الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصيح من الكلام
(1)
ترى كثيراً منهم يسارعون إلى التصنع في التركيب والتوغل في الغرابة ما استطاعوا، ظنا منهم أن التصنع فيها مما يرتفع به شأن الكلام في الحسن والقبول، كلا، لا يكسبه ذلك إلا هِجنة وانحطاطاً إلى الدرك الأسفل في هذه الصناعة، وإنما الممدوح عندهم ما كانت معانيه واضحة وعبارته مستعذبة، بعيداً عن تكلُّف الاصطناع، ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختلف أهل العربية في الأخذ عنه، فقد كان "الأصمعي" يعيب "الحطيئة"، واعتذر عن ذلك بأن قال:"وجدت شعره كله جيداً فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه جيده على رديئة".
ومما يوجب التعقد في الكلام وصعوبة الفهم، القصد إلى المعاني التي يتوقف فهمها على مقدمة من معرفة صناعة، أو حفظ قصة، فالواجب ألا يستعمل من الأخبار والأقاصيص إلا ما اشتهر بين غالب الأدباء، أما الذي لا يعهده إلا الخاصّة منهم فالإشارة إليه إحالة على مجهول، وينبغي التحاشي عن استعمال شيء من معاني العلوم والصنائع أو شيء من عباراتهم، إذا كان
(1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322.
الغرض مبنياً على ما هو خارج عن تلك العلوم والصنائع، فإذا كان الغرض مبنياً على وصف أشياء علمية أو صناعية، فإيراد تلك المعاني والعبارات غير معيب في ذلك الغرض، ومما عيب على "أبي تمام" قوله:
مودة ذهبٌ أثمارها شبه
…
وهمةٌ جوهر معروفها عرضُ
لأن الجوهر والعرض من ألفاظ المتكلمين الخاصة بهم، وكقول "أبي العلاء المعري":
تلاق تفري عن فراق تذمه
…
مآق وتكسير الصحائح في الجمع
وحكي أن "عزّ الدولة" قال لندمائه: "لينشدني كل واحد منكم أغزل ما يعرفه من الشعر"، فأنشد كل منهم ما حضره، فلما انتهى القول إلى "أبي الخطاب بن ثابت الصابي" وكان أبوه طبيباً أنشد:
قال لي أحمدٌ ولم يدر ما بي
…
أتحبُّ الغداةَ عتبةَ حقا
فتنفست، ثم قلت: نعم حـ
…
ـباً جرى في العروق عرقاً فعرقا
فقال له بعضهم: "لا تخرج بنا يا أبا الخطاب عن صناعة الطب التي لم ترثها عن كلالة".
وكان بعض الأدباء إذا سمع قول "المهلبي":
"يا من له رتب ممكنة القواعد"
قال: "هذا يصلح أن يكون شعر بناء"، وعندي أن المراسلات الخصوصية يحسن فيها ملاحظة القصص المستظرفة، وإن لم تكن مشتهرة، كما يحسن فيها إيراد المعاني العلمية، وعدَّ أهل البديع للتلميح لها من الحسنات رعاية لهذا المقام، ومما يُعاب به الشاعر إيراد المعاني الكثيرة في
البيت الواحد لما فيه من التعقيد على الفهم، قال "ابن خلدون":"كان شيوخنا يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية".
ولما أكثر "مسلم بن الوليد" و"أبو تمام" من استعمال المحسنات، بَعُدَ شعرهما عن الانسجام وسهولة المأخذ، وأخذ الشعر من ذلك العهد هيئة غير هيئته العربية، حتى إنَّ فحول الشعراء إذ ذاك كانوا يقولون:"قد أفسد هؤلاء الشعر بذلك الشيء الذي يسمونه البديع".
وكما يجب تجنب المعقد والحوشي من الألفاظ، ينبغي التحفظ من السوقي المبتذل، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضاً، ويخدش وجه مَلَكة الفصاحة ويفسدها على صاحبها، وما على الفصيح إلا أن يقصد من التراكيب ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم بالنسبة للأواسط الذين لهم إلمام باللغة العربية، ولا تستنزله عن هذه الرتبة لومة لائم ليس له من اللغة إلا القدر الذي تتلقفه ألسنة العامة، فمن أسباب تلاشي اللغة واندراس أطلالها، تنازل فصائحها إلى استعمال الألفاظ العامية الساقطة.
وحقيق على علماء التدريس أن يكونوا على نسق واحد في التزامهم عند إلقاء دروسهم محاذاة الأساليب العربية، فإنه ضرب من التطبيق للقواعد التي يلقنها التلميذ، وبذلك تتقوى عارضته، ويتسع مجاله في التعبير عما في ضميره بألفاظ متمكنة في البيان؛ لأن السمع أبو الملكات اللسانية.