الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخذ بالقول الرّاجح
(1)(2)
يعتمد كل من انبسطت خطاه في سنن التحقيق، على أنه لا يسوغ لأحد
(1) العدد الثالث - الصادر في غرة صفر 1322.
(2)
جاء في العدد الخامس من مجلة "السعادة العظمى" التعليق التالي للإمام:
يقول بعض من يتخافت بالانتقاد: أن صاحب هذه المجلة أخطأ في قوله لا يسوغ لأحوإن يعمل بمقتضى القول الضعيف في خاصية نفسه، أو يفتي به صديقه، بل العمل في مذهب مالك جرى على خلاف ذلك وهو الجواز، وما قاله هذا المنتقد ورام به الدخول في زمرة المتفقهين، يبطله ما حققه أئمة المذهب في الكتب العالية. قال موضح أسرار الدين "أبو إسحاق الشاطبي" في "موافقاته":"كما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معاً، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معاً، ولا اتباع أحدهما من غير ترجيح، وقول من قال: إذا تعارضا عليه تخير غير صحيح، لما تقدم من الأصل الشرعي وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل وهو غير جائز، فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة، وعلى مصلحة كلية في الجملة، أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته، وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلاً تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته اعتقاداً، وقولاً، وعملاً، فلا يكون متبعاً لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع". إلى أن قال: "ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين، فوردت كذلك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= على المقلد فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيراً فيهما، كما يخير في خصال الكفارة، فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين، وقواه بما روي من قوله عليه السلام "أصحابي كالنجوم" وقد مر الجواب عنه، وأن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد فاستفتى صحابياً أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال: ليس بداخل تحت ظاهر الحديث، لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه، فهما صاحبا دليلين متضادين، فاتباع أحدهما اتباع للهوى، فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها، وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا، لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع، وأيضا فكان ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل، وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل حالة مختلف فيها، لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء، وهو عين إسقاط التكليف، بخلاف ما إذا تقيد للترجيح، فإنه متبع للدليل، فلا يكون متبعاً للهوى ولا مسقطاً للتكليف" اهـ.
وقال القرافي: "إذا كان في المسألة قولان، أحدهما فيه تشديد، والآخر فيه تسهيل، فلا يفتى العامة بالتشديد، والخواص وولاة الامور بالتسهيل، وذلك قريب من الفسوق والخيانة، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى".
تأييد ما قاله هذان المحققان، أن الشريعة عامة بحسب المكلفين، لا يختص بأحكامها الطلبية بعض دون آخر، وهذا الأصل جار مجرى البديهيات، وهو يقتضي أن لا يعمل الإنسان إلا بالقول الراجح، كما أنه لا يفتي غيره إلا به، لأن ذلك هو حكم الشارع، ففإذا تجاوزه إلى العمل بغيره، فقد انسلخ عما كلف به ودخل تحت العمل على مقتضى شهوة النفس، ومن ثم صرح الفقهاء بأن فائدة ذكر =
أن يعمل بمقتضى القول الضعيف في خاصية نفسه، أو يفتي به قريبه أو صديقه فضلاً عن التجاهر به للجمهور، طبقاً لما قرره المحققون من الأصوليين والفقهاء.
وسرُّ هذا الأصل، أن الأقوال الشاذة إما أن تكون مائلة إلى الشدة أو الانحلال، وكلاهما على خلاف مقصد الشارع حسبما مهدناه في المقالة الافتتاحيةِ.
ومنهم من أغفل هذا الأصل، فتجده يورد الخلافات في صورة الاستدلال على الإباحة، حتى إذا سأل سائل عن حكم نازلة متطلباً لما هو الأصلح له في نظر الشرع الحكيم، رده على عقبه إلى ما كان عليه من التخيير المطلق، فقال له:
في مسألتك قولان، ويعني بذلك إفتاعه بالجواز من غير دليل يدل عليه سوى ما جرى في المسألة من الخلاف، وما علم أن للشارع حكماً مسمطاً ينزع بالمكلف من الانخفاض لسلطان الشهوة التي هي عين ذلك التخيير.
= الأقوال الضعيفة أمران: اتساع النظر ومعرفة مدارك الأقوال، وليعمل المكلف بالضعيف في خاصيهّ نفسه إذا تحقق الضرورة، ولا يجوز للمفتي أن يفتي بغير الراجح خوف أن لا تكون الضرورة محققة.
ولعل هذا هو الذي اشتبه على المنتقد، ومن زاد النظر بسطة لم يجد العمل بالقول الضعيف عند تحقق الضرورة خروجاً عن القول الراجح، لأن القول الراجح إذا اقتضى المنع مثلاً كان المنع مقيداً بانتفاء الضرروة قطعاً، فكأن صاحبه يقول: يُمنع فعل كذا ما لم تدع إليه ضرورة فيفعل، وعليه فلا يكون في الفعل عند تحقق الضروة عدول عن القول الراجح أصلاً، ولا توفيق إلا بالله.
وبالجملة فإن مَنْ عدل عن الأقوال الراجحة لغير ضرورة شرعية فقد ضل ضلالاً بعيداً.
"قال أبو بكر بن العربي" عند قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]"إن المفتي إذا خالف نص الرواية في نص النازلة، وعدل عن قول من يقلده فإنه مذموم داخل في الآية، ومن قال من المقلدين هذه تخرج من قول مالك في موضع كذا فهو داخل في الآية"، فإن قيل: أنت تقول هذا وكثير من أهل المذهب يقولون هكذا: قلنا، نحن نقول هذا في ترجيح أحد القولين، لا على أنها فتوى نازلة يعمل عليها السائل، فاذا جاء السائل عُرضت على الدليل الأصلي لا على التخريج، فيقال: له الجواب كذا فاعمل عليه.