الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكرر- سبحانه- خرورهم على وجوههم ساجدين لله- تعالى- لاختلاف السبب، فهم أولا أسرعوا بالسجود لله تعظيما له- سبحانه- وشكرا له على إنجازه لوعده.
وهم ثانيا أسرعوا بالسجود، لفرط تأثرهم بمواعظ القرآن الكريم.
فأنت ترى هاتين الآيتين قد أمرتا النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين، وباحتقارهم وبازدراء شأنهم، فإن الذين هم خير منهم وأفضل وأعلم قد آمنوا.
وفي ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأن الله- تعالى- يقول له: يا محمد تسلّ عن إيمان هؤلاء الجهلاء، بإيمان العلماء.
هذا، وقد أخذ العلماء من هاتين الآيتين أن البكاء من خشية الله، يدل على صدق الإيمان، وعلى نقاء النفس، ومن الأحاديث التي وردت في فضل ذلك، ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» .
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بآيتين دالتين على تفرده- سبحانه- بالتقديس والتعظيم والتمجيد والعبادة، فقال- تعالى-:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى-: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.. ذكروا روايات منها: ما أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم فدعا الله- تعالى- فقال:
يا الله، يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو
إلهين فنزلت «1» .
ومعنى: ادعوا، سموا، وأَوِ للتخيير. وأَيًّا اسم شرط جازم منصوب على المفعولية بقوله: ادْعُوا والمضاف إليه محذوف، أى: أى الاسمين. وتَدْعُوا مجزوم على أنه فعل الشرط لأيّا، وجملة فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى واقعة موقع جواب الشرط، وما مزيدة للتأكيد. والحسنى: مؤنث الأحسن الذي هو أفعل تفضيل.
والمعنى: قل يا محمد للناس: سموا المعبود بحق بلفظ الله أو بلفظ الرحمن بأى واحد منهما سميتموه فقد أصبتم، فإنه- تعالى- له الأسماء الأحسن من كل ما سواه، وقال- سبحانه-: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة في كمال أسمائه- تعالى- وللدلالة على أنه ما دامت أسماؤه كلها حسنة، فلفظ الله ولفظ الرحمن كذلك، كل واحد منهما حسن.
وقد ذكر الجلالان عند تفسيرهما لهذه الآية، أسماء الله الحسنى، فارجع إليها إن شئت «2» .
وقوله- سبحانه-: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا تعليم من الله- تعالى- لنبيه كيفية أفضل طرق القراءة في الصلاة.
فالمراد بالصلاة هنا: القراءة فيها. والجهر بها: رفع الصوت أثناءها، والمخافتة بها:
خفضه بحيث لا يسمع. يقال: خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه، والكلام على حذف مضاف.
والمعنى: ولا تجهر يا محمد في قراءتك خلال الصلاة، حتى لا يسمعها المشركون فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها، حتى لا يسمعها من يكون خلفك، بل أسلك في ذلك طريقا وسطا بين الجهر والمخافتة.
ومما يدل على أن المراد بالصلاة هنا: القراءة فيها، ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس.
قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون، سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فأمره الله بالتوسط.
وقيل: المراد بالصلاة هنا: الدعاء. أى: لا ترفع صوتك وأنت تدعو الله، ولا تخافت به. وقد روى ذلك عن عائشة، فقد أخرج الشيخان عنها أنها نزلت في الدعاء.
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 191. [.....]
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 656.
ويبدو لنا أن التوجيهات التي بالآية الكريمة تتسع للقولين، أى: أن على المسلم أن يكون متوسطا في رفع صوته بالقراءة في الصلاة، وفي رفع صوته حال دعائه.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذه الآية: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً....
أى: وقل- أيها الرسول الكريم-: الحمد الكامل، والثناء الجميل، لله- تعالى- وحده، الذي لم يتخذ ولدا لأنه هو الغنى، كما قال- تعالى-: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.. «1» .
ولم يكن له، - سبحانه- شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ بل هو المالك لكل شيء، ليس له في هذا الكون من يزاحمه أو يشاركه في ملكه أو في عبادته. كما قال- تعالى-: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً «2» .
وكما قال- عز وجل: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ «3» .
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أى: ولم يكن له- سبحانه- ناصر ينصره من ذل أصابه أو نزل به، لأنه- عز وجل هو أقوى الأقوياء، وقاهر الجبابرة، ومذل الطغاة، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أى: وعظمه تعظيما تاما كاملا، يليق بجلاله عز وجل.
قال الإمام ابن كثير: عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله كبيرهم وصغيرهم هذه الآية. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً....
ثم قال ابن كثير: وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها آية العز «4» .
(1) سورة يونس الآية 68.
(2)
سورة الإسراء الآية 42، 43.
(3)
سورة المؤمنون الآية 91.
(4)
تفسير ابن كثير ج 5 ص 129.
وبعد: فهذا تفسير لسورة الإسراء نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، وشافعا لنا يوم نلقاه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى المدينة المنورة- مساء الخميس 15 من جمادى الأولى سنة 1404 هـ الموافق 16 من فبراير سنة 1984 م