الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حسب ما تمليه أحوالهم، وتقتضيه ظروفهم.. يأخذ أحدهم بالأمر اليوم، ثم إذا هو يردّه غدا، ثم يعود إليه، ثم يرده، وهكذا.. وليس من ضابط لهذا إلا المصلحة الخاصّة، والهوى الذاتي.. وهذا من شأنه أن يخزى الإنسان أمام نفسه، إن كان على شىء من الإحساس والشعور، وإلا فهو الخزي الذي ترميه به العيون الراصدة، لتقلّبه مع كل ريح.. وهذا هو أصل النفاق، ذلك الداء المتمكن فى اليهود، إنهم يتحركون دائما مع الريح المواتية لأهوائهم، المشبعة لنهمهم، دون التزام بمبدأ أو خلق، ودون رعاية لشريعة أو دين!
(الآيات: 87- 90)[سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 90]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)
التفسير: قصة بنى إسرائيل مع رسل الله، تكشف عن العناد الصبيانى الذي تنطوى عليه طبيعة القوم، فهم مع كل رسول مكرة معاندون،
لا يجمعهم إليه رحم، ولا يمسك بهم معه إيمان.. فما لقى منهم أنبياؤهم إلا البهت والتكذيب، أو التطاول بالأذى والقتل..
ومن أساليبهم الخبيثة فى قطع الوسائل بينهم وبين حملة الهدى إليهم من أنبيائهم، أنهم إذا أعيتهم الحيل فيهم، وفضحتهم الحجج معهم، وضاقت عليهم سبل الإفلات من الآيات المشرقة التي تطلع عليهم من كل أفق- لا يتحرجون من أن يلصقوا بأنفسهم التّهم ويقولون فيما يقولون:
«قُلُوبُنا غُلْفٌ» !!.
هكذا هم حقّا، ولكن القوم يقولونها بألسنتهم لا عن اعتراف بالحق، ولا عن شجاعة فى كشف عيوب النفس بغية إصلاحها، ولكن يقولون ذلك تخابثا واحتيالا، ليتخلصوا من يد الحق المستولية عليهم، ولهذا كان ردّ الله زاجرا قاتلا:«بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» أي أنهم واقعون تحت لعنة الله، فإذا آمن أحدهم فلا يخالط الإيمان كيانه، وإنما يلمّ به إلماما، وقد أشرنا إلى هذا فى تفسير قوله تعالى:«ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» !.
إن الحق عند القوم ليس حقّا لأنه حق فى ذاته، وإنما يكون حقّا يأخذون به، ويلتزمونه، إذا هو حقق لهم نفعا عاجلا، وكسبا ذاتيا، وإلا فهو باطل الأباطيل، يسلقونه بألسنتهم، ويرمونه بأيديهم.. هكذا هم فى قديمهم، وكذلك هم فى حديثهم!.
كان علمهم من التوراة يحدثهم بأن نبيا سيظهر فى العرب، وأن الله قد أخذ على الأنبياء، وعلى أتباع الأنبياء، الميثاق أن يكونوا مع هذا النبىّ إذا ظهر، وجاءهم بكتاب مصدق لما معهم.. وقد تحدّث اليهود إلى العرب بهذا، وبأنهم سينتصرون لهذا النبىّ ويكونون معه وبه قوة على العرب
المشركين.. فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وبدأ دعوته بعشيرته الأقربين امتثالا لقوله تعالى «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (214: الشعراء) وحين سبق إلى الإيمان به نفر من قومه، تردد اليهود وتوقفوا، ثم لما أن سبقهم الأنصار من الأوس والخزرج إلى الإيمان، تنمّروا وتنكروا، وأخذوا يمكرون بالدعوة الإسلامية، ويظاهرون مشركى قريش عليها، إذ أن سبق من سبق من المهاجرين والأنصار قد فوّت عليهم الاستيلاء على الدّعوة وحجزها فى محيطهم وحدهم دون الناس، لأنهم يريدون أن يستولوا على كل شىء، ويستأثروا بكل شىء، فإن كان أمر لأحد معهم فيه نصيب أعلنوا الحرب عليه، وحاولوا إفساده بكل سبيل، حتى لا ينتفع به!.
ولهذا تشوه دعوة الإسلام فى أعينهم ويتحول الحق الذي عرفوه إلى باطل، يأتمرون به ويحاربونه، سرا وجهرا.
وقد سجّل الله سبحانه وتعالى عليهم هذا الموقف اللئيم فى قوله سبحانه:
إن الحسد ليأكل صدورهم، وإن الشّره ليعمى أبصارهم، حتى إنهم ليهلكون أنفسهم، ويحرمونها موارد الخير، لأن غيرهم قد سبقهم إلى هذا الخير ونال منه. وهو خير لا ينفد أبدا، يسع الناس جميعا، ومع هذا فهم يريدونه خالصا لهم من دون الناس، لا ينال أحد شيئا منه.. وقد غضب الله عليهم غضبا بعد غضب، غضب عليهم أولا، لأنهم عرفوا الحق ولم ينصروه، بل خذلوه ومكروا به وحاربوه.. وغضب عليهم ثانيا، لأنهم نقضوا الميثاق