الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
…
الآية نزلت في عمر بن الخطاب. وذلك أن رجلا من العرب شتمه، وسبه عمر وهمّ بقتله، فكادت تثير فتنة، فأنزل الله فيه: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وقيل: نزلت لما قال المسلمون: ائذن لنا يا رسول الله في قتال المشركين، فقد طال إيذاؤهم لنا فقال:«لم أومر بعد بالقتال» «1» .
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لعبادي المؤمنين، أن يقولوا عند محاورتهم لغيرهم، الكلمة التي هي أحسن، والعبارة التي هي أرق وألطف.
وذلك لأن الكلمة الطيبة، تزيد في المودة التي بين المؤمنين، وتكسر حدة العداوة التي بينهم وبين أعدائهم.
قال- تعالى-: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «2» .
قال الآلوسى: ومقول فعل الأمر محذوف، أى: قل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك. فجزم يقولوا لأنه جواب الأمر. وإلى هذا ذهب الأخفش.
(1) راجع تفسير القرطبي ج 10 ص 276.
(2)
سورة فصلت الآية 34.
وقال الزجاج: إن قوله يَقُولُوا هو المقول، وجزمه بلام الأمر محذوفة، أى: قل لهم ليقولوا
…
«1» .
وقوله- سبحانه-: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ تعليل للأمر السابق.
أى: إن الشيطان يتربص بكم، ويتلمس السقطات التي تقع من أفواهكم، والعثرات التي تنطق بها ألسنتكم، لكي يشيع الشر بينكم، ويبذر بذور الشر والبغضاء في صفوفكم، ويهيج أعداءكم عليكم.
وينزغ بمعنى يفسد. يقال: نزغه- كنفعه- ينزغه، إذا طعن فيه واغتابه، وقوله:
إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً تعليل لحرص الشيطان على الإفساد بينهم.
أى إن الشيطان حريص على الإفساد بين الناس، لأنه ظاهر العداوة لهم منذ القدم ولقد حذرنا الله- سبحانه- من الشيطان وكيده في كثير من آيات القرآن الكريم، ومن ذلك قوله- تعالى-: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ «2» .
وقوله- تعالى-: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما. إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ «3» .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: يأمر الله- تبارك وتعالى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإنه عدو لآدم وذريته.. وعداوته ظاهرة بينة، ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده. أى: فربما أصابه بها.
روى الإمام أحمد عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدرى أحدكم، لعل الشيطان أن ينزغ في يده، فيقع في حفرة من النار «4» .
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 94.
(2)
سورة فاطر. الآية 6.
(3)
سورة الأعراف الآية 27.
(4)
تفسير ابن كثير ج 3 ص 45.
ثم بين- سبحانه- أن مصير جميع الخلائق إليه، وأنه محيط بأحوالهم فقال. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ، إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ
…
أى: ربكم- أيها الناس- أعلم بكم من أنفسكم، وهو- سبحانه- إن يشأ بفضله يرحمكم، بأن يوفقكم لطاعته وتقواه، وإن يشأ بعدله يعذبكم، بسبب معاصيكم وفسوقكم عن أمره، لا يسأل- عز وجل عما يفعل، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
وقوله- تعالى-: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا بيان لوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أى: وما أرسلناك- أيها الرسول الكريم- إلى الناس، لتكون حفيظا ورقيبا. وموكولا إليك أمرهم في إجبارهم وإكراههم على الدخول في الإسلام، وإنما أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
ثم انتقل- سبحانه- من بيان كمال علمه بأحوال الناس، إلى بيان كمال علمه بجميع من في السموات والأرض، فقال- تعالى-: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
أى: وربك- أيها الرسول الكريم- أعلم بأحوال من في السموات والأرض من إنس وجن وملك، وغير ذلك، ولا يخفى عليه شيء من ظواهرهم أو بواطنهم، ولا يعزب عن علمه- تعالى- شيء من طاعتهم أو معصيتهم، ولا يعلم أحد سواه من هو أهل منهم للتشرف بحمل رسالته، وتبليغ وحيه كما قال: - تعالى-: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ.
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً بيان لمظهر من مظاهر علمه المطلق، وفضله العميم: وعطائه الواسع.
والزبور: هو الكتاب الذي أنزله الله- تعالى- على داود- عليه السلام.
أى: ولقد فضلنا- على علم وحكمة منا- بعض النبيين على بعض، بأن جعلنا منهم من كلم الله، ومنهم من اتخذناه خليلا لنا، ومنهم من آتيناه البينات وأيدناه بروح القدس، ومنهم من آتيناه الزبور وهو داود- عليه السلام.
قال الإمام ابن كثير: وقوله- تعالى-: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وقوله- تعالى-: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ
…
لا ينافي ما ثبت من الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تفضلوا بين الأنبياء» فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهى والعصبية، لا بمقتضى الدليل، فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه، ولا خلاف أن الرسل أفضل عن بقية الأنبياء، وأن أولى العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون