الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
1-
سورة الكهف هي السورة الثامنة عشرة في ترتيب سور المصحف، فقد سبقتها في الترتيب سور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران.. إلخ.
أما ترتيبها في النزول، فهي السورة الثامنة والستون، فقد ذكر قبلها صاحب الإتقان سبعا وستين سورة، كما ذكر أن نزولها كان بعد سورة الغاشية «1» .
ومما ذكره صاحب الإتقان يترجح لدينا، أن سورة الكهف من أواخر السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، إذ من المعروف عند العلماء أن السور المكية زهاء اثنتين وثمانين سورة.
قال الآلوسي: سورة الكهف، ويقال لها سورة أصحاب الكهف.. وهي مكية كلها في المشهور، واختاره الداني.. وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة واحدة.
وقيل: مكية إلا قوله- تعالى- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ.. الآية.
وقيل هي مكية إلا أولها إلى قوله- تعالى- جُرُزاً وقيل: مكية إلا قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا.. إلى آخر السورة.
وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين، ومائة وعشر آيات عند الكوفيين
…
«2» .
والذين تطمئن إليه النفس أن سورة الكهف كلها مكية، وقد ذكر ذلك دون أن يستثنى منها شيئا الإمام ابن كثير، والزمخشري، وأبو حيان، وغيرهم، وفضلا عن ذلك فالذين قالوا بأن فيها آيات مدنية، لم يأتوا بما يدل على صحة قولهم، كما سيتبين لنا عند تفسير الآيات التي قيل بأنها مدنية.
2-
وقد صدر الامام ابن كثير تفسيره لهذه السورة، بذكر الأحاديث التي وردت في فضلها فقال ما ملخصه: ذكر ما ورد في فضلها، والعشر الآيات من أولها وآخرها، وأنها عصمة من الدجال.
(1) الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 27 السيوطي.
(2)
تفسير الآلوسى ج 15 ص 199.
قال الامام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن سالم بن أبى الجعد، عن معدان بن أبى طلحة، عن أبى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال» .
وفي رواية عن أبى الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» .
وأخرج الحاكم عن أبى سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين «1» » .
3-
عرض إجمالى لسورة الكهف:
(أ) عند ما نقرأ سورة الكهف، نراها في مطلعها تفتتح بالثناء على الله- تعالى- وبالتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الذي نزل عليه ثم تنذر الذين نسبوا إلى الله- عز وجل مالا يليق به، وتصمهم بأقبح ألوان الكذب، ثم تنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التأسف عليهم، بسبب إصرارهم على كفرهم.
قال- تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً.
(ب) ثم ساقت السورة بعد ذلك فيما يقرب من عشرين آية قصة أصحاب الكهف، فحكت أقوالهم عند ما التجأوا إلى الكهف، وعند ما استقروا فيه واتخذوه مأوى لهم، كما حكت جانبا من رعاية الله، تعالى، لهم، ورحمته بهم.. ثم صورت أحوالهم وهم رقود، وذكرت تساؤلهم فيما بينهم بعد أن بعثهم الله- تعالى- من رقادهم الطويل، وإرسالهم أحدهم إلى المدينة لإحضار بعض الأطعمة، وإطلاع الناس عليهم. وتنازعهم في أمرهم، ونهى الله- تعالى- عن الجدال في شأنهم، كما ذكرت المدة التي لبثوها في كهفهم.
قال- تعالى- وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً.
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 5 ص 130 طبعة دار الشعب.
(ج) ثم أمرت السورة الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم برعاية الفقراء من أصحابه. ومدحتهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه.. كما أمرته بأن يجهر بكلمة الحق، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإن الله- تعالى- قد أعد لكل فريق ما يستحقه من ثواب أو عقاب.
قال- تعالى- وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
(د) ثم ضربت السورة الكريمة مثلا للشاكرين والجاحدين، وصورت بأسلوب بليغ مؤثر تلك المحاورة الرائعة التي دارت بين صاحب الجنتين الغنى المغرور، وبين صديقه الفقير المؤمن الشكور، وختمت هذه المحاورة ببيان العاقبة السيئة لهذا الجاهل الجاحد.
استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك بأسلوبه فيقول: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، وَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً.
(هـ) ثم أتبعت السورة هذا المثل للرجلين، بمثال آخر لزوال الحياة الدنيا وزينتها، وببيان أحوال الناس يوم القيامة، وأحوال المجرمين عند ما يرون صحائف أعمالهم وقد خلت من كل خير.
قال- تعالى-: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً، الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً.
(و) وبعد أن ذكرت السورة الكريمة طرفا من قصة آدم وإبليس، وبينت أن هذا القرآن قد صرف الله فيه للناس من كل مثل، وحددت وظيفة المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
بعد كل ذلك ساقت في أكثر من عشرين آية قصة موسى مع الخضر- عليهما السلام وحكت ما دار بينهما من محاورات. انتهت بأن قال الخضر لموسى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
(ز) ثم جاءت بعد قصة موسى والخضر- عليهما السلام قصة ذي القرنين في ست
عشرة آية، بين الله، تعالى، فيها جانبا من النعم التي أنعم بها على ذي القرنين، ومن الأعمال العظيمة التي مكنه- سبحانه- من القيام بها.
قال- تعالى- حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً.
(ح) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ما أعده- سبحانه- للكافرين من سوء العذاب وما أعده للمؤمنين من جزيل الثواب، وببيان مظاهر قدرته، عز وجل التي توجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة.
قال- تعالى-: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا. قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
4-
وبعد: فهذا عرض إجمالى لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة الكهف، ومن هذا العرض نرى:
(أ) أن القصص قد اشتمل على جانب كبير من آياتها، ففي أوائلها نرى قصة أصحاب الكهف، وبعدها قصة الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين من أعناب. ثم بعد ذلك جاء طرف من قصة آدم وإبليس، ثم جاءت قصة موسى والخضر- عليهما السلام ثم ختمت بقصة ذي القرنين.
وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة.
(ب) اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه، وعلى إثبات أن هذا القرآن من عنده- تعالى.
نرى ذلك في أمثال قوله- تعالى- الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ.
وقوله- تعالى-: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
وفي غير ذلك من الآيات التي حكت لنا تلك القصص المتعددة.
(ج) برز في السورة عنصر الموازنة والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار، ترى ذلك في قصة أصحاب الكهف، وفي قصة الرجلين وفي قصة ذي القرنين.
وفي الآيات التي ذكرت الكافرين وسوء مصيرهم، ثم أعقبت ذلك يذكر المؤمنين وحسن مصيرهم كما برز فيها عنصر التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والتهوين من شأن أعدائه فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً.
كما برز فيها التصوير المؤثر لأهوال يوم القيامة كما في قوله- تعالى-: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
والخلاصة: أن سورة الكهف قد- ساقت- بأسلوبها البليغ الذي يغلب عليه طابع القصة- ألوانا من التوجيهات السامية، التي من شأنها أنها تهدى إلى العقيدة الصحيحة، وإلى السلوك القويم. وإلى الخلق الكريم، وإلى التفكير السليم الذي يهدى إلى الرشد، وإلى كل ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.