الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى القول الثاني فالعامل في الظرف اسم الفاعل الذي هو «منتصرا» . أى: لم يكن انتصاره واقعا هنالك «1» .
وقوله- سبحانه-: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أى: هو- عز وجل خير إثابة وإعطاء لأوليائه، وخير عاقبة لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
وعاقبة الأمر: آخره وما يصير إليه منتهاه. و «ثوابا» و «عقبا» منصوبان على التمييز، بعد صيغة التفضيل «خير» التي حذفت منها الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال كما قال ابن مالك- رحمه الله:
وغالبا أغناهم خير وشر
…
عن قولهم أخير منه وأشر
وبذلك نرى أن هذه القصة التي ضربها الله- تعالى- مثلا للأخيار والأشرار قد بينت لنا بأسلوب بليغ أخاذ، صور عاقبة الجاحدين المغرورين وحسن عاقبة الشاكرين المتواضعين، كما بينت لنا الآثار الطيبة التي تترتب على الإيمان والعمل الصالح، والآثار السيئة التي يفضى إليها الكفر وسوء العمل، كما بينت لنا أنّ المتفرد بالولاية والقدرة هو الله- عز وجل فلا قوة إلا قوته، ولا نصر إلا نصره، ولا مستحق للعبادة أحد سواه، ولا ثواب أفضل من ثوابه ولا عاقبة لأوليائه خير من العاقبة التي يقدرها لهم، وصدق- سبحانه- حيث يقول:
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً.
ثم تنتقل السورة الكريمة من ضرب المثل الجزئى الشخصي، إلى ضرب مثال آخر عام كلى، فبينت أن الحياة الدنيا في قصرها وذهاب زينتها.. كتلك الجنة التي أصبحت حطاما، بعد اخضرارها وكثرة ثمرها، كما بينت أن هناك زينة فانية، وأن هنالك أعمالا صالحة باقية قال- تعالى-:
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
(1) تفسير أضواء البيان ج 5 ص 108.
قال الإمام الرازي: اعلم أن المقصود: اضرب لهم مثلا آخر يدل على حقارة الدنيا، وقلة بقائها. والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين..» «1» .
والمعنى. واذكر لهم- أيها الرسول الكريم- ما يشبه هذه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها، ثم في سرعة زوال هذا الحسن والنضارة، لكي لا يركنوا إليها، ولا يجعلوها أكبر همهم، ومنتهى آمالهم.
وقوله: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ.. بيان للمثل الذي شبه الله- تعالى- به الحياة الدنيا أى: مثلها في ازدهارها ثم في زوال هذا الازدهار، كهيئة أو كصفة ماء أنزلناه بقدرتنا من السماء، في الوقت الذي نريد إنزاله فيه.
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ والاختلاط والخلط: امتزاج شيئين فأكثر بعضهما ببعض.
أى: كماء أنزلناه من السماء، فاختلط وامتزج بهذا الماء نبات الأرض، فارتوى منه، وصار قويا بهيجا يعجب الناظرين إليه.
وفي التعبير بقوله: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ دون قوله: فاختلط بنبات الأرض إشارة إلى كثرة الماء النازل من السماء، وإلى أنه السبب الأساسى في ظهور هذا النبات، وفي بلوغه قوته ونضارته.
وقوله: فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ بيان لما صار إليه هذا النبات من يبوسته وتفتته، بعد اخضراره وشدته وحسنه.
قال القرطبي ما ملخصه: «هشيما» أى متكسرا متفتتا، يعنى بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه، والهشم، كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات: اليابس المتكسر.. ورجل هشيم: ضعيف البدن.
و «تذروه الرياح» أى تفرقه وتنسفه.. يقال: ذرت الريح الشيء تذروه ذروا، إذا طارت به وأذهبته» «2» .
(1) تفسير الفخر الرازي ج 21 ص 130.
(2)
تفسير القرطبي ج 10 ص 413.
أى: فأصبح النبات بعد اخضراره، يابسا متفتتا، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به حيث شاءت وكيف شاءت.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد شبهت حال الدنيا في حسنها وجمال رونقها، ثم في سرعة زوالها وفنائها بعد ذلك، بحال النبات الذي نزل عليه الماء فاخضر واستوى على سوقه، ثم صار بعد ذلك يابسا متفتتا تذهب به الرياح حيث شاءت.
والتعبير بالفاء في قوله- سبحانه- فاختلط. فأصبح.. يزيد الأسلوب القرآنى جمالا وبلاغة، لأن فاء التعقيب هنا تدل على قصر المدة التي استمر فيها النبات نضرا جميلا، ثم صار هشيما تذروه الرياح.
وهكذا الحياة تبدو للمتشبثين بها، جميلة عزيزة، ولكنها سرعان ما تفارقهم ويفارقونها، حيث ينزل بهم الموت فيجعل آمالهم تحت التراب.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أى: وكان الله- تعالى- وما زال- على كل شيء من الأشياء التي من جملتها الإنشاء والإفناء كامل القدرة، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقد ذكر- سبحانه- ما يشبه هذه الآية في سور كثيرة، ومن ذلك قوله- تعالى-:
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «1» .
ثم بين- سبحانه- القيمة الحقيقة للمال وللبنين فقال: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا.
والمال: اسم لكل ما يتموله الإنسان ويتملكه من النقود والعقار والحرث والأنعام.. إلخ والبنون: جمع ابن.
والزينة: مصدر. والمراد بها هنا، ما في الشيء من محاسن ترغب الإنسان في حبه.
أى: المال والبنون زينة يتزين بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ويتباهى بها على غيره.
وإنما كانا كذلك، لأن في المال- كما يقول القرطبي- جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا.
(1) سورة يونس الآية 24.
قال الآلوسى: وتقديم المال على البنين- مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك.. ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بغير مال فهو في أضيق حال..» «1» .
وفي التعبير بقوله- سبحانه- زينة، بيان بديع. وتعبير دقيق لحقيقتهما، فهما زينة وليسا قيمة، فلا يصح أن توزن بهما أقدار الناس، وإنما توزن أقدار الناس بالإيمان والعمل الصالح، كما قال- تعالى- إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
ولذا جاء التعقيب منه- سبحانه- بقوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا.
أى: المال والبنون زينة يتزين ويتفاخر بها كثير من الناس في هذه الحياة الدنيا، وإذا كان الأمر كذلك في عرف كثير منهم. فإن الأقوال الطيبة، والأعمال الحسنة، هي الباقيات الصالحات، التي تبقى ثمارها للإنسان، وتكون عند الله- تعالى- خَيْرٌ من الأموال والأولاد، ثوابا وجزاء وأجرا وَخَيْرٌ أَمَلًا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما كان يؤمله ويرجوه في الدنيا من فوز بنعيم الجنة، أما المال والبنون فكثيرا ما يكونان فتنة.
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الآثار في تعيين المراد بالباقيات الصالحات فقال: قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: والباقيات الصالحات: الصلوات الخمس.
وقال عطاء بن أبى رياح وسعيد بن جبير عن ابن عباس: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ:
سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.. «2» .
ويبدو لنا أن قوله- تعالى-: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ لفظ عام، يشمل كل قول، أو عمل يرضى الله- عز وجل ويدخل في ذلك دخولا أوليا: الصلوات الخمس وغيرها مما ذكره المفسرون من أقوال.
وسمى- سبحانه- ما يرضيه. من أقوال، وأعمال بالباقيات الصالحات لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية، بخلاف زينة الحياة الدنيا فإنها زائلة فانية.
قال الإمام ابن جرير- رحمه الله وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: هن جميع أعمال الخير.. لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازى
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 286.
(2)
راجع تفسير ابن كثير ج 5 ص 157.