الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أى: ذلك الذي أمرناك به، ونهيناك عنه- أيها الرسول الكريم- بعض ما أوحاه الله- تعالى- عليك «من الحكمة» التي هي علم الشرائع ومعرفة الحق، والعمل به، وحذار أن تجعل بعد هذا البيان الحكيم، مع الله- تعالى- إلها آخر- أيها المخاطب- فتلقى وتطرح في جهنم، ملوما من نفسك ومن غيرك، مدحورا أى: مبعدا من رحمة الله- تعالى- قال صاحب الكشاف: ولقد جعل الله- تعالى- فاتحتها- أى تلك الآيات المشتملة على تلك الأوامر والنواهي- وخاتمتها، النهى عن الشرك، لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذّفيها الحكماء، وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم «1» .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة التي اشتملت على بضع وعشرين تكليفا، والتي ابتدأت بقوله- تعالى- لا تجعل مع الله إلها آخر
…
وانتهت بقوله- سبحانه-: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. قد ربطت قواعد السلوك والآداب: والتكاليف الفردية والاجتماعية، بإخلاص العبادة لله- تعالى- لأن هذا الإخلاص لله- تعالى- في العقيدة والعبادة والقول والعمل.. هو رأس كل حكمة وملاكها. كما قال صاحب الكشاف- رحمه الله.
وبعد أن ذكر- سبحانه- ما ذكر من الأوامر والنواهي في الآيات السابقة، التي بدأها وختمها بالنهى عن الإشراك بالله- تعالى- أتبع ذلك بإقامة الأدلة على استحالة أن يكون له شريك أو ولد، بل كل من في السموات ومن الأرض، خاضع لسلطانه، وما من شيء إلا ويسبح بحمده، فقال- تعالى-.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَاّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 450.
والخطاب في قوله- تعالى-: أَفَأَصْفاكُمْ.. للكافرين الذين قالوا، الملائكة بنات الله.
والإصفاء بالشيء: جعله خالصا. يقال: أصفى فلان فلانا بالشيء، إذا آثره به. ويقال للأشياء التي يختص السلطان بها نفسه: الصوافي. وفعله: صفا يصفو، وتضمن هنا معنى التخصيص.
والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتهكم.
والمعنى- كما يقول صاحب الكشاف- أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد، وهم الذكور، ولم يجعل فيهم نصيبا لنفسه، واتخذ أدونهم، وهن البنات، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، بل تئدوهن وتقتلونهن!! فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم. فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويكون أردؤها وأدونها للسادات «1» .
والمقصود من الجملة الكريمة نفى ما زعموه من أن الملائكة بنات الله بأبلغ وجه، أى: لم يخصكم ربكم بالبنين، ولم يتخذ من الملائكة إناثا، لأنه- سبحانه- تنزه عن الشريك والولد والوالد والشبيه.
قال- تعالى-: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «2» .
وقال- تعالى-: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «3» .
وقوله- سبحانه-: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً تسفيه لأقوالهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة وعقولهم السقيمة.
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 450.
(2)
سورة الزمر الآية 4.
(3)
سورة النجم الآية 21، 22.
أى: إنكم بنسبتكم البنات إلى الله- تعالى-، لتقولون قولا عظيما في قبحه وشناعته، وفي استهجان العقول السليمة له، وفيما يترتب عليه من عقوبات أليمة من الله- تعالى- لكم.
قال- تعالى-: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «1» .
ثم بين- سبحانه- أن هذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قد اشتمل على ألوان متعددة من الهدايات والآداب والأحكام، فقال- تعالى-: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا، وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً.
وقوله- تعالى-: صَرَّفْنا من التصريف وهو في الأصل صرف الشيء من حالة إلى أخرى، ومن جهة إلى أخرى.
والمراد به هنا: بينا، وكررنا، ومفعوله محذوف للعلم به.
والمعنى: ولقد بينا وكررنا في هذا القرآن أنواعا من الوعد والوعيد، والقصص، والأمثال، والمواعظ والأخبار، والآداب والتشريعات، ليتذكر هؤلاء الضالون ويتعظوا ويعتبروا، ويوقنوا بأنه من عند الله- تعالى- فيهديهم ذلك إلى اتباع الحق، والسير في الطريق القويم.
وقوله- تعالى-: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً تصوير بديع لإصرارهم على كفرهم وعنادهم، وإيثارهم الغي على الرشد.
والنفور: التباعد والإعراض عن الشيء. يقال: نفرت الدابة تنفر- بكسر الفاء وضمها- نفورا، إذا جزعت وتباعدت وشردت.
أى: وما يزيدهم هذا البيان والتكرار الذي اشتمل عليه القرآن الكريم، إلا تباعدا عن الحق، وإعراضا عنه، وعكوفا على باطلهم، بسبب جحودهم وعنادهم وحسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله.
(1) سورة مريم الآيات من 88- 95.
وكان بعض الصالحين إذا قرأ هذه الآية قال: زادني لك خضوعا، ما زاد أعداءك نفورا.
ثم أمر الله- تعالى- رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم على شركهم، وأن يسوق لهم الدليل الواضح على فساد عقولهم، فقال- تعالى-: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا.
وقد قرأ جمهور القراء «كما تقولون» وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «كما يقولون» .
وللمفسرين في تفسير هذه الآية اتجاهان، أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه أن المعنى.
قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين، لو كان مع الله- تعالى- آلهة أخرى- كما يزعمون- إذا لطلبوا إلى ذي العرش- وهو الله عز وجل طريقا وسبيلا لتوصلهم إليه، لكي ينازعوه في ملكه، ويقاسموه إياه، كما هي عادة الشركاء، وكما هو ديدن الرؤساء والملوك فيما بينهم.
قال- تعالى-: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ «1» .
وقال سبحانه-: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ «2» .
وهذا الاتجاه قد صدر به صاحب الكشاف كلامه فقال ما ملخصه: قوله إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا جواب عن مقالة المشركين وجزاء للو. أى: إذا لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلا بالمغالية، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض.. «3» .
وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن المعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين، لو كان مع الله- تعالى- آلهة أخرى- كما يزعمون-، إذا لابتغوا- أى الآلهة المزعومة- إلى ذي العرش سبيلا وطريقا ليقتربوا إليه، ويعترفوا بفضله، ويخلصوا له العبادة، كما قال- تعالى-: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، وَيَخافُونَ عَذابَهُ، إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً «4» .
(1) سورة المؤمنون الآية 91.
(2)
سورة الأنبياء الآية 22.
(3)
تفسير الكشاف ج 2 ص 451.
(4)
سورة الإسراء الآية 57.
وقد اقتصر ابن كثير على هذا الوجه في تفسيره للآية فقال: يقول- تعالى-: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه، لو كان الأمر كما تقولون، من أن معه آلهة تعبد.. لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه يبتغون إليه الوسيلة والقربة. «1» .
ومع وجاهة الرأيين، إلا أن الرأى الأول أظهر، لأن في الآية فرض المحال، وهو وجود الآلهة مع الله- تعالى-، وافتراض وجودها المحال لا يظهر منه أنها تتقرب إليه- سبحانه-، بل الذي يظهر منه أنها تنازعه لو كانت موجودة، ولأن هذا الرأى يناسبه- أيضا- قوله- تعالى- بعد ذلك: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً.
أى: تنزه الله- تعالى- عما يقوله المشركون في شأنه وتباعد، وعلا علوا كبيرا، فإنه- جل شأنه- لا ولد له، فلا شريك له
…
قال- تعالى-: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
والتعبير بقوله- سبحانه-: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا يشير إلى الارتفاع والتسامى على تلك الآلهة المزعومة، وأنها دون عرشه- تعالى- وتحته، وليست معه..
ثم بين- سبحانه- أن جميع الكائنات تسبح بحمده فقال- تعالى-: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ، وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
والتسبيح: مأخوذ من السبح، وهو المر السريع في الماء أو في الهواء، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء، ومن كل ما لا يليق به- سبحانه-.
أى تنزه الله- تعالى- وتمجده السموات السبع، والأرض، ومن فيهن من الإنس والجن والملائكة وغير ذلك، وما من شيء من مخلوقاته التي لا تحصى إلا ويسبح بحمد خالقه- تعالى-، ولكن أنتم يا بنى آدم «لا تفقهون تسبيحهم» لأن تسبيحهم بخلاف لغتكم، وفوق مستوى فهمكم، وإنما الذي يعلم تسبيحهم هو خالقهم عز وجل، وصدق- سبحانه- إذ يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
والمتدبر في هذه الآية الكريمة، يراها تبعث في النفوس الخشية والرهبة من الخالق- عز وجل، لأنها تصرح تصريحا بليغا بأن كل جماد، وكل حيوان، وكل طير، وكل حشرة..
(1) تفسير ابن كثير ج 5 ص 76.
بل كل كائن في هذا الوجود يسبح بحمده- تعالى-.
وهذا التصريح يحمل كل إنسان عاقل على طاعة الله، وإخلاص العبادة له، ومداومة ذكره
…
حتى لا يكون- وهو الذي كرمه ربه وفضله- أقل من غيره طاعة لله- تعالى-.
وقوله: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً تذييل قصد به بيان فضل الله- تعالى- ورحمته بعباده مع تقصيرهم في تسبيحه وذكره.
أى: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً لا يعاجل المقصر بالعقوبة، بل يمهله لعله يرعوى وينزجر عن تقصيره ومعصيته، غَفُوراً لمن تاب وآمن وعمل صالحا واهتدى إلى صراطه المستقيم.
هذا، ومن العلماء من يرى أن تسبيح هذه الكائنات بلسان الحال.
قال بعض العلماء تسبيح هذه الكائنات لله- تعالى- هو دلالتها- بإمكانها وحدوثها، وتغير شئونها، وبديع صنعها- على وجود مبدعها، ووحدته وقدرته، وتنزهه عن لوازم الإمكان والحدوث، كما يدل الأثر على المؤثر.
فهي دلالة بلسان الحال، لا يفقهها إلا ذوو البصائر. أما الكافرون فلا يفقهون هذا التسبيح، لفرط جهلهم وانطماس بصيرتهم.. «1» .
ومنهم من يرى أن تسبيحها بلسان المقال، أى أن التسبيح بمعناه الحقيقي، فالكل يسبح بحمد الله، ولكن بلغته الخاصة التي لا يفهمها الناس.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: وقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أى: وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أى: لا تفقهون تسبيحهم- أيها الناس- لأنها بخلاف لغتكم وهذا عام في الحيوانات والنبات والجماد.
وهذا أشهر القولين كما ثبت في صحيح البخاري وغيره، عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
وفي حديث أبى ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسمع لهن تسبيح كحنين النحل. وكذا في يد أبى بكر وعمر وعثمان- رضى الله عنهم- وهو حديث مشهور في المسانيد
…
ثم قال ويشهد لهذا القول آية السجدة في أول سورة الحج- وهو قوله- تعالى-:
(1) صفوة البيان لمعانى القرآن ج 1 ص 457 لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ.. «1» .
وقال القرطبي: قوله- تعالى-: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله وَمَنْ فِيهِنَّ يريد الملائكة والإنس والجن، ثم عمم بعد ذلك الأشياء كلها في قوله:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.
واختلف في هذا العموم هل هو مخصص أولا. فقالت فرقة: ليس مخصوصا، والمراد به تسبيح الدلالة، كل محدث يشهد على نفسه بأن الله- عز وجل خالق قادر.
وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر: ولا يفقهونه، ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصفة والدلالة، لكان أمرا مفهوما، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه..
ويستدل لهذا القول من الكتاب بقوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
…
وقوله- تعالى-: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ.
ثم قال: فالصحيح أن الكل يسبح للأخبار الدالة على ذلك، ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة، فأى تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال، بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح. وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء فالقول به أولى «2» .
والذي تطمئن إليه النفس أن التسبيح حقيقى وبلسان المقال، لأن هذا هو الظاهر من الآية الكريمة، ولأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤيد ذلك.
وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة على وحدانيته، وأثبت أن كل شيء يسبح بحمده، أتبع ذلك ببيان أحوال المشركين عند سماعهم للقرآن الكريم، وببيان ما جعله الله- تعالى- على حواسهم بسبب جحودهم وعنادهم، فقال- تعالى-:
(1) الآية 18 من سورة الحج وراجع تفسير ابن كثير ج 5 ص 76 طبعة دار الشعب.
(2)
راجع تفسير القرطبي ج 10 ص 266. [.....]