَانًا، {فَأَمَّا مَن طَغَى} أَيْ تَمَرَّدَ وَعَتَا، {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ قَدَّمَهَا عَلَى أَمْرِ دِينِهِ وأُخراه، {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} ، أَيْ فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْجَحِيمِ وَإِنَّ مطْعمه مِنَ الزَّقُّومِ وَمَشْرَبَهُ مِنَ الْحَمِيمِ، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أَيْ خَافَ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل، وَخَافَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَنَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا، وَرَدَّهَا إِلَى طَاعَةِ مَوْلَاهَا، {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أَيْ مُنْقَلَبُهُ وَمَصِيرُهُ إِلَى الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ} أَيْ لَيْسَ عِلْمُهَا إِلَيْكَ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، بَلْ مَرَدُّهَا وَمَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ عز وجل، فَهُوَ الذي يعلم وقتها على التعيين {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} ، وقال ههنا:{إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ} ، وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن وقت السَّاعَةُ؟ قَالَ:«مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السائل» ، وقوله تعالى:{إِنَّمَآ أَنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشَاهَا} أَيْ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِتُنْذِرَ النَّاسَ، وَتُحَذِّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وعذابه، فمن خشي الله وخاف مقام ربه وَوَعِيدَهُ اتَّبَعَكَ فَأَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَالْخَيْبَةُ وَالْخَسَارُ عَلَى من كَذَّبك وخالفك، وقوله تَعَالَى:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أَيْ إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى الْمَحْشَرِ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَانَتْ عَشِيَّةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ ضحى من يوم، قال ابن عباس: أَمَّا عَشِيَّةً فَمَا بَيْنَ الظَّهْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، {أَوْ ضُحَاهَا} مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقْتُ الدُّنْيَا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.

ص: 598