الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمراد بمثل السوء: أفعال المشركين القبيحة التي سبق الحديث عنها.
والمعنى للذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب.. صفة السوء، التي هي كالمثل في القبح، وهي وأدهم البنات، وجعلهم لآلهتهم. نصيبا مما رزقناهم، وقولهم:
الملائكة بنات الله، وفرحهم بولادة الذكور للاستظهار بهم.
فهذه الصفات تدل على غبائهم وجهلهم وقبح تفكيرهم.
أما الله- عز وجل فله المثل الأعلى أى الصفة العليا، وهي أنها الواحد الأحد، المنزه عن الوالد والولد: والمبرأ من مشابهة الحوادث، والمستحق لكل صفات الكمال والجلال في الوحدانية، والقدرة والعلم.. وغير ذلك مما يليق به- سبحانه-.
وهو- عز وجل «العزيز» في ملكه بحيث لا يغلبه غالب «الحكيم» في كل أفعاله وأقواله.
وبعد أن ساق- سبحانه- ما يدل على جهالات المشركين، وانطماس بصائرهم، وسوء تفكيرهم، أتبع ذلك بالحديث عن مظاهر رحمته بخلقه وعن جانب من جرائم المشركين، وعن وظيفة القرآن الكريم، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
و «لو» في قوله- تعالى-: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ.. حرف امتناع
لامتناع. أى: حرف شرط يدل على امتناع وقوع جوابه، لأجل امتناع وقوع شرطه، وقد امتنع هنا إهلاك الناس، لامتناع إرادة الله- تعالى- ذلك.
وقوله «يؤاخذ» مفاعلة من المؤاخذة بمعنى العقوبة، فالمفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد.
فمعنى آخذ الله- تعالى- الناس يؤاخذهم: أخذهم وعاقبهم بسبب ذنوبهم.
والأخذ بمعنى العقاب قد جاء في القرآن الكريم في آيات كثيرة: ومن ذلك قوله- تعالى- وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ «1» .
والباء في «بظلمهم» للسببية، والظلم: مجاوزة الحدود التي شرعها الله- تعالى- وأعظمه الإشراك بالله- تعالى- كما قال- تعالى- إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
والمراد من المؤاخذة بسبب ظلمهم: تعجيل العقوبة لهم في الدنيا.
والضمير في قوله- سبحانه- «عليها» يعود على الأرض. وصح عود الضمير عليها مع أنه لم يسبق ذكر لها، لأن قوله «من دابة» يدل على ذلك لأنه من المعلوم، أن الدواب تدب على الأرض.
ونظيره قوله- تعالى- في آية أخرى ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وقوله حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أى: الشمس. فإنه وإن كان لم يجر لها ذكر إلا أن المقام يدل عليها.
ورجوع الضمير إلى غير مذكور في الكلام إلا أن المقام يدل عليه كثير في كلام العرب، ومنه قول حاتم الطائي:
أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقوله: حشرجت وضاق بها، المقصود به الروح أو النفس، ولم يجر لها ذكر، إلا أن قوله: وضاق بها الصدر، يعين أن المراد بها النفس.
والمراد بالساعة في «لا يستأخرون عنه ساعة» مطلق الوقت الذي هو غاية في القلة.
والمعنى: ولو عاجل الله- تعالى- الناس بالعقوبة، بسبب ما اجترحوه من ظلم وآثام، لأهلكهم جميعا، وما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب عليها، ولكنه- سبحانه- فضلا منه وكرما، لا يعاجلهم بالعقوبة التي تستأصلهم بل يؤخرهم «إلى أجل مسمى» أى: إلى وقت معين محدد تنتهي عنده حياتهم، وهذا الوقت المحدد لا يعلمه إلا هو- سبحانه- «فإذا
(1) سورة هود الآية 102.
جاء أجلهم» . أى: فإذا حان الوقت المحدد لهلاكهم، فارقوا هذه الدنيا بدون أدنى تقديم أو تأخير عن هذا الوقت.
هذا، ومن العلماء من ذهب إلى أن المراد بالناس هنا: الكفار خاصة، لأنهم هم الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى.
ويبدو لنا أن المراد بالناس هنا: العموم، لأن قوله «من دابة» يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة، ولأن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة «من» تكون نصا صريحا في العموم.
وإلى العموم أشار ابن كثير عند تفسيره للآية بقوله: يخبر الله- تعالى- عن حلمه بخلقه مع ظلمهم، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أى: لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بنى آدم. ولكن الرب- جل وعلا- يحلم ويستر وينظر..» «1» .
وقال القرطبي: فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟
فالجواب: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أراد الله- تعالى- بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم- وأعمالهم-، «2» .
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا «3» .
وقوله- تعالى-: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ «4» .
وقوله- تعالى-: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «5» .
ثم حكى- سبحانه- رذيلة أخرى من رذائل المشركين فقال- تعالى- وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ
…
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 497.
(2)
تفسير القرطبي ج 10 ص 120.
(3)
سورة الكهف الآية 58. [.....]
(4)
سورة إبراهيم الآية 42.
(5)
سورة نوح الآية 4.
أى: أن هؤلاء المشركين لا يكتفون بإنكارهم البعث وبجحود نعم الله- تعالى- بل أضافوا إلى ذلك أنهم يثبتون له- سبحانه وينسبون إليه كذبا وزورا- ما يكرهونه لأنفسهم، فهم يكرهون أن يشاركهم أحد في أموالهم أو في مناصبهم ومع ذلك يشركون مع الله- تعالى- في العبادة آلهة أخرى، ويكرهون أراذل الأموال، ومع ذلك يجعلون لله- تعالى- أراذل أموالهم. ويجعلون لأصنامهم أكرمها، ويكرهون البنات، ومع ذلك ينسبونهن إليه- سبحانه-. فالجملة الكريمة تنعى عليهم أنانيتهم، وسوء أدبهم مع خالقهم- عز وجل وقوله- سبحانه- وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى
…
تصوير بليغ لما جبلوا عليه من كذب صريح، وبهتان واضح.
ومعنى: «تصف» تقول وتذكر بشرح وبيان وتفصيل، حتى لكأنها تذكر أوصاف الشيء، وجملة «أن لهم الحسنى» بدل من «الكذب» .
والحسنى: تأنيث الأحسن، والمراد بها زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب وأعظمه، كما كان لهم في الدنيا ذلك، فقد روى أنهم قالوا: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا فيما يخبر عنه من أمر البعث، فلنا الجنة
…
والمعنى: أن هؤلاء المشركين يجعلون لله- تعالى- ما يكرهونه من الأولاد والأموال والشركاء، وتنطق ألسنتهم بالكذب نطقا واضحا صريحا إذ زعموا أنه إن كانت الآخرة حقا، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب..
وهذا الزعم قد حكاه القرآن عنهم في آيات متعددة منها قوله- تعالى- وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «1» .
وقوله- تعالى-: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً
…
«2» .
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه. جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته، وصورته بصورته. كقولهم: وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر «3» .
(1) سورة سبأ الآية 35.
(2)
سورة مريم الآية 37.
(3)
تفسير الكشاف ج 2 ص 432.
وقال بعض العلماء: والتعبير القرآنى في قوله وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ يجعل ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته، أو كأنها صورة له، تحكيه وتصفه بذاتها، كما تقول: فلان قوامه يصف الرشاقة.. لأن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة، مفصح عنها.
كذلك قال- سبحانه- وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ
…
فهي بذاتها تعبير عن الكذب، لطول ما قالت الكذب، ولكثرة ما عبرت عنه، حتى صارت رمزا عليه، ودلالة له «1» .
وقوله- سبحانه-: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ تكذيب لهم فيما زعموه من أن لهم الحسنى، ووعيد لهم بإلقائهم في النار.
وكلمة «لا جرم» وردت في القرآن الكريم في خمسة مواضع، متلوة بأن واسمها وليس بعدها فعل. وجمهور النحاة على أنها مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر. ومعناها بعد التركيب معنى حق وثبت. والجملة بعدها فاعل، أى: حق وثبت كونهم لهم النار وأنهم مفرطون فيها.
وقوله- سبحانه-: مُفْرَطُونَ قرأها الجمهور- بسكون الفاء وفتح الراء- بصيغة اسم المفعول من أفرطه بمعنى قدمه. يقال: أفرطته إلى كذا. أى: قدمته إليه.
قال القرطبي: والفارط الذي يتقدم غيره الى الماء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» أى: متقدمكم
…
«2» .
أو من أفرط إذا نسيه وتركه. تقول: أفرطت فلانا خلفي، إذا تركته ونسيته.
والمعنى: أن هؤلاء الذين يزعمون أن لهم الحسنى في الآخرة كذبوا في زعمهم، وفجروا في إفكهم، فإنهم ليس لهم شيء من ذلك، وإنما الأمر الثابت الذي لا شك فيه، أن لهم في الآخرة النار، وأنهم مفرطون فيها، مقدمون إليها بدون إمهال، ومتروكون فيها بدون اكتراث بهم، كما يترك الشيء الذي لا قيمة له. قال- تعالى-: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا «3» .
وقرأ نافع «وأنهم مفرطون» - بسكون الفاء وكسر الراء- بصيغة اسم الفاعل. من أفرط اللازم بمعنى أسرف وتجاوز الحد. يقال: أفرط فلان في كذا، إذا تجاوز الحدود المشروعة.
(1) في ظلال القرآن ج 14 ص 2179.
(2)
تفسير القرطبي ج 10 ص 121.
(3)
سورة الأعراف الآية 51.
فيكون المعنى: لا جرم أن لهم النار، وأنهم مفرطون ومسرفون في الأقوال والأعمال التي جعلتهم حطبا لها، ووقودا لنيرانها كما قال- تعالى-: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ «1» .
ثم وجه- سبحانه- خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التسلية والتثبيت، حيث بين له أن ما أصابه من مشركي قومه، قد فعل ما يشبهه المشركون السابقون مع أنبيائهم، فقال- تعالى-: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وقوله فَزَيَّنَ من التزيين وهو تصيير الشيء زينا، أى: حسنا والزينة: هي ما في الشيء من محاسن ترغب الناس فيه.
والمعنى: أقسم لك- أيها الرسول الكريم- بذاتى، لقد أرسلنا رسلا كثيرين إلى أمم كثيرة من قبلك، فكانت النتيجة أن استحوذ الشيطان على نفوس عامة هؤلاء المرسل إليهم، حيث زين لهم الأفعال القبيحة، وقبح لهم الأعمال الحسنة، وجعلهم يقفون من رسلهم موقف المكذب لأقوالهم، المعرض عن إرشاداتهم، المحارب لدعوتهم.
وقوله- سبحانه-: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بيان لسوء عاقبة هؤلاء الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا.
قال الإمام الشوكانى ما ملخصه: والمراد باليوم في قوله- تعالى-: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ يحتمل أن يكون المراد به زمان الدنيا- أى مدة أيام الدنيا- فيكون المعنى: فهو قرينهم في الدنيا. ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده. فيكون للحال الآتية. ويكون الولي بمعنى الناصر. والمراد نفى الناصر عنهم بأبلغ الوجوه، لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلا في الآخرة.
ويحتمل أن يكون المراد باليوم بعض زمان الدنيا، وهو على وجهين: الأول أن يراد البعض الذي مضى، وهو الذي وقع فيه التزيين للأمم الماضية من الشيطان، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية.. الثاني: أن يراد البعض الحاضر، وهو وقت نزول الآية. والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش أعمالهم، فيكون الضمير في «وليهم» لكفار قريش. فيكون المعنى: فهو ولى هؤلاء المشركين اليوم أى: معينهم على الكفر والمعاصي ولهم ولأمثالهم عذاب أليم في الآخرة» «2» .
(1) سورة غافر الآية 43.
(2)
تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 173.