الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى قوله تعالى: «وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» تأكيد لهذا البرّ الإنسانى بالمرأة المتوفّى عنها زوجها، إذ جعله الله حقّا للمطلقات عموما، فالمتوفّى عنها زوجها أحق وأولى بهذا البر منهن.
وإذ جعل الإسلام هذا البرّ حقا واجبا للمرأة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها، على الزوج المطلّق، أو على ورثة المتوفى، فإنه لم يكتف بهذا الأمر الملزم، بل استدعى له إنسانية الإنسان كلها، وخاطب فيه جانب المروءة والرجولة، ليكون من ذوى الفضل والإحسان، وذلك ليشد الأمر الديني إلى ضمير الإنسان، وليوقظ له المشاعر الطيبة الرحيمة فيه، حتى يستقبل الأمر الديني، طيب النفس، منشرح الصدر، فيخف عليه أداؤه، والوفاء به على أكمل وجه وأتمه.. فسبحان الحكيم العليم المستولى بحكمته وبعلمه على ما تكن الضمائر وما تخفى الصدور! قوله تعالى:«كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» أي بمثل هذا البيان المبين، يخاطبكم الله بآياته، ويعلمكم آدابه وأحكامه، حتى تكونوا على هدى وبصيرة، لما التقى بعقولكم من هذا العلم الرّبّانى الوضيء.
آية (243)[سورة البقرة (2) : آية 243]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)
التفسير: من هم هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟
تختلف أقوال المفسرين اختلافا كبيرا فى هؤلاء القوم.. وفى الأمة التي ينتسبون إليها، وفى العصر الذي كانوا فيه، وفى الحدث الذي خرجوا من
أجله، وفى المعتقد الذي كانوا يعتقدونه.. إلى غير ذلك من وجوه الأقوال فيهم، والتي لا يجد المرء فيها- مجتمعة أو متفرقة- شيئا يستريح له، ويقف عنده! وندع هذه الأقوال جميعها، لنأخذ بما يقع فى وجداننا، ونحن نتلو الآية الكريمة، وما بعدها من آيات.
فنقول- والله أعلم- إن كلمة «الذين» تجىء أكثر ما تجىء فى القرآن الكريم مرادا بها جنسا خاصا من الناس، مثل: الذين آمنوا، والذين كفروا والذين جاهدوا، والذين صبروا..
1-
فهؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف لا بد أن يكونوا على صفة واحدة، اجتمعوا عليها، وعاشوا فيها.
2-
ثم إنهم من جهة أخرى- قد شملتهم حال واحدة، أحاطت بهم وعرضتهم للموت، فخرجوا من ديارهم طلبا للنجاة من وجه هذا الخطر الجاثم عليهم:«خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ 3- ثم إنهم- من جهة ثالثة- خرجوا بتدبير من عند أنفسهم، وأنهم تركوا ديارهم خفية دون أن يشعر بهم العدو المتربّص بهم، وأنه لو كان هذا الخروج من عمل عدوهم لكان التعبير عن هذا الخروج بلفظ «أخرجوا» لا بلفظ خرجوا كما جاء به الخبر القرآنى! هذه دلالات ثلاث نجدها فى الآية الكريمة.
ونتفرس فى وجوه الأحداث التي كانت تستدعيها الدعوة الإسلامية، وتقيم منها العبرة والعظة للمؤمنين، وفى الجماعة التي كانت مضرب المثل للمؤمنين- فى الخير والشر- فنجد هذه الجماعة هى جماعة بنى إسرائيل
والحدث الذي يعطى هذه الدلالات، هو خروجهم من مصر على يد نبى الله موسى عليه السلام! فالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف إذن، على هذا التفسير- هم بنو إسرائيل.
1-
فهم الذين كانوا جماعة مستقلة بذاتها، متميزة بعاداتها وأوضاعها فى المجتمع المصري.
2-
وهم «الذين» أخذهم فرعون بالبأساء والضراء، وأنزلهم منازل الهون والذلة:«يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» (4: القصص) .
3-
وهم «الذين» خرجوا بليل مستخفين تحت جنح الظلام، دون أن يشعر بهم فرعون وجنوده، إلا بعد أن قطعوا معظم الطريق، جادّين فى الهرب: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ: (23: الدخان) .
والآية القرآنية تقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» .. ولا تحتاج الآية بعد هذا إلى شرح أو تأويل! وتقول الآية بعد ذلك: «فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا.. ثُمَّ أَحْياهُمْ» .
والسؤال هنا: هل كتب الله سبحانه وتعالى على هؤلاء القوم، الموت، بعد أن خرجوا من ديارهم، وهم ألوف، حذر الموت؟
نعم..!
فإنه بعد أن خرج بنو إسرائيل من مصر، وبعد أن رأوا من آيات الله ما رأوا عادوا فكفروا بآيات الله وعبدوا العجل، واتخذوه إلها من دون الله.
فكان أن عاقبهم الله بأن كتب عليهم التيه فى الصحراء أربعين سنة، كما قال الله تعالى:«قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ»
(26: المائدة) .. وهذا موت أدبى ومادىّ معا.. فقد عزلهم الله بهذا التّيه عن الحياة، وعن المجتمع البشرى كله، لا يدرون أين هم فى هذا القبر الكبير الذي أطبق عليهم، وسدّ دونهم منافذ الخروج منه! ثم تقول الآية الكريمة بعد هذا:«ثم أحياهم» أي قال لهم الله موتوا، فماتوا.. ثم أحياهم أي أخرجهم من هذا التيه، وبعثهم من هذا القبر المشتمل عليهم، بعد أن قضوا الأربعين سنة المحكوم عليهم بها.
وتقول الآية فى خاتمتها: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» تنبيها لأولئك الغافلين عن نعم الله وأفضاله، ليقوموا بحق شكرها، بالإخبات لله والحمد له، ولكن أكثر الناس يجحدون بآيات الله ويكفرون بنعمه! وفى قوله تعالى:«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» تشنيع على بنى إسرائيل وإدانة لهم بأنهم استقبلوا نعم الله بالجحد والكفران.. كانوا فى قبضة فرعون أمواتا أو كالأموات فأحياهم الله، إذ خلصهم من عدوهم، ولكنهم كفروا النعمة وجحدوا المنّة فأماتهم الله بالتيه فى الصحراء أربعين سنة، ثم أحياهم إذ أخرجهم من هذا التّيه، فلم يكن منهم إلا الجحود والكفران.
هذا، ومورد الآية الكريمة هنا، أنها تمثل للمسلمين موقفا أشبه بالموقف الذي كانوا يقفونه يومئذ، وأنه إذا كان بنو إسرائيل قد مكروا بآيات الله وجحدوا فضله فليكن المسلمون على حذر من أن يضلوا كما ضل القوم، وأن يقعوا فيما وقعوا فيه! والآية الكريمة نزلت فى سورة البقرة التي كانت أول القرآن نزولا بعد الهجرة.. فهى تذكّر الرسول والمسلمين بأن قوما قبلهم قد خرجوا من ديارهم فرارا بأنفسهم من وجه الظلم والقهر والإذلال، كما خرج النبىّ