الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المؤمنين أو الكافرين، لا يعول عليه، لضعف الروايات التي وردت في ذلك، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال الآلوسى ما ملخصه: وما روى من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار، أو بالأبكم أبى بن خلف، والآمر بالعدل عثمان بن مظعون لا يصح إسناده..» «1» .
وبهذين المثلين تكون السورة الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأسطعها على صحة قوله- تعالى- قبل ذلك: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ....
ثم ساقت السورة بعد ذلك ما يدل على إحاطة علمه- سبحانه- بكل شيء، وعلى شمول قدرته، وعلى سابغ نعمته، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 83]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 197.
والمراد بالغيب في قوله- سبحانه- وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
…
ما لا تدركه الحواس، ولا تحيط بكنهه العقول لأنه غائب عن مدارك الخلائق.
والكلام على حذف مضاف، والتقدير: لله- تعالى- وحده، علم جميع الأمور الغائبة عن مدارك المخلوقين، والتي لا سبيل لهم إلى معرفتها لا عن طريق الحس، ولا عن طريق العقل.
ومن كانت هذه صفته، كان مستحقا للعبادة والطاعة، لا تلك المعبودات الباطلة التي لا تعلم من أمرها أو من أمر غيرها شيئا.
وقوله- سبحانه-: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بيان لسرعة نفاذ أمره بدون مهلة.
والساعة في الأصل: اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين. والمراد بها هنا يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال.
وسمى يوم القيامة بالساعة: لوقوعه بغتة، أو لسرعة ما يقع فيه من حساب أو لأنه على طوله زمنه يسير عند الله- تعالى-.
واللمح: النظر الذي هو في غاية السرعة. يقال لمحه لمحا ولمحانا إذا رآه بسرعة فائقة، ولمح البصر: التحرك السريع لطرف العين من جهة الى جهة، أو من أعلى إلى أسفل.
و «أو» هنا للتخيير بالنسبة لقدرة الله- تعالى- أو للإضراب.
أى: ولله- سبحانه- وحده علم جميع ما غاب في السموات والأرض من أشياء، وما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته، وما يترتب عليه من إماتة وإحياء، وحساب، وثواب وعقاب
…
ما أمر ذلك كله إلا كتحرك طرف العين من جهة إلى جهة، أو هو- أى أمر قيامها- أقرب من ذلك وأسرع، بحيث يكون في نصف هذا الزمان أو أقل من ذلك، لأن قدرته لا يعجزها شيء، قال- تعالى-: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. والمقصود من هذه الجملة الكريمة: بيان سرعة تأثير قدرة الله- عز وجل متى توجهت إلى شيء من الأشياء.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يؤكد شمول قدرته فقال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى: إن الله- تعالى- لا يعجز قدرته شيء سواء أكان هذا الشيء يتعلق بأمر قيام الساعة في أسرع من لمح البصر.. أم بغير ذلك من الأشياء.
ثم ساق- تعالى- بعد ذلك أنواعا من نعمه على عباده فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً. أى: والله- تعالى- وحده هو الذي أخرجكم- أيها الناس- من بطون أمهاتكم إلى هذه الحياة، وأنتم لا تعلمون شيئا لا من العلم الدنيوي ولا من العلم الديني، ولا تعرفون ما يضركم أو ينفعكم، والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً
…
وجملة «لا تعلمون شيئا» حال من الكاف في «أخرجكم» .
وقوله- سبحانه- وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة ثانية من نعمة الله- سبحانه- التي لا تحصى.
أى: أن من نعمة الله- تعالى- أنه أخرجكم من بطون أمهاتكم- بعد أن مكثتم فيها شهورا تحت كلاءته ورعايته- وأنتم لا تعرفون شيئا، وركب فيكم بقدرته النافذة، وحكمته البالغة، «السمع» الذي تسمعون به، والبصر الذي بواسطته تبصرون، «والأفئدة» التي عن طريقها تعقلون وتفقهون، لعلكم بسبب كل هذه النعم التي أنعمها عليكم، تشكرونه حق الشكر، بأن تخلصوا له العبادة والطاعة، وتستعملوا نعمه في مواضعها التي وجدت من أجلها.
قال الجمل: وجملة: «وجعل لكم السمع والأبصار
…
» ابتدائية، أو معطوفة على ما قبلها، والواو لا تقتضي ترتيبا، فلا ينافي أن هذا الجعل قبل الإخراج من البطون. ونكتة تأخيره- أى الجعل- أن السمع ونحوه من آلات الإدراك، إنما يعتد به إذا أحس الإنسان
وأدرك وذلك لا يكون الا بعد الإخراج. وقدم السمع على البصر، لأنه طريق تلقى الوحى، أو لأن إدراكه أقدم، من إدراك البصر. وإفراده- أى السمع- باعتبار كونه مصدرا في الأصل
…
«1» .
وقال الإمام ابن كثير: «وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا حتى يبلغ أشده. وإنما جعل- تعالى- هذه الحواس في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه كما جاء في صحيح البخاري عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول تعالى- «من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب.
وما تقرب إلى عبدى بشيء أفضل مما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن دعاني لأجيبنه ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددى في قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه» .
فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة، صارت أفعاله كلها لله، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله أى: لما شرعه الله له.. «2» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «3» .
ثم حض- سبحانه- عباده على التفكر في مظاهر قدرته فقال- تعالى-: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ
…
والطير: جمع طائر كركب وراكب. و «مسخرات» من التسخير بمعنى التذليل والانقياد أى: ألم ينظر هؤلاء الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى في العبادة، إلى الطيور وهن يسبحن في الهواء المتباعد بين الأرض والسماء، ما يمسكهن في حال قبضهن وبسطهن لأجنحتهن إلا الله- تعالى-، بقدرته الباهرة، وبنواميسه التي أودعها في فطرة الطير.
إنهم لو نظروا نظر تأمل وتعقل، لعلموا أن المسخر لهن هو الله الذي لا معبود بحق سواه
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 589.
(2)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 579. [.....]
(3)
سورة الملك الآية 24.
وفي قوله- تعالى- «مسخرات» إشارة إلى أن طيرانها في الجو ليس بمقتضى طبعها، وإنما هو بتسخير الله تعالى لها وبسبب ما أوجد لها من حواس ساعدتها على ذلك، كالأجنحة وغيرها. وأضاف- سبحانه- الجو إلى السماء لارتفاعه عن الأرض، ولإظهار كمال قدرته- سبحانه-.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
أى: إن في ذلك التسخير والتذليل للطير على هذه الصفة «لآيات» بينات على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته، «لقوم يؤمنون» بالحق، ويفتحون قلوبهم له ويسمون بأنفسهم عن التقليد الباطل.
ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من النعم، منها ما يتعلق بنعمة المسكن فقال- تعالى-:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً....
قال القرطبي: قوله- تعالى-: جَعَلَ لَكُمْ معناه صير، وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت، وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت وقوله:«سكنا» أى: تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة
…
«1» .
والحق أن نعمة السكن في البيوت والاستقرار فيها، والشعور بداخلها بالأمان والاطمئنان، هذه النعمة لا يقدرها حق قدرها، إلا أولئك الذين فقدوها، وصاروا يعيشون بلا مأوى يأويهم، أو منزل يجمع شتاتهم.
والتعبير بقوله عز وجل سَكَناً فيه ما فيه من السمو بمكانة البيوت التي يسكنها الناس. فالبيت مكان السكينة النفسية، والراحة الجسدية، هكذا يريده الإسلام، ولا يريده مكانا للشقاق والخصام، لأن الشقاق والخصام ينافي كونه «سكنا» .
والبيت له حرمته التي جعل الإسلام من مظاهرها، عدم اقتحامه بدون استئذان، وعدم التطلع إلى ما بداخله، وعدم التجسس على من بداخله.
وصيانة حرمة البيت- كما أمر الإسلام- تجعله «سكنا» آمنا، يجد فيه أصحابه كل ما يريدون من الراحة النفسية والشعورية.
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 152.
وقوله- تعالى-: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ بيان لنعمة أخرى تتمثل في البيوت الخفيفة المتنقلة، بعد الحديث عن البيوت الثابتة المستقرة.
والأنعام: جمع نعم. وتشمل الإبل والبقر والغنم، ويدخل في الغنم المعز.
والظعن بسكون العين وفتحها: التحول والانتقال والرحيل من مكان إلى آخر طلبا للكلأ، أو لمساقط الغيث، أو لغير ذلك من الأغراض.
أى: ومن نعمه أيضا أنه أوجد لكم من جلود الأنعام بيوتا «تستخفونها» أى: تجدونها خفيفة «يوم ظعنكم» أى: يوم سفركم ورحيلكم من موضع إلى آخر «ويوم إقامتكم» في مكان معين بحيث يمكنكم أن تنصبوها لترتاحوا بداخلها، بأيسر السبل، وذلك كالقباب والخيام والأخبية، وغير ذلك من البيوت التي يخف حملها.
ثم ختم- سبحانه- الآية بإبراز نعمة ثالثة، تتمثل فيما يأخذونه من الأنعام فقال- تعالى-: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها، وَأَشْعارِها، أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ.
والأثاث: متاع البيت الكثير، وأصله من أث الشيء- بفتح الهمزة وتشديد الثاء مع الفتح- إذا كثر وتكاتف، ومنه قول الشاعر.
وفرع يزين المتن أسود فاحم
…
أثيت كقنو النخلة المتعثكل «1»
ويشمل جميع أصناف المال كالفرش وغيرها.
والمتاع: ما يتمتع به من حوائج البيت الخاصة كأدوات الطعام والشراب، فيكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام.
وقيل: هما بمعنى واحد. والعطف لتنزيل تغاير اللفظ بمنزله تغاير المعنى.
أى: ومن أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، تتخذون لأنفسكم «أثاثا» كثيرا تستعملونه في مصالحكم المتنوعة، كما تتخذون من ذلك ما تتمتعون به في بيوتكم وفي معاشكم «إلى حين» أى: إلى وقت معين قدره الله- تعالى- لكم في تمتعكم بهذه الأصواف والأوبار والأشعار.
وبعد الحديث عن نعمة البيوت والأنعام جاء الحديث عن نعمة الظلال والجبال واللباس،
(1) الفرع: الشعر التام: والمتن: ما عن يمين الرأس وشماله، والفاحم: الشديد السواد. والأثيت: الكثير المتكاثف.
والمتعثكل: الذي دخل بعضه في بعض لكثرته (راجع تفسير القرطبي ج 10 ص 154) .
فقال- تعالى-: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا....
والظلال: جمع ظل، وهو ما يستظل به الإنسان.
أى: والله- تعالى- بفضله وكرمه جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد، كالأبنية والأشجار، وغير ذلك من الأشياء التي تستظلون بها.
وقوله- تعالى- وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً
…
نعمة ثانية.
والأكنان جمع كن- بكسر الكاف- وأصله السّترة، والجمع: أكنان وأكنّة، ومنه قوله- تعالى-: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ
…
«1» أى في أستار وأغطية فلا يصل إليها قولك
…
والمراد بالأكنان هنا: المغارات والأسراب والكهوف المنحوتة في بطون الجبال.
أى: وجعل لكم- سبحانه- من الجبال مواضع تستترون فيها من الحر أو البرد أو المطر، أو غير ذلك من وجوه انتفاعكم بتلك الأكنان.
وقوله- سبحانه- وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ نعمة ثالثة. والسرابيل: جمع سربال وهي كل ما يتسربل به: أى يلبسه الناس للتستر والوقاية كالقمصان والثياب والدروع وغيرها. أى: وجعل لكم من فضله وكرمه ملابس تتقون بها ضرر الحر وضرر البرد، وملابس أخرى هي الدروع وما يشبهها- تتقون بها الضربات والطعنات التي تسدد إليكم في حالة الحرب.
وقال- سبحانه-: تَقِيكُمُ الْحَرَّ مع أنها تقى من الحر والبرد، اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر، أو اكتفى بذكر الحر لأنه الأهم عندهم، إذ من المعروف أن بلاد العرب يغلب عليها الحر لا البرد.
قال صاحب الكشاف: لم يذكر البرد، لأن الوقاية من الحر أهم عندهم، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيرا محتملا، وقيل: ما يقي من الحر يقي من البرد، فدل ذكر الحر على البرد «2» .
وقال القرطبي: قال العلماء: في قوله- تعالى-: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ دليل
(1) سورة فصلت الآية 5.
(2)
تفسير الكشاف ج 2 ص 626.
على اتخاذ الناس عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء. وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه.. «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أى: كذلك الإتمام السابغ للنعم التي أنعم بها- سبحانه- على عباده يتم نعمته عليكم المتمثلة في نعم الدين والدنيا، لعلكم بذلك تسلمون وجوهكم لله- عز وجل، وتدخلون في دين الإسلام عن اختيار واقتناع، فإن من شاهد كل هذه النعم، لم يسعه إلا الدخول في الدين الحق.
ثم سلى الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
وجواب الشرط محذوف، والتقدير: فإن استمر هؤلاء المشركون في إعراضهم عن دعوتك بعد هذا البيان والامتنان، فلا لوم عليك، فأنت عليك البلاغ الواضح ونحن علينا محاسبتهم، ومعاقبتهم بما يستحقون من عقاب.
وقوله- سبحانه-: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ استئاف مسوق لبيان الموقف الجحودى الذي وقفه المشركون من نعم الله- تعالى-.
والمراد بالكفر في قوله- تعالى-: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ الستر لنعم الله عن معرفة لها، وغمطها عن تعمد وإصرار.
أى: إن هؤلاء المشركين، يعرفون نعم الله التي عددها في هذه السورة، كما أنهم يعترفون بأن خالقهم وخالق السموات والأرض هو الله، ولكنهم ينكرون هذه النعم بأفعالهم القبيحة، وأقوالهم الباطلة، كقولهم هذه النعم من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا الأصنام، أو كقولهم: هذه النعم ورثناها عن آبائنا.
وجاء التعبير بثم لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة بالنعم، فإن من شأن العالم بالنعمة أن يؤدى الشكر لمسديها، وأن يستعملها فيما خلقت له.
وقوله وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أى: وأكثر هؤلاء الضالين. جاحدون لنعم الله عن علم بها لا عن جهل، وعن تذكر لا عن نسيان.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا.. «2» .
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 160.
(2)
سورة النمل الآية 14.