الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعبر- سبحانه- بالأكثر، إنصافا للقلة المؤمنة التي فتحت صدورها للقرآن، فآمنت به، وعملت بما فيه من أوامر ونواه..
قال الجمل: فإن قيل: كيف جاز قوله فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً حيث وقع الاستثناء المفرغ في الإثبات. مع أنه لا يصح، إذ لا يصح أن تقول: ضربت إلا زبدا.
فالجواب: أن لفظة فَأَبى تفيد النفي، فكأنه قيل: فلم يرضوا إلا كفورا «1» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت ما يدل على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وعلمه، وفضله على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى الناس، وعلى أن هذا القرآن من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ثم حكى- سبحانه- بعض المطالب المتعنتة التي طلبها المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى-:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَاّ بَشَراً رَسُولاً (93)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية طويلة ملخصها: أن نفرا من زعماء قريش اجتمعوا عند الكعبة، وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم، فقالوا له يا محمد: إنا قد بعثنا
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 647.
إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك!! لقد شتمت الآباء، وعبت الدين. وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة
…
فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تطلب شرفا فينا، سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا
…
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي شيء مما تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل على كتابا، وأمرنى أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله- تعالى- حتى يحكم بيني وبينكم.
فقالوا له يا محمد: فإن كنت صادقا فيما تقول، فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، وليبسط لنا بلادنا، ويفجر فيها الأنهار، ويبعث من مضى من آبائنا، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل..
وسله أن يبعث معك ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا أو كنوزا من ذهب وفضة. تعينك على معاشك.
فقال صلى الله عليه وسلم ما بعثت بهذا. فقالوا: فأسقط السماء- كما زعمت- علينا كسفا
…
وقال أحدهم: لا أومن بك أبدا، حتى تتخذ لك سلما إلى السماء ترقى فيه، ونحن ننظر إليك..
فانصرف صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا، لما رأى من تباعدهم عن الهدى، فأنزل الله عليه هذه الآيات تسلية له
…
» «1» .
والمعنى: وقال المشركون الذين لا يرجون لقاءنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم يا محمد: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ونتبعك فيما تدعونا إليه.
حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أى: حتى تخرج لنا من أرض مكة القليلة المياه، يَنْبُوعاً أى: عينا لا ينضب ماؤها ولا يغور.
يقال: نبع الماء من العين ينبع- بتثليث الباء فيهما- إذا خرج وظهر وكثر.
وقرأ بعض السبعة تَفْجُرَ بالتخفيف- من باب نصر- وقرأ البعض الآخر تَفْجُرَ بتشديد الجيم، من فجر بالتشديد، والتضعيف للتكثير.
(1) راجع تفسير ابن جرير ج 15 ص 110 وتفسير ابن كثير ج 5 ص 115 وتفسير القرطبي ج 10 ص 328.
والتعريف في لفظ الْأَرْضِ للعهد، لأن المراد بها أرض مكة.
وعبر بكلمة يَنْبُوعاً للإشعار بأنهم لا يريدون من الماء ما يكفيهم فحسب، وإنما هم يريدون ماء كثيرا لا ينقص في وقت من الأوقات، إذ الياء زائدة للمبالغة.
وقوله- سبحانه-: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً بيان لاقتراح آخر من مقترحاتهم السخيفة.
والمعنى: أو تكون لك بصفة خاصة يا محمد، جَنَّةٌ أى: حديقة ملتفة الأغصان، مشتملة على الكثير من أشجار النخيل والأعناب: تجرى الأنهار في وسطها جريا عظيما هائلا..
وخصوا النخيل والأعناب بالذكر- كما حكى القرآن عنهم-، لأن هذين الصنفين يعتبران من أهم الثمار عندهم، ولأنهما على رأس الزروع المنتشرة في أراضيهم، والتي لها الكثير من الفوائد.
وقوله: خِلالَها منصوب على الظرفية، لأنه بمعنى وسطها وبين ثناياها.
والتنوين في قوله تَفْجِيراً للتكثير، أى: تفجيرا كثيرا زاخرا، بحيث تكون تلك الجنة الخاصة بك، غنية بالمياه التي تنفعها وترويها.
وقوله- عز وجل: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً
…
اقتراح ثالث من مقترحاتهم الفاسدة.
ولفظ كِسَفاً أى: قطعا جمع كسفة- بكسر الكاف وسكون السين، يقال: كسفت الثوب أى: قطعته وهو حال من السماء، والكاف في قوله: كَما صفة لموصوف محذوف.
والمعنى: أو تسقط أنت علينا السماء إسقاطا مماثلا لما هددتنا به، من أن في قدرة ربك- عز وجل أن ينزل علينا عذابا متقطعا من السماء.
ولعلهم يعنون بذلك قوله- تعالى-: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ
…
«1» .
وقيل: يعنون بذلك، أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء، فعجل لنا ذلك في
(1) سورة سبأ الآية 9.
الدنيا، وأسقطها علينا، كما حكى عنهم القرآن ذلك في قوله- تعالى- وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ
…
«1» .
فهم يتعجلون العذاب، والرسول صلى الله عليه وسلم، يرجو لهم من الله- تعالى- الرحمة والهداية وتأخير العذاب عنهم، لعله- سبحانه- أن يخرج من أصلابهم من يخلص له العبادة والطاعة.
وقوله- تعالى- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا تسجيل لمطلب رابع من مطالبهم القبيحة.
قال الآلوسى: قَبِيلًا أى: مقابلا، كالعشير والمعاشر، وأرادوا- كما جاء عن ابن عباس- عيانا.
وهذا كقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك تفسير القبيل بالكفيل، أى: كفيلا بما تدعيه. يعنون شاهدا يشهد لك بصحة ما قلته.
وهو على الوجهين حال من لفظ الجلالة.. وعن مجاهد: القبيل الجماعة كالقبيلة، فيكون حالا من الملائكة- أى: أو تأتى بالله وبالملائكة قبيلة قبيلة «2» .
ثم حكى- سبحانه- بقية مطالبهم التي لا يقرها عقل سليم فقال: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ.
أى: من ذهب، والزخرف يطلق في الأصل على الزينة، وأطلق هنا على الذهب لأن الذهب أثمن ما يتزين به في العادة.
أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أى: تصعد إليها. يقال: رقى فلان في السلم يرقى رقيا ورقيا أى صعد، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ وصعودك إليها مع مشاهدتنا لذلك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا منها كِتاباً نَقْرَؤُهُ ونفهم ما فيه، أى: يكون هذا الكتاب بلغتنا التي نفهمها وبأسلوب مخاطباتنا، وفيه ما يدل دلالة قاطعة على أنك رسول من عند الله- تعالى-، وما يدعونا إلى الإيمان بك.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات، بأن أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم، فقال: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا.
(1) سورة الأنفال من 32.
(2)
تفسير الآلوسى ج 15 ص 169.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- على سبيل التعجب من سوء تفكير هؤلاء الجاحدين:
يا سبحان الله هل أنا إلا بشر كسائر البشر، ورسول كسائر الرسل، وليس من شأن من كان كذلك أن يأتى بتلك المطالب المتعنتة التي طلبتموها، وإنما من شأنه أن يبلغ ما أمره الله بتبليغه من هدايات. تخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل. إلى نور الإيمان والعلم.
فالاستفهام في قوله هَلْ كُنْتُ
…
للنفي، أى: ما كنت إلا رسولا كسائر الرسل، وبشرا مثلهم.
وقوله سُبْحانَ رَبِّي يفيد التعجيب من فرط حماقتهم، ومن بالغ جهلهم، حيث طلبوا تلك المطالب، التي تضمنت ما يعتبر من أعظم المستحيلات، كطلبهم إتيان الله- عز وجل والملائكة إليهم، ورؤيتهم لذاته- سبحانه-، على سبيل المعاينة والمقابلة.
وهذا التعنت والعناد الذي حكاه الله- تعالى- عن هؤلاء الجاحدين، قد جاء ما يشبهه في آيات أخرى. كما جاء ما يدل على أنهم حتى لو أعطاهم الله- تعالى- مطالبهم.
لما آمنوا، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ «1» .
وقوله- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ «2» .
وقوله- عز وجل: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «3» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك شبهة من شبهاتهم الفاسدة والمتعددة، وهي زعمهم أن الرسول لا يكون من البشر بل يكون ملكا. وقد أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم بما يبطل مدعاهم فقال:
(1) سورة الأنعام الآية 111.
(2)
سورة يونس الآية 96، 97.
(3)
سورة الحجر الآية 14، 15.