الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقدم- سبحانه- المتعلق وهو «وبالنجم» للاهتمام به، إذ أن الاهتداء بالنجوم، أمر هام في حياة المسافرين ولا سيما الذين يسافرون في البحر.
وعدل- سبحانه- عن الخطاب إلى الغيبة في قوله «هم يهتدون» على سبيل الالتفات، ليزداد الكلام طلاوة وانتباها إلى ما اشتمل عليه.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «1» .
وإلى هنا نرى السورة الكريمة، التي هي سورة النعم، قد حدثتنا في بضع عشرة آية. عن ألوان متنوعة من نعم الله- تعالى- على عباده.
حدثتنا عن نعمة الروح الذي يحيى القلوب الميتة وينقذها من الكفر والضلال.
وحدثتنا عن نعمة خلق الإنسان، وخلق السموات والأرض.
وحدثتنا عن نعمة خلق الأنعام، والخيل والبغال والحمير.
وحدثتنا عن نعمة إنزال الماء من السماء، وما يترتب على هذه النعمة من فوائد ومنافع.
وحدثتنا عن نعمة تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم لمصلحة الإنسان.
وحدثتنا عن نعمة تسخير البحر وتذليله للانتفاع بخيراته.
وحدثتنا عن كل ذلك وغيره. لكي يخلص الإنسان عبادته لخالقه، ولكي يطيعه حق الطاعة، ويشكره عليها، ويستعملها فيما خلقت له.
وبعد أن حدثتنا السورة عن كل ذلك، ساقت لنا جملة من صفات الله- تعالى- ووبخت المشركين على شركهم، وأبطلته بأبلغ أسلوب، ودعتهم إلى الدخول في الدين الحق، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
(1) سورة الأنعام الآية 97.
والاستفهام في قوله- سبحانه-: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.. للإنكار والتوبيخ لأولئك المشركين الذين عبدوا غير الله- تعالى- أى: أفمن يخلق هذه الأشياء العجيبة، والمخلوقات البديعة، التي بينا لكم بعضها، وهو الله- عز وجل كمن لا يخلق شيئا على سبيل الإطلاق، بل هو مخلوق، كتلك الأصنام والأوثان وغيرها، التي أشركتموها في العبادة مع الله- تعالى-؟
إن فعلكم هذا لدليل واضح على جهلكم- أيها المشركون- وعلى انطماس بصيرتكم، وقبح تفكيركم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت من لا يخلق أريد به الأصنام، فلماذا جيء بمن الذي هو لأولى العلم؟.
قلت: فيه أوجه: أحدها أنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولى العلم.
الثاني: المشاكلة بينه وبين من يخلق.
الثالث: أن يكون المعنى: أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولى العلم، فكيف بما لا علم عنده. كقوله- تعالى- أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها.. يعنى أن الآلهة- التي عبدوها- حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب لأن هؤلاء أحياء وهم أموات، فكيف تصح لهم العبادة، لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا.
فإن قلت الآية إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيها بالله- تعالى-: فكان من حق الإلزام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟
قلت حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له، وسووا بينه، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيها بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.. «1» .
وقوله- سبحانه-: أَفَلا تَذَكَّرُونَ زيادة في توبيخهم وفي التهكم بهم.
أى: أبلغ بكم السفه والجهل أنكم سويتم في العبادة بين من يخلق ومن لا يخلق، والحال أن هذه التسوية لا يقول بها عاقل، لأن من تفكر أدنى تفكر، وتأمل أقل تأمل، عرف وتيقن أنه لا يصح التسوية في العبادة بين الخالق والمخلوق، فهلا فكرتم قليلا في أمركم، لكي تفيئوا إلى رشدكم، فتخلصوا العبادة لله الخلاق العليم.
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمه على سبيل الإجمال، بعد أن فصل جانبا منها في الآيات السابقة فقال- تعالى- وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها.
والمراد بالنعمة هنا جنسها، الذي يشمل كل نعمه، لأن لفظ العدد والإحصاء قرينة على ذلك، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع اعتمادا على القرينة- من أبلغ الأساليب الكلامية.
أى: وإن تعدوا نعمة الله- تعالى- التي أنعمها عليكم، في أنفسكم، وفيما سخره لكم لا تستطيعون حصر هذه النعم لكثرتها ولتنوعها.
وما دام الأمر كذلك فاشكروه عليها ما استطعتم، وأخلصوا له العبادة والطاعة.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ استئناف قصد به فتح باب الأمل أمامهم لكي يتداركوا ما فرط منهم من جحود وتقصير في حقه- سبحانه-.
أى: إن الله- تعالى- لغفور لعباده على ما فرط منهم متى تابوا إليه توبة نصوحا، رحيم بهم، حيث لم يؤاخذهم بذنوبهم. بل منحهم نعمه مع تقصيرهم في شكره- تعالى.
قال ابن كثير- رحمه الله قوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أى يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازى على اليسير» «2» .
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 405- بتصرف يسير.
(2)
تفسير ابن كثير ج 4 ص 482.
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ بيان لكمال علمه- تعالى- وتحذير من الوقوع فيما نهى عنه، لأنه- تعالى- لا تخفى عليه خافية.
أى: والله- تعالى- وحده، يعلم ما تسرونه من أقوال وأفعال، وما تظهرونه منها، وهو محص عليكم ذلك، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
ثم وصف- سبحانه- الأوثان التي يعبدها المشركون من دونه، بثلاثة أوصاف. تجعلها بمعزل عن النفع، فضلا عن استحقاقها للعبادة، فقال- تعالى- وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ، وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.
فوصفها- أولا- بالعجز التام، فقال- تعالى-: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً
…
أى: وهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله- تعالى- لا تخلق شيئا من المخلوقات مهما صغرت، بل هم يخلقون بأيديكم، فأنتم الذين تنحتون الأصنام. كما قال- سبحانه- حكاية عن إبراهيم- عليه السلام الذي قال لقومه على سبيل التهكم بهم: قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ «1» .
وإذا كان الأمر كذلك فكيف تعبدون شيئا أنتم تصنعونه بأيديكم، أو هو مفتقر إلى من يوجده؟! وهذه الآية الكريمة أصرح في إثبات العجز للمعبودات الباطلة من سابقتها التي تقول:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.. لأن الآية السابقة نفت عن المعبودات الباطلة أنها تخلق شيئا، أما هذه الآية التي معنا فنفت عنهم ذلك، وأثبتت أنهم مخلوقون لغيرهم وهو الله- عز وجل، أو أن الناس يصنعونهم عن طريق النحت والتصوير، فهم أعجز من عبدتهم، وعليه فلا تكرار بين الآيتين.
وأما الصفة الثانية لتلك الأصنام فهي قوله- تعالى- أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ.
أى: هؤلاء المعبودون من دون الله- تعالى-، هم أموات لا أثر للحياة فيهم، فهم لا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يغنون عن عابديهم شيئا، فقد دلت هذه الصفة على فقدانهم للحياة فقدانا تاما.
وجملة «غير أحياء» جيء بها لتأكيد موتهم، وللدلالة على عراقة وصفهم بالموت، حيث
(1) سورة الصافات الآيتان 95، 96.
إنه لا توجد شائبة للحياة فيهم، ولم يكونوا أحياء- كعابديهم- ثم ماتوا، بل هم أموات أصلا. أو جيء بها على سبيل التأسيس، لأن بعض مالا حياة فيه من المخلوقات، قد تدركه الحياة فيما بعد، كالنطفة التي يخلق الله- تعالى- منها حياة، أما هذه الأصنام فلا يعقب موتها حياة، وهذا أتم في نقصها، وفي جهالة عابديها.
وأما الصفة الثالثة لتلك الأصنام فهي قوله- تعالى-: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.
ولفظ «أيان» ظرف زمان متضمن معنى متى.
وهذه الصفة تدل على جهلهم المطبق، وعدم إحساسهم بشيء.
أى: أن من صفات هذه المعبودات الباطلة، أنها لا تدرى متى يبعثها الله- تعالى- لتكون وقودا للنار.
وبعضهم يجعل الضمير في «يشعرون» يعود على الأصنام، وفي «يبعثون» يعود على العابدين لها، فيكون المعنى: وما تدرى هذه الأصنام التي تعبد من دون الله- تعالى- متى تبعث عبدتها للحساب يوم القيامة.
قال صاحب فتح القدير ما ملخصه: قوله: «وما يشعرون أيان يبعثون» الضمير في «يشعرون» للآلهة وفي «يبعثون» للكفار الذين يعبدون الأصنام.
والمعنى: وما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة. فضلا عن الأمور التي لا يعلمها إلا الله- سبحانه-.
ويجوز أن يكون الضمير في الفعلين للآلهة. أى: وما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث. ويدل على ذلك قوله تعالى-: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ.. «1» .
وبعد أن أبطل- سبحانه- عبادة غيره بهذا الأسلوب المنطقي الحكيم، صرح بأنه لا معبود بحق سواه، فقال: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
أى إلهكم المستحق للعبادة والطاعة هو إله واحد لا شريك له، لا في ذاته ولا في صفاته:
فأخلصوا له العبادة، ولا تجعلوا له شركاء.
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 2 ص 156.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي جعلت المشركين يصرون على كفرهم ويستحبون العمى على الهدى، فقال- تعالى-: فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ.
أى: فالكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب قلوبهم منكرة للحق، جاحدة لنعم الله، منصرفة عن وحدانية الله- تعالى- وعن الأدلة الدالة عليها، وحالهم فوق ذلك أنهم مستكبرون مغرورون، لا يستمعون إلى موعظة واعظ، ولا إلى إرشاد مرشد. ومتى استولت على إنسان هاتان الصفتان- الجحود والاستكبار-، حالفه البوار والخسران، وآثر سبيل الغي على سبيل الرشد.
والتعبير عن المشركين بالموصول وصلته «فالذين لا يؤمنون بالآخرة..» دون التصريح بذواتهم، لاشتهارهم بتلك الصفات القبيحة، وللإيمان بأن عدم إيمانهم بالآخرة، هو أساس خيبتهم، وخسرانهم وجحودهم
…
وعبر بالجملة الاسمية في قوله «قلوبهم منكرة وهم مستكبرون» للدلالة على تأصل صفتي الجحود والاستكبار في قلوبهم، وعلى أن الإنكار للحق سمة من سماتهم التي لا يتحولون عنها مهما وضحت لهم الأدلة على بطلانها، وعلى أن التعالي والغرور لا ينفك عنهم، وأنهم ممن قال- سبحانه- فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ «1» . أى: صاغرين أذلاء.
ثم بين- سبحانه- سوء مصيرهم، فقال: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.
وكلمة «لا جرم» وردت في القرآن في خمسة مواضع، وفي كل موضع كانت متلوة بأن واسمها، وليس بعدها فعل.
وجمهور النحاة على أنها مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر ومعناها بعد التركيب معنى الفعل: حق وثبت، والجملة بعدها فاعل.
قال الخليل: لا جرم، كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا، يقال: فعلوا ذلك، فيقال:
لا جرم سيندمون.
(1) سورة غافر. الآية 60.