الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد بشرهم- سبحانه- بجنات عدن، ثم بشرهم ثانيا بأن الأنهار تجرى من تحتهم، ثم بشرهم ثالثا بأنهم يحلون فيها من أساور من ذهب، ثم بشرهم رابعا بأنهم يلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق، ثم بشرهم خامسا، بأنهم يتكئون في تلك الجنات على الأرائك.
وفي هذه البشارات ما فيها من الحض على المسارعة إلى العمل الصالح، الذي يرفع درجات المؤمن إلى أعلى عليين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، نسأل الله- تعالى- أن يرزقنا هذا الفضل، فهو أكرم مسئول، وأعظم مأمول.
ثم ساقت السورة الكريمة مثلا للنفس الإنسانية المغرورة المتفاخرة بزينة الحياة الدنيا، الجاحدة لنعم الله
…
وللنفس الإنسانية المتواضعة، المعتزة بعقيدتها السليمة، الشاكرة لربها
…
لكي يكون في هذا المثل عبرة وعظة لمن كان له قلب، فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 36]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
والمثل في اللغة: الشبيه والنظير، وهو في عرف القرآن الكريم: الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع.
وضرب المثل: إيراده، وعبر عن إيراده بالضرب، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع.
أى: واضرب- أيها الرسول الكريم- مثلا للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه، وللكافرين الذين غرتهم الحياة الدنيا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
قال الآلوسى: والمراد بالرجلين: إما رجلان مقدران على ما قيل، وضرب المثل لا يقتضى وجودهما. وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه. فقيل هما رجلان من بنى إسرائيل أحدهما: كافر.. والآخر: مؤمن.
ثم قال: والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين، لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا، بل من أن للمؤمنين في الآخرة كذا، وللكافرين فيها كذا، من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله، وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر» «1» .
أى: واضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة، والطاعة مع الفقر، حال رجلين:
جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر جَنَّتَيْنِ أى: بستانين، ولم يعين- سبحانه- مكانهما، لأنه لم يتعلق بهذا التعيين غرض.
ثم بين ما اشتملت عليه هاتان الجنتان من خيرات فقال: مِنْ أَعْنابٍ جمع عنب، والعنبة الحبة منه. والمراد: من كروم متنوعة.
وقوله: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً بيان لما أضيف إلى الجنتين من مناظر تزيدهما بهجة وفائدة.
والحف بالشيء: الإحاطة به. يقال: فلان حفه القوم، أى: أحاطوا به، ومنه قوله- تعالى-: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ....
أى: جعلنا لأحد الرجلين، وهو الكافر منهما جنتين من أعناب، وأحطناهما بنخل ليكون كالحماية النافعة لهما، وجعلنا في وسطهما زرعا وبذلك تكون الجنتان جامعتين للأقوات والفواكه، مشتملتين على ما من شأنه أن يشرح الصدر، ويفيد الناس.
ثم ذكر- سبحانه- ما يزيد من جودة الجنتين، ومن غزارة خيرهما فقال: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وكلتا: اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين، وهو المذهب المشهور، ومثنى لفظا ومعنى عند غيرهم.
أى: أن كل واحدة من الجنتين آتَتْ أُكُلَها أى: أعطت ثمارهما التي يأكلها الناس
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 273.
من العنب والتمر وغيرهما من صنوف الزرع وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أى ولم تنقص من هذا المأكول شيئا في سائر السنين، بل كان أكل كل واحدة منهما وافيا كثيرا في كل سنة، على خلاف ما جرت به عادة البساتين، فإنها في الغالب تكثر ثمارها في أحد الأعوام وتقل في عام آخر.
وفي التعبير بكلمة تَظْلِمْ بمعنى تنقص وتمنع، مقابلة بديعة لحال صاحبهما الذي ظلم نفسه بجحوده لنعم الله- تعالى- واستكباره في الأرض.
وقوله وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أى: وشققنا في وسطهما نهرا ليمدهما بما يحتاجان إليه من ماء بدون عناء وتعب.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هاتين الجنتين بما يدل على جمال منظرهما، وغزارة عطائهما، وكثرة خيراتهما، واشتمالهما على ما يزيدهما بهجة ومنفعة.
ثم بين- سبحانه- أن صاحب هاتين الجنتين كانت له أموال أخرى غيرهما فقال:
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ.
قال الآلوسى ما ملخصه: وَكانَ لَهُ أى: للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين «ثمر» أى أنواع أخرى من المال.. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي.. «ثمر» بضم الثاء والميم، وهو جمع ثمار- بكسر الثاء-.. أى: أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما..» «1» .
وقوله- سبحانه-: فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً حكاية لما تفوه به هذا الكافر من ألفاظ تدل على غروره وبطره.
والمحاورة: المراجعة للكلام من جانبين أو أكثر. يقال: تحاور القوم، إذا تراجعوا الكلام فيما بينهم. ويقال: كلمته فما أحار إلى جوابا، أى: مارد جوابا.
والنفر: من ينفر- بضم الفاء- مع الرجل من قومه وعشيرته لقتال عدوه.
أى: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن الشاكر: أنا أكثر منك مالا وأعز منك عشيرة وحشما وأعوانا.
وهذا شأن المطموسين المغرورين، تزيدهم شهوات الدنيا وزينتها.. بطرا وفسادا في الأرض.
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 274.
وما أصدق قول قتادة- رضى الله عنه-: «تلك- والله- أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر» ، ثم انتقل صاحب الجنتين من غروره هذا إلى غرور أشد. حكاه القرآن في قوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً.
أى: أن هذا الكافر لم يكتف بتطاوله على صاحبه المؤمن، بل سار به نحو جنته حتى دخلها وهو ظالم لنفسه بسبب كفره وجحوده وغروره.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته، ماله جنة غيرها: يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وعدها الله للمؤمنين، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما.
وقوله وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أى: وهو معجب بما أوتى مفتخر به، كافر لنعمة ربه، معرض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم.. «1» .
وقوله: قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً أى: قال هذا الكافر لصاحبه: ما أظن أن هذه الجنة تفنى أو تهلك أبدا.
يقال: باد الشيء يبيد بيدا وبيودا: إذا هلك وفنى.
ثم ختم هذا الكافر محاورته لصاحبه بقوله: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أى: كائنة ومتحققة. فهو قد أنكر البعث وما يترتب عليه من حساب بعد إنكاره لفناء جنته، ثم أكد كلامه بجملة قسمية فقال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أى: والله لئن رددت إلى ربي على سبيل الفرض والتقدير كما أخبرتنى يا صاحبي بأن هناك بعثا وحسابا لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها أى:
من هذه الجنة مُنْقَلَباً أى: مرجعا وعاقبة. اسم مكان من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء إلى غيره.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً.
وقوله- سبحانه-: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.
والمتدبر لحال صاحب الجنتين يراه، - أولا- قد زعم أن مدار التفاضل هو الثروة والعشيرة، ويراه- ثانيا- قد بنى حياته على الغرور والبطر، واعتقاد الخلود لزينة الحياة
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 484.