الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطبناها فقام القسّ عنها
…
يخاطبنا فخلنا القسّ قسّا «1»
وسام بمهرها ثمنا يغالي
…
به في ظنّه فنراه بخسا
314/ومنهم:
28- أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري
«2»
رفض الدنيا وما سلم، وفرض غاياتها فعمل بما علم، وتداوى باليأس من مطامعها وألّم ودارى الناس بترك حظّه لهم ومع هذا ظلم. نفض يديه من الدنيا وساكنها، وخفض لديه قدر محاسنها، وانقطع في بيت كان له بالمعرّة لا يخرج منه إلّا إلى مسجده، ولا ينهج طريقا إلّا إلى تهجّده. وأخذ نفسه بالقناعة حتى صارت جنّة تقيه المطامع، ومنّة تقوّيه على مغالبة الأمل الطامع، وترك أكل لحوم الحيوان وعموم ما يجري مجراها من الأعسال والألبان
ومال في هذا إلى رأي الحكماء وقال بمذهب البراهمة في تجنّب إراقة الدماء. وكان قد طلع عليه وهو في الرابعة من عمره جدري وذهب ببصره، وأفقده نور نظره، فلمّا كبر سمّى نفسه [رهين المحبسين] يعني بهما الدنيا والعمى. وكان أبو العلاء من بيت أطلع جماعة من الفضلاء «1» ، وأقطع بنيه العلاء بأبي العلاء. وكان مطلعا على العلوم لا يخلو في علم من الأخذ بطرف، متبحّرا في اللغة، متّسع النطاق في العربية، جامع الشعوب للطرق الأدبية. ندرة في العلم، وشذرة في بني آدم. ما ولدت مثله الليالي ولا أوجدت شبيهه المعالي. وله من الكتب المصنّفة والدواوين المدّونة ما اشتهر ذكره وظهر من ذلك البحر درّه «2» . وهو عدد لا تعقد جمله ولا يحصى ما أحرزه عمله. عقمت القرائح بأمثالها، وعدمت الجوارح أن تضمّ على مثالها من كلم غريبة المعاني أنفس من العقود، وحكم قريبة الوصول تشقّ القلوب قبل الجلود، وله من بدائع النظم والنثر قمراها ومن روائع العلم والعمل سمراها ومن يانع ما تجني المسامع والأبصار ثمراها، هذا على انقطاع حتى/ 315/عن نفسه وامتناع حتى عن أنسه ونفار حتى من ظلّه، وحذار حتى ممّا يجالسه من فضله مع ما مني به من فقد حاسّة بصره، ورمي به من عدم حامّة معشره وخلّوه ممّن يماثله في بلده ويراسله فيما يأخذ في جدده واطّراحه للمذاكرة وانتزاحه عن المحاضرة، واشتغاله أكثر الأوقات بالفكر في معاده والذّكر لما يحتاج أن يستصحبه من زاده. والتأهب للسفر والتوثب مستوقرا ليكون في أول النّفر إلّا أنّه كان مع هذا مذهبه أن لا يفارق إلّا ونفسه كاملة بالمعارف عاملة على أن لا يفوتها شيء من العوارف، لترقى روحه إلى عالمها وتتلقى بروح القبول في معالمها، ولا تخرج إلّا وهي بالعلوم مرتسمة وللقلوب مبتسمة، فهذا الذي كان يثير عزمه الساكن وعلمه إلى أشرف الأماكن. وكان ممّن أوتي ذكاء تتوقّد زجاجته
وغناء تبلغ به فوق الكفاية حاجته. والناس فيه بين مكفّر ومعتقد له بالولاية وما بين بين هذه الغاية «1» .
واحتجّ الصاحب كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة المعروف بابن العديم «2» رحمه الله له في المآخذ التي أخذت عليه ونفذت بها سهام المؤاخذة إليه، وألّف في هذا تأليفا سمّاه الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعري «3» ، قال فيه «4» : إنّني وقفت على جملة من مصنّفات عالم معرة النعمان أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري فوجدتها مشحونة بالفصاحة والبيان مودعة فنونا من الفوائد الحسان، محتوية على أنواع الأدب مشتملة من علوم العرب على الخالص واللّباب. لا يجد الطامح فيها سقطة ولا يدرك الكاشح فيها غلطة. ولمّا كانت مختصّة/ 316/بهذه الأوصاف متميّزة على غيرها عند أهل الإنصاف قصدوه جماعة لم يعوا عنه وعيه وحسدوه إذ لم ينالوا سعيه، فتتّبعوا كتبه على وجه الانتقاد ووجدوها خالية من الزّيغ والفساد، فحين علموا سلامتها من العيب والشين سلكوا فيها مسلك الكذب والمين. ورموه بالإلحاد والتعطيل والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنه عيوبا وحسناته ذنوبا، وعقله حمقا وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السّهام وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرّفوا كلمه عن
مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه. ولو نظر الطاعن كلامه بعين الرضا وأغمد سيف الحسد من عليه انتضى لأوسع له صدرا وشرح واستحسن ما ذمّ ومدح، لكن جرى الزمان على عاداته في مطالبة أهل الفضل بترّاته وقصدهم بإساءاته، فسلّط عليهم أبناءه وجعلهم أعداءه فقصدوه بالطعن والإساءة واللبيب مقصود والأديب عن بلوغ الغرض مصدود وكلّ ذي نعمة محسود. ومن سلك في الفصاحة مسلكه وأدرك من أنواع العلوم ما أدركه، وقصد في كتبه الغريب وأودعها كلّ معنى غريب كان للطاعّن سبيل إلى عكس معانيها وقلبها وتحريفها عن وجوهها المقصودة وسلبها «1» . ألا ترى إلى كتاب الله العزيز المحتوي على المنع والتجويز الذي لا يقبل التبديل في شيء من صحفه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كيف أحال جماعة من أرباب الأقاويل تأويله إلى غير وجه التأويل فصرفوا تأويله إلى ما أرادوا فما أحسنوا في ذلك ولا أجادوا، فما ظنّك بكلام رجل من البشر ليس بمعصوم إن زلّ أو عثر،/ 317/وقد تعمّق في فصيح الكلام وأتي من اللغات بما لا يتيسّر لغيره ولا يرام، وأودعها في كلامه أحسن إيداع وأبرزها في النظم البديع والأسجاع، وإذا قصده بعض الحساد فحمل كلامه على غير ما أراد، وقد وضع أبو العلاء كتابا وسمه بزجر النابح «2» أبطل فيه طعن المزري عليه والقادح، وبيّن فيه عذره الصحيح وإيمانه الصريح ووجه كلامه الفصيح، ثمّ أتبع ذلك بكتاب وسمه بنجر الزّجر بيّن فيه مواضع طعنوا بها عليه بيان الفجر فلم يمنعهم زجره ولا اتّضح لهم عذره بل تحقّق عندهم كفره، وأصرّوا على ذلك
وداموا وعنّفوا من انتصر له ولاموا، وقعدوا في أمره وقاموا، فلم يرعوا له حرمه ولا أكرموا علمه ولا راقبوا فيه إلّا ولا ذمّه، حتى حكوا كفره بالأسانيد وشدّدوا في ذلك غاية التشديد وكفّره من جاء بعدهم بالتقليد فابتدرت دونه مناضلا وانتصبت عنه مجادلا وانتدبت لمحاسنه ناقلا. وذكرت في هذا الكتاب مولده ونسبه وتحصيله للعلم وطلبه ودينه الصحيح ومذهبه، وورعه الشديد وزهده واجتهاده القويّ وجدّه وطعن القادح عليه وردّه ودفع الظلم عنه وصدّه. انتهى كلام الصاحب كمال الدين ابن العديم في صدر تأليفه، ثمّ أخذ يقصّ أخباره، ويستقصي آثاره، وأنا ذاكر ما حكاه نكتا أختصرها، وأقتصر مما أورده على لطائف ألخّصها بعبارة تحصرها.
أمّا بلده فمعّرة النعمان بها ولد، والصحيح أنّها تنسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري، وكان واليا على حمص وقنسرين في ولاية معاوية، وابنه يزيد. ومات للنعمان بها ولد، وجدّد عمارتها فنسبت إليه. وكانت تسمّى ذات القصور.
وأمّا نسبه فمن تنوخ، وأمّا بيته فسادة لهم/ 318/في الفضل رسوخ غير منسوخ منهم قضاة الأمة والفضلاء الأئمة، والعلماء أصحاب العلوم الجمّة، والأدباء المنطقون بالحكمة، والشعراء الذين اغتصبوا البحر درّه، والفلك نجمه والخطباء أهل الورع والأثبات الذين أحبّوا السّنة، وأماتوا البدع ممّن لا يتسّع التأليف لإحصائهم، وحصر أسمائهم، وإنّما نحن بصدد ذكر أبي العلاء على التخصيص، والإشادة من مجده بما يكاد أن يلحق بشواهد التنصيص.
قرأ القرآن العظيم بالروايات على جماعة من الشيوخ، وتوسّع في اللغة والنحو، ورحل إلى بغداد في طلب العلم، وروى الحديث وخرّج من حديثه سبعة أجزاء رويت عنه، وفي بعض رسائله يقول: وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثّر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم فشاهدت أنفس ما كان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه. وأخذ عنه خلق لا يعلمهم إلّا الله كلّهم قضاة، وأئمة، وخطباء، وأهل تبحّر وديانات، واستفادوا منه،
ولم يذكره أحد منهم بطعن، ولم ينسب حديثه إلى ضعف ولا وهن. وكان له أربعة من الكتّاب المجودين في جرايته وجاريه يكتبون عنه ما يكتبه إلى الناس، وما يمليه من النظم والنثر، والتصانيف، والإجازات، والسماع لمن يسمع منه ويستجيزه، وغير هؤلاء من الكتّاب الذين يغيبون ويحضرون منهم جماعة من بني هاشم «1» ، وله رسالة تعرف برسالة الضّبعين كتبها إلى معزّ الدولة ثمال بن صالح يشكو إليه رجلين كانا يؤلّبان عليه، وقد حرّفا بيتا من لزوم ما لا يلزم قال فيها: وفي حلب حماها الله نسخ من هذا الكتاب بخطوط قوم ثقات يعرفون ببني أبي هاشم أحرار نسكة، أيديهم/ 319/بحبل الورع متمسكة جرت عادتهم أن ينسخوا ما أمليه وإن أحضرت ظهرت الحجّة بما قلت فيه.
واتّفق يوم وصوله إلى بغداد موت الشريف الطاهر يعني أبا أحمد الحسين بن موسى والد الشريفين: الرضي والمرتضى فدخل أبو العلاء إلى عزائه والناس مجتمعون، والمجلس غاص بأهله فتخطّى بعض الناس، فقال له بعضهم ولم يعرفه: إلى أين يا كلب؟ فقال:
الكلب من لا يعرف للكلب كذا وكذا اسما، ثمّ جلس في أخريات المجلس إلى أن قام الشعراء، وأنشدوا فقام أبو العلاء، وأنشد قصيدته التي أوّلها:
أودى فليت الحادثات كفاف
…
مال المسيف وعنبر المستاف
يرثي بها الشريف المذكور فلمّا سمعه ولداه الرضي والمرتضى قاما إليه، ورفعا مجلسه، وقالا له: لعلّك أبو العلاء المعري؟ قال: نعم، فأكرماه واحترماه.
ثم إنّ أبا العلاء بعد ذلك طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائن بغداد فأدخل إليها وجعل لا يقرأ عليه كتاب إلّا حفظ جميع ما يقرأ عليه.
وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة.
وقيل له: بم بلغت هذه الرتبة في العلم؟ فقال: ما سمعت شيئا إلّا حفظته، وما حفظت شيئا فأنسيته.
وحكى عنه تلميذه أبو زكريا التبريزي أنّه كان قاعدا في مسجده بمعّرة النعمان يقرأ عليه شيئا من تصانيفه قال: وكنت قد أتممت عنده سنتين ولم أر أحدا من بلدي، فدخل مغافصة «1» المسجد بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، وتغيّرت من الفرح فقال لي أبو العلاء: ما أصابك؟ فحكيت له أنّي رأيت جارا بعد أن لم ألق أحدا من بلدي منذ سنتين فقال لي: قم وكلّمه، فقلت: حتى أتّمم السّبق «2» . فقال: قم، أنا أنتظرك، فقمت وكلّمته بالأذربيجية شيئا كثيرا، إلى أن سألت عمّا أردت، فلمّا فرغت،/ 320/وقعدت بين يديه قال لي: أيّ لسان هذا؟ قلت لسان أهل أذربيجان، فقال: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أنّي حفظت ما قلتما، ثم أعاد لفظنا بلفظ ما قلنا. فجعل جاري يتعجب غاية التعجّب، ويقول: كيف حفظ شيئا لم يفهمه!
وقال هبة الله بن موسى: كنت أسمع من أخبار أبي العلاء، وما أوتيه من البسطة في علم اللسان ما يكثر تعجّبي منه، فلمّا وصلت المعرة قاصدا الديار المصرية لم أقدّم شيئا على لقائه، فحضرت إليه ومعي أخي، وكنت بصدد أشغال يحتاج إليها المسافر، فلم أسمح بمفارقته والاشتغال بها، فتحدّث معي أخي حديثا باللسان الفارسيّ، فأرشدته إلى ما يعمله فيها، ثمّ غدوت إلى مذاكرة أبي العلاء، فتجاذبنا الحديث، إلى أن ذكرت ما وصف به من سرعة الحفظ وسألته أن يريني من ذلك ما أحكيه عنه، فقال: خذ كتابا من هذه الخزانة القريبة منك فاذكر أوّله، فإنّي أورده عليك حفظا، فقلت كتابك ليس بغريب إن حفظته، قال: قد دار بينك وبين أخيك كلام بالفارسيّة، إن شئت أعدته عليك، قلت: أعده.
فأعاده وما أخلّ والله منه بحرف، ولم يكن يعرف اللّغة الفارسيّة.
وكان لأبي العلاء جار أعجميّ بمعرّة النعمان، فغاب في بعض حوائجه، فحضر رجل غريب أعجميّ مجتاز، قد قدم من بلاد العجم، فطلبه، ولم يمكنه المقام، وهو لا يعرف اللّسان العربيّ. فأشار إليه أبو العلاء أن يذكر حاجته إليه. فجعل يتكلّم بالفارسيّة وأبو
العلاء يصغي إليه، إلى أن فرغ من كلامه وهو لا يفهم ما يقول، ومضى الرجل، وقدم جار أبي العلاء العجميّ الغائب، وحضر عند أبي العلاء، فذكر له حال الرّجل وطلبه له، وجعل يعيد عليه ما قال بالفارسيّة، والرجل يستغيث ويلطم على رأسه، إلى أن فرغ أبو العلاء.
وسئل عن حاله، فأخبرهم أنه أخبر بموت أبيه وإخوته وجماعة/ 321/من أهله. أو كما قال.
ومن ذكائه وحفظه، أنّ جارا له سمّانا كان بينه وبين رجل من أهل المرّة معاملة، فجاءه ذلك الرّجل، ودفع إليه السّمّان رقاعا كتبها إليه يستدعي فيها حوائج له. وكان أبو العلاء في غرفة مشرفة عليهما، فسمع أبو العلاء محاسبة السّمّان له، وأعاد الرّجل الرّقاع إلى السّمّان. ومضى على ذلك أيام، فسمع أبو العلاء ذلك السّمّان وهو يتأوّه ويتململ، فسأله عن حاله، فقال: كنت حاسبت فلانا برقاع كانت له عندى، وقد عدمتها، ولا يحضرني حسابه. فقال: لا عليك، تعال إليّ، فأنا أحفظ حسابكما. وجعل يملي عليه معاملته جميعها وهو يكتبها، إلى أن فرغ وقام. فلم يمض إلا أيام يسيرة، فوجد السّمّان الرقاع وقد جذبتها الفأر إلى زاوية في الحانوت، فقابل بها ما أملاه أبو العلاء، فلم يخط في حرف واحد.
ولمّا دخل إلى بغداد أرادوا امتحانه، فأحضروا دستور الخراج الذي في الديوان، وجعلوا يوردون ذلك عليه مياومة وهو يسمع، إلى أن فرغوا. فابتدأ أبو العلاء، وسرد عليهم كلّ ما أوردوه عليه.
وسمع أهل حلب بذكائه وهو صغير، فسافر جماعة من أكابرهم إلى معرّة النعمان لمشاهدته، وسألوا عنه، فقيل لهم: هو يلعب مع الصبيان، فجاءوا إليه وسلّموا عليه، فردّ عليهم السلام، فقيل له: هؤلاء جماعة من أكابر حلب أتوا لينظروك ويمتحنوك، فقال لهم: هل لكم فى المقافاة «1» بالشّعر؟ فقالوا: نعم. فجعل كلّ واحد منهم
ينشد [بيتا]«1» وهو ينشد على قافيته، حتّى فرغ حفظهم بأجمعهم وقهرهم، فقال لهم:
أعجزتم أن يعمل كلّ واحد منكم بيتا عند الحاجة إليه على القافية التى يريد؟ فقالوا له:
فأفعل أنت ذلك. فجعل كلّما أنشده واحد منهم بيتا أجابه من نظمه على قافيته، حتّى قطعهم كلّهم، فعجبوا منه وانصرفوا.
322/ومرّ في طريقه إلى بغداد وهو راكب على جمل بشجرة، فقيل له: طأطئ رأسك، ففعل. وأقام ببغداد ما شاء الله، فلما عاد اجتاز بذلك الموضع وقد قطعت تلك الشجرة، فطأطأ رأسه، فسئل عن ذلك فقال: ها هنا شجرة. فقيل له: ما ها هنا شئ.
فقال: بلى. فحفروا ذلك الموضع، فوجدوا أصلها.
وقيل لبعض أمراء حلب: إنّ اللغة التى ينقلها أبو العلاء إنّما هى من" الجمهرة"، وعنده منها نسخة ليس في الدنيا مثلها، وأشاروا عليه بطلبها منه، قصدا لأذاه. فسيّر أمير حلب رسولا إلى أبي العلاء يطلبها منه، فأجابه بالسّمع والطاعة، وقال تقيم عندنا أيّاما حتّى تقضي شغلك. ثمّ أمر من يقرأ عليه كتاب الجمهرة، فقرئت عليه حتّى فرغوا من قراءتها، ثم دفعها إلى الرسول [وقال له] «2» : ما قصدت بتعويقك إلا أن أعيدها على خاطرى، خوفا من أن يكون قد ند منها شئ عن خاطري. فعاد الرسول وأخبر أميره بذلك، فقال:
من يكون هذا حاله لا يجوز أن يؤخذ منه هذا الكتاب، وأمر بردّه إليه.
وكان له محلّ عال عند الملوك، يقبلون عليه، ويقبلون شفاعته، ويعظّمون قدره. وله كرم، لو ملك الدنيا لبذلها. وفيه مناقب، نقول ولا نحاشي «3» : إنه كان أكثرها أفضلها.
ومن أشعاره التى سيّر في الأرض مثلها، قوله في النسيب والغزل:[البسيط]
حسّنت نظم كلام توصفين به
…
ومنزلا بك معمورا من الخفر «1»
والحسن يظهر في شيئين رونقه
…
بيت من الشّعر أو بيت من الشّعر
وقوله: [الكامل]
كم قبلة لك في الضّمائر لم أخف
…
فيها الحساب لأنّها لم تكتب «2»
ورسول أحلام إليك بعثته
…
فأتى على يأس بنجح المطلب
323/وقوله: [البسيط]
نكّست قرطيك تعذيبا وما سحرا
…
أخلت قرطيك هاروتا وماروتا «3»
لو قلت ما قاله فرعون مفتريا
…
لخفت أن تنصبي في الأرض طاغوتا
فلست أوّل إنسان أضلّ به
…
إبليس من تخذ الإنسان لاهوتا
منها:
يا عارضا راح تحدوه بوارقه
…
للكرخ سلّمت من غيث ونجّيتا
لنا ببغداد من نهوى تحيّته
…
فإن تحمّلتها عنّا فحييّتا
بت الزمان حبالي من حبالكم
…
أعزز عليّ بكون الوصل مبتوتا
وقوله: [البسيط]
منك الصّدود ومنّي بالصّدود رضا
…
من ذا علي بهذا في هواك قضى «4»
بي منك ما لو غدا بالشّمس ما طلعت
…
من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
إذا الفتى ذمّ دهرا في شبيبته
…
فما يقول إذا عصر الشّباب مضى
وقد تعوّضت عن كل بمشبهه
…
فما وجدت لأيّام الصّبا عوضا
وقوله: [الكامل]
زارت عليها للظّلام رواق
…
ومن النّجوم قلائد ونطاق «1»
والطّوق من لبس الحمام عهدته
…
وظباء وجرة مالها أطواق
وقوله في المديح والفخر: [البسيط]
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم
…
بعد الممات جمال الكتب والسّير «2»
وافقتهم في اختلاف من زمانكم
…
والبدر في الوهن مثل البدر في السّحر
الموقدون بنجد نار بادية
…
لا يحضرون وفقد العزّ في الحضر
إذا همى القطر شبّتها عبيدهم
…
تحت الغمائم للسّارين بالقطر
324/وقوله: [الكامل]
يتهلّلون طلاقة وكلومهم
…
ينهلّ منهنّ النّجيع الأحمر «3»
لا يعرفون سوى التقدّم آسيا
…
فجراحهم بالسّمهريّة تسبر
من كلّ من لولا تسعّر بأسه
…
لا خضّر في يمنى يديه الأسمر
وقوله: [الطويل]
بأىّ لسان ذامني متجاهل
…
علّي وخفق الرّيح فيّ ثناء «4»
تكلّم بالقول المضلّل حاسد
…
وكلّ كلام الحاسدين هراء
أتمشي القوافي تحت غير لوائنا
…
ونحن على قوّالها أمراء
ولا سار في عرض السّماوة بارق
…
وليس له من قومنا خفراء
وقوله: [الطويل]
فإن يك أضحى القول جمّا طيوره
…
فما تستوى عقبانه بحمامه «1»
وإن يك وادينا من الشّعر نبته
…
فغير خفيّ أثله من ثمامه
منها:
إذا افتخر المسك الذّكيّ فإنما
…
يقول افتخارا إنّه من رغامه
غمامان مبيضّان منذ براهما
…
لنا الله لم نحفل ببيض غمامه «2»
وقوله: [الوافر]
لقد شرّفتني ورفعت قدري
…
به وأنلتني الحظّ الرّبيحا «3»
أجل ولو انّ علم الغيب عندي
…
لقلت أفدتني أجلا فسيحا
وقوله فى ذكر النّوق يتخلّص إلى المدح: [الوافر]
سألن فقلت مقصدنا سعيد
…
وكان اسم الامير لهنّ فالا «4»
325/وقوله: [الوافر]
ولو قيل اسألوا شرفا لقلنا
…
يعيش لنا الأمير ولا نزاد «5»
وقوله: [الطويل]
إليك تناهى كلّ فخر وسؤدد
…
فأبل اللّيالي والأنام وجدّد «1»
لجدّك كان المجد ثمّ حويته
…
ولابنك يبنى منه أشرف مقعد
ثلاثة أيام هي الدهر كلّه
…
وما هنّ غير اليوم والأمس والغد
وما البدر إلا نيّر غير أنّه
…
يغيب ويأتي بالضّياء المجدّد
فلا تحسب الأقمار خلقا كثيرة
…
فجملتها من نيّر متردّد
وقوله: [الطويل]
هو الشّهد مجّته الخطوب مرارة
…
وقد نفرت أفواهها لالتهامه «2»
تهاب الأعادي بأسه وهو ساكن
…
كما هيب مسّ الجمر قبل اضطرامه
وقوله: [الطويل]
تعدّ ذنوبي عند قوم كثيرة
…
ولا ذنب لي الّا العلا والفواضل «3»
كأنّي إذا طلت الزّمان وأهله
…
رجعت وعندي للأنام فواضل «4»
وقد سار ذكرى فى البلاد فمن لهم
…
بإخفاء شمس ضوءها متكامل
يهمّ الليالي بعض ما أنا فاعل
…
ويثقل رضوى دون ما أنا حامل
وإنّي وإن كنت الأخير زمانه
…
لآت بما لم تستطعه الأوائل
وأغدو ولو أنّ الصبّاح صوارم
…
وأسري ولو أنّ الظّلام جحافل
وإنّي جواد لم يحلّ لجامه
…
ونضويمان أغفلته الصياقل
وإن كان في لبس الفتى شرف له
…
فما السّيف إلّا غمده والحمائل
ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي
…
على أنّني بين السّماكين نازل
326/لدى موطن يشتاقه كلّ سيّد
…
ويقصر عن إدراكه المتناول
ولمّا رأيت الجهل في الناس فاشيا
…
تجاهلت حتّى ظنّ أنّي جاهل
فواعجبا كم يدّعي الفضل ناقص
…
ووا أسفّا كم يظهر النّقص فاضل
وكيف تنام الطّير في وكناتها
…
وقد نصبت للفرقدين الحبائل
ينافس يومي فيّ أمسي تشرّفا
…
وتحسد أسحاري عليّ الأصائل
فلو بان عضدي ما تأسّف منكبي
…
ولو مات زندي ما بكته الأنامل
إذا وصف الطّائيّ بالبخل مادر
…
وعيّر قسّا بالفهاهة باقل
وقال السّها يا شمس أنت خفيّة
…
وقال الدّجى يا صبح لونك حائل
وطاولت الأرض السّماء سفاهة
…
وفاخرت الشّهب الحصى والجنادل
فياموت زر إنّ الحياة كريهة
…
ويا نفس جدّي إنّ دهرك هازل
وقوله: [الوافر]
لي الشّرف الذي يطأ الثّريا
…
مع الفضل الذي بهر العبادا «1»
وكم عين تؤمّل أن تراني
…
وتفقد عند رؤيتي السّوادا
وقوله: [الطويل]
إذا ما أخفت المرء جنّ مخافة
…
فأيقن أنّ الأرض كفّة حابل «2»
يرى نفسه في ظلّ سيفك واقفا
…
وبينكما بعد المدى المتطاول
يظنّ سنيرا من تفاوت لحظه
…
ولبنان سارا في القنا والقنابل
وقوله: [الطويل]
تخيرّت جهدي لو وجدت خيارا
…
وطرت بعزمي لو أصبت مطارا «1»
جهلت فلمّا لم أر الجهل مغنيا
…
حكمت فأوسعت الزّمان وقارا
327/إلى كم تشكّاني إليّ ركائبي
…
وتوسع عتبي خفية وجهارا
أسير بها تحت المنايا وفوقها
…
فيسقط بي شخص الحمام عثارا
وقوله: [الوافر]
إذا سارتك شهب اللّيل قالت
…
أعان الله أبعدنا مرادا «2»
وإن جارتك هوج الرّيح كانت
…
أكلّ ركائبا وأقلّ زادا
وقوله: [الوافر]
أيدفع معجزات الرّسل قوم
…
وفيك وفي بديهتك اعتبار «3»
كأنّ بيوته الشّهب السّواري
…
وكلّ قصيدة فلك مدار
وقوله يرثي أباه: [الطويل]
نقمت الرّضا حتّى على ضاحك المزن
…
فلا جادني إلّا عبوس من الدّجن «4»
وليت فمي إن شاء سنّي تبسّمي
…
فم الطّعنة النّجلاء تدمي بلا سنّ
منها:
فيا ليت شعري هل يخفّ وقاره
…
إذا صار أحد في القيامة كالعهن
حجا زاده من جرأة وسماحة
…
وبعض الحجا داع إلى البخل والجبن
على أمّ دفر غضبة الله إنّها
…
لأجدر أنثى أن تخون وأن تخني
كعاب دجاها فرعها ونهارها
…
محيّا لها قامت له الشّمس بالحسن
كأنّ بنيها يولدون ومالها
…
حليل فتخشى العار إن سمحت بآبن
منها:
وخوف الرّدى آوى إلى الكهف أهله
…
وكلّف نوحا وابنه عمل السّفن
وما استعذبته روح موسى وآدم
…
وقد وعدا من بعده جنّتي عدن
منها:
أمرّ بربع كنت فيه كأنّما
…
أمرّ من الإكرام بالحجر والرّكن
وإجلال مغناك اجتهاد مقصّر
…
إذا السّيف أودى فالعفاء على الجفن
328/منها:
فليتك في جفني موارى نزاهة
…
بتلك السّجايا عن حشاي وعن ضبني
ولو حفروا في درّة ما رضيتها
…
لجسمك إبقاء عليه من الدّفن
وقوله يرثي والدته: [الوافر]
فيا ركب المنون أما رسول
…
يبلغ روحها أرج السّلام «1»
ذكيّا يصحب الكافور منه
…
بمثل المسك مفضوض الختام
سألت متى اللّقاء فقيل حتّى
…
يقوم الهامدون من الرّجام
وقوله: [الطويل]
وما مثل فقدان الشّريف محمّد
…
رزيّة خطب جناية ذي جرم «2»
فيا دافنيه في الثّرى إنّ لحده
…
مقرّ الثّريّا فادفنوها على علم
ويا حاملي أعواده إنّ فوقها
…
سماوىّ سرّ فاتّقوا كوكب الرّجم
وما نعشه إلّا كنعش وجدته
…
أبّا لبنات لا يخفن من اليتم
منها:
إذا قيل نسك فالخليل بن آزر
…
وإن قيل فهم فالخليل أخو الفهم
أقامت بيوت الشعر تحكم بعده
…
بناء المراثي وهى صور إلى الهدم
نعيناه حتّى للغزالة والسّها
…
فكلّ تمنى لو فداه من الحتم
وما كلفة البدر المنير قديمة
…
ولكنّها في وجهه أثر اللّدم
منها:
ولا تنسني في الحشر والحوض حوله
…
عضائب شتّى بين غرّ إلى بهم
لعلّك في يوم القيامة ذاكري
…
فتسأل ربّي أن يخفّف من إثمي
وقوله: [الخفيف]
غير مجد في ملّتي واعتقادي
…
نوح باك ولا ترنّم شاد «1»
329/وشبيه صوت النّعيّ إذا قي
…
س بصوت البشير في كلّ ناد
صاح هذي قبورنا تملأ الرّح
…
ب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظنّ أديم الأ
…
رض إلّا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه
…
د هوان الآباء والأجداد
ربّ لحد قد صار لحدا مرارا
…
ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين
…
في طويل الأزمان والآباد
فاسأل الفرقدين عمن أحسّا
…
من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار
…
وأنارا لمدلج في سواد
تعب كلّها الحياة فما أع
…
جب إلّا من راغب في ازدياد
إن حزنا في ساعة الموت أضعا
…
ف سرور في ساعة الميلاد
خلق النّاس للبقاء فضلّت
…
أمّة يحسبونهم للنّفاد
إنّما ينقلون من دار أعما
…
ل إلى دار شقوة أو رشاد
ضجعة الموت رقدة يستريح ال
…
جسم فيه والعيش مثل السّهاد
منها:
قصد الدّهر من أبي حمزة الأوّ
…
اب مولى حجا وخدن اقتصاد
وفقيها أفكاره شدن للنّع
…
مان ما لم يشده شعر زياد
والعراقيّ بعده للحجازيّ
…
قليل الخلاف سهل القياد
وخطيبا لو قام بين وحوش
…
علّم الضّاريات برّ النّقاد
روايا للحديث لم يحوج المع
…
روف من صدقه إلى الإسناد
ذا بنان لا تلمس الذّهب الأح
…
مر زهدا في العسجد المستفاد
330/ودّعا أيّها الحفيّان ذاك الشّ
…
خص إنّ الوداع أيسر زاد
واغسلاه بالدّمع إن كان طهرا
…
وادفناه بين الحشا والفؤاد
واحبواه الأكفان من ورق المض
…
حف كبرا عن أنفس الأبراد
منها:
كيف أصبحت فى محلّك بعدي
…
يا جديرا مني بحسن افتقاد
قد أقرّ الطبيب عنك بعجز
…
وتقضّى تردّد العوّاد
منها:
زحل أشرف الكواكب دارا
…
من لقاء الرّدى على ميعاد
ولنار المرّيخ من حدثان الدّ
…
هر مطف وإن علت في اتّقاد
والثريا رهينة بافتراق الشّ
…
مل حتّى تعدّ في الأفراد
منها:
والذي حارت البرية فيه
…
حيوان مستحدث من جماد
واللبيب اللبيب من ليس يغ
…
ترّ بكون مصيره للفساد
وقوله: [الكامل]
أودى فليت الحادثات كفاف
…
مال المسيف وعنبر المستاف «1»
الطّاهر الآباء والأبناء وال
…
آراب والأثواب والألّاف
منها:
طار النّواعب يوم فاد نواعيا
…
فندبنه لموافق ومناف
ونعيبها كنحيبها وحدادها
…
أبدا سواد قوادم وخواف
لا خاب سعيك من خفاف أسحم
…
كسحيم الأسديّ أو كخفاف
من شاعر للبين قال قصيدة
…
يرثي الشّريف على رويّ القاف
بنيت على الإيطاء سالمة من ال
…
إقواء والإكفاء والإصراف
منها:
فارقت دهرك ساخطا أفعاله
…
وهو الجدير بقلّة الإنصاف
331/ولقيت ربّك فاستردّ لك الهدى
…
ما نالت الأيّام بالإتلاف
أنتم ذوو النّسب القصير فطولكم
…
باد على الكبراء والأشراف
والرّاح إن قيل ابنة العنب اكتفت
…
بأب عن الأسماء والأوصاف
ما زاغ بيتكم الرّفيع وإنّما
…
بالوجد أدركه خّفيّ زحاف
والشّمس دائمة البقاء وإن تنل
…
بالشّكو فهي سريعة الإخطاف
وقوله في الحكم والأمثال: [البسيط]
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم
…
والعذب يهجر للإفراط في الخصر «1»
منها:
والنّجم تستصغر الأبصار رؤيته
…
والذّنب للطّرف لا للنّجم في الصّغر
وقوله: [الوافر]
وكالنّار الحياة فمن رماد
…
أواخرها وأوّلها دخان «2»
وقوله: [الطويل]
وهل يذخر الضّرغام قوتا ليومه
…
إذا ادّخر النّمل الطّعام لعامه «3»
وهل يدّعي اللّيل الدّجوجيّ أنّه
…
تضيء ضياء الشّمس شهب ظلامه
وقوله: [الكامل]
والسّمهريّة ليس يشرف قدرها
…
حتى يسافر لدنهّا عن غابه «4»
وقوله: [الطويل]
إذا أنت أعطيت السّعادة لم تبل
…
ولو نظرت شزرا إليك القبائل «1»
تقتك على أكتاف أبطالها القنا
…
وهابتك في أغمادهنّ المناصل
وإن سدّد الأعداء نحوك أسهما
…
نكصن على أفواقهنّ المعابل
تحامى الرّزايا كلّ خفّ ومنسم
…
وتلقى رداهّن الذّرى والكواهل
وترجع أعقاب الرّماح سليمة
…
وقد حطمت في الدّارعين العوامل
332/وإن كنت تهوى العيش فابغ توسّطا
…
فعند التّناهي يقصر المتطاول
توقّى البدور النّقص وهى أهلّة
…
ويدركها النّقصان وهى كوامل
وقوله: [الطويل]
ولا بدّ للإنسان من سكر ساعة
…
تهون عليه غيرها السّكرات «2»
ألا إنّما الأيّام أبناء واحد
…
وهذي الليالي كلّها أخوات
وقوله: [السريع]
والشّيء لا يكثر مدّاحه
…
إلّا إذا قيس إلى ضدّه «3»
لولا غضى نجد وقلّامه
…
لم يثن بالطّيب على رنده
يشتاق أيّار نفوس الورى
…
وإنّما الشّوق إلى ورده
أضحى الذي أجلّ في سنّه
…
مثل الذي عوجل في مهده
ولا يبالي الميت في قبره
…
بذمّه شيّع أو حمده
والواحد المفرد في حتفه
…
كالحاشد المكثر من حشده
وحالة الباكي لآبائه
…
كحالة الباكي على ولده
تجربة الدنيا وأفعالها
…
حثّت أخا الزّهد على زهده
وقوله: [الوافر]
وظنّ بسائر الإخوان شرا
…
ولا تأمن على سرّ فؤادا «1»
فلو خبرتهم الجوزاء خبري
…
لما طلعت مخافة أن تكادا
منها:
فأيّ الناس أجعله صديقا
…
وأيّ الأرض أسلكه ارتيادا
ولو أنّ النّجوم لديّ مال
…
نفت كفّاي أكثرها انتقادا
كأنّي في لسان الدّهر لفظ
…
تضمّن منه أغراضا بعادا
يكرّرني ليفهمني رجال
…
كما كررت معنى مستعادا
333/وقوله: [الطويل]
وما الدّهر إلّا دولة ثمّ صولة
…
وما العيش إلّا صحّة وسقام «2»
ولو دامت الدّولات كانوا كغيرهم
…
رعايا ولكن ما لهنّ دوام
وقوله: [الطويل]
ولسنا وإن كان البقاء محبّبا
…
بأوّل من أخنى عليه حمام
وحبّ الفتى طول الحياة يذلّه
…
وإن كان فيه نخوة وعرام
وكلّ يريد العيش والعيش حتفه
…
ويستعذب اللذّات وهى سمام
وقوله: [البسيط]
لا تنس لي نفحاتي وانس لي زللي
…
ولا يغرّك خلقي واتّبع خلقي «1»
فربّما ضّر خلّ نافع أبدا
…
كالرّيق يحدث منه عارض الشّرق
فإن توافق في معنى بنو زمن
…
فإنّ جلّ المعاني غير متّفق
قد يبعد الشّيء من شيء يشابهه
…
إن السماء نظير الماء في الزّرق
وقوله: [الكامل]
ومن العجائب أن يسيّر آمل
…
مدحا ولم يعلم بها المأمول «2»
والعيس أقتل ما يكون لها الظّما
…
والماء فوق ظهورها محمول
وقوله في الوصف والتّشبيه والاستعارة: [الوافر]
أعن وخد القلاص كشفت حالا
…
ومن عند الظّلام طلبت مالا «3»
ودرّا خلت أنجمه عليه
…
فهلّا خلتهنّ به ذبالا
وقلت الشّمس بالبيداء تبر
…
ومثلك من تخيّل ثمّ خالا
ومنها في ذكر الخيل:
نشأن مع النّعام بكل دوّ
…
فقد ألفت نتائجها الرئّالا
ولمّا لم يسابقهنّ شيء
…
من الحيوان سابقن الظّلالا
334/وفي ذكر الخيل أيضا:
ونمّ بطيفها السّاري جواد
…
فجّنبنا الزّيارة والوصالا
وأيقظ بالصّهيل الركب حتّى
…
ظننت صهيله قيلا وقالا
ولولا غيرة من أعوجيّ
…
لبات يرى الغزالة والغزالا
يحسّ إذا الخيال سرى إلينا
…
فيمنع من تعهّدنا الخيالا
وقد يلفى زبرجده عقيقا
…
إذا شهد الأمير به القتالا
وكلّ ذؤابة في رأس خود
…
تمنّى أن تكون له شكالا
ومنها في ذكر السيف:
يذيب الرّعب منه كلّ عضب
…
فولا الغمد يمسكه لسالا
ودّبت فوقه حمر المنايا
…
ولكن بعد ما مسخت نمالا
وقوله: [الكامل]
صاغ النّهار حجوله فكأنّما
…
قطعت له الظّلماء ثوب الأدهم «1»
قلق السّماك لركضه ولربّما
…
نفض الغبار على جبين المرزم
وبنت حوافرها قتاما ساطعا
…
لولا انقياد عداك لم يتهدّم
باض النّسور به وخيّم مصعدا
…
حتّى ترعرع فيه فرخ القشعم
وقوله: [الوافر]
فكاد الفجر تشربه المطايا
…
وتملأ منه أسقية شنان «2»
وقد دقّت هواديهنّ حتّى
…
كأنّ رقابهنّ الخيزران
إذا شربت رأيت الماء فيها
…
أزيرق ليس يستره الجران
335/وقوله في الخيل أيضا: [البسيط]
كأنّ أذنيه أعطت قلبه خبرا
…
من السّماء بما يلقى من الغير «3»
يحسّ وطء الرّزايا وهى نازلة
…
فينهب الجري نفس الحادث المكر
يغنى عن الورد إن سلّوا صوارمهم
…
أمامه لاشتباه البيض بالغدر
وقوله من أخرى في السيف: [البسيط]
وكلّ أبيض هنديّ به شطب
…
مثل التكسّر في جار بمنحدر «1»
تغايرت فيه أرواح تموت به
…
من الضّراغم والفرسان والجزر
روض المنايا على أنّ الدّماء به
…
وإن تخالفن أبدال من الزّهر
ما كنت أحسب جفنا قبل مسكنه
…
في الجفن يطوى على نار ولا نهر
ولا ظننت صغار النّمل يمكنها
…
مشي على اللّجّ أو سعي على السّعر
وقوله: [الكامل]
وهجيرة كالهجر موج سرابها
…
كالبحر ليس لمائه من طحلب «2»
أوفى بها الحرباء عودي منبر
…
للظّهر إلا أنّه لم يخطب
وكأنّه رام الكلام ومسّه
…
عيّ فأسعده لسان الجندب
وقوله: [الوافر]
ألاح وقد رأى برقا مليحا
…
سرى فأتى الحمى نضوا طليحا «3»
وقوله: [الوافر]
إذا الحرباء أظهر دين كسرى
…
فصلّي والنّهار أخو صيام «4»
وأذّنت الجنادب في ضحاها
…
أذانا غير منتظر الإمام
وقوله: [الوافر]
وليل خاف قول النّاس لمّا
…
تولّى سار منهزما فعادا «1»
336/دجا فتلهّب المرّيخ فيه
…
وألبس جمرة الشّمس الرّمادا
وقوله: [الطويل]
حروف سرى جاءت لمعنى أردته
…
برتني أسماء لهنّ وأفعال «2»
يحاذرن من لدغ الأزمّة لا اهتدى
…
مخبّرها أنّ الأزمة أصلال
وقوله: [الوافر]
إذا ما اهتاج أحمر مستطيرا
…
حسبت اللّيل زنجيا جريحا «3»
وقوله: [الوافر]
وإصباح فلينا اللّيل عنه
…
كما يفلى عن النّار الرّماد «4»
أبلّ به الدّجى من كلّ سقم
…
وكوكبه مريض لا يعاد
ومن غلل تحيد الرّيح عنه
…
مخافة أن يمزّقها القتاد
لو انّ بياض عين المرء صبح
…
هنالك ما أضاء به السواد
وقوله: [الطويل]
تبيت النّجوم الزّهر في حجراته
…
شوارع مثل اللؤلؤ المتبدّد «5»
فأطمعن في أشباحهن سواقطا
…
على الماء حتّى كدن يلقطن باليد
بخرق يطيل الجنح فيه سجوده
…
وللأرض زيّ الرّاهب المتعبّد
ولو نشدت نعشا هناك بناته
…
لماتت ولم تسمع له صوت منشد
وتكتم فيه العاصفات نفوسها
…
فلو عصفت بالنبت لم يتأوّد
وقوله: [البسيط]
تناعس البرق أي لا أستطيع سرّى
…
فنام صحبي وأمسى يقطع البيدا «1»
كأنّه غار منا أن نصاحبه
…
وخاف أن نتقاضاك المواعيدا
337/وقوله: [البسيط]
هذا قريض عن الأملاك محتجب
…
فلا تذله بإكثار على السّوق «2»
كأنّه الرّوض يبدي منظرا عجبا
…
وإن غدا وهو مبذول على الطّرق
لفظ كأنّ معاني السّكر تسكنه
…
فمن تحفّظ بيتا منه لم يفق
وقوله: [الطويل]
كانّ الدّجى نوق عرقن من الونى
…
وأنجمها فيها قلائد من ودع «3»
وقوله: [الكامل]
لا تستبين به النّجوم تنائيا
…
ويلوح فيه البدر مثل الدّرهم «4»
وقوله: [الطويل]
كأنّ الثّريّا والصباح يروعها
…
أخو سقطة أو ظالع متحامل «5»
وقوله: [الطويل]
بريح أعيرت حافرا من زبرجد
…
لها التّبر جسم واللّجين خلاخل
إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت
…
عن الماء فاشتاقت إليها المناهل
ومنها فى الليل:
كأنّ دجاه الهجر والصبح موعد
…
بوصل وضوء الصّبح حبّ مماطل
وقوله: [الطويل]
فتى تقصر الأبصار عن قسماته
…
ولا ستر إلّا هيبة وجلال «1»
فجاش عليها البحر وهو كتائب
…
وخرّت إليها الشّهب وهى نصال
بأيديهم السّمر العوالي كأنّما
…
يشبّ على أطرافهن ذبال
وقوله في وصف النهار: [الطويل]
نهار كأنّ البدر قاسى هجيره
…
فعاد بلون شاحب من سهامه «2»
بلاد يضلّ النّجم فيها سبيله
…
وتثني دجاها طيفها عن لمامه
وقوله من مرثية: [الطويل]
وما كلفة البدر المنير قديمة
…
ولكنّها في وجهه أثر اللّطم «3»
338/وقوله يصف الخمرة: [الوافر]
تطلّع من جدار الكأس كيما
…
يحيّي أوجه الشّرب الكرام «4»
وقوله: [الوافر]
كأنّ الليل حار بها ففيه
…
هلال مثل ما انعطف اللّسان «1»
ومن أمّ النّجوم عليه درع
…
يحاذر أن يمزّقها الطّعان
وقد بسطت إلى الغرب الثّريّا
…
يدا غلقت بأنملها الرّهان
كأنّ يمينها سرقتك شيئا
…
ومقطوع عن السّرق البنان
وقوله: [الطويل]
بيوم كأنّ الشّمس فيه خريدة
…
عليها من النّقع الأحمّ لثام «2»
وقوله: [الطويل]
ولاح هلال مثل نون أجادها
…
بذوب النّضار الكاتب ابن هلال «3»
وقوله: [الطويل]
خفاف يباهي كلّ هجل هبطنه
…
بهنّ على العلّات ربد نعامه «4»
إذا أرزمت فيه المهاري ولم يجب
…
حوار أجابت عنه أصداء هامه
ولو وطئت في سيرها جفن نائم
…
بأخفافها لم ينتبه من منامه
وقوله: [الخفيف]
ربّ ليل كأنّه الصّبح في الحس
…
ن وإن كان أسود الطّيلسان «5»
قد ركضنا فيه إلى اللهو حتّى
…
وقف النّجم وقفة الحيران
وكأنّي ما قلت والبدر طفل
…
وشباب الظّلام في العنفوان
ليلتي هذه عروس من الزّن
…
ج عليها قلائد من جمان
هرب النّوم عن جفوني فيها
…
هرب الأمن عن فؤاد الجبان
وكأنّ الهلال يهوى الثّريا
…
فهما للوداع معتنقان
وسهيل كوجنة الحبّ في اللو
…
ن وقلب المحبّ في الخفقان
يسرع اللّمح في احمرار كما تس
…
رع في اللّمح مقلة الغضبان
339/ثمّ شاب الدّجى فخاف من الهج
…
ر فغطّى المشيب بالزّعفران
وقوله يصف الدرع: [الخفيف]
نثرة من ضمانها للقنا الخ
…
طّيّ عند اللقاء نثر الكعوب «1»
مثل وشي الوليد لانت وإن كا
…
نت من الصّنع مثل وشي حبيب
تلك ماذية وما لذباب السّ
…
يف والصّيف عندها من نصيب
وقوله: [الوافر]
أضاة لا يزال الزّغف منها
…
كفيلا بالإضاءة في الدّياجي «2»
مموّهة كأنّ بها ارتعاشا
…
لفرط السّنّ أو داء اختلاج
وهل تعشو النّبال إلى ضياء
…
ثنى السّمراء مطفأة السّراج
وقوله: [الكامل]
سالت على العاري وهالت وانطوت
…
لينا فكالتها الفتاة بصاعها «3»
آليّة ليست تغرّ سوى القنا
…
والمرهفات بمكرها وخداعها
وكأنّما رعب السّيول تسرّعت
…
فمضت وقرّ الصّفو من دفّاعها
وقوله: [السريع]
فمن لبسطام بين قيس بها
…
ذخيرة أو عامر بن الطّفيل «1»
فارسها يسبح في لجة
…
من دجلة الزّرقاء أو من دجيل
وقوله: [الوافر]
كأثواب الأراقم مزّقتها
…
فخاطتها بأعينها الجراد «2»
وقوله: [الرجز]
جرّدت الحيّات فيها لبسها
…
وطرّحت للرّيح كلّ معوز «3»
إن نفخت فيه الصّبا رأيته
…
مثل عمود الفضّة المخرّز
وقوله في الشّمعة: [الطويل]
340/وصفراء لون التّبر مثلي جليدة
…
على نوب الأيّام والعيشة الضّنك «4»
تريك ابتساما دائما وتجلّدا
…
وصبرا على ما نالها وهى في الهلك
ولو نطقت يوما لقالت أظنكّم
…
تخالون أنّي من حذار الردّى أبكي
فلا تحسبوا دمعي لوجد وجدته
…
فقد تدمع العينان من كثرة الضّحك «5»
وحكي من ذكاء أبي العلاء أنّه لمّا سافر إلى بغداد دفع بعض أهله إلى خادمه الذي كان سافر معه لخدمته ماء من بئر بالمعرّة، يقال لها بئر القراميد، وقال له: إذا أراد العود من بغداد فاسقه من هذا الماء. فلمّا خرج من بغداد متوجّها إلى معرّة النعمان سقاه ذلك الماء، فقال أبو العلاء: ما أشبه هذا الماء بماء بئر القراميد!
وحكى القاضي الرشيد بن الزبير المصريّ «1» ، في كتاب" جنان الجنان"«2» ، قال:
حدّثني القاضي أبو عبد الله محمد بن سنديّ القنّسريّ، قال: حدثني أبي، قال: بينما أنا عند أبي العلاء المعرّي، في الوقت الذي يملي فيه شعره المعروف بلزوم ما لا يلزم، فأملى في ليلة واحدة ألفي بيت، كان يسكت زمانا ثمّ يملي قريبا من خمسائة بيت، ثمّ يعود إلى الفكرة والعمل، إلى ان كمّل العدّة المذكورة.
ونقل أن رجلا من طلبة العلم باليمن وقع إليه كتاب في اللغة سقط أوّله، وأعجبه جمعه وترتيبه، فاتّفق أنّه حجّ فحمله معه، وكان إذا اجتمع بأديب أراه ذلك الكتاب وسأله عنه: هل يعرفه أو يعرف مصنّفه؟ فلم يجد أحدا يخبره بذلك. فأراه في بعض الأحيان لبعض الأدباء، وكان ممّن يعلم حال أبي العلاء وتبحره في العلم، فدلّه عليه. فخرج ذلك الرجل إلى الشام، ووصل إلى معرّة النعمان، فاجتمع بأبي العلاء، وعرّفه ما حمله على الرحلة إليه، وأحضر ذلك الكتاب/ 341/وهو مقطوع الأوّل. فقال له أبو العلاء: اقرأ منه شيئا. فقرأ عليه. فقال له أبو العلاء: هذا الكتاب اسمه كذا وكذا، ومصنّفه فلان بن فلان. ثم ابتدأ أبو العلاء فقرأ له أوّل الكتاب، إلى أن انتهى إلى ما هو عند ذلك الرجل.
فنقل ما نقص منه عن أبي العلاء، وأكمل النسخة.
وقيل: إن الكتاب المذكور هو" ديوان الأدب" للفارابي. والله أعلم.
وقال محمد بن أبي بكر الخاتمي: ارتحلت أريد المعرّة لألقى أبا العلاء، فلقيت في طريقي شابا حسنا وسيما وهو أعور، ومعه شخص وضيء الوجه، حسن الصورة، يعتبه عتابا لطيفا، فلمّا انتهى إلى آخر عتابه قال له الشابّ الأعور منشدا:[الكامل المرفّل]
إن كنت خنتك في الهوى
…
فحشرت أقبح من فضيحه
قال الحاتمىّ: فرمت أن أزيد على هذا البيت فلم أستطع، لكثرة طربي به، إلى أن انتهيت إلى المعرّة، ودخلت على أبي العلاء، فكان أوّل حديثي معه أن تذاكرنا في أبيات من الشعر، ذكر منها بيت جهل قائله، وهو:[الرمل]
إنّما تسرح آساد الشّرى
…
حيث لا تنصب أشراك الحدق
فقال: لقد أضاء بصيرة وإن عمي بصرا. فقلنا له: أتعرف لمن الشعر؟ فقال لا.
فبحثنا عنه، فوجدناه لبشار بن برد. ثمّ خلوت معه، فسألنى: من أنت؟ فانتسبت إليه، فقال: أنشدني شيئا من شعرك، فأنشدته، ثمّ حكيت له حكاية الشّاب، وأنسيت أن أقول له أنّه أعور، وأنشدته قوله:
إن كنت خنتك في الهوى
…
فحشرت أقبح من فضيحة
فأسرع أن قال لي: أفلا زدت عليه:
وجحدت نعمة خالقي
…
وفقدت مقلتي الصحيحه
342/فقلت: والله ما كان إلّا أعور، فمن أين لك هذا؟ قال: شمت «1» إحدى عينيه من بيته.
وعرض على أبي العلاء كفّ من اللّوبياء، فأخذ منها واحدة ولمسها بيده، ثم قال: ما أدري ما هي إلّا إنّي أشبّهه بالكلية. فتعجّبوا من فطنته وإصابة حدسه.
وقال أبو العلاء في وقت لجماعة حضروا عنده: عدوا علّي الألوان، فقالوا: أبيض، وأخضر، وأصفر، وأسود، وأحمر. فقال: هذا هو ملكها. يعني الأحمر. وكان أبو العلاء يقول: أذكر من الألوان الحمرة، وذلك أنّني لمّا جدرت ألبست ثوبا أحمر. وهذا من فرط ذكائه، لأنّه كان عمره أربع سنين.
ودخل عليه أبو محمد الخفاجيّ الحلبي، وسلّم عليه ولم يكن يعرفه، فردّ عليه السلام.
وقال: هذا رجل طوال. ثم سأله عن صناعته فقال: أقرأ القرآن. فقال: اقرأ علىّ شيئا منه. فقرأ عليه عشرا. فقال له: أنت أبو محمد الخفاجي الحلبيّ؟ فقال: نعم. فسئل عن ذلك فقال: أمّا طوله فعرفته بالسّلام، وأمّا كونه أبا محمد فعرفته بصحة قراءته وأدائه بنغمة أهل حلب، فإنّني سمعت بحديثه.
وممّا حكي عن أبي العلاء، أنّه كان يعجبه قصيدة التّهامي التى يرثى بها ولده، وأوّلها:
[الكامل]
حكم المنيّة في البريّة جاري
…
ما هذه الدّنيا بدار قرار
وكان لا يرد عليه أحد إلّا ويستنشده إيّاها، لإعجابه بها. فقدم التهاميّ معرّة النعمان ودخل على أبي العلاء، فآستنشده إيّاها، فأنشدها، فقال له: أنت التهامي؟ فقال: نعم.
فقال: كيف عرفتني؟ فقال: لأني سمعتها منك ومن غيرك؟ فأدركت من حالك أنّك تنشدها من قلب قريح، فعلمت أنّك قائلها.
ومن رسائل أبي العلاء رسالة كتب بها إلى أبي نصر صدقة بن يوسف، لمّا استدناه إلى حضرة عزيز الدولة فاتك/ 343/صاحب حلب، وهي «1» :
لو أهديت إلى حضرة سيّدي الرّبيع يزهي بأحسن زهره، والبحر يتباهى بالنّفيس من جوهره، لكان عندي أنّي قصّرت واختصرت، فكيف بي ولا أقدر على أن أهدي زهره، ولا أنتزع صدفه، فدع الجوهرة. والرّائد لا يكذب أهله. فأمّا العبد إذا كذب سيّده فبعد ولا سعد. والذّاهل من لم يذكر أمسه، والجاهل من لم يعرف نفسه. ولنفسي أقول:
أعيت رياضة الهرم، واعتصار الماء من الجمر المضطرم. [إن كذبت، فعن الخير أعذبت] . ما اعتزلت، حتّى جددت وهزلت، فوجدتني لا أصلح لجدّ ولا هزل، فعندها رضيت بالأزل.
ما حمامة ذات طوق، يضرب بها المثل في الشّوق، كانت في وكر مصون، بين الشّجر والغصون، تألف من أبناء جنسها ريدا، فيتراسلان تغريدا، مسكنها نعمان الأراك، تأمن به غوائل الأشراك، وتمرّ في بكرتها بالبيت الحرام، لا تفرق لمكان صائد ولا رام، فغرّها القدر، فخرجت من الأرض المحرّمة، فأصبحت وهى جدّ مغرمة، صادها وليد في الحلّ، ما حفظ لها من إلّ، فأودعها سجنا للطير، ومنعها من كلّ مير، فإذا رأت من خصاص القفص بواكر الحمام، ظلّت تمارس جرع الحمام، تسأل بطرفها أخاها، ما فعل بعدها فرخاها؟ فيقول:
أصبحا ضائعين، قد سترهما الورق عن كلّ عين.
فريخان ينضاعان في الفجر كلّما
…
أحسّا دويّ الرّيح أو صوت ناعب «1»
بأشواق إلى المعيشة النّضرة، منّي إلى تلك الحضرة. ولكن صنع الزّمان ما هو صانع، واعترض دون الخير موانع. حال الغص دون القصص، والجريض دون القريض. المورد نمير أزرق، ولكن المدنف بالشراب يشرق.
لمّا رأى لبد النّسور تطايرت
…
رفع القوادم كالفقير الأعزل «2»
344/انهض لبد، هيهات! صدّك الأبد.
ولمّا كان اليوم الذي ورد كتابه، المشتمل من حسن الظنّ بوليّه على ما لا يستوجبه، عكفت عليه الغربان مبشّرات، مثلّثات بالنعيب ومعشّرات. لو أنس إليّ ابن دأية لم أخله إن رغب في الحلي من حجل، في الرّجل، أو تقليد، يقع في الجيد، ولضمّخت جناحه مسكا وعنبرا، ولكسوته وشيا وحبرا، على أنه يختال من لون الشّبيبة، فى أجمل سبيبة.
يا غراب، لغيرك بعدها التراب! إن قضى الله نبذت لك من الطعام، إتاوة في كلّ يوم لا في كلّ عام.
كأن كتابه الشّريف قسيمة من الطيب، تضوع بالأناب القطيب، وكأنّما طرقتني منه روضة نجديّة، سقتها الأنوار الأسدية، فعمد ثراها، وأرجت رباها، وأبدى بهارها للأبصار، كدنانير ضربت قصار، وازدانت من الشّقيق، بمشبه العقيق، ولعب فيها الماء، فهي أرض وكأنّها سماء، لها من النّجم نجوم، ومن طلّ السّحر دمع مسجوم. وقد سألت من ورد إليه أن يؤنسني بتركه لديّ، كي أستمتع في ناجر، بمشاكل خبيّة الحاجر، ولأكون جليس الروضة إن لم يرها منظرا مبهجا، ساف منها عرفا متأرجا. وإنّ العامة عهدتني في صدر العمر أستصحب شيئا من أساطير الأولين فقالت عالم، والناطق بذلك هو الظالم. ورأتني مضطرا إلى القناعة فقالت زاهد، وأنا في طلب الدنيا جاهد. وزاد تقوّل القوم عليّ حتى خشيت أن أكون أحد الجهّال، الذين ورد فيهم الحديث المأثور:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتّخذ النّاس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا".
فغدوت حلس ربع، كالميّت بعد ثلاث أو سبع. وحدثت علّة كني عنها/ 345/في المستمع، وعاقت عن الحضور في الجمع. وفي الكتاب الكريم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ
. وإنّما ذكرت ذلك لينتهي إلى حضرة [السيّد] عزيز الدولة، [أعز الله نصره] ، أنّي تخلّفت عن خدمته لمرض، منع من أداء المفترض، وإنّ الذكر ليطير للرجل وغيره الخطير. كم من شجرة شاكة ظّلها ليس برحب، وثمرها غير عذب، سمها السّمرة، وكنيتها أمّ غيلان، تذكر في آفاق البلاد، وغيرها من
أشجار الثمار إن ذكر، نكر. والإرماء، لا توجبه للشيء الأسماء. ربّ أسود كريه الرائحة يسمى كافورا وعنبرا، وقبيح الصّورة [من البشر] يدعى هلالا وقمرا. وكيف يتأدّى العلم إليّ وأنا رجل ضرير! وكفى من شرّ سماعه، ونشأت في بلد لا عالم فيه، وإنّما تشبّث النامية، بالجوازع السامية. ولم أكن صاحب ثروة فكيف الحداء بغير بعير، والإنباض مع فقد التّوتير. فإن بلغ سيّدي الشّيخ أنّ ساري اللّيل، قبض على سهيل، وأن الأرض أنبتت وشيا وحريرا، والسحاب أمطر مداما وعبيرا، فهو أعلم بردّه على المبطلين. حسب الأرض، أن تعنو بخلّة وحمض. وعادة السّحاب المرتفع في السّماء، أن يأتي بريّ الظّلماء.
والدّلجة، بلّغت إلى البلجة. لهفي على فوات هذه المنزلة! ومن للورقاء، بكوكب الخرقاء، والراقد عند الغرقد، أن يضحي مجاور الفرقد! من لا يصلح لمجالسة النّظراء، فكيف ينتدب للقاء السادات الكبراء!
لقد أسمعت لو ناديت حيّا
…
ولكن لا حياة لمن تنادي
هل آمل من الله ثوابا، وإنما [أنا]«1» كقتلى بدر أسمع ولا أملك جوابا. ولمثل هذه الرتبة سهر من أهل العلم الساهرون. أعرض النّوافل وغاب العائم، وأومض البارق فأين الشائم. إنّ الحيّ خلوف، يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
/ 346/وعزيز الدولة/ ليس كغيره من الملوك والسادات، لأنّه يوصف بفارس من جهات: فهو فارس الأقران، من فرس الأسد، فارس على الجواد العتد، فارس من فراسة الألمعيّ، سالم من الخطل والعيّ. والإنسان يستحي من نظيره، فكيف من سيّد العصر وأميره! يا فضحة فتاة قيل إنها بيضاء، كأنّها من النّعمة ما تضمّنته الإضاء، حليمة رزان، تزين المجلس ولا تزان، حوراء غيداء، فلما كان الهداء، وجدت على خلاف ذلك، فإذا بياضها سواد رائع، والنّعمة جفاء فى الجسد ذائع، والحور زرق مباين، والغيد وقص شائن، وإذا هى سفيهة رواد، لا يشغف بودّها الفؤاد. والمثل السائر:" أن تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه".
ولست أرضى لحضرة [مولاي] الشيخ بتحيّة نصيب، لأنّه رضى بعشر تحيّات في الصبّاح، وعشر عند الرواح ووليّه يحمل إلى حضرته الجليلة تحيّة شاكر طروب، تصل شروق الشّمس بالغروب، وتكر من طلوع الشفق، إلى حين تمزّق ثياب الغسق، كلمّا اجتازت بالصّعيد الأعفر، جعلته كالهنديّ الأذفر. إن شاء الله تعالى.
وأثبتنا هذه الرسالة بجملتها لاتّساقها، واتّفاقها. وهي كبنيان لو أخذت منه لبنة لا نقضّ، وسلك لو انحلّ منه طاق لتداعى فيه النّقض، وكعقد لو انفرطت درّة منه لا رفضّ، وكصفّ لو نقل منه واحد لتخلّى عن البعض.
ومن رسالة له سماها رسالة المنيح «1» :
إن كان للأدب نسيم يتضوّع، وللذّكاء نار تشرق وتلمع، فقد فعمنا على بعد الداّر أرج أدبه، ومحا اللّيل عنّا ذكاؤه بتلهّبه، وخوّل الأسماع شنوفا غير ذاهبة، وأطلع في سويداوات القلوب كواكب ليست بغاربة. وذلك أنّا، معشر أهل هذه البلدة، وصف لنا شرف عظيم، وألقي إلينا كتاب كريم،/ 347/قراءته نسك، وختامه بل سائره مسك، وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
. أجلّ عن التقبيل فظلاله المقبّلة، ونزّه أن يبذل فنسخه المبتذلة، وأنّه عندنا لكتاب عزيز. ولولا الإلاحة، على ما ضمن من الملاحة، والخشية على دجى مداده من التوزّع، ونهار معانيه من التشتّت والتقطّع، لعكفت عليه الأفواه باللّثم، والموارن بالانتشاء والشمّ، حتى تصير سطوره لمىّ في الشّفاه، وخيلانا على مواضع السّجود من الجباه.
منها:
موشّحا بكل شذرة أعذب من سلاف العنقود، وأحسن من الدّينار المنقود، فجاء كلوائح البروق، أو يوح عند الشّروق.
ولو أنّ شوقه إلى حضرته تمثّل فمثل، وتجسّم حتّى يتوسّم، لملأ ذات الطّول والعرض، وشغل ما بين السماء والأرض، ولم يكتف حتّى يكلّف الخطوة، أن تسع صهوة، والراحة، أن تكون مثل الساحة. وبلغ وليّه السّلام الذي لو مرّ بسلمة وارية لأغدقت، أو سلمة عارية لأورقت، فحمل فؤادي من الطّرب على روق اليعفور، بل فوق جناح العصفور، فكأنّما رفعني الفلك، أو جاءني الملك.
منها:
وكدت لولا اشتمال المخاوف على هذه المحلّة، واشتعال الضمائر فيها بقبس الغلّة، أحسب سلامه السّلام الذي ذكره البارئ جلّ اسمه في قوله: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ.
أفبلدتنا جنان، أم وضح لأهلها الغفران، أم نشروا بعد ما قبروا، أم جزوا الغرفة بما صبروا، فهم يلقّون فيها تحيّة وسلاما. وإن نالوا بمنهّ أوصاف الأتقياء الأبرار، فقد أنزلت بهم خلّة من خلال الأشقياء الكفّار، وذلك أنهم بأسد البلاغة افترسوا، وبأسبابها عقدت ألسنتهم عن الجواب فخرسوا، فكأنّما قيل لهم: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ
. وإنّما غرقوا في لجّ التّبانة فصمتوا، وسمعوا صواعق الإبانة فخفتوا، فقلم كاتبهم/ 348/عود الناكت، وجواب بليغهم حيرة الساكت. على أنّهم قد راموا تصريف الخطاب فصرفوا، وعرفوا مكان فضله فاعترفوا، وتراءوه من مبارك العروج، فلمحوه في مآرك البروج، واستنهضتهم الهمم إلى مداناته فعجزوا، ووعدوا هواجسهم التّبلد فأنجزوا، ولن توجد آثار النّوق، في أوكار الأنوق، فهم يتأمّلون وميضه الآلق، ويحمدون الإله الخالق، على ما منحه سيّدهم من الاقتدار، بدقيق الأفكار، على إعادة اليمّ كالغدير المسمّى بالغدر، وإلحاق السّها بالقمر ليلة البدر، ولم يزل الماشي العازم، أسرع من راكب الرّازم، فكيف بمن امتطى به عزمه كتد الرّيح، وحكم له سعده بالسّعي النجيح، وخصّه بارئه بطبع راض، صعاب الأغراض، حتّى ذللها، وأبسّ بوحوش اللّغات فأهّلها، فصار حزن كلام العرب إذا نطق به سهلا، وركيكه إن أيّده بصنعته قويا جزلا. فمثله مثل جارسة
الكحلاء، تسمح بالمسائب الملاء، تطعم الغرب، وتجود بالضّرب، وتجني مرّ الأنوار، فيعود شهدا عند الاشتيار، وكالهواء في مذهب لا أعتقده، وقول من سواي يسدّده، يجتذب أجزاء البخار، فيسقى من تحته عذب الأمطار. ومن لنا بأنّ اللفظ المشوف، يمثّل عليه التمثيل من على الحروف، فعساها تبلّ بفقرة زاهرة، أو تظفر باستخراج لؤلؤة فاخرة. على أنّه من العناء سؤال البرم، ورياضة الهرم. وهيهات! بعدت محالّ الغفر الطّالع، عن مزالّ الغفر الظالع، وأعجز البارق، يد السارق، وجلّت الشموس، عن سكنى الرّموس، وهو- رزق لامه، ما رزق كلامه- أولى النّاس، بإضاءة النبراس.
وقد كان فيما مضى قوم جعلوا الرسائل، كالوسائل، وتزيّنوا بالسجع، تزيّن المحول 349/بالرّجع، ما رقوا في درجته، ولا وضعوا قدما على محجّته. لكنهم تعاينوا، فما تباينوا، وتناضلوا، فلم يتفاضلوا. ولو طمعوا فى الوصول، إلى مثل هذه الفصول، لاختاروا الرّتب، على الرّتب، ورضوا اعتساف السبيل، وارتعاء الوبيل، ليدركوا بطلبهم ما أدرك عن غير جدّ، واغترفه من بديهه العدّ. وكلّهم لو شاهده لرضي بأن يدعى السّكيت في حلبة سيّدنا فيها سابق الرهان، وتمنّى أن يكون زجا في قناة هو منها موضع السنان، ولمّا وردت مع عبده موسى تلك الغرائب المؤنسة، والقلائد المنفسة، أبطلت كيد السّحار، وعصفت بهشيم الأشعار، فوجد في وطنه أشباح أوزان تتخيّل، وانقاد أذهان تتهيّل، فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.
شاهدناه فيما سمعناه المعنى الحصير، في الوزن القصير، كصورة كسرى فى كأس المشروب، وتمثال قيصر في الإبريز المضروب، لم يزر به ضيق الدّار، وقصر الجدار، إن تغزّل فحنين العود، أو تجزّل فهدير الرعود، وإن كان استصغر من ذلك ما استكثرناه، واستنزر من أدبه الذي استغمرناه.
منها:
وإن كان في وانية آدابنا بقيّة إرقال، ولآنية أفهامنا خفيّة صقال، فسوف تنتفع، وهو
ذريعة الانتفاع، وتضيء بما أهدى إليها من الشعاع، إضاءة الصّفر، بما قابل من النّيرات الزّهر وقد يرى خيال الجوزاء على رفعتها، في أضاة المعزاء مع ضعتها، ويورق العود، ببركة السعود، وتفيض الرّدهة، عن نوء الجبهة. ولو تفوّه بمقال جامد، وهمّ باختيال هامد، لنشرت المعّرة صحف الافتخار، وسحبت ذيل العظمة والاستكبار. عجبا أنّ فكره يلحظها لحظ الشّاهد الساهد،/ 350/إنّما هو في الرّحيل عنها كجسم ذى روح، نقل من الغرقئ إلى اللّوح، وهى بعده كقسيمة الوسيمة، ذهب عطرها، وبقي نشرها. وإنّما شرفت على سواها، وطالت عن البلاد دون ما والاها، لإقامته في تلك الأيام، وإنامته عن أهلها نواظر أزام، فعرفت عند ذلك به، ونالت خيرها من حسبه.
وإنّما فضل الطّور بالكليم، والمقام بإبراهيم. ولقد سمونا بمجاورته، قبل محاورته، سموّ اليثربيّ، بجوار النّبي. ولعل المعرّة علمت أنّه عقد لا يصلح لمقلّدها، وسوار يرتفع لجلالته عن يدها، وتاج لا يطيق حمله مفرقها، وجونة يشرق بذرورها مشرقها. ومغانية الأولى كالشّجرة بعد اجتناء الثمرة، والصدفة بغير جوهرة.
ولم يخف علينا أنّ القمر، لم يخلق للسمر. وليس للمستعير أن يحسب العارية هبة، ولا يظن ردّها إلى المعير مثلبة، لكن شرف للصّعلوك، العارية من الملوك. وقد أفادت هذه البقعة الصّيت البعيد، وانقادت لها أزمّة الجد السعيد.
فطعن وأرجه مقيم، وارتحل وللثّناء تخييم، ولولا جفاء التّربة والأحجار، عن التخلّق بأخلاق الجار، لأصبحت ساحتها للتأدّب مختارة، والفصاحة من عند أهلها ممتارة.
ولكن أبى الجلمود، قبول الطّبع المحمود. وما همّ ابن داية، بصيد الجداية! فكيف يلتقط الفار بالمنقار، ويستر القرواح بالجناح، أم كيف يمدّ الطّراف من النّسع، ويقدّ النّجاد من الشّسع! هذا ما لا يكون، ولا تسبق إليه الظّنون.
والظّلم البيّن، والخطب الذي ليس بهينّ، تكليف القطب النابت، مداناة القطب الثابت، وإلزام نسر الحافر، مرام النّسر الطائر.
وإذا قيل فلان أديب، وفلان أريب، فإنّ اتفاق الأسماء، لا يمنع الفراق عند الرّماء.
الذّباب، سميّ طرف القرضاب، وليس كلّ مثّوب/ 351/مبشّرا، ولا كل متثائب مؤشرا، أعرض شأو لا يتعلق بنصبه، وعنّ أمد لا يتعب في طلبه.
نام والله اللاغب، وأدلج الراغب، والعجمة أسهل من البكمة، والحبسة أقلّ ضررا من الخرسة.
ومن يجعل الرّبوة روبة، والسّبت عروبة! وضائع أداء الفروض قبل دخول الأوقات، والإحرام بعد مجاوزة الميقات، وارتياح اللاقطة [بساقطة] النّقد، كارتياح الماشطة بواسطة العقد.
منها:
فقليل العلم منهم يستطرف، ولا يكاد يعرف، كالشّنوف، على الأنوف.
وإنّما يشدو بالترنّم شاديهم، ويغدو في أولى الدّعوى غاديهم، بين أناس يقظة أحدهم أقصر من لحظته، وسنته أطول من سنته، وحلية الدواة، لديه أحلى الأدوات، وحسن اليراعة، أحسن البراعة.
وربّما جعل الخمار، على وجه الحمار. ليس الضّريع بالمرعى المريع.
إن أغفيت فالوسن يري الحلم الحسن.
هل أدبي في أدبه إلّا كالقطرة في المطرة، والنحلة عند النخلة.
فليته اطّلع من وليّه على كنين الاعتقاد، وجنين السّواد، فيعلم أنّ الرّوع، وجوانح الضلوع، مفعمة له بالإعظام، مترعة بمحبّته إتراع الجام، لا لأنّه جعل حصاتي كثبير، وخلط