الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقوله يَتَوَلَّوْنَهُ من الولي- بفتح الواو وسكون اللام- بمعنى القرب والنصرة وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ أى: والذين هم بسبب الشيطان وإغوائه لهم، مشركون مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة.
فالضمير في «به» يعود إلى الشيطان، والباء للسببية.
ويرى بعضهم أن الضمير في «به» يعود على الله- تعالى، وأن الباء للتعدية، فيكون المعنى: إنما سلطان الشيطان على الذين يطيعونه، والذين هم بالله- تعالى- مشركون.
قالوا، والأول أرجح لاتحاد الضمائر فيه، ولأنه هو المتبادر إلى الذهن.
وبذلك نرى الآيات الكريمة، تأمر المؤمنين بأن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، عند قراءتهم للقرآن الكريم، كما نراها تبشرهم بأنه لا سلطان للشيطان عليهم ما داموا معتصمين بحبل الله- تعالى- ومنفذين لأوامره، ومعتمدين عليه.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك بعض الأقاويل التي قالها المشركون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن الكريم، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم فقال تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 105]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
وقوله- تعالى-: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ
…
التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه. فتبديل الآية رفعها بآية أخرى.
وجمهور المفسرين على أن المراد بالآية هنا: الآية القرآنية. وعلى أن المراد بتبديلها نسخها.
قال صاحب الكشاف: تبديل الآية مكان الآية هو النسخ، والله- تعالى- ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة بالأمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصلحة. والله- تعالى- عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء، وينسخ ما يشاء بحكمته.. «1» .
وقال الجمل: قوله- تعالى-: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ
…
وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، ما هذا إلا مفترى يتقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله- تعالى-: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ
…
والمعنى: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر «2» .
وقال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ أى: وإذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه. وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها.. «3» .
ومنهم من يرى أن المراد بالآية هنا «الآية الكونية» أى المعجزة التي أتى بها كل نبي لقومه وأن المراد بتبديلها: الإتيان بمعجزة أخرى سواها.
قال الشيخ القاسمى عند تفسيره لهذه الآية: وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدمين. كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية، بآية أخرى نفسية علمية، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل.
فبدلت تلك- وهي الآيات الكونية- بآية هو كتاب العلم والهدى من نبي أمى صلى الله عليه وسلم «4» .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأن قوله- تعالى- بعد ذلك: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ
…
يدل دلالة واضحة على أن المراد بالآية، الآية القرآنية.
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 428.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 598.
(3)
تفسير الآلوسى ج 14 ص 231.
(4)
تفسير القاسمى ج 10 ص 3858.
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ جملة معترضة بين الشرط وجوابه للمسارعة إلى توبيخ المشركين وتجهيلهم.
أى: والله- تعالى- أعلم من كل مخلوق بما هو أصلح لعباده، وبما ينزله من آيات، وبما يغير ويبدل من أحكام، فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
وقوله- تعالى-: قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ جواب الشرط، وهو حكاية لما تفوهوا به من باطل وبهتان: وقوله مُفْتَرٍ من الافتراء وهو أشنع أنواع الكذب.
أى: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم عند تبديل آية مكان آية: إنما أنت يا محمد تختلق هذا القرآن من عند نفسك، وتفتريه من إنشائك واختراعك..
وقوله- تعالى-: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم.
أى: لا تهتم- أيها الرسول الكريم- بما قاله هؤلاء المشركون في شأنك وفي شأن القرآن الكريم، فإن أكثرهم جهلاء أغبياء، لا يعلمون ما في تبديلنا للآيات من حكمة، ولا يفقهون من أمر الدين الحق شيئا.
وقال- سبحانه- بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ للإشارة إلى أن هناك قلة منهم تعرف الحق وتدركه، ولكنها تنكره عنادا وجحودا وحسدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله.
ثم لقن الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم الرد الذي يقذفه على باطلهم فيزهقه فقال:.
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وروح القدس: هو جبريل- عليه السلام، والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى الصفة. أى: الروح المقدس. ووصف بالقدس لطهارته وبركته. وسمى روحا لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة الحياة للبشر، فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب، والروح تحيا به الأجسام.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الجاهلين، إن هذا القرآن الذي تزعمون أننى افتريته، قد نزل به الروح الأمين على قلبي من عند ربي، نزولا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، ليزيد المؤمنين ثباتا في إيمانهم، وليكون هداية وبشارة لكل من أسلم وجهه لله رب العالمين.
وفي قوله مِنْ رَبِّكَ تكريم وتشريف للرسول صلى الله عليه وسلم حيث اختص- سبحانه- هذا النبي الكريم بإنزال القرآن عليه، بعد أن رباه برعايته، وتولاه بعنايته.
وقوله بِالْحَقِّ في موضع الحال، أى: نزله إنزالا ملتبسا بالحكمة المقتضية له، بحيث لا يفارقها ولا تفارقه.
وقوله: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ بيان للوظيفة التي من أجلها نزل القرآن الكريم، وهي وظيفة تسعد المؤمنين وحدهم، أما الكافرون فهم بعيدون عنها.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك مقولة أخرى من مقولات المشركين فقال- تعالى-:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ....
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: يقول- تعالى- مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء: إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمى كان بياعا يبيع عند الصفا، وربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمى اللسان لا يعرف إلا اليسير من العربية.
وعن عكرمة وقتادة كان اسم ذلك الرجل «يعيش» ، وعن ابن عباس كان اسمه «بلعام» ، وكان أعجمى اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله هذه الآية «1» .
والمعنى: ولقد نعلم- أيها الرسول الكريم- علما مستمرا لا يعزب عنه شيء مما يقوله المشركون في شأنك، من أنك تتعلم القرآن من واحد من البشر.
قال الآلوسى: وإنما لم يصرح القرآن باسم من زعموا أنه يعلمه- عليه الصلاة والسلام مع أنه أدخل في ظهور كذبهم، للإيذان بأن مدار خطئهم، ليس بنسبته صلى الله عليه وسلم إلى التعلم من شخص معين، بل من البشر كائنا من كان، مع كونه صلى الله عليه وسلم معدنا لعلوم الأولين والآخرين «2» .
وقوله- تعالى-: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ رد عليهم فيما زعموه وافتروه.
والمراد باللسان هنا: الكلام الذي يتكلم به الشخص، واللغة التي ينطق بها.
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 586.
(2)
تفسير الآلوسى ج 14 ص 233.
وقوله: يُلْحِدُونَ من الإلحاد بمعنى الميل. يقال لحد وألحد، إذا مال عن القصد، وسمى الملحد بذلك، لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها.
والأعجمي: نسبة إلى الأعجم: وهو الذي لا يفصح في كلامه سواء أكان من العرب أم من العجم. وزيدت فيه ياء النسب على سبيل التوكيد.
والمعنى: لقد كذبتم- أيها المشركون- كذبا شنيعا صريحا، حيث زعمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه القرآن بشر، مع أن لغة هذا الإنسان الذي زعمتم أنه يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لغة أعجمية، ولغة هذا القرآن لغة عربية في أعلى درجات البلاغة والفصاحة، فقد أعجزكم بفصاحته وبلاغته، وتحداكم وأنتم أهل اللسن والبيان أن تأتوا بسورة من مثله.
فخبروني بربكم، من أين للأعجمى أن يذوق بلاغة هذا التنزيل وما حواه من العلوم، فضلا عن أن ينطق به، فضلا عن أن يكون معلما له!!.
ثم هدد- سبحانه- المعرضين عن آياته بقوله: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدانيته- سبحانه- وعلى صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه.
لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى طريق الحق في الدنيا، بسبب زيغهم وعنادهم وإيثارهم الغي على الرشد. وَلَهُمْ في الآخرة عذاب أليم جزاء إصرارهم على الباطل، وإعراضهم عن الآيات التي لو تأملوها واستجابوا لها لاهتدوا إلى الصراط المستقيم.
ثم بين- سبحانه- أن افتراء الكذب لا يصدر عن المؤمنين فضلا عن الرسول الأمين، وإنما يصدر عن الكافرين فقال- تعالى-: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ أى: يختلقه ويخترعه الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له، وعلى صدق رسله، وعلى صحة البعث يوم القيامة، لأن عدم إيمانهم بذلك يجعلهم لا يخافون عقابا، ولا يرجون ثوابا. وَأُولئِكَ الكافرون بما يجب الإيمان به هُمُ الْكاذِبُونَ في قولهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه بشر، وفي قولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ وفي غير ذلك من أقوالهم الباطلة، التي حاربوا بها دعوة الحق.
قال بعض العلماء: ولا يخفى ما في الحصر بعد القصر من العناية بمقامه- صلوات الله عليه-، وقد كان أصدق الناس وأبرهم.. بحيث كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.
ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان فقال له- من بين ما قال-: هل كنتم تتهمونه