الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن القوم لعلى ما هم عليه من فساد طوية واعتلال نية.. فخرجوا عن أمر نبيهم، وشربوا من النهر وعبّوا، إلا قليلا منهم ممن عافاه الله من هذه المحنة، فتجنّب النهر ولم يشرب منه! وقد اعتزل طالوت أولئك الذين شربوا، وخلص بالذين لم يشربوا أو اغترفوا غرفة بأيديهم.. وحين رأى القوم عدوّهم يقودهم قائدهم الجبار «جالوت» فزعوا واضطربوا وقالوا:«لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» ولكن قلة قليلة منهم ممن آمن بالله، ووثق بما أعده فى الآخرة لعباده المؤمنين، فآثروا الآخرة على الدنيا، وزهدوا بما فى أيديهم طمعا بما فى يد الله- هؤلاء لم يلتفوا إلى ماوراءهم من أهل وولد ومال، ولم يخفهم الموت الراصد لهم فى يد أعدائهم، فلم يهابوا العدوّ وكثرته وقوته، وأطمعهم هذا الشعور فى عدوّهم، ورأوا أنهم فى قلتهم المؤمنة الصابرة أقوى من عدوّهم الذي لا يؤمن بالله ولا يصبر على المكروه، إلا طمعا فى مغانم الدنيا ومتاعها.. وإذ قال غيرهم:«لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» قالوا هم: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» .
الآيتان: (250- 251)[سورة البقرة (2) : الآيات 250 الى 251]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)
التفسير: تلك عاقبة الصابرين فى مواقع الحق، المجاهدين فى سبيل الله، على بصيرة وهدى، لا يخطئهم النصر أبدا.
وواضح من الآية الكريمة أن داود عليه السلام كان فى هذه الحرب جنديا من جنود طالوت، وأنه ببسالته وشجاعته قد تولى قتل قائد العدو جالوت، وبفعله هذا كان النصر والغلب.. ثم كان من فضل الله على داود بعد هذا أن أتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء من علمه، فألان له الحديد، وعلمه صنعة الدروع للحرب، وجعل لصوته من حسن النغم ما جعل الحياة كلها من حوله تنسجم معه، وتستجيب له، وإذا هى معه صوت واحد، يسبح بحمد الله رب العالمين!! وقوله تعالى:«وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» .
يبيّن أن هذا التدافع بين الناس.. بين الخير والشر.. بين الحق والباطل..
بين الأقوياء والضعفاء.. بين الأغنياء والفقراء.. بين الأفراد والأفراد..
وبين الجماعات والجماعات.. وبين الأمم والأمم- هذا التدافع فى كل موقع من مواقع الحياة، وفى كل متجه فيها، وعلى كل مورد مواردها- هو الذي يحرك دولاب العمل على هذه الأرض، ويبعث الحياة فى كل جانب منها.. ولو كان النّاس متجها واحدا، ومذهبا واحدا، وشعورا واحدا، وتفكيرا واحدا، ومنزعا واحدا- لكانوا شيئا واحدا.. كانوا كتلة باردة متضحمة، أشبه بجبل من الجليد، لا تطلع عليه الشمس أبدا!! فسبحان من خالف بين النّاس فجعل من هذا التخالف مادة الحياة والبناء والعمران، ولولا ذلك لفسدت الأرض وضاع الناس:«وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» .