الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، ثم بعثهم بعد ذلك دون أن يتغير حالهم، أقول: في إظهار هذه الحقيقة دليل واضح على قدرة الله- تعالى- وعلى وجوب إخلاص العبادة له، وعلى أن البعث بعد الموت حق لا ريب فيه.
وبذلك تكون هذه الآيات قد ساقت لنا قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم جاءت آيات بعد ذلك لتحكى لنا قصتهم على سبيل التفصيل والبسط، وهذه الآيات هي قوله- تعالى-.
[سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 16]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
أى: «نحن» وحدنا يا محمد، نقص عليك وعلى أمتك خبر هؤلاء الفتية قصصا لحمته وسداه الحق والصدق، لأنه قصص من ربك الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقوله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً كلام مستأنف جواب عن سؤال تقديره ما قصتهم وما شأنهم بالتفصيل؟
أى: إنهم فتية أخلصوا العبادة لخالقهم، وأسلموا وجوههم لبارئهم، وآمنوا بربوبيته-
سبحانه- إيمانا عميقا ثابتا، فزادهم الله ببركة هذا الإخلاص والثبات على الحق، هداية على هدايتهم، وإيمانا على إيمانهم.
وقوله- سبحانه- نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إيماء إلى أن قصة هؤلاء الفتية كانت معروفة لبعض الناس، إلا أن معرفتهم بها كانت مشوبة بالخرافات والأباطيل.
قال ابن كثير: ما ملخصه: ذكر الله- تعالى- أنهم كانوا فتية- أى شبابا-، وهم أقبل للحق من الشيوخ، الذين عتوا في دين الباطل، ولهذا كان اكثر المستجيبين لله ولرسوله شبابا، وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.
واستدل غير واحد من الأئمة كالبخارى وغيره بقوله وَزِدْناهُمْ هُدىً إلى أن الإيمان يزيد وينقص.. «1» .
ثم حكى- سبحانه- جانبا من مظاهر هدايته لهم فقال: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا.
وأصل الربط: الشد، يقال، ربطت الدابة، أى: شددتها برباط، والمراد به هنا:
ما غرسه الله في قلوبهم من قوة، وثبات على الحق، وصبر على فراق أهليهم، ومنه قولهم:
فلان رابط الجأش، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب.
والمراد بقيامهم: عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل، وتصميمهم على ذلك تصميما لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة.
ويصح أن يكون المراد بقيامهم: وقوفهم في وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة، دون أن يبالوا به عند ما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم، وإعلانهم دين التوحيد، ونبذهم لكل ما سواه من شرك وضلال.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى- إِذْ قامُوا يحتمل ثلاثة معان. أحدها: أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا ما دعاهم إليه.
والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا واجتمعوا وراءها من غير ميعاد، وتعاهدوا على عبادة الله وحده.
(1) تفسير ابن كثير ج 5 ص 136.
والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله- تعالى- ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا، إذا عزم عليه بغاية الجد «1» .
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي اهتدت إليه، معتزة بالإيمان الذي أشربته، مستبشرة بالإخاء الذي جمع بينها على غير ميعاد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:«الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بعد أن استقر الإيمان في نفوسهم فقال: فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً
…
أى: أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله- عز وجل حين قاموا في وجه أعدائهم، وقالوا بكل شجاعة وجرأة: ربنا- سبحانه- هو رب السموات والأرض، وهو خالقهما وخالق كل شيء، ولن نعبد سواه أى معبود آخر.
ونفوا عبادتهم لغيره- سبحانه- بحرف- «لن» للإشعار بتصميمهم على ذلك في كل زمان وفي كل مكان، إذ النفي بلن أبلغ من النفي بغيرها.
قال الآلوسى: وقد يقال إنهم أشاروا بالجملة الأولى- وهي: ربنا رب السموات والأرض- إلى توحيد الربوبية، وأشاروا بالجملة الثانية- لن ندعو من دونه إلها- إلى توحيد الألوهية، وهما أمران متغايران، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا، ويقولون بالأول:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وحكى- سبحانه- عنهم أنهم يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وصح أنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك «2» .
وقوله- سبحانه- لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله- تعالى-.
والشطط: مصدر معناه مجاوزة الحد في كل شيء، ومنه: أشط فلان في السّوم إذا جاوز الحد، وأشط في الحكم إذا جاوز حدود العدل: وهو صفة لموصوف محذوف، وفي الكلام قسم مقدر، واللام في «لقد» واقعة في جوابه، و «إذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر.
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 365.
(2)
تفسير الآلوسى ج 15 ص 219.
أى: ربنا رب السموات والأرض، لن ندعو من دونه إلها. ولو فرض أننا دعونا وعبدنا من دونه إلها آخر، والله لنكونن في هذه الحالة قد قلنا إذا قولا شططا، أى: بعيدا بعدا واضحا عن دائرة الحق والصواب.
والآية الكريمة تدل على قوة إيمان هؤلاء الفتية، وعلى أن من كان كذلك ثبت الله- تعالى- قلبه، وقواه على تحمل الشدائد، كما تدل على أن من أشرك مع الله- تعالى- إلها آخر، يكون بسبب هذا الإشراك، قد جاء بأمر شطط بعيد كل البعد عن الحق والصواب وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ «1» .
ثم حكى- سبحانه- عن هؤلاء الفتية أنهم لم يكتفوا بإعلان إيمانهم الصادق، بل أضافوا إلى ذلك استنكارهم لما عليه قومهم من شرك فقال: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ
…
و «هؤلاء» مبتدأ، و «قومنا» عطف بيان، وجملة «اتخذوا من دونه آلهة» هي الخبر.
و «لولا» للتحضيض، وهو الطلب بشدة والمقصود بالتحضيض هنا: الإنكار والتعجيز، إذ من المعلوم أن قومهم لن يستطيعوا أن يقيموا الدليل على صحة ما هم عليه من شرك.
والمراد بالسلطان البين: الحجة الواضحة.
أى: أن أولئك الفتية بعد أن اجتمعوا، وتعاهدوا على عبادة الله- تعالى- وحده، ونبذ الشرك والشركاء قالوا على سبيل الإنكار والاحتقار لما عليه قومهم: هؤلاء قومنا بلغ بهم السفه والجهل، أنهم اتخذوا مع الله- تعالى- أصناما يشركونها معه في العبادة، هلا أتى هؤلاء السفهاء بحجة ظاهرة تؤيد دعواهم بأن هذه الأصنام تصلح آلهة لا شك أنهم لن يستطيعوا ذلك.
قال صاحب الكشاف وقوله: لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ تبكيت لأن الإتيان بالسلطان على صحة عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لا بد في الدين من حجة حتى يصح ويثبت «2» .
(1) سورة الحج الآية 31.
(2)
تفسير الكشاف ج 2 ص 474.
وشبيه بهذه الآية في تعجيز المشركين وتجهيلهم قوله تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ «1» .
وقوله- سبحانه-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ، ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» :
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على تكذيبهم لقومهم، ووصفهم إياهم بالظلم فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.
أى: لا أحد أشد ظلما من قوم افتروا على الله- تعالى- الكذب، حيث زعموا أن له شريكا في العبادة والطاعة، مع انه- جل وعلا- منزه عن الشريك والشركاء: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما تناجوا به فيما بينهم، بعد أن وضح موقفهم وضوحا صريحا حاسما، وبعد أن أعلنوا كلمة التوحيد بصدق وقوة.. فقال- تعالى-: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً.
و «إذ» يبدو أنها هنا للتعليل. والاعتزال: تجنب الشيء سواء أكان هذا التجنب بالبدن أم بالقلب. و «ما» في قوله وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ اسم موصول في محل نصب معطوف على الضمير في قوله اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وقوله: إِلَّا اللَّهَ استثناء متصل، بناء على أن القوم كانوا يعبدون الله- تعالى- ويشركون معه في العبادة الأصنام. و «من» قالوا إنها بمعنى البدلية.
وقوله: مِرفَقاً من الارتفاق: بمعنى الانتفاع، وقرأ نافع وابن عامر مرفقا- بفتح الميم وكسر الفاء.
والمعنى: أن هؤلاء الفتية بعد أن أعلنوا كلمة التوحيد، وعقدوا العزم على مفارقة قومهم المشركين تناجوا فيما بينهم وقالوا: ولأجل ما أنتم مقدمون عليه من اعتزالكم لقومكم الكفار، واعتزالكم الذي يعبدونه من دون الله لأجل ذلك فالجأوا إلى الكهف، واتخذوه
(1) سورة الأنعام الآية 148.
(2)
سورة الأحقاف الآية 4.