الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير قال الله تعالى:
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 15]
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَاّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
سورة الحجر من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي الر.
وقد بينا- بشيء من التفصيل- عند تفسيرنا لسورة: البقرة، وآل عمران، والأعراف
…
آراء العلماء في هذه الحروف التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم.
وقلنا ما خلاصته: من العلماء من يرى أن المعنى المقصود منها غير معروف لأنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه..
ومنهم من يرى أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه، بل هي أسماء للسور التي افتتحت بها
…
أو هي حروف مقطعة بعضها من أسماء الله، وبعضها من صفاته
…
ثم قلنا: ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة، قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل.
وفضلا عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيسمعوا حكما وهدايات قد تكون سببا في استجابتهم للحق، كما استجاب صالحو الجن الذين حكى الله- تعالى- عنهم أنهم عند ما استمعوا إلى القرآن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً....
واسم الإشارة تِلْكَ يعود إلى الآيات التي تضمنتها هذه السورة، أو إلى جميع الآيات القرآنية التي نزلت قبل ذلك.
والمراد بالكتاب: القرآن الكريم، ولا يقدح في هذا، ذكر لفظ القرآن بعده، لأنه- سبحانه- جمع له بين الاسمين تفخيما لشأنه، وتعظيما لقدره.
ومُبِينٍ اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان، مبالغة في الوضوح والظهور.
قال صاحب الصحاح: يقال: «بان الشيء يبين بيانا، أى اتضح، فهو بين وكذا أبان الشيء فهو مبين
…
» .
والمعنى: تلك- أيها الناس- آيات بينات من الكتاب الكامل في جنسه، ومن القرآن العظيم الشأن، الواضح في حكمه وأحكامه، المبين في هدايته وإعجازه فأقبلوا عليها بالحفظ لها، وبالعمل بتوجيهاتها، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.
قال الآلوسى: وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه، حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها، وبالثاني إلى كونه ممتازا عن غيره، نسيجا وحده، بديعا في بابه، خارجا عن دائرة البيان، قرآنا غير ذي عوج..» «1» .
ثم بين- سبحانه- أن الكافرين سيندمون بسبب كفرهم في وقت لا ينفع فيه الندم، فقال- تعالى-: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.
قال الشوكانى ما ملخصه: قرأ نافع وعاصم بتخفيف الباء من رُبَما، وقرأ الباقون بتشديدها.. وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير.
قال الكوفيون: أى يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين.
وقيل: هي هنا للتقليل، لأنهم ودوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب....» «2» .
وقد حاول بعض المفسرين الجمع بين القولين فقال: من قال بأن رُبَما هنا للتكثير نظر إلى كثرة تمنيهم أن لو كانوا مؤمنين، ومن قال بأنها للتقليل نظر إلى قلة زمان إفاقتهم من العذاب بالنسبة إلى زمان دهشتهم منه، وهذا لا ينافي أن التمني يقع كثيرا منهم في زمن إفاقتهم القليل، فلا تخالف بين القولين «3» .
والمعنى: ود الذين كفروا عند ما تنكشف لهم الحقائق. فيعرفون أنهم على الباطل، وأن المؤمنين على الحق، أن لو كانوا مسلمين، حتى ينجوا من الخزي والعقاب.
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 3.
(2)
تفسير فتح القدير ج 3 ص 121.
(3)
حاشية الجمل على الجلالين بتصرف قليل ج 2 ص 537.
ودخلت رب هنا على الفعل المضارع يَوَدُّ مع اختصاصها بالدخول على الفعل الماضي، للإشارة إلى أن أخبار الله- تعالى- بمنزلة الواقع المحقق سواء أكانت للمستقبل أم لغيره.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت: لأن المترقب في أخبار الله- تعالى- بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه، فكأنه قيل: «ربما ود الذين كفروا
…
» «1» .
ولَوْ في قوله لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ يصح أن تكون امتناعية، وجوابها محذوف، والتقدير: لو كانوا مسلمين لسروا بذلك.
ويصح أن تكون مصدرية، والتقدير: ود الذين كفروا كونهم مسلمين.
وعلى كلا المعنيين فهي مستعملة في التمني الذي هو طلب حصول الأمر الممتنع الحصول.
وقال- سبحانه- لَوْ كانُوا
…
بفعل الكون الماضي، للإشعار بأنهم يودون الدخول في الإسلام، بعد مضى وقت التمكن من الدخول فيه.
وعبر- سبحانه- عن متمناهم بالغيبة كانُوا، نظرا لأن الكلام مسوق بصدد الإخبار عنهم، وليس بصدد الصدور منهم، ولو كان كذلك لقيل: لو كنا مسلمين.
هذا، وللمفسرين أقوال في الوقت الذي ود فيه الكافرون أن لو كانوا مسلمين، فمنهم من يرى أن ودادتهم هذه تكون في الدنيا، ومنهم من يرى أنها تكون عند الموت، ومنهم من يرى أنها تكون عند الحساب، وعند عفو الله عن عصاة المؤمنين.
والحق أن هذه الودادة تكون في كل موطن يعرف فيه الكافرون بطلان كفرهم، وفي كل وقت ينكشف لهم فيه أن الإسلام هو الدين الحق.
فهم تمنوا أن لو كانوا مسلمين في الدنيا، عند ما رأوا نصر الله لعباده المؤمنين، في غزوة بدر وفي غزوة الفتح وفي غيرهما، فعن ابن مسعود- رضى الله عنه-:«ود كفار قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر الله للمسلمين» «2» .
وهم تمنوا ذلك عند الموت كما حكى عنهم- سبحانه- ذلك في آيات كثيرة منها قوله
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 386.
(2)
تفسير الآلوسى ج 14 ص 5.
- تعالى-: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ
…
«1» .
وهم يتمنون ذلك عند ما يعرضون على النار يوم القيامة. قال- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» .
وهم يتمنون ذلك عند ما يرون عصاة المؤمنين، وقد أخرجهم الله- تعالى برحمته من النار.
وقد ذكر الإمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث الدالة على ذلك منها: ما أخرجه الطبراني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ناسا من أهل «لا إله إلا الله» يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى: ما أغنى عنكم قولكم «لا إله إلا الله» وأنتم معنا في النار؟ قال فيغضب الله لهم، فيخرجهم، فيلقيهم في نهر الحياة فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه، فيدخلون الجنة. ويسمون فيها الجهنميين.
فقال رجل: يا أنس، أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نعم، أنا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا «3» .
قال بعض العلماء: وأقوال العلماء في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد، لأن من يقول: إن الكافر إذا احتضر تمنى أن لو كان مسلما، ومن يقول: إنه إذا عاين النار تمنى أن لو كان مسلما.. كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقية ندموا على الكفر وتمنوا أنهم لو كانوا مسلمين «4» .
وفي هذه الآية ما فيها من تثبيت المؤمنين، ومن تبشيرهم بأنهم على الحق، ومن حض للكافرين على الدخول في الإسلام قبل فوات الأوان، ومن تحذير لهم من سوء عاقبة الكفر والطغيان.
ثم أمر- سبحانه- الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يذرهم في طغيانهم يعمهون، بعد أن ثبت أنهم قوم لا ينفع فيهم إنذار فقال- تعالى-: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
(1) سورة المؤمنون الآيتان 99، 100.
(2)
سورة الأنعام الآية 27.
(3)
راجع تفسير ابن كثير. المجلد الرابع ص 443 طبعة دار الشعب
(4)
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج 3 ص 117 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى. [.....]
وذر فعل أمر بمعنى اترك، ومضارعه يذر، ولا يستعمل له ماض إلا في النادر، ومن هذا النادر ما جاء في الحديث الشريف:«ذروا الحبشة ما وذرتكم» .
و «يتمتعوا» من المتاع بمعنى الانتفاع بالشيء بتلذذ وعدم نظر إلى العواقب.
«ويلههم» : من الانشغال عن الشيء ونسيانه، يقال: فلان ألهاه كذا عن أداء واجبه، أى: شغله.
والأمل: الرغبة في الحصول على الشيء، وأكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله.
والمعنى: اترك- أيها الرسول الكريم- هؤلاء الكافرين، وخلهم وشأنهم، ليأكلوا كما تأكل الأنعام، وليتمتعوا بدنياهم كما يشاءون، وليشغلهم أملهم الكاذب عن اتباعك، فسوف يعلمون سوء عاقبة صنيعهم في العاجل أو الآجل.
قال صاحب الكشاف: وقوله ذَرْهُمْ يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم، ودعهم من النهى عما هم عليه، والصد عنه بالتذكرة والنصيحة، واتركهم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم، وتنفيذ شهواتهم ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال.
وألا يلقوا في العاقبة إلا خيرا فسوف يعلمون سوء صنيعهم «1» .
وإنما أمره- سبحانه- بذلك، لعدم الرجاء في صلاحهم، بعد أن مكث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم زمنا طويلا، يدعوهم إلى الحق، بأساليب حكيمة.
وفي تقديم الأكل على غيره، إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب. قال- تعالى-:
…
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ «2» كما أن فيه تعييرا لهم بما تعارفوا عليه من أن الاقتصار في الحياة على إشباع اللذات الجسدية، دون التفات إلى غيرها من مكارم الأخلاق، يدل على سقوط الهمة، وبلادة الطبع. قال الحطيئة يهجو الزبرقان بن عمرو:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
أى: واقعد عن طلب المكارم والمعالي فإنك أنت المطعوم المكسو من جهة غيرك.
والفعل «يأكلوا» وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر «ذرهم» ، وبعضهم يجعله مجزوم بلام الأمر المحذوفة، الدالة على التوعد والتهديد، ولا يستحسن جعله مجزوما في جواب
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 387.
(2)
سورة محمد الآية 12.
الأمر، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء أترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم.
والفاء في قوله- سبحانه- فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ للتفريع الدال على الزجر والإنذار.
والاستجابة للحق قبل فوات الأوان.
أى: ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية، لا تفكر فيها ولا تدبر، ومن آمال خادعة براقة شغلتهم عن حقائق الأمور، فسوف يعلمون سوء عاقبة ذلك وسوف يرون ما يحزنهم ويشقيهم ويبكيهم طويلا بعد أن ضحكوا قليلا
…
وفي ذلك إشارة إلى أن لإمهالهم أجلا معينا ينقضي عنده، ثم يأتيهم العذاب الأليم.
قال الآلوسى- رحمه الله: وفي هذه الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم، وعدم الاستعداد للآخرة، والتأهب لها، ليس من أخلاق من يطلب النجاة.
وجاء عن الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
وأخرج أحمد في الزهد، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده- لا أعلمه إلا رفعه- قال:«صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل وطول الأمل» .
وفي بعض الآثار عن على- كرم الله وجهه-: إنما أخشى عليكم اثنين: طول الأمل، واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسى الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق» «1» .
هذا، وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ «2» .
وقوله- تعالى-: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ «3» .
وقوله- تعالى-: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ «4» .
ثم قرر- سبحانه- أن هلاك الأمم الظالمة، موقوت بوقت محدد في علمه، وأن سنته في ذلك ماضية لا تتخلف، فقال- تعالى- وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ.
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 9.
(2)
سورة الزخرف الآية 83.
(3)
سورة الطور الآية 45.
(4)
سورة ابراهيم الآية 30.
و «من» في قوله مِنْ قَرْيَةٍ ومِنْ أُمَّةٍ للتأكيد. والمراد بالقرية أهلها.
والمراد بالكتاب المعلوم: الوقت المحدد في علم الله- تعالى- لهلاكها، شبه بالكتاب لكونه لا يقبل الزيادة أو النقص. والأجل: مدة الشيء.
أى: وما أهلكنا من قرية من القرى الظالم أهلها، إلا ولهلاكها وقت محدد في علمنا المحيط بكل شيء، ومحال أن تسبق أمة من الأمم أجلها المقدر لها أو تتأخر عنه.
قال ابن جرير- رحمه الله عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه: يقول- تعالى- ذكره- وَما أَهْلَكْنا يا محمد مِنْ أهل قَرْيَةٍ من القرى التي أهلكنا أهلها فيما مضى: إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أى: أجل مؤقت ومدة معروفة، لا نهلكهم حتى يبلغوها، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك.. دون أن يتقدم هلاكهم عن ذلك أو يتأخر» «1» .
وجملة إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ في محل نصب على الحال من قرية، وصح ذلك لأن كلمة قرية وإن كانت نكرة، إلا أن وقوعها في سياق النفي سوغ مجيء الحال منها.
أى: ما أهلكناها في حال من الأحوال، إلا في حال بلوغها نهاية المدة المقدرة لبقائها دون تقديم أو تأخير.
قال- تعالى- وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «2» وجملة «ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون» بيان لجملة «إلا ولها كتاب معلوم» لتأكيد التحديد، في بدئه وفي نهايته.
وحذف متعلق «يستأخرون» للعلم به، أى: وما يستأخرون عنه.
والآيتان الكريمتان تدلان بوضوح، على أن إمهال الظالمين ليس معناه ترك عقابهم، وإنما هو رحمة من الله بهم لعلهم أن يثوبوا إلى رشدهم، ويسلكوا الطريق القويم
…
فإذا ما لجوا في طغيانهم، حل بهم عقاب الله- تعالى- في الوقت المحدد في علمه- سبحانه-.
قال صاحب الظلال: ولقد يقال: إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية، وهذا وهم.
(1) تفسير ابن جرير ج 14 ص 5.
(2)
سورة الأعراف الآية 34.
فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم، ولو كان هو خير العمارة للأرض، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها.
فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها، فلا تبقى فيها من الخير بقية ثم تنتهي حتما إلى المصير المعلوم. إن سنة الله لا تتخلف. ولكل أمة أجل معلوم «1» .
ثم حكى- سبحانه- سوء أدب هؤلاء الكافرين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى- وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ والقائلون هم بعض مشركي قريش. قال مقاتل: نزلت الآيتان في عبد الله بن أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة.
والمراد بالذكر: القرآن الكريم. قال- تعالى- وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ «2» .
و «مجنون» : اسم مفعول من الجنون، وهو فساد العقل.
و «لوما» : حرف تحضيض مركب من لو المفيدة للتمني، ومن ما الزائدة فأفاد المجموع الحث على الفعل.
والمعنى: وقال الكافرون لرسولهم صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء والتهكم: «يا أيها» المدعى بأن الوحى ينزل عليك بهذا القرآن الذي تتلوه علينا، «إنك لمجنون» بسبب هذه الدعوى التي تدعيها. وبسبب طلبك منا اتباعك وتركنا ما وجدنا عليه آباءنا
…
هلا إن كنت صادقا في دعواك، أن تحضر معك الملائكة، ليخبرونا بأنك على حق فيما تدعيه، وبأنك من الصادقين في تبليغك عن الله- تعالى- ما أمرك بتبليغه؟
وأكدوا الحكم على الجنون بإن واللام، لقصدهم تحقيق ذلك في نفوس السامعين ممن هم على شاكلتهم في الكفر والضلال، حتى ينصرفوا عن الاستماع إليه صلى الله عليه وسلم.
قال الآلوسى: يعنون يا من يدعى مثل هذا الأمر العظيم، الخارق للعادة إنك بسبب تلك
(1) تفسير في ظلال القران ج 14 ص 2166 للأستاذ سيد قطب.
(2)
سورة الأنبياء الآية 50.
الدعوى تحقق جنونك على أتم وجه. وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده، أنت مجنون «1» .
فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد حكتا ألوانا من سوء أدبهم، منها: مخاطبتهم له صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الدال على التهكم والاستخفاف، حيث قالوا:«يا أيها الذي نزل عليه الذكر» ، مع أنهم لا يقرون بنزول شيء عليه.
ووصفهم له بالجنون، وهو صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلا، وأفضلهم فكرا..
وشكهم في صدقه، حيث طلبوا منه- على سبيل التعنت- أن يحضر معه الملائكة ليعاضدوه في دعواه كما قال تعالى في آيات أخرى منها قوله- تعالى- وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا
…
«2» .
وقوله- تعالى-:
…
لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً «3» .
وقد رد الله- تعالى- عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم فقال: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ.
وقرأ الجمهور ما تنزل- بفتح التاء والزاى على أن أصله تتنزل- ورفع الملائكة على الفاعلية.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ما تنزل- بضم التاء وفتح الزاى على البناء للمجهول- ورفع الملائكة على أنه نائب فاعل.
وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم ما نُنَزِّلُ- بنون في أوله وكسر الزاى- ونصب الملائكة على المفعولية والباء في قوله إِلَّا بِالْحَقِّ للملابسة.
أى: ما ننزل الملائكة إلا تنزيلا ملتبسا بالحق، أى: بالوجه الذي تقتضيه حكمتنا وجرت به سنتنا، كأن ننزلهم لإهلاك الظالمين، أو لتبليغ وحينا إلى رسلنا، أو لغير ذلك من التكاليف التي نريدها ونقدرها، والتي ليس منها ما اقترحه المشركون على رسولنا صلى الله عليه وسلم من قولهم لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ولذا اقتضت حكمتنا ورحمتنا عدم إجابة مقترحاتهم.
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 11.
(2)
سورة الفرقان الآية 21.
(3)
سورة الفرقان الآية 7.
وقوله وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ بيان لما سيحل بهم فيما لو أجاب الله- تعالى- مقترحاتهم.
و «إذا» حرف جواب وجزاء.
و «منظرين» من الإنظار بمعنى التأخير والتأجيل.
وهذه الجملة جواب لجملة شرطية محذوفة، تفهم من سياق الكلام، والتقدير: ولو أنزل- سبحانه- الملائكة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي هؤلاء المشركون على شركهم مع ذلك، لعوجلوا بالعقوبة المدمرة لهم، وما كانوا إذا ممهلين أو مؤخرين، بل يأخذهم العذاب بغتة.
قال الإمام الشوكانى: قوله وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ في الكلام حذف. والتقدير:
ولو أنزلنا الملائكة لعوجلوا بالعقوبة، وما كانوا إذا منظرين. فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة» «1» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ «2» .
ثم بين- سبحانه- أنه قد تكفل بحفظ هذا القرآن الذي سبق للكافرين أن استهزءوا به، وبمن نزل عليه فقال- تعالى-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
أى: إنا نحن بقدرتنا وعظم شأننا نزلنا هذا القرآن الذي أنكرتموه على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وَإِنَّا لهذا القرآن لَحافِظُونَ من كل ما يقدح فيه، كالتحريف والتبديل، والزيادة والنقصان والتناقض والاختلاف، ولحافظون له بالإعجاز، فلا يقدر أحد على معارضته أو على الإتيان بسورة من مثله، ولحافظون له بقيام طائفة من أبناء هذه الأمة الإسلامية باستظهاره وحفظه والذب عنه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
قال صاحب الكشاف: قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، ولذلك قال: إنا نحن، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومن بين يديه ومن خلفه رصد حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين، وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان
…
» «3» .
(1) تفسير فتح القدير ج 3 ص 122 للشوكانى. [.....]
(2)
سورة الأنعام الآية 8.
(3)
تفسير الكشاف ج 2 ص 388.
وقال الآلوسى: ما ملخصه: «ولا يخفى ما في سبك الجملتين- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة، وعلى فخامة شأن التنزيل، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد. ونَحْنُ ليس ضمير فصل لأنه لم يقع بين اسمين، وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن. والضمير في لَهُ للقرآن كما هو الظاهر، وقيل هو للنبي صلى الله عليه وسلم
…
» «1» .
هذا ونحن ننظر في هذه الآية الكريمة، من وراء القرون الطويلة منذ نزولها فنرى أن الله- تعالى- قد حقق وعده في حفظ كتابه، ومن مظاهر ذلك:
1-
أن ما أصاب المسلمين من ضعف ومن فتن، ومن هزائم، وعجزوا معها عن حفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.. هذا الذي أصابهم في مختلف الأزمنة والأمكنة، لم يكن له أى أثر على قداسة القرآن الكريم، وعلى صيانته من أى تحريف.
ومن أسباب هذه الصيانة أن الله- تعالى- قيض له في كل زمان ومكان، من أبناء هذه الأمة، من حفظه عن ظهر قلب، فاستقر بين الأمة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وصار حفاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر وفي كل عصر.
قال الفخر الرازي: فإن قيل: فلماذا اشتغل الصحابة بجمع القرآن في المصحف، وقد وعد الله بحفظه، وما حفظه الله فلا خوف عليه؟
فالجواب: أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله- تعالى- إياه، فإنه- سبحانه- لما أن حفظه قيضهم لذلك....» «2» .
2-
أن أعداء هذا الدين- سواء أكانوا من الفرق الضالة المنتسبة للإسلام أم من غيرهم- امتدت أيديهم الأثيمة إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلوا فيها ما ليس منها
…
وبذل العلماء العدول الضابطون ما بذلوا من جهود لتننقية السنة النبوية مما فعله هؤلاء الأعداء..
ولكن هؤلاء الأعداء، لم يقدروا على شيء واحد، وهو إحداث شيء في هذا القرآن، مع أنهم وأشباههم في الضلال، قد أحدثوا ما أحدثوا في الكتب السماوية السابقة..
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 15.
(2)
تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 160.
قال بعض العلماء. سئل القاضي إسماعيل «1» البصري عن السر في تطرّق التغيير للكتب السالفة، وسلامة القرآن من ذلك فأجاب بقوله: إن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال:
«بما استحفظوا من كتاب الله» وتولى- سبحانه- حفظ القرآن بذاته فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «2» .
وقد ذكر الإمام القرطبي ما يشبه ذلك نقلا عن سفيان بن عيينة في قصة طويلة «3» .
والخلاصة، أن سلامة القرآن من أى تحريف- رغم حرص الأعداء على تحريفه ورغم ما أصاب المسلمين من أحداث جسام، ورغم تطاول القرون والدهور- دليل ساطع على أن هناك قوة خارقة- خارجة عن قوة البشر- قد تولت حفظ هذا القرآن، وهذه القوة هي قوة الله- عز وجل ولا يمارى في ذلك إلا الجاحد الجهول
…
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك من الآيات ما فيه تعزية وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من سفهاء قومه، فأخبره بأن ما أصابه منهم يشبه ما فعله المكذبون السابقون مع رسلهم، فقال- تعالى- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ.
قال الجمل: «لما أساءوا في الأدب، وخاطبوه صلى الله عليه وسلم خطاب السفاهة، حيث قالوا له:
«إنك لمجنون» ، سلّاه الله فقال له: إن عادة الجهال مع جميع الأنبياء كانت هكذا، وكانوا يصبرون على أذى الجهال. ويستمرون على الدعوة والإنذار، فاقتد أنت بهم في ذلك
…
» «4» .
والشيع جمع شيعة وهي الطائفة من الناس المتفقة على طريقة ومذهب واحد، من شاعه إذا تبعه، وأصله- كما يقول القرطبي- مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار.
والمعنى: ولقد أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم- رسلا كثيرين، في طوائف الأمم الأولين، فدعا الرسل أقوامهم إلى ما دعوت إليه أنت قومك من وجوب إخلاص العبادة لله- تعالى-، فما كان من أولئك المدعوين السابقين إلا أن قابلت كل فرقة منهم رسولها بالسخرية والاستهزاء، كما قابلك سفهاء قومك.
(1) هو القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد الأزدى البصري ولد سنه 200 هـ وتوفى سنة 282. كان من الأئمة الأعلام في التفسير والحديث والفقه.
(2)
تفسير التحرير والتنوير ج 14 ص 21 لسماحة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
(3)
راجع تفسير القرطبي ج 10 ص 5.
(4)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 529.
وذلك لأن المكذبين في كل زمان ومكان يتشابهون في الطباع الذميمة، وفي الأخلاق القبيحة: كمال قال- تعالى- كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ «1» .
والجار والمجرور مِنْ قَبْلِكَ متعلق بأرسلنا، أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف.
أى: ولقد أرسلنا رسلا كائنة من قبلك.
وإضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند بعض النحاة، أو من حذف الموصوف عند البعض الآخر، أى شيع الأمم الأولين.
وعبر بقوله- سبحانه- إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ للإشعار بأن الاستهزاء بالرسل كان طبيعة فيهم- كما يومئ إليه لفظ كان، وأنه متكرر منهم- كما يفيده التعبير بالفعل المضارع- والكاف في قوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ.. للتشبيه، واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى السلك المأخوذ من نسلكه.
والسلك مصدر سلك- من باب نصر- وهو إدخال الشيء في الشيء، كإدخال الخيط في المخيط.
والضمير المنصوب في «نسلكه» يعود إلى القرآن الكريم الذي سبق الحديث عنه.
والمراد بالمجرمين في قوله فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ مشركو قريش ومن لف لفهم.
والمعنى: كما سلكنا كتب الرسل السابقين في قلوب أولئك المستهزئين نسلك القرآن في قلوب هؤلاء المجرمين من قومك يا محمد، بأن نجعلهم يسمعونه ويفهمونه ويدركون خصائصه دون أن يستقر في قلوبهم استقرار تصديق وإذعان لاستيلاء الجحود والعناد والحسد عليهم.
وقوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بيان للسلك المشبه به، أو حال من المجرمين.
أى: أدخلنا القرآن في قلوبهم ففهموه، ولكنهم لا يؤمنون به عنادا وجحودا.
وعلى هذا التفسير يكون الضمير في نَسْلُكُهُ وفي بِهِ يعودان إلى القرآن الكريم، الذي سبق الحديث عنه في قوله- تعالى- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
ومن المفسرين الذين ذكروا هذا الوجه ولم يذكروا سواه صاحب الكشاف، فقد قال:
«والضمير في قوله نَسْلُكُهُ، للذكر: أى: مثل ذلك السلك ونحوه نسلك الذكر
(1) سورة الذاريات الآيتان 52، 53.
فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ على معنى أن يلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزئا به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها: فقلت: كذلك أنزلها باللئام: تعنى مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية.
ومحل قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ النصب على الحال، أى: غير مؤمن به. أو هو بيان لقوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ.. «1» .
وقد زكى هذا الوجه صاحب الانتصاف فقال: والمراد- والله أعلم- إقامة الحجة على المكذبين، بأن الله- تعالى- سلك القرآن في قلوبهم، وأدخله في سويدائها، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين، فكذب به هؤلاء، وصدق به هؤلاء، كل على علم وفهم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ
…
، ولئلا يكون للكفار حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن
…
» «2» .
ويرى بعض المفسرين- كالإمام ابن جرير- أن الضمير في نسلكه يعود إلى الكفر الذي سلكه الله في قلوب المكذبين السابقين، أما الضمير في بِهِ فيعود إلى القرآن الكريم، فقد قال: قوله- تعالى- كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ
…
يعنى: كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركي قومك الذين أجرموا بسبب الكفر بالله.
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ يقول: لا يصدقون بالذكر الذي أنزل إليك. «3» .
ومع أن هذا التفسير الذي ارتضاه شيخ المفسرين ابن جرير له وجاهته، إلا أننا نميل إلى التفسير الأول الذي ارتضاه صاحب الكشاف، لأنه هو المتبادر من معنى الآية، ومن المفسرين الذين رجحوا ذلك الفخر الرازي، فقد قال- رحمه الله خلال كلام طويل ما ملخصه:
«التأويل الصحيح أن الضمير في قوله- تعالى- كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عائد إلى الذكر، الذي هو القرآن، فإنه- تعالى- قال قبل هذه الآية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وقال بعده كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أى: هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين.
والمراد من هذا السلك، هو أنه- تعالى- يسمعهم هذا القرآن، ويخلق في قلوبهم حفظه والعلم بمعانيه. إلا أنهم مع هذه الأحوال لا يؤمنون به عنادا وجهلا..
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 388.
(2)
حاشية الكشاف ج 2 ص 388.
(3)
تفسير ابن جرير ج 14 ص 9.
ويدل على صحة هذا التأويل، أن الضمير في قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عائد على القرآن بالإجماع، فوجب أن يكون الضمير في نَسْلُكُهُ عائدا إليه- أيضا- لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد
…
» «1» .
وقوله- سبحانه- وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ تهديد لهؤلاء المكذبين من كفار مكة ومن سار على شاكلتهم، وتكملة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أى: وقد مضت سنة الله التي لا تتخلف وطريقته المألوفة بأن ينزل عذابه بالمجرمين، كما أنزله بالأمم الماضية، بسبب تكذيبها لرسلها، واستهزائها بهم فلا تحزن- أيها الرسول الكريم- لما أصابك من سفهاء قومك فسننصرك عليهم.
وأضاف- سبحانه- السنة إلى الأولين، باعتبار تعلقها بهم، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا، والإضافة لأدنى ملابسة.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة برسم صورة عجيبة لعناد هؤلاء المكذبين ولجحودهم للحق بعد ما تبين فقال: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.
وقوله- سبحانه- وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ.. معطوف على قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ.. لإبطال معاذيرهم، ولبيان أن سبب عدم إيمانهم هو الجحود والعناد، وليس نقصان الدليل والبرهان على صحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الرازي. وقوله- تعالى- فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال: ظل فلان نهاره يفعل كذا، إذا فعله بالنهار، ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل بالنهار، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل. والمصدر الظلول «2» .
ويعرجون: من العروج، وهو الذهاب في صعود، وفعله من باب دخل، يقال عرج فلان إلى الجبل يعرج إذا صعد، ومنه المعراج والمعارج أى المصاعد.
وقوله سُكِّرَتْ من السّكر- بفتح السين المشددة وسكون الكاف- بمعنى السد والحبس والمنع، يقال سكرت الباب أسكره سكرا، إذا سددته، والتشديد في سُكِّرَتْ للمبالغة، وهو قراءة الجمهور. وقرأ ابن كثير سُكِّرَتْ، بكسر الكاف بدون تشديد.
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 63 طبعة عبد الرحمن محمد.
(2)
تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 166. [.....]
وقوله مَسْحُورُونَ اسم مفعول من السحر، بمعنى الخداع والتخييل والصرف عن الشيء إلى غيره.
والمعنى: أن هؤلاء المشركين بلغ بهم الغلو في الكفر والعناد، أننا لو فتحنا لهم بابا من أبواب السماء، ومكناهم من الصعود إليه، فظلوا في ذلك الباب يصعدون، ويطلعون على ملكوت السموات وما فيها من الملائكة والعجائب لقالوا بعد هذا التمكين والاطلاع- لفرط عنادهم وجحودهم- إنما أبصارنا منعت من الإبصار، وما نراه ما هو إلا لون من الخداع والتخييل والصرف عن إدراك الحقائق بسبب سحر محمد صلى الله عليه وسلم لنا وعلى هذا التفسير الذي سار عليه جمهور المفسرين، يكون الضمير في قوله فَظَلُّوا يعود إلى هؤلاء المشركين المعاندين.
وقيل الضمير للملائكة، فيكون المعنى: فظل الملائكة في هذا الباب يعرجون، والكفار يشاهدونهم وينظرون إليهم، فقالوا- أى الكفار- بعد كل ذلك، «إنما سكرت أبصارنا..» .
وعلى كلا الرأيين فالآية الكريمة تصور أكمل تصوير، مكابرة الكافرين وعنادهم المزرى.
وعبر- سبحانه- بقوله فَظَلُّوا.. ليدل على أن عروجهم كان في وضح النهار، بحيث لا يخفى عليهم شيء مما يشاهدونه.
وجمعوا في قولهم بين أداة الحصر إِنَّما وبين أداة الإضراب بَلْ للدلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل، وما يرونه ما هو إلا من تخيلات المسحور.
وقالوا «بل نحن قوم مسحورون» ولم يقولوا بل نحن مسحورون، للإشعار بأن السحر قد تمكن منهم جميعا، ولم يخص بعضا منهم دون بعض.
قال الشوكانى: وفي هذا البيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم عنه شيء من الأشياء كائنا ما كان، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقى لعارض الانسداد أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح. ومن بلغ في التعنت إلى هذا الحد، فلا تنفع فيه موعظة ولا يهتدى بآية» «1» .
وبذلك نجد السورة الكريمة قد حدثتنا في خمس عشرة آية من مطلعها إلى هنا، عن سمو
(1) تفسير فتح القدير ج 3 ص 123.