الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو يصرفهم عن سبيل الغي الذي آثروه على سبيل الرشد.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.. «1»
وقوله- تعالى-: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «2» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك مقولة أخرى من مقولاتهم الباطلة، التي أكدوها بالأيمان المغلظة، ورد عليها بما يدمغها، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 40]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
قوله- سبحانه-: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
…
معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا..
للإيذان بأنهم قد جمعوا بين إنكار التوحيد وإنكار البعث بعد الموت.
والقسم: الحلف: وسمى الحلف قسما، لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق ومكذب والجهد- بفتح الجيم- المشقة. يقال جهد فلان دابته وأجهدها، إذا حمل عليها فوق طاقتها. وجهد الرجل في كذا، إذا جد فيه وبالغ، وبابه قطع.
والمراد بقوله: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أنهم أكدوا الأيمان ووثقوها بكل ألفاظ التأكيد والتوثيق،
(1) سورة المائدة الآية 41.
(2)
سورة الأعراف الآية 186.
على أنه لا بعث ولا حساب بعد الموت، لأنهم يزعمون أن إعادة الميت إلى الحياة بعد أن صار ترابا وعظاما نخرة، أمر مستحيل.
وقد أكدوا زعمهم هذا بالقسم، للتدليل على أنهم متثبتون مما يقولونه. ومتيقنون من صحة ما يدعونه، من أنه لا يبعث الله من يموت.
قال القرطبي. قوله- تعالى- وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.. هذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت.
ووجه العجب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات.
وقال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، وكان في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت، فنزلت الآية.
وفي البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال الله- تعالى- كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياى فقوله: لن يعيدني كما بدأنى، وأما شتمه إياى فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» «1» .
وقوله- سبحانه-: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ تكذيب لهم فيما زعموه من أن الله- تعالى- لا يبعث من يموت، ورد عليهم فيما قالوه بغير علم.
و «بلى» حرف يؤتى به لإبطال النفي في الخبر والاستفهام.
أى: بلى سيبعث الله- تعالى- الأموات يوم القيامة، وقد وعد بذلك وعدا صدقا لا خلف فيه ولا تبديل، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة لجهلهم بكمال قدرة الله- تعالى- وعموم علمه، ونفاذ إرادته، وسمو حكمته.
قال الجمل: وقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد، أى: وعد ذلك وعدا، وحق حقا. وقيل: حقا نعتا لوعدا، والتقدير، بلى يبعثهم وعد بذلك وعدا حقا» «2» .
وجيء بقوله «عليه» لتأكيد هذا الوعد، تفضلا منه- سبحانه- وكرما.
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 105.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 571.
والمراد بالحق هنا: الصدق الذي لا يتخلف، والثابت الذي لا يتبدل.
أى: وعدا صادقا ثابتا لا يقبل الخلف، لأن البعث من مقتضيات حكمته- سبحانه-.
والمراد بأكثر الناس: المشركون ومن كان على شاكلتهم في إنكار البعث والحساب والثواب والعقاب يوم القيامة.
وفي التنصيص على أكثر الناس، مدح للأقلية منهم، الذين آمنوا بالبعث وبالآخرة وما فيها من حساب، وهم المؤمنون الصادقون.
هذا، وقد حكى- سبحانه- مزاعم المشركين ورد عليها في آيات كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ.. «1» .
وقوله- تعالى-: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.. «2» .
ثم بين- سبحانه- الحكمة من بعث الناس يوم القيامة، فقال- تعالى-: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ.
واللام في قوله «ليبين لهم..» وفي قوله «وليعلم..» متعلقة بما دل عليه حرف «بلى» وهو يبعثهم. أى: بلى يبعث الله- تعالى- الموتى، ليظهر لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه في شأن البعث وغيره، وليعلم الذين كفروا علم مشاهدة ومعاينة، أنهم كانوا كاذبين في قسمهم أن الله- تعالى- لا يبعث من يموت، وفي غير ذلك من أقوالهم الباطلة.
وفي إظهار الحق، وفي بيان كذبهم يوم البعث، حسرة وندامة لهم، حيث ظهر لهم ما أنكروه في الدنيا، وما كانوا يستهزئون به، عند ما كان الرسل- عليهم الصلاة والسلام- يدعونهم إلى نبذ الشرك، وإلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده.
فالآية الكريمة قد بينت حكمتين لبعث الناس للحساب يوم القيامة، الأولى إظهار ما اختلفوا فيه في شأن البعث وغيره مما جاءتهم به الرسل. والثانية: إظهار كذب الكافرين الذين أنكروا البعث واستهزءوا بمن دعاهم إلى الإيمان به.
(1) سورة التغابن الآية 7.
(2)
سورة يس الآية 78، 79. [.....]
وقوله- سبحانه-: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ استئناف لتأكيد قدرة الله- تعالى- النافذة، وشمولها لكل شيء من بعث وغيره، وذلك لأن الكفار لما أقسموا بالله جهد أيمانهم بأنه- سبحانه- لا يبعث الموتى، ورد عليهم بما يبطل مزاعمهم، أتبع ذلك ببيان أن قدرته- تعالى- لا يتعاصى عليها شيء، ولا يحول دون نفاذها حائل.
قال الإمام ابن كثير: «أخبر- سبحانه- عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له «كن فيكون» . والمراد من ذلك إذا أراد كونه، فإنما يأمر به مرة واحدة فيكون كما يشاء، قال- تعالى-: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «1» وقال- سبحانه- ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «2» .
وقال- سبحانه- في هذه الآية إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أى:
يأمر به دفعة واحدة فإذا هو كائن قال الشاعر:
إذا ما أراد الله أمرا فإنما
…
يقول له «كن» قولة فيكون
أى: أنه- تعالى- لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به، فإنه- سبحانه- لا يمانع ولا يخالف، لأنه الواحد القهار العظيم، الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء..» «3» .
وقال بعض العلماء: وعبر- تعالى- عن المراد قبل وقوعه باسم الشيء، لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل، فلا تنافى الآية إطلاق الشيء- على خصوص الموجود دون المعدوم، لأنه لما سبق في علم الله أنه يوجد ذلك الشيء- وأنه يقول كن فيكون-، كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه.
أو لأنه أطلق عليه اسم الشيء باعتبار وجوده المتوقع كتسمية العصير خمرا في قوله إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً.. نظرا لما يؤول إليه..» «4» .
وقوله «فيكون» قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أى: فهو يكون.
وقرأ ابن عامر والكسائي «فيكون» بالنصب عطفا على قوله «أن نقول له..» .
(1) سورة القمر الآية 50.
(2)
سورة لقمان الآية 28.
(3)
تفسير ابن كثير ج 4 ص 491.
(4)
تفسير أضواء البيان ج 3 ص 272 الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.