الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الفراء: «لا جرم» كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزله حقا فلذلك يجاب عنها باللام، كما يجاب بها عن القسم ألا تراهم يقولون لا جرم لآتينك.
والمعنى: حق وثبت أن الله- تعالى- يعلم ما يسره هؤلاء المشركون وما يعلنونه من أقوال وأفعال، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقوبات، لأنه- سبحانه- لا يحب المستكبرين عن الاستجابة للحق، المغرورين بأموالهم وأولادهم، الجاحدين لنعم الله وآلائه.
قال القرطبي: قال العلماء: وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه، إلا الكبر، فإنه فسق يلزمه الإعلان، وهو أصل العصيان كله.
وفي الحديث الصحيح: «إن المتكبرين يحشرون أمثال الذرّ يوم القيامة، يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم: «تصغر لهم أجسامهم في المحشر حتى يضرهم صغرها، وتعظم لهم في النار حتى يضرهم عظمها» «1» .
وبعد أن أقامت السورة الكريمة الأدلة الساطعة، على وحدانية الله، وقدرته، وعلى بطلان عبادة غيره.. أتبعت ذلك بحكاية بعض أقاويل المشركين، وردت عليها بما يدحضها، وببيان سوء عاقبتهم، وعاقبة أشباههم من قبلهم، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 95.
وقوله- سبحانه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ حكاية لبعض ما كان يدور بين أولئك المستكبرين، وبين غيرهم من أسئلة واستفسارات حول القرآن الكريم.
والأساطير: جمع أسطورة، كأعاجيب وأعجوبة، وأحاديث وأحدوثة.
والمراد بها: الأكاذيب والترهات التي لا أصل لها، والتي كانت مبثوثة في كتب الأولين.
والمعنى: وإذا قال قائل لهؤلاء الكافرين المستكبرين، أى شيء أنزل ربكم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا له على سبيل الجحود للحق: لم ينزل عليه شيء، وإنما هذا القرآن الذين يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم على أتباعه، هو من أساطير الكهنة الأولين، نقله من كتبهم ثم قرأه على من يستمع إليه.
روى ابن أبى حاتم عن السدى قال: اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاءه يريده ردوه عنه.
فخرج ناس في كل طريق، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ووصل إليهم، قال أحدهم: أنا فلان بن فلان، فيعرفه نسبه، ثم يقول للوافد: أنا أخبرك عن محمد صلى الله عليه وسلم إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد
ومن لا خير فيهم، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له، فيرجع الوافد. فذلك قوله- تعالى- وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد، فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد لقومي أنا، إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم- من مكة- رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل، وأنظر ما يقول، وآتى قومي ببيان أمره. فيدخل مكة، فيلقى المؤمنين فيسألهم: ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: خيرا..» «1» .
وعبر- سبحانه- بالفعل «قيل» المبنى للمجهول، للإشارة إلى أن هذا القول الذي تفوه به عتاة الكافرين، كانوا يقولونه لكل من يسألهم عن القرآن الكريم، لكي يصدوه عن الدخول في الإسلام. وجملة «ماذا أنزل ربكم» نائب فاعل لقيل.
وقولهم- كما حكى القرآن عنهم- «أساطير الأولين» خبر لمبتدأ محذوف.
أى: قالوا هو أساطير الأولين أو المسئول عنه: أساطير الأولين.
ولقد حكى القرآن قولهم الباطل هذا، ورد عليه بما يدحضه في آيات كثيرة، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً «2» .
ثم بين- سبحانه- عاقبة كفرهم، ونطقهم بالباطل، فقال- تعالى-: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ....
واللام في قوله- «ليحملوا» هي التي تسمى بلام العاقبة، وذلك لأنهم لما وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين، كانت عاقبتهم تلك العاقبة السيئة.
والأوزار جمع وزر- بكسر الواو وسكون الزاى- بمعنى الشيء الثقيل.
المراد بها الذنوب والآثام التي يثقل حملها على صاحبها يوم القيامة، كما قال- تعالى-:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ «3» .
والمعنى: قالوا ذلك في القرآن الكريم، لتكون عاقبتهم أن يحملوا أوزارهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة.
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 131. [.....]
(2)
سورة الفرقان. الآيتان 5، 6.
(3)
سورة العنكبوت. الآية 13.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله «ليحملوا» متعلق- بقالوا- كما هو الظاهر.. واللام للعاقبة، لأن الحمل مترتب على قولهم وليس باعثا ولا غرضا لهم.
وعن ابن عطية: أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا، أى: قدر صدور ذلك منهم ليحملوا
…
«1» .
وقال- سبحانه- كامِلَةً لتأكيد أنه لا يرفع عنهم شيء من ذنوبهم، بل سيعاقبون عليها جميعا دون أن ينقص منها شيء.
قال الفخر الرازي: وهذا يدل على أن الله- تعالى- قد يسقط بعض العقاب على المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلا في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى.. «2» .
وقال بعض العلماء: «ويصور التعبير هذه الذنوب بكونها أحمالا ذات ثقل- وساءت أحمالا وأثقالا-، فهي توقر النفوس كما توقر الأحمال الظهور، وهي تثقل القلوب، كما تثقل الأحمال العواتق، وهي تتعب وتشقى كما تتعب الأثقال حاملها، بل هي أدهى وأنكى» «3» .
وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أنه يتمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله وجها، وأنتنه ريحا، فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده فزعا، وكلما تخوف من شيء زاده خوفا. فيقول له بئس الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول له وما تعرفني؟
فيقول: لا. فيقول: أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا، وكان منتنا فلذلك تراني منتنا. طأطئ إلى أركبك، فطالما ركبتني في الدنيا، فيركبه، وهو قوله- تعالى- لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ.. «4» .
وقوله: «ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم» بيان لأثقال أخرى يحملونها فوق أثقالهم.
أى: أن أولئك المستكبرين، قالوا في القرآن إنه أساطير الأولين، فكانت عاقبة قولهم الباطل أن حملوا آثامهم الخاصة، وأن حملوا فوقها جانبا من آثام من كانوا سببا في ضلالهم.
قال ابن كثير: أى يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم،
(1) تفسير الآلوسي ج 14 ص 124.
(2)
التفسير الكبير للفخر الرازي ج 20 ص 18.
(3)
في ظلال القرآن ج 14 ص 2167 للأستاذ سيد قطب.
(4)
تفسير ابن جرير ج 14 ص 66.
واقتداء أولئك بهم، كما جاء في الحديث:«من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» .
كما قال- تعالى-: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ «1» .
فهذه الآية وأمثالها، لا تعارض بينها وبين قوله- تعالى- وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «2» .
لأن هؤلاء المستكبرين لم يكتفوا بضلالهم في أنفسهم، بل تسببوا في إضلال غيرهم، فعوقبوا على هذا التسبب السيئ، الذي هو فعل من أفعالهم القبيحة.
وقوله «بغير علم» في موضع الحال من الضمير المنصوب في قوله «يضلونهم» .
أى: يضلون ناسا لا علم عندهم، فهم كالأنعام بل هم أضل، وفي ذلك ما فيه من مدح أهل العلم والتفكير، لأن الآية الكريمة قد بينت أن أئمة الكفر، يستطيعون إضلال من لا علم عنده، أما أصحاب العقول السليمة فلن يستطيعوا إضلالهم.
قالوا: واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث، وأن يميز بين الحق والباطل، ولا يعذر بسبب جهله.
وقيل: إن قوله «بغير علم» في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله «يضلونهم» .
أى: هم يضلون غيرهم حالة كونهم غير عالمين بما يترتب على ذلك من آثام وعقاب، إذ لو علموا ذلك لما أقدموا على هذا الإضلال لغيرهم.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ. قال الجمل:
و «ساء» فعل ماض لإنشاء الذم بمعنى بئس، و «ما» تمييز بمعنى شيئا، أو فاعل بساء، و «يزرون» صفة لما والعائد محذوف، أو «ما» اسم موصول، وقوله «يزرون» صلة الموصول، والعائد محذوف أى: يزرونه، والمخصوص بالذم محذوف» «3» .
والتقدير: بئس شيئا يزرونه ويحملونه نتيجة كفرهم وكذبهم وإضلالهم لغيرهم وافتتحت
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 484.
(2)
سورة الأنعام الآية 164.
(3)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 566.
الجملة الكريمة بأداة الاستفتاح «ألا» للاهتمام بما تضمنه التحذير، حتى يقلعوا عن كفرهم، ويثوبوا إلى رشدهم، ويحترسوا عن الوقوع في الباطل من القول.
ثم سلى الله- تعالى- نبيه والمؤمنين، فبين لهم أن هؤلاء المستكبرين الذين قالوا في القرآن: إنه أساطير الأولين، سيحيق بهم مكرهم السيئ، كما حاق بالذين من قبلهم.
فقال- تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ.
وقوله- سبحانه- «مكر» من المكر، وهو التدبير المحكم، أو صرف الغير عما يريده بحيلته، وهو مذموم إن تحرى به الماكر الشر والباطل، ومحمود إن تحرى به الخير والحق.
والمراد به هنا النوع الأول.
والمراد بالذين من قبلهم: الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة، كقوم نوح وهود وصالح.
وقوله: «فأتى الله بنيانهم..» أى: أهلكهم، كما في قوله- تعالى-
…
فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا.. «1» .
ويقال: أتى فلان من مأمنه أى: نزل به الهلاك من جهة أمنه. وأتى عليه الدهر. أى:
أهلكه وأفناه. ومنه الأتوّ. وهو الموت والبلاء.
يقال: أتى على فلان أتوّ، أى موت أو بلاء يصيبه.
والقواعد: جمع قاعدة. وهي أساس البناء، وبها يكون ثباته واستقراره.
والمعنى: لا تهتم- أيها الرسول الكريم- بما يقوله المستكبرون من قومك في شأن القرآن الكريم لكي يصرفوا الناس عن الدخول في الإسلام، فقد مكر الذين من قبلهم بأنبيائهم، فكانت عاقبة مكرهم أن أتى الله بنيانهم من القواعد، بأن اجتث هذا البنيان من أصله واقتلعه من أساسه «فخر عليهم السقف من فوقهم» أى: فسقط عليهم سقف بنيانهم فأهلكهم «وأتاهم العذاب» المبير المدمر «من حيث لا يشعرون» ولا يحتسبون بأنه سيأتيهم من هذه الجهة، بل كانوا يتوقعون أن ما شيدوه سيحميهم من المهالك.
فالآية الكريمة تصور بأسلوب بديع معجز، كيف أن هؤلاء الماكرين، قد حصنوا أنفسهم بالبناء المحكم المتين، ليتقوا ما يؤذيهم، إلا أن جميع هذه التحصينات قد هوت وتساقطت على
(1) سورة الحشر. الآية 2.
رءوسهم، أمام قوة الله- تعالى- التي لا ترد، فإذا بالبناء الذي بنوه ليحتموا به، قد صار مقبرة لهم.
وصدق الله إذ يقول: وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
«1» .
وقال- سبحانه-: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ مع أن السقف لا يكون إلا من فوق، لتأكيد الكلام وتقويته.
وقال القرطبي: قال ابن الأعرابى: وكد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته، والعرب تقول:
خر علينا سقف، ووقع علينا حائط، إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله:«من فوقهم» ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب، فقال:«من فوقهم» أى: عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا..» «2» .
هذا ومن المفسرين الذين رجحوا أن الآية مسوقة على سبيل التمثيل، الفخر الرازي.
فقد قال: وفي قوله- سبحانه- فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ قولان:
الأول: أن هذا محض التمثيل.
والمعنى أنهم رتبوا حيلا ليمكروا بها على أنبياء الله، فجعل الله- تعالى- حالهم في تلك الحيل، مثل حال قوم بنوا بنيانا وعموده بالأساطين، فانهدم ذلك البناء، وضعفت تلك الأساطين، فسقط السقف عليهم، ونظيره قولهم: من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه.
- ووجه الشبه أن ما عدوه سبب بقائهم، صار سبب استئصالهم وفنائهم.
الثاني: أن المراد منه ما دل عليه الظاهر، وهو أن الله- تعالى- أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته.
والأول أقرب إلى المعنى «3» .
ومن المفسرين الذين رجحوا أن الكلام على حقيقته، الإمام ابن جرير فقد قال- بعد أن سرد بعض الأقوال-: وأولى الأقوال بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك، تساقطت
(1) سورة النمل الآيات 50، 51، 52.
(2)
تفسير القرطبي ج 10 ص 97.
(3)
تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 20.
عليهم سقوف بيوتهم، إذ أتى على أصولها وقواعدها أمر الله، فانكفأت بهم منازلهم، لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف.
وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وجد إليه سبيل» «1» .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير- رحمه الله أولى بالقبول، لأنه مادام اللفظ صالحا للحمل على الحقيقة، فلا داعي لصرفه عن ذلك.
وقد حكى لنا القرآن الكريم صنوفا من العذاب الذي أنزله الله- تعالى- بالظالمين، ومن ذلك قوله- تعالى-: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «2» .
ثم بين- سبحانه- مصيرهم في الآخرة، بعد أن بين عاقبة مكرهم في الدنيا فقال- تعالى-: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ
…
أى: هذا هو مصير هؤلاء المستكبرين في الدنيا، أما مصيرهم في الآخرة فإن الله- تعالى- يذلهم ويهينهم ويفضحهم على رؤوس الأشهاد، ويقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: أين شركائى في العبادة والطاعة، الذين كنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، قائلين لهم: إنكم لا بد لكم من إشراكهم معى في العبادة.
وجيء بثم المفيدة للترتيب النسبي، للإشارة إلى ما بين الجزاءين من تفاوت فإن خزي الآخرة أشد وأعظم مما نزل بهم من دمار في الدنيا.
والاستفهام في قوله «أين شركائى..» للتهكم بهم وبمعبوداتهم الباطلة التي كانوا يعبدونها في الدنيا، فإنهم كانوا يقولون للمؤمنين إن صح ما تقولونه من العذاب في الآخرة، فان الأصنام ستشفع لنا.
أى: أين هؤلاء الشركاء ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من خزي وذلة وعذاب مهين؟! وأضاف- سبحانه- الشركاء إليه، لزيادة توبيخهم، لأنهم في هذا اليوم العظيم، يعلمون
(1) تفسير ابن جرير ج 14 ص 68. [.....]
(2)
سورة العنكبوت. الآية 40.
علم اليقين أنه لا شركاء له- سبحانه- وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ «1» .
قال الجمل ما ملخصه: وقوله: «تشاقون» من المشاقة وهي عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه.
وقرأ نافع «تشاقون» بكسر النون خفيفه، وقرأ الباقون بفتح النون، ومفعوله محذوف.
أى: تشاقون المؤمنين، أو تشاقون الله، بدليل القراءة الأولى
…
» «2» .
ثم حكى- سبحانه- ما يقوله أولو العلم في هذا الموقف الهائل الشديد فقال- تعالى-: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ.
والمراد بالذين أوتوا العلم، كل من اهتدى إلى الحق في الدنيا وأخلص لله- تعالى- العبادة والطاعة.
أى: قال الذين هداهم الله- تعالى- إلى صراطه المستقيم، في هذا اليوم العصيب، إن الخزي الكامل، في هذا اليوم، والسوء الذي ليس بعده سوء، على هؤلاء الكافرين، أصحاب القلوب المنكرة للحق، والنفوس الجاحدة لليوم الآخر وما فيه من حساب.
وجيء بجمله «قال الذين أوتوا العلم..» غير معطوفة على ما قبلها، لأنها واقعة موقع الجواب لقوله- سبحانه- «أين شركائى
…
» وللتنبيه على أن الذين أوتوا العلم سارعوا بالجواب بعد أن وجم المستكبرون، وعجزوا عن الإجابة.
وقولهم هذا يدل على شماتتهم بأعداء الله- تعالى-، وتوبيخهم لهم على كفرهم، واستكبارهم عن الاستماع إلى كلمة الحق.
وقال- سبحانه-: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
…
بلفظ الماضي، مع أن هذا القول سيكون في الآخرة، للإشارة إلى تحقق وقوعه، وأنه كائن لا محالة.
ثم صور- سبحانه- أحوال هؤلاء الكافرين ساعة انتزاع أرواحهم من أجسادهم وساعة وقوفهم للحساب، فقال- تعالى-: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ.......
قال الآلوسى: وفي الموصول أوجه الإعراب الثلاثة: الجر على أنه صفة للكافرين،
(1) سورة القصص: الآية 74.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 567.
أو بدل منه، أو بيان له، والنصب والرفع على القطع للذم. وجوز بعضهم كونه مرتفعا بالابتداء، وجملة «فألقوا» خبره..» «1» .
والمراد بالملائكة: عزرائيل ومن معه من الملائكة.
والمراد بظلمهم لأنفسهم: إشراكهم مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة.
أى: إن أشد أنواع الخزي والعذاب يوم القيامة على الكافرين، الذين تنتزع الملائكة أرواحهم من أجسادهم وهم ما زالوا باقين على الكفر والشرك دون أن يتوبوا منهما، أو يقلعوا عنهما. وقوله:«ظالمي أنفسهم» حال من مفعول تتوفاهم.
وفي وصف هؤلاء الكافرين بكونهم «ظالمي أنفسهم» إشعار إلى أن الملائكة تنتزع أرواحهم من جنوبهم بغلظة وقسوة، ويشهد لذلك قوله- تعالى-: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ
…
«2» .
وقوله «فألقوا السلم» بيان لما صار إليه هؤلاء المستكبرون من ذل وخضوع في الآخرة، بعد أن كانوا مغترين متجبرين في الدنيا.
وأصل الإلقاء يكون في الأجسام والمحسات فاستعير هنا لإظهار كمال الخضوع والطاعة، حيث شبهوا بمن ألقى سلاحه أمام الأقوى منه، بدون أية مقاومة أو حركة.
والمراد بالسلم: الاستسلام والاستكانة. أى: أنهم عند ما عاينوا الموت، وتجلت لهم الحقائق يوم القيامة، خضعوا واستكانوا واستسلموا وانقادوا، وقالوا: ما كنا في الدنيا نعمل عملا سيئا، توهما منهم أن هذا القول ينفعهم.
وقد حكى الله- تعالى- عنهم في آيات أخرى ما يشبه هذا القول، ومن ذلك قوله- تعالى-: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.
وقوله- سبحانه- بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تكذيب لهم في دعواهم أنهم ما كانوا يعملون السوء لأن لفظ «بلى» لإبطال ما نفوه.
أى: بلى كنتم تعملون السوء، لأن الله- تعالى- لا تخفى عليه خافية من أعمالكم،
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 128.
(2)
سورة الأنفال الآية 50.