الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كبر الهِمَّة
(1)
جرت سُنَّة الله في خلقه، أن لا ينهض بأصر المقاصد الجليلة، ويرمي إلى الغايات البعيدة، التي يشد بها نطاق السيادة الكبرى، غير النفوس التي عظم حجمها، وكبرت هممها، فلم تعلق إرادتها بسفاسف الآمال.
ولذلك لما بُعث عليه الصلاة والسلام لإسعاف الأمة بجميع وسائل الحياة الأدبية، أنشأ يؤسس مبادئ العزة والكرامة، ويعبر عن مكانتها الرفيعة باليمين والشمال، فاجتث من الأنفس شجرة الذلة من جذورها، وأعتق رقابها من الاستكانة مخافة أن تهوي بها إلى أدنى درجات الضعة والدناءة، ولم يأل جهداً في إجراء دم الشهامة وكبر الهمة في عروقها الميتة، حتى أخرجها في قالب الكمال، لا تتردد إلا على أبواب الفضائل، ولا تبسط ساعديها إلا لمبهمات الأمور.
أليس من الإيماء إلى هذا الخالق العظيم النهي عن السؤال لمن وجد طريقأ عملياً للاكتساب؟ في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، لياخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله، أعطاه أو منعه".
(1) العدد الرابع عشر - الصادر في 16 رجب الأصب 1322.
ومن أحكام الشريعة إباحة التيمم للمكلف وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء، لما في ذلك من المنة التي تنقص حظاً وافراً من أطراف الهمة الشامخة، ومنها عدم إلزامه باستهابة ثوب يستر به عورته في الصلاة، وأبيح له أن يصلي عارياً صيانة لضياء وجهه من الانكساف بسواد المطالب، وليحذر الذين يحاولون الوصول إلى هذا الخلق الأسمى، أن يهرعوا إليه من طريق يدع التواضع دبر آذانهم فيعودون كما بدؤوا.
ليس من كبر الهمة الترفع عن الرجل يبسط لك وجهاً رحباً ويمنحك لساناً رطباً، وتشهد لك ألمعيتك الوقادة بمطابقة ظاهره لما يكنّه ضميره، بل ذلك نفور من النفس وجموح إلى جهة العلو بغير انتظام وهو ما نسميه كبراً.
ماذا يردع النفوس عن أن تُرى حيثما نهى الله، ويغلق في وجوهها أبواب الفسق والملاهي؟ كبر الهمة.
ماذا يقبض من الأيدي ويسد اللهى عن ابتلاع ما يدلي به الظالمون ليأكلون فريقاً من أموال الناس؟ كبر الهمة.
ماذا يوحي إلى الرجل أن يقيم لسائر تقلباته وزناً بالقسط، حتى إذا جستها يد الناقد الحكيم لم تجد في حركاتها طيشاً عن الأغراض التي ترمي إليها ذوو العقول النيرة؟ كبر الهمة.
كبر الهمة يعقد الألسنة عن الانطلاق في مجاري التملق والمداهنة، ويصفد الأقدام عن غشيان المنازل التي لا تطأ فيها على بساط الاحترام والحفاوة، كبر الهمة يصيِّر العالِم الأمين عوداً مراً ومكسراً صلباً يقف للمبتدعين المرجفين موقف الشجى بين الحلق والوريد، ويصارعهم بقول
الحق الذي تشتد عراه على أكنتهم إبراماً، كبر الهمة يستفز الموسر الكريم إلى أن يقول بمال الله الذي أتاه هكذا وهكذا، متحرياً به مصارف المبرات التي تقربه إلى الله زلفى.
يقف أحد أمام بعض الكبراء، فيسترسل في مخاطبته بثبات جأش وسكون في الأعضاء ومهل في القولِ، ويعقبه آخر ليقوم مقامه فيرجف فؤاده وترتعد فرائصه ويتعثر لسانه في أذيال الفهاهة، فهل يختلج في ضمير ذي عقل رشيد، أن الأَول اتسم بالقحة المذمومة، والآخر طبع على الحياء المحمود؟ معاذ الله، إنما هو كبر الهمة وضعفها، كبر الهمة وضعفها يمثلان لك الإنسانية بالسلك الذي ينظم خرزاً كثيراً تباينت معادنها شرفاً وحطة، واختلفت مناظرها سماجة وجمالا، فمن الناس من تسمو بهم نفوسهم إلى الوقوف على أسرار الهداية، فيتقلبون في أبوابها، ويتمسكون بأسبابها إلى أن تعرج بهم إلى الأفق الأعلى، فيحلون من العلم بطرقها محل القطب من الرحى، وهذا الفريق هو الذي تستضيء الأمة بانوار عقولهم، وتتوكأ على كواهلهم القوية، ولا ينوء بهم عبؤها الرزين، فيخطون بها سراعاً إلى مجادة شامخة الذرا، ويوقدون في كل شعبة منها سراجاً منيراً، ومنهم من تتضاءل هممهم حتى يتمكن الذبول والخمول من نواصيهم، فيزلقان بهم إلى الحضيض الأسفل من الحطة والرذالة، وتمحى من إحساساتهم آيات الشعور ورسوم العواطف التي يكون بها الإنسان رجلاً حقيقياً، فينشرون الخبائث نشر الفريق الأول للأفعال المحمودة، وتقهقر الأمة وشقاؤها بمقدار ما يتناسل فيها من مثل هؤلاء الأرذلين.
تجد الذين تربوا على مبدأ الإذلال والإهانة، يحبون أن تشيع فاحشة الذلة في إخوانهم الذين آمنوا، فيتغالون في إطراء كل من تزمل بثياب الهوان
وخفض لهم جناح المسكنة، وإنها لإحدى العلل التي نُخرت منها عظامنا من قبل أن يدركنا الموت الذي يجعلنا من أصحاب القبور.
أما الحر الذي ربي في مهاد العز، وفطر على كرامة النفس، فإنه لا يرفع إلا من شأن شريف الهمة، الناسج على مثال العزة التي هي من شعائر الإيمان.
وإذا استبنا أن كبر الهمة سجية من سجايا الدين، تصدر عنها الأعمال العظيمة، وتضم تحت جناحيها فضائل شتى، فلم لا نعقل عليها نفوس أبنائنا ونرشحهم بلبانها في أدوار تربيتهم الأولى؟ ليستشعروا بالآداب المضيئة، ويتجلبوا بالقوانين العادلة، ولنا حياة طيبة في العاجل، وعطاء غير مجذوذ في الآجل.