الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتوى ابن العربي
(1)
سؤال:
المرجو من أستاذنا الشيخ صاحب السعادة، أن يفصح لنا عن رأيه في فتوى الإِمام "أبي بكر بن العربي" بجواز أكل ما يخنقه الكتابي أو يحطم رأسه من الحيوان بنية الذكاة، ورجاؤنا أن يكون جوابكم مقصوراً على البحث في المسألة من جهة أدلتها الأصولية رداً أو تأييداً.
جواب:
ما يذكيه الكتابي بالخنق وحطم الرأس، أفتى "ابن العربي" بإباحة أكله، ونص هاته الفتوى من "الأحكام":"ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها، هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاماً؟ فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله أباح طعامهم مطلقاً، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال إلا ما كذبهم الله فيه، ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكاً في الصلح فيحل لنا وطؤهم، فكيف لا نأكل ذبائحهم والأكل دون الوطئ في الحل والحرمة؟ " اهـ.
وقال قبل هذا ما نصه: "فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق
(1) العدد الثالث عشر - الصادر في غرة رجب الأصب 1322
وحطم الرأس، فالجواب إن هذه ميتة وهي حرام بالنص، فإن أكلوها لا نأكلها نحن، كالخنزير والميتة فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا فهذا مثله" اهـ.
فانعقد بين كلاميه تعارض بحسب الظاهر، وجمع بينهما "ابن عرفة" بأن الأول فيما إذا نوى بذلك الذكاة، والثاني فيما إذا لم ينو ذلك، وأيَّد هذه الفتوى "أبو عبد الله الحفار" بما خلاصته:"ولا يشترط أن تكون ذكاتهم كذكاتنا في ذلك الحيوان المذكى وذلك رخصة من الله، وإذا كانت الذكاة تختلف في شريعتنا فتكون ذبحاً في بعض الحيوانات ونحراً في بعض وقطع رأس وشبهه كما هي ذكاة الجراد أو وضع في ماء حار، فكذلك قد يكون شرع في غير ملتنا سلّ عنق الحيوان على وجه الذكاة، ولا يلزمنا أن نبحث عن شريعتهم في ذلك بل إذا رأينا ذوي دينهم يستحلون ذلك أكلنا" اهـ.
ونقلها جماعة من فقهائنا، ولم يتصرفوا فيها بشيء، وقامت في وجهها طائفة بالإنكار وإن لم يطعنوا في نحرها بما يزحزحها عن موقف التمكن بحسب الدليل سوى "الشيخ ابن عرفة"، ونص ما في التفسير المنسوب إليه عند الآية المصدر بها، "أخذ من هذا "ابن العربي" جواز أكل المسلم من الدجاجة التي فكَّ النصراني عنقها إذا طبخها لنفسه وأطعمه معه لأنها من طعامه، وردّه "ابن عرفة" بأنه ليس من طعامكم الفعلي الوجودي، بل طعامهم الذي أباحه شرعهم لهم، وهو إذاً في شرعهم محرم عليهم" اهـ. وقريب منه كلام "ابن عبد السلام "، ورد "ابن ناجي" كلام الشيخين "بأنه مبني على أنه وقع التبديل في شرعهم وليس كذلك" اهـ.
وكأني بك لأن كنت لا ترضى إلا بالنفوذ في أعماق الاستدلالات، تورد
على قول الإِمام، وهو إذاً في شرعهم محرم عليهم إن هذا عبارة أو في مما بنيت عليه؛ لأن قصارى ما يقتضيه التبديل التوقف في أفعالهم لا الحكم عليها بأنها محرمة، وسيأتيك أن اقتضاء التبديل للتوقف غير كاف في الرد، ثم نلتفت إلى قول "ابن ناجي" "وليس كذلك" فنقول له:"كلا بل إن ذلك كان كذلك"، وقد كشف الغشاوة عن ذلك الوقوع صاحب "إظهار الحق" و"الشيخ الألوسي" في "تفسيره".
هذا وممن رام إماطة مدرك هاته الفتوى عن طريق الاعتماد "أبو عبد الله الرهوني"، ففوَّق لها من كنانته سهمين، ولكنهما لم ينبعثا لها على خط مستقيم، ويكاد أولهما يتحد بما رماها به الشيخان، ونصه بعد نقل الفتوى وتأييدها قوله:"إنه يقبل قول أحبارهم ورهبانهم أنَّ ذلك حلال عندهم ويصدقون فيه"، إذ كيف يقبل قولهم بعد إخبار الله تعالى عنهم بأنهم حرّفوا وبدلوا حسبما أفصحت بذلك الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة النبوية، وقد ثبت في أصح الصحيح كذبهم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم غير ما مرة، وتوقعهم تكذيب الله إياهم بإعلامه نبيه بذلك، فلم يخشوا الفضيحة مع وقوع تكذيبهم ثم يعترفون، فكيف بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أصح الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُصَدِقوا أَهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِبوهمْ" الحديث، فتصديقهم فيما ذكر مخالف للأدلة والقواعد، الثاني على تسليم تصديقهم تسليماً جدلياً فلا وجه لتصديقهم في أن المنخنقة والمسلولة العنق حلال عندهم، وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم، وما فُرق به من أن الله كذبهم في حليتها فليس في الآيات ولا في الأحاديث شيء من ذلك، وإن عني أن الله كذَّبهم بقوله:{حُرِّمَتْ} [المائدة: 3] الآية، فهذه مصادرة لأن الله كذَّبهم فيما زعم أنهم
مصدقون فيه لأنها منخنقة أو موقودة، وقد ذكر الله حرمة كل منهما في الآية نفسها، وقد قال "ابن العربي، نفسه في "الأحكام": "والمنخنقة هي التي تخنق بحبل قصداً أو بغير قصد أو بغير حبل".
فأما أن يحمل "ابن العربي" قوله تعال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] على ظاهره فيدخل فيه الميتة والخنزير وما ذكر معهما، وإما أن يقصر على غير ذلك كله، وقصره على بعض دون بعض عمل باليد ودعوى لا دليل عليها، ولعلك لم تزل متذكراً ما فاتحك به الاستدراك في قولنا:"ولكنهما لم ينبعث إلخ"، فنقول:"يمكن رد الوجه الأول بأن وقوع التبديل والتحريف لا يقضي بتكذيبهم في غير ما لم يكذبهم فيه الوحي، كما هو صريح قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَدِقوا أَهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِبُوهمْ" وعليه فنتوقف في تناول ما ذكي بغير ذكاتنا، إلا أن الشارع لما أباح طعامهم مطلقاً بشبهة ما معهم من الكتاب وهو أعلم بما يفعلون، اندرج فيه ذلك فيكون هذا العموم متضمناً لتصديقهم في حلية ما يأكلونه فيباح لنا، إلا ما نص على تحريمه علينا بالخصوص كالخنزير والميتة".
ويرد قوله في الوجه الثاني "ولا وجه لتصديقهم في أن المنخنقة والموقوذة حلال عندهم وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم" بأن "ابن العربي" صرَّح بأنهم مصدّقون بأن الميتة والخنزير حلال عندهم أيضاً، حيث قال:"كالخنزير والميتة فإنه حلال لهم ومن طعامهم"، وقوله:"وما فُرِّق به من أن الله كذَّبهم في حليتها فليس في الأحاديث ولا في الآيات شيء من ذلك" مردود بأنه لم يعن بما كذَّبهم الله فيه الميتة والخنزير، إذ هو خلاف قوله:"كالميتة والخنزير فإنه حلال لهم"، بل أراد بذلك الربا ونحوه، كاليهودي
يستحل الربا قال تعالى: نساء: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]. وقوله: "وقد قال ابن العربي نفسه في الأحكام، والمنخنقة هي التي تخنق بحبل قصدًا" إلخ. يجاب عنه بأن يحمل ذلك على ما خنقت بقصد إزهاق روحها، فلا يشمل تعريفه ما خنقت على وجه الذكاة، وقوله:"فأما أن يحمل ابن العربي وطعام الذين أوتوا الكتاب على ظاهره فيدخل فيه الميتة" إلخ. يدفع بأن الميتة والخنزير قد حرمهما الله بالخصوص، فلا ترتفع الحرمة عنها إلّا بنص خاص.
وأما ما خنق أو حطم رأسه بنية الذكاة فليس بمحرَّم، إذ ليس هو من مشمولات آية والمنخنقة والموقوذة عند ابن العربي، ولكن يقال له: بأي دليل لم تره داخلاً في قوله والمنخنقة والموقوذة وأدرجته تحت عموم وطعام الذين
…
الآية، ومن هنا نتخلص إلى منزع أصولي:
وهو أن ما ذكاه أهل الكتاب بالخنق وحطم الرأس أحلَّه قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] وحرمه قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] لما بين الآيتين من العموم والخصوص الوجهي، فذلك المذكى هو محل الاجتماع، وتنفرد الأولى بالذبائح والثانية بما لم تقصد ذكاته، والمرجع عند تعارض مثل هذين الأصلين إلى ما يرجح أحدهما عن الآخر بالنسبة لما وقع فيه التعارض، ولنا في ذلك لفتتان،
أولاهما إلى طريق العموم من حيث الدلالة، فيترجح مذهب "ابن العربي" بناء على ما للإمام في المحصول من أن الإضافة أدل على العموم من اللام، وإما على ما نص عليه جماعة من التسوية بينهما فلا ترجيح.
وأما الترجيح بدليل آخر وهو اللفتة الثانية فللنظر فيه شعب، منهما أن
العموم في آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ} [المائدة: 5] مخصوص بالميتة والدم ولحم الخنزير قطعاً، بخلاف عموم آية {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] فإنا لا نعلم له مخصصاً، والعام الذي لم يدخله تخصيص أقوى في الدلالة مما دخله التخصيص، وعليه فيترجح القول بالتحريم هذا على ما لجمهور الأصوليين، وأما على رأي "ابن السبكي" من أن المخصوص أقوى فيترجح مذهب "ابن العربي"،
ثانيها أن الآية الأولى للإباحة والثانية للحظر ودليل الحظر مقدم على دليل الإباحة، وهو مذهب "الأبهري" من أصحابنا، وعزاه "التفتزاني" في "حواشيه على ابن الحاجب" إلى الجمهور، ووجهه بأن مخالفة المحظور توجب الإثم بخلاف المباح فكان أولى للاحتياط، وأيد بقوله صلى الله عليه وسلم:"دع مَا يُريبُكَ إلى مَا لا يُريبُكَ".
ووجَّهه غيره بأن النهي يعتمد درء المفسدة، وقد قُدِّم على الأمر المتضمن لجلب المصلحة، فلأن يقدم على ما عرى عن ذلك أولى.
نعم يترجح مذهب "ابن العربي" بناء على ما ذهب إليه "أبو الفرج" وغيره من تقديم دليل الإباحة، وأما على ما رجّحه في "المستصفى" وصحّحه "الباجي" في "المنهاج" من التسوية بينهما فلا ترجيح، ولكن مذهب "الأبهري" أقوى مدركاً وأعلى نظراً، ومما يدعم أصل الحرمة دليل الخطاب في قوله تعالى:{إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] على أن الاستثناء منقطع، فإن مفهومه أن ما ذكّاه غيرنا كالكتابي لا يباح، لكن ما كانت ذكاته موافقة لذكاتنا قد قام الدليل على إباحته، فيبقى ما عداه ممنوعاً بدلالة هذا المفهوم، ويعضده أيضاً قوله تعالى:{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] على أن الآية بيان لنا لا لهم
على رأي "السدي" وغيره، والمعنى كما قال "الآلوسي""طعامهم حلٌّ لكم" إذا كان هو الطعام الذي أحللته لكم، ولذلك لو أطعمونا خنزيراً أو نحوه وقالوا هو حل الذي شريعتنا وقد أباح الله تعالى لكم طعامنا كذَّبناهم، وقلنا:"إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحلُّ لنا لا غيره".
ولقائل أن يقول: "إن هذا المعنى إنما تفيده الآية لو اشتملت على طريق من طرق القصر"، فإن قيل: يؤيد أصل الحرمة أيضاً، أن الذكاة شُرعت لإخراج الفضلات، وبالخنق وحطم الرأس لا يتحقق ما شرعت لأجله، قلت: صحيح ذلك على القول به، إلا أن الراجح في المذهب أنها شرعت لإزهاق الروح بسرعة، وأما قياس "ابن العربي" أكل ذبائحهم على وطئ نسائهم، فلا يُعدُّ من فرائد بدائعه، وقد كفانا المحقق "الرهوني" مؤونته الخفيفة، فقد اتضح لك أيها الناقد البصير أن القول بالحرمة أقرب إلى الصواب وأرجح من جهة النظر.