الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 52]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً (52)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا في الإلهيات، ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة.. «1» .
والرفات: ما تكسر وبلى من كل شيء كالفتات. يقال: رفت فلان الشيء يرفته- بكسر الفاء وضمها-، إذا كسره وجعله يشبه التراب.
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَإِذا كُنَّا
…
وفي قوله أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ..
للاستبعاد والإنكار.
أى: وقال الكافرون المنكرون لوحدانية الله- تعالى-، ولنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وللبعث والحساب، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنكار والاستبعاد، أإذا كنا يا محمد، عظاما بالية، ورفاتا يشبه التراب في تفتته ودقته، أإنا لمعادون إلى الحياة مرة أخرى، بحيث تعود إلينا أرواحنا، وتدب الحياة فينا ثانية، ونبعث على هيئة خلق جديد، غير الذي كنا عليه في الدنيا؟.
وقولهم هذا، يدل على جهلهم المطبق، بقدرة الله- تعالى- التي لا يعجزها شيء، وكرر- سبحانه- الاستفهام في الآية الكريمة، للإشعار بإيغالهم في الجحود والإنكار.
(1) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 224.
والعامل في إِذا محذوف، والتقدير: أنبعث أو أنحشر إذا كنا عظاما ورفاتا، وقد دل على هذا المحذوف قوله- تعالى-: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ.
وقوله- سبحانه-: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أمر من الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم فيما استبعدوه وأنكروه من إعادتهم الى الحياة بعد موتهم.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل الرد على استبعادهم، والتحقير من شأنهم، والتعجيز لهم:«كونوا» - إن استطعتم- حِجارَةً كالتي تعبدونها من دون الله، أَوْ حَدِيداً كالذي تستعملونه في شئون حياتكم، أَوْ كونوا خَلْقاً أى:
مخلوقا سوى الحجارة والحديد مِمَّا يَكْبُرُ أى: يعظم ويستبعد- فِي صُدُورِكُمْ المظلمة- قبوله للحياة، قل لهم: كونوا أى شيء من ذلك أو غيره إن استطعتم، فإن الله- تعالى- لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى، لكي يحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم عليها بما تستحقون من عقاب.
فالمقصود من الجملة الكريمة، بيان أن قدرة الله- تعالى- لا يعجزها شيء..
قال الجمل: أجابهم الله- تعالى- بما معناه: تحولوا بعد الموت إلى أى صفة تزعمون أنها أشد منافاة للحياة، وأبعد عن قبولها، كصفة الحجرية والحديدية ونحوهما. فليس المراد الأمر، بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله- تعالى- عن الإعادة «1» .
وقوله- تعالى-: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا أى: فسيقولون لك- أيها الرسول الكريم- من يعيدنا إلى الحياة مرة أخرى بعد أن نكون حجارة أو حديدا أو غيرهما؟.
وقوله- سبحانه-: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ رد على جهالاتهم وإنكارهم للبعث والحساب.
أى: قل لهم: الله- تعالى- الذي فطركم وخلقكم، أول مرة، على غير مثال سابق، قادر على أن يعيدكم الى الحياة مرة أخرى. كما قال- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» .
ثم بين- سبحانه- ما يكون منهم من استهزاء وسوء أدب عند ما يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الإجابات السديدة، فقال: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ
…
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 629.
(2)
سورة الروم الآية 27.
أى: فسيحركون إليك رءوسهم عند ما يسمعون ردك عليهم، ويقولون على سبيل الاستهزاء والسخرية والتكذيب: متى هو؟ أى ما ذكرته من الإعادة بعد الموت، أو متى هو ذلك اليوم الذي سنعود فيه إلى الحياة بعد أن نصير عظاما ورفاتا.
فالجملة الكريمة تصور تصويرا بليغا ما جبلوا عليه من تكذيب بيوم القيامة ومن استهزاء بمن يذكرهم بأحوال ذلك اليوم العصيب. ومن استبعاد لحصوله كما قال- تعالى-: حكاية عنهم في آية أخرى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وقوله- تعالى-: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً تذييل قصد به التهديد والوعيد لهم.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل التأنيب والوعيد: عسى هذا اليوم الذي تستبعدون حصوله، يكون قريبا جدا وقوعه.
ولا شك في أنه قريب، لأن عسى في كلام الله- تعالى- لما هو محقق الوقوع، وكل ما هو محقق الوقوع فهو قريب، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«بعثت أنا والساعة كهاتين» - وأشار بالسبابة والوسطى.
ثم بين- سبحانه- أحوالهم عند ما يدعون في هذا اليوم الهائل الشديد فقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ....
والظرف يَوْمَ منصوب بفعل مضمر أى: اذكروا يوم يدعوكم.. ويجوز أن يكون منصوبا على البدلية من قَرِيباً.
والداعي لهم هو «إسرافيل» عليه السلام عند ما يأذن الله- تعالى- له بالنفخ في الصور، كما قال- تعالى-: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «1» .
وكما قال- سبحانه-: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ «2» .
وقوله بِحَمْدِهِ حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار، والباء للملابسة.
أى: اذكروا- أيها المكذبون- يوم يدعوكم الداعي إلى البعث والنشور فتلبون نداءه
(1) سورة الزمر الآية 68.
(2)
سورة القمر. الآيات 6، 7، 8.
بسرعة وانقياد، حال كونكم حامدين الله- تعالى- على كمال قدرته، وناسين ما كنتم تزعمون في الدنيا من أنه لا بعث ولا حساب.
قال صاحب الكشاف: وقوله بِحَمْدِهِ حال منهم. أى: حامدين، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويتمنع، ستركبه وأنت حامد شاكر، يعنى: أنك تحمل عليه وتقسر قسرا. حتى أنك تلين لين المسمح- أى الذليل- الراغب فيه، الحامد عليه.
وعن سعيد بن جبير: ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك «1» .
وقوله: فَتَسْتَجِيبُونَ بمعنى تجيبون، إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة، فهي أوكد من الإجابة، وأسرع في التلبية.
وجملة «وتظنون إن لبثتم إلا قليلا» حالية، أى: والحال أنك تظنون عند بعثكم أنكم ما لبثتم في الدنيا أو في قبوركم إلا زمنا قليلا.
قال قتادة: إن الدنيا تحقرت في أعينهم وقلّت، حين رأوا يوم القيامة، لهول ما يرون فقالوا هذه المقالة.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-:.. كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ «2» .
وقوله- تعالى-: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ «3» .
وقوله- تعالى-: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها «4» .
ثم ترك القرآن الكريم أولئك الذين كفروا بالبعث والنشور في طغيانهم يعمهون، ووجه خطابه إلى المؤمنين، آمرا إياهم بأن يقولوا الكلمة الطيبة، ومبينا لهم ولغيرهم، أن مصائرهم بيد الله- تعالى- وحده، فقال- تعالى-:
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 672. [.....]
(2)
سورة المؤمنون الآية 112، 113.
(3)
سورة يس الآيات 51، 52.
(4)
سورة النازعات الآية 46.