الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاعتصامُ بالشّريعة
(1)
مما تكلفت المشاهدة ببيانه، أن الاسترسال مع الأهواء كلما دعت، ومحاذاة الأغراض أينما توجهت، يفضي إلى فوات المصالح الأُخروية والدنيوية، ويقضي بالتخبط في مضاجع الفساد، وأشدها وطأة قطع رابطة الأخوة بعد توكيدها.
ولذلك انعقد الإجماع بين جميع الشرائع على ذم كل من اتخذ إلهه هواه، بل تجد الأمة التي لا شريعة لها، ولكنها عنيت بإصلاح شؤونها الدنيوية، لا تألو جهداً في كبحها لجماح كل من تَعبَّدَه الهوى في نظر عقولهم، ويسمونه السياسة المدنية.
كما أن إيداع الأنفس في أسر الضغط وحرمانها من سائر حظوظها، يثبطها عن النهوض بأعباء ما يضرب عليها من التكاليف، فمن الحكمة أن يُتوخى بها طريق معتدل يكون بين ذلك قواماً.
ولما كان العقل وحده غير كاف لتحري ذلك الطريق، فأحياناً يهمل النظر، وآونة يهوي به الخطأ في مكان سحيق، جاءت الشريعة المحمدية في الاحتياط لدرء كل مفسدة، وجلب كل مصلحة بالحكمة البالغة، وما يعقلها
(1) العدد الثالث - الصادر في غرة صفر 1322.
إلا العالمون. افتكت إرادة الأنفس من داعية الشهوات، ولم تحل بينها وبين التمتع بحظوظها جملة بشهادة كثير من الآيات البينات. فمما يؤيد المعنى الأول قوله تعالى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، ومما يعضد المعنى الثاني قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، وقوله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
ومن استقرأ أحكامها، وكشف القناع عن أسرارها، أبصر معنى انطباقها على السياسة العادلة التي تتحاشى من الإفراط وتتبرأ من التفريط، وبذلك ألفتها العقول، فأنست بها أنس الطفل بثدي أمه، واستقرت تحت سلطتها قرار ذات الصدع، تحت ذات الرجع.
فالمضطلع بأصولها، المستشعر أنها تنزيل من حكيم حميد، نزل بها الروح الأمين على قلب أكمل الخليقة لنجعلها نوراً نمشي به في الناس، يتجنب مصارع الضلال، ولا يلم بشيء من التصورات الباطلة، إلا نسف غبارها نسفاً، فيستبين سبيل الحق الذي لا غبار عليه، ولمثل ذلك فليعمل العاملون.
ولا أقسم بالذي جعلها شريعة الحق الذي لا يعارض، والعدل الذي لا ينكسر قانونه، أنه لجدير بالمسلمين أن يتمسكوا بعهدها الوثيق، ويزكوا أنفسهم من الدسائس المثقفة لهم عن التقدم إلى حياة طيبة، فيجددوا إلى الأمة سالف مجدها، ولهم من الله فضل جزيل، ومن التاريخ ثناء جميل.